من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد

ناهض الهندي d. 1450 AH
39

من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد

من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد

اصناف

عمت الفوضى المكان وملأ الرعب قلب الحارس من حجم الغضب والإصرار الذي انفجر عليه من زملائي مما اضطره للهروب بعجل مستعينا بغيره من الحرس الذين هرعوا إليه والصدمة تعلو محياهم وجلين محاولين احتواء الموقف خشية تطوره إلى ما قد يعرضهم لمساءلة كبيرة من رؤسائهم. وبين لين من الكلام وزعيق أعادوننا إلى الزنزانة التي لم نكن أصلا في وارد الخروج منها؛ لأننا لم نفكر بذلك بالمرة، بل كان حادثا عرضيا ورد فعل صنعته اللحظة وليس خطة معدة للتمرد أو العصيان. سارعوا لإبلاغ دائرة التحقيق كما هي عادتهم في الوشاية والسعي في كل صغيرة وكبيرة، وجاء موفد منها مستفهما، فقلنا له نحن معتقلون سياسيون نقبل بالتحقيق الأمني على ما فيه، لكن لن نقبل أن يعاملنا أحد كعبيد لأننا لسنا كذلك. مر الأمر بسلام ويبدو أن تخفيف حكم الإعدام كان له أثر أيضا في ردة الفعل المتعقلة والهادئة من دائرة التحقيق، وتفهم مفوض التحقيق (م. ع.) الأمر، بل إنه قال لنا كلمة كانت تحكي إقرارا منه بخطأ الحارس الذي لم نره ثانية وكانت تحمل رجاء منه لنا بالهدوء والتعاون على تمرير القضية بهدوء: «مهلا، مهلا بالحرس إنهم إخوانكم.»

كلمته زادتنا قوة إلى صلابة عزيمتنا وإصرارا على ألا تثنينا أقسى المصاعب عن الفخر والاعتزاز بحريتنا وكبريائنا في كل آن وفي أي مكان نكون فيه.

18

مثقلا بملل، أضحيت به كأني لفافة محشوة بسأم سمج قبيح، قضيت أشهرا تسعة منتظرا الخروج من هذه الحفرة التي صار الوقت فيها جامدا بلا حراك. سأم رسم بريشة بشاعته تجاعيد على جسدي، وغرز في أحشائي كائنا يتلوى في عروقي مقرضا جفني في اليقظة والمنام ويتقلب معي في كل سكون وحركة. حركة! عذرا، أي حركة هذه التي أتحدث عنها؟ حتى مشاعر الألم أصابها الجمود وبدأت ذكريات العالم الآخر تغادرني مع أوجه الذين التقيتهم من الغرباء، بل حتى الذين أعرفهم. نسيان مثل طمي سيل جارف بدأ يطمر الأشياء كلها، وكان علي أن أكف عن التفكير بما وراء الجدران؛ لأنه كان كابوسا يقض مضجعي ويجرفني إلى سعير.

فقط من عاش في هذه الصناديق المغلقة - لا أحد سواه - يعلم ماذا يعني هبوب رياح الماضي العاتية. لن يرى أحد غيره في هبوبها كيف تتطاير الأشياء في كل الأرجاء لا تجد مأوى لها تلوذ به إلا أبوابا مؤصدة وطرقا مسدودة، فترجع تدور وتدور حتى تفنى رهقا ولا تسكن بسكون الريح، بل تخر إلى القاع تتلوى ألما وتشكو داء لا دواء له.

عند غبش طرقنا زوار الفجر مندفعين بصخب لا يوائم إشراقة الفجر، وأجبرونا أن نرتقي سلالم كثيرة صعودا ونزولا، ثم حشرنا في عربة مغلقة ضمتنا إلى عتمتها، بعيون سملت بخرق قاتمة وأكف شبكت بالحديد واحدة إلى الأخرى، ومن ثم إلى عمود أفقي يمتد على طول العربة الصندوق. أجلسنا على صفيح معدني يشع ببرودة الموت في لهيب أواخر حزيران، وزحفت بنا - الزنزانة - السيارة في رحلة طويلة نحو مدينة متخمة بأسماء سلام لم تنعم بها أبدا، ولم تخذل عادة العرب في تسمية الأشياء بضد حقيقتها. وصلنا إليها والشمس معلقة في كبد السماء تطرق الحديد بعنف كأنها تبحث عن الخبيئة التي يواريها، وهو يصرخ من لفعها سخونة. بينما كانت الشمس تواصل طرقها المجنون كنا نأمل أن يفتح الباب لكنه ظل موصدا. يزداد الطرق منا هذه المرة بأقدامنا على أرضية العربة المصفحة مع تزايد ارتفاع حماوة الحديد ونحن نرنو بعيون مغمضة إلى أي فرد منهم يولج مفتاحا في الأقفال لنغادر صخب الشمس وصرخات الحديد.

كان هناك بابان في هذه الزنزانة الجديدة المتحركة؛ باب مغلق علينا وباب آخر يجلس عنده الحرس. فتحوا كوة صغيرة من أعلى الباب تسرب منها ضوء سطع بشدة من وراء العصابة التي غلفت عيوننا، وصاحوا بنا: «ضاع المفتاح، انتظروا إلى أن نجده.»

عادوا وصفقوا الباب الخارجي بقوة وهم يرعدون ويزمجرون غضبا علينا. ضاع الضوء وتلاشى الهواء مع اختفاء المفتاح، وبدأت أنوفنا تفتش عن بقاياه المندثرة بلا جدوى. فار العرق من أجسادنا بينما كان الحديد يستعر غضبا من لسعات الشمس. ارتعشت أصواتنا موقنة أننا قطعنا نصف تذكرة إلى الغربة الأخيرة. رحيل لم يكن يخطر على بالنا أنه سيكون بهذه الطريقة الفظيعة.

لن أبالغ أبدا لو قلت: إن أجسادنا تصببت كل السوائل التي فيها عرق، وما زلت أذكر كيف أن العرق كان ينهمر من أرنبة أنفي، كأنها صنبور ماء مفتوح على آخره. حينها تمنينا كلنا أمنية واحدة وبصوت عال، الموت إعداما لا ضير فيه، لكن لنشم جرعة هواء واحدة ولتقطع بعدها الرقاب. اقتربنا من الإغماء وتلاشى كل شيء ولم نعد نقوى على الحركة، تمايلت أجسادنا إلى الأمام تترنح من الضعف، بل أوشكت على كامل الانهيار.

فجأة هب علينا نسيم ثلجي، أو هكذا حسبنا الهواء اللافح وهو يلامس العرق الذي غطسنا به. نفخت هذه النسمة الروح فينا من جديد، وأنهت لذة قطيع وحوش ثملة برغبة سادية، لم ينته تعارفنا بها بعد؛ فقد كان علينا أن نلتقيها في قادم الأيام والسنوات لمرات ومرات في سلسلة طويلة، حلقاتها وجع وألم شبعى بالنكد والأسى والأنين.

نامعلوم صفحہ