من النقل إلى الإبداع
من النقل إلى الإبداع (المجلد الثاني التحول): (٢) التأليف: تمثل الوافد - تمثل الوافد قبل تنظير الموروث - تمثل الوافد بعد تنظير الموروث
اصناف
وبالرغم من ظهور الموروث في العقل عند المتكلمين إلا أن تمثل الوافد أظهر. يظهر الموروث في البداية وليس في النهاية كوعاء تحتي، وليس كإكمال فوقي. المعنيان الأول والثاني محليان؛ فالأول هو المعنى الشائع العرفي للاستعمال في الواقع الخاص، والثاني المعنى الموروث عند المتكلمين. والكلام هو العلم الأصيل قبل الوافد، والذي نشأ قبل عصر الترجمة. يقوم الفارابي بتأسيس معاني العقل وتأصيل أرسطو، معاني العقل في الوافد الأرسطي في الموروث الكلامي، والموروث في الثقافة الشعبية. ويستعمل الفارابي لفظ «دين» بالمعنى العادي؛ العقل هو النقل، والتعقل هو التدين، والدين هو الفضيلة؛ وهو معنى أقرب إلى العقل العملي. الدين إذن طبيعي ومرادف للعقل والأخلاق عند عامة الناس، ومن يستعمل العقل في الشر لا يسمى عاقلا، بل ماكرا أو داهيا. ويستعمل الجمهور العقل في معنى الفضيلة، ويتوقف عن استعماله في الشر.
4
والمعنى الثاني هو العقل عند المتكلمين؛ أي المشهور في بادئ الرأي عند الجميع، الرأي المشترك عند الأكثر، عقل الأغلبية، إجماع الأمة، وهو عقل محلي صرف لا إشارة فيه إلى أرسطو أو غيره، مبني على أن الأمة لا تجتمع على خطأ. الفلسفة هنا تبدأ من علم الكلام كي تتجاوزه بعد استعماله كوعاء يوضع فيه الوافد فينشأ نتاج جديد من تفاعل الوافد مع الموروث. وعقل المتكلمين ليس هو العقل البرهاني النظري؛ لأن مقدماتهم ليست أولية ضرورية صادقة، بل مستمدة من بادئ الرأي المشترك، يقصدون شيئا ويستعملون شيئا غيره، والعقل الجدلي غير العقل البرهاني، ثم يأتي العقل البرهاني لتصحيح أخطاء المتكلمين. هناك إذن جدل مزدوج للعقل، تصحيح الموروث بالوافد؛ أي تصحيح خطأ المتكلمين ببرهان الفلاسفة، والعقل الجدلي بالعقل البرهاني، والثاني وضع الخارج في الداخل؛ فالفعل الشائع عند أرسطو هو العقل عند الجمهور.
5
والعقل العملي هو الذي يذكره أرسطو في المقالة السادسة من كتاب الأخلاق دون إشارة إلى أرسطو أو ذكره مرة ثانية. يكفي تحديد مكان المقال. وتذكر الأخلاق على العموم بحيث يتحول كتاب الأخلاق إلى نيقوماخوس المحدد إلى علم الأخلاق العام أو إلى موضوع الأخلاق ذاتها، وهو ما يعادل العقل العملي الذي تحدث عنه الفارابي ذاته في فلسفة أرسطوطاليس، والذي يتعلق بالمشيئة والاختيار، وهو جزء من النفس، يحصل بالمواظبة والاعتياد وبطول التجربة. مقدماته إرادية من أجل الفعل أو عدم الفعل، التأثير أو الاجتناب، الإقدام أو الإحجام، وبتعبير الأصوليين الأمر والنهي في صيغتي افعل أو لا تفعل. ويتزايد هذا العقل مع طول العمر، وينمو بالمران، ويتفاضل فيه الناس، ويمكن بعد ذلك في نهاية العمر طلب البرهان النظري عليه .
6
والحقيقة أن هذا التعقل للعقل العملي قد يحدث قبل المشيب، والإنسان ما زال في مقتبل العمر .
7
والعقل النفسي يذكره أرسطو في كتاب النفس على أربعة أنحاء: عقل بالقوة، وعقل بالفعل، وعقل مستفاد، وعقل فعال. ولا تهم أسماء العقول وألفاظها؛ فقد يكون العقل بالقوة هو العقل بالملكة أو العقل الهيولاني، وقد يكون العقل المستفاد هو العقل بالفعل. الأول في مرحلة التعلم، والثاني بعد إتمام التعلم. الأول تطور، والثاني بناء. الأول منهج، والثاني موضوع. ولا فرق بين العقل الفعال ومصدر المعرفة الأول خارج النفس، الوحي أو اللوح المحفوظ أو العلم الإلهي أو الصحف الأولى، صحف إبراهيم وموسى، التوراة أو الإنجيل أو القرآن. إنما المهم عملية الانتقال من مرحلة الطبيعة إلى مرحلة العلم، مثل انتقال الجنين في الرحم من مرحلة إلى مرحلة، العلقة فالمضغة فالعظام فاللحم فالروح، أو انتقال الطفل في مراحل تعلمه من سنوات الطفولة إلى سنوات البلوغ، من العلم البديهي إلى العلم المكتسب، من الفطرة إلى التعليم، وكلها تسميات لمسميات، ألفاظ متعددة لمعان واحدة. هي عملية تعليمية، وليست عملية كونية أو عضوية؛ عملية شعورية نظرية، وليست عملية بيولوجية طبيعية مثل الشمعة والنقش عليها، وكأن الحقيقة تنشأ بتركيز العقل، وكما بين الفارابي في نشأة المنطق في كتاب الحروف.
8
نامعلوم صفحہ