من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد
من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد
اصناف
وبدأ الوصف المسهب وبيان التفسير لعلة هذه الأقدام الضخمة في حديث طويل استمر أياما، إلا أني سوف أوجز كل ذلك كما أفعل مع سائر ما حصل وإلا لو فصلت كل شيء فلن أنتهي أبدا.
رفاقنا الأربعة احتجزوا هناك بعد إلغاء المحاكمة، في زنزانة طولها ثلاثة أمتار وعرضها متران، وفيها دورة مياه بدون باب مساحتها متر مربع واحد؛ ولهذا المرحاض ثلاثة جدر يصل علوها لأكثر من متر واحد بقليل. للزنزانة باب حديدي محصن ضخم وموصد بأقفال كبيرة من الخارج، مغلق على الدوام وفيه فتحة صغيرة في الأعلى يمرر منها الطعام إلى القاطنين في الزنزانة. ولهذه الزنزانة فتحة واحدة للتهوية بحجم خمسة وعشرين سنتمترا طولا وعرضا تقريبا، توجد فيها مفرغة هواء صغيرة تناسب حجمها الصغير، وخلف تلك المفرغة وضعت صفيحة معدنية سميكة بها ثقوب صغيرة كثيرة كي تسمح للهواء بالمرور منها وتحجب أيضا الرؤية كاملة عن أي مشهد في الخارج وتمنع أي شعاع للشمس من الدخول إلى الزنزانة. يتدلى من السقف مصباح باهت فيما الأرضية إسمنتية خشنة كما هي كل أرضيات المعتقلات والسجون التي مررنا بها. إلا أن كل هذا لم يكن هو الأمر الاستثنائي ولا حتى المثير للاشمئزاز في القصة بالنسبة لنا كما يبدو لغيرنا حتى الآن. هذا الوصف المقرف لهذه الزنازين سوف يزعج وربما يسبب بعض الآلام النفسية كما لا بد له أن يفعل بالعادة لكل إنسان ألف العيش في الفضاءات المفتوحة ويمارس حرية التنقل فيها، عندما يسمع قصصا كئيبة كهذه. رأيت بنفسي بعضا من آثار هذه الحكايات عندما كنت أرويها شفاها لبعض من أراد أن يسمع بعض الذي كان يجري. وعندما أقول: إنها تسبب آلاما نفسية، فإني أعني ما أقول لأني تعرفت على طبيب نفسي فرنسي متطوع حاول مساعدتي بمعالجتي من آثار السجن النفسية، إلا أن المسكين أصيب بكآبة شديدة عندما سمع بهذه القصص وقرر أن يترك علاجي ويأخذ بعدها إجازة طويلة من العمل لمعالجة وضعه النفسي وحالة كآبة أصيب بها جراء هذه القصص. في الحقيقة لم أحدثه إلا عن نزر يسير جدا وتأسفت كثيرا لما حصل له، وهذا هو ما جعلني لاحقا أحترس بشدة عندما أحدث غرباء عما حصل لي.
الأمر الخارق للعادة كان العدد الذي يسكن في هذه الزنزانة، ففي أحسن الأحوال يصل إلى سبعة وعشرين معتقلا وفي مناسبات كثيرة يكون أكثر من هذا وقد يصل إلى ثمانية وثلاثين معتقلا. أمر لا يصدق فعلا، فكيف يمكن أن يعيش كل هؤلاء في هذه الستة أمتار المربعة؟ ويجوز لي أن أقول: إنها خمسة فقط. إذا اقتطعنا منها متر دورة المياه. لكن الحقيقة لا ينبغي أن تخفى، فإن أفضل الأماكن كانت دورة المياه. طبعا ليس القصد عندما يختلي السجين فيها؛ لأنه بالأصل لا توجد هكذا خلوة إلا في الأحلام، بل لأنها أرحب الأماكن للجلوس والوصول إلى هذه البقعة الأثيرة يسير بالتناوب وفق نظام يشمل الجميع، وكم كان يسعد المرء حينما يصير من نصيبه السكن في مربع دورة المياه.
تغطى فتحة المرحاض الشرقي بأي شيء متوفر يمكن أن يخفي الفتحة فقط، لتصبح أرضا مستوية، ليس استنكافا من محتوياتها؛ فإن هذه المحتويات تعاصر سكان الزنزانات ليل نهار في كل مكان زرناه لاحقا، ولم يعد أي سجين بحاجة إلى الاستعلاء عن روائح هذه الأماكن. كل المطلوب من هذا الغطاء أن يجعل الفتحة مترا مربعا حقيقيا بلا تجاويف ويغدو بعدها نزلا يتسع لأربعة أشخاص محظوظين. لعله الآن قد بانت علة تضخم أقدام رفاقنا الذين عادوا إلينا من تلك الزنازين في رحلة المحكمة الملغاة، وإذا لم ينكشف ذلك لحد الآن، فلنذهب إلى حكاية اللقلق وهي كفيلة بتفسير كل شيء.
طائر اللقلق الذي عشعش في رأسي منذ ما يزيد عن ثلاثين عاما، ليست حكاية عذبة بريئة، كقصة اللقلق الذي يعرفه الأطفال الأوروبيون حين يسألون أهليهم كيف يأتي الأطفال إلى هذه الدنيا فيشبعوا فضول سؤالهم بأن لقلقا قد جاء بهم. قصة ظريفة رأيتها فيلما سينمائيا اسمه: «وداعا أيها اللقلق». على كل حال هذه قصة عندما كانت الحشمة لها محل في العوائل الأوروبية، أما وقد مات اللقلق الأوروبي مع مصرع الحشمة في أوروبا وربما في العالم كله. فإن لقلقي لم يرحل بعيدا، بل ما يزال يعشعش في رأسي مثلما يستوطن برج كنيسة بغدادية، يبيض ويفرخ فيه وكلما رحل عنه يعود.
أراد العتاة بهذه الزنزانات الرهيبة أن يحطموا نفوس المعارضين ويسحقوا عزيمتهم قبل أن ينزلوا العقاب الأخير بهم. كانت هذه الزنزانات ممرا إلى موت محتوم، في السنتين الأوليين من حرب الخليج الأولى، وكانت هذه الزنزانات - وعددها اثنتان وثلاثون زنزانة - تودع يوميا عشرات الشباب إلى محكمة الثورة حيث يتلقون أحكام الإعدام. وهو الحكم الوحيد الذي يناله المعتقلون السياسيون أيا كانت تهمتهم أو السن الذي بلغوه ولو كانوا دون الثامنة عشرة إلا قليلا جدا منهم ممن كان يأخذ الحكم بالسجن المؤبد إما بضربة حظ أو مشيئة قدر لا يعرف أحد مغزاها والحكمة منها.
بمعدل ثلاثين فردا في ستة أمتار مربعة لا يرتدون إلا ملابس داخلية كان يتشكل المشهد الثابت؛ ولأن الجو خانق يكتم الأنفاس والحر شديد إلى حد أن السقف كان يمطر على مدار الساعة ما كان لهم أن يرتدوا غير هذه الملابس. المطر ينزل بفعل أنفاس المعتقلين التي لا تجد سبيلا للخروج من هذه الزنزانة لا هي ولا العرق المتصبب من الأجساد المنهكة التعبى، وحتى أكثر الأيام قساوة في برد الشتاء القارس لم تكن تعني شيئا بالمرة لدى سكان الزنزانة؛ لأنهم لم يكونوا يشعرون به أبدا جراء اكتظاظهم المتواصل. أكثر السجناء كانوا يفقدون ما عليهم من ثياب في التعذيب وعندما ينتهي التحقيق معهم يعطون أي شيء يستر عورتهم وعلى كل حال لم يكونوا بحاجة لأكثر من هذا فالمكان لم يكن يلائمه ارتداء أردية كثيرة.
لن أقول كم هو خانق ذلك المكان، بل أروي حادثة واحدة فقط حصلت في هذه الزنزانات تفسر كل شيء. ففي أحد الأيام انقطعت الكهرباء أو قطعت وتوقفت مفرغة الهواء عن عملها، ولأن القصة مفرطة في القسوة تكاد نفسي تخرج من بدني حين أتذكرها؛ لأني أعرف بعض أبطالها فسوف أختصرها بكلمات موجزة جدا. نفد الهواء ومات بعض من سكان الزنزانة اختناقا؛ لأنه لم يعد هناك هواء كاف يستنشقونه. لقد نفد الهواء في الزنزانة، نعم نفد الهواء، وأعدموا شنقا بلا حاجة لحبل مشنقة يفعل ذلك بهم، ومن كان محظوظا منهم دخل في غيبوبة وبعضهم أصبح لسانه ثقيلا من جراء هذه الغيبوبة، وأصابت آخرين علل استدعى الشفاء منها وقتا طويلا. أحد الضحايا كان زميلا لي في المدرسة الثانوية وما يزال وجهه يطل علي بالخال الذي يزين خده كلما تذكرت هذه الزنزانات الفظيعة. هناك أفل نجمه وغاب للأبد وما زال أهله ومحبوه يتشوقون للمعة خاله ويترقبون ظهوره.
توزيع المكان كان من أشد المعضلات التي واجهت بواكير طلائع المعتقلين السياسيين، إلا أنهم اكتسبوا خبرة كبيرة بمرور الأيام أورثوها للأجيال اللاحقة منهم، وكان التقسيم المثالي كالتالي: بما أن عرض الزنزانة متران، إذن فهو يكفي ليمتد به أي شخص فيصار إلى أن ينام أربعة عشر شخصا بطريقة متعاكسة قدم أحدهم عند رأس الآخر، ينامون على جنوبهم بالطبع اقتصادا للمسافة؛ لأنه من المستحيل أن يستلقي أحدهم على ظهره، ويذهب أربعة إلى خمسة أشخاص على الأكثر إلى دورة المياه ليجلسوا فيها، فيما يقف متكئين على الحائط عشرة آخرون، ويبقى لدينا خمسة أشخاص أو عشرة حسب العدد الموجود؛ إذ قد يصل بعض المرات إلى ثمانية وثلاثين شخصا كما قلت آنفا، وهؤلاء البقية هم اللقالق؛ إذ يستحيل أن يجدوا مكانا يقفون فيه، فمن يقف على الحائط يجد فيه سندا وداعما له بينما يحاول أن يجد لإحدى قدميه موضعا يستبدلها مع الأخرى بين الحين والآخر. أما من يقف في الوسط فعليه أن يظل واقفا هناك لمدة أربع ساعات كاللقلق على ساق واحدة، يستبدلها بالساق الأخرى عند التعب، ويظل مواظبا على وقفته اللقلقية بلا أي عون يسنده أو يتكئ عليه.
هذا الوضع كان يستمر لأربع ساعات كاملة وتحدث مناوبة بين الواقفين مع النائمين، وهكذا دواليك. بعض المعتقلين كان يسقط مغشيا أحيانا لشدة إرهاقه أو لحمى عارضة تصيبه أو مرض يعتل بجسده المنهك من جراء التعذيب، وبعض منهم فارق الحياة لهول ما تعرض له من تعذيب أو لتردي حاله جراء سوء التغذية؛ لأن الطعام المقدم للسجناء لم يكن يكفي لمقاومة هذه الظروف؛ إذ كانت تقدم ثلاث وجبات في اليوم الواحد، في كل واحدة منها قطعة خبز واحدة من صمون هش مصنوع من طحين الذرة يذوب سريعا في الفم لا يسد جوع أحد، ودجاجتين في العشاء يتقاسمها الجميع، وبضعة أكواب من الرز في منتصف النهار، وقطعة من جبن على شكل مثلثات في أول النهار مع ثمانية أقداح شاي توزع على الكل لمن أراد أن يشرب منها.
نامعلوم صفحہ