من النقل إلى الإبداع

حسن حنفی d. 1443 AH
180

من النقل إلى الإبداع

من النقل إلى الإبداع (المجلد الأول النقل): (٣) الشرح: التفسير – التلخيص – الجوامع

اصناف

فالخطابة أداة في المجتمع الأثيني وطبقا لعادة الكلام فيه، فأهل المدن فريقان. منهم من يرى تثبيت السنن التي تؤدب بها أهل المدينة، ومنهم من يمنع ذلك من الأمور التي تأتي من الخارج خاصة عند الحكام على ما كان عليه الأمر في موضع الحكومة في أثينا وفي بلاد اليونان وما يكون به الكرامة منها ما هو مشترك عند الأمم جميعا ومنها ما هو خاص بكل أمة مثل الذبائح والقرابين على عادة اليونانيين لتكريم الأموات وكذلك الألعاب التي كان اليونانيون يروضون بها صبيانهم، ولما اشتدت محاربة أعداء اليونانيين قتل ابن ملكهم فطلب جثته لإحراقها على عادة موتاهم وشكرهم قبولا للشر اليسير بعد الشر العظيم. ومن الاصطناعات النافعة، أن يختار الإنسان إنسانا عظيم القدر له أيضا عدو عظيم القدر فيفعل بعدو ذلك الإنسان الشر وبأصدقائه الخير كما عرض لأوميروس مع اليونانيين وأعدائهم فمدح أحد عظماء اليونانيين فخصه بالمدح وأصدقائه من اليونانيين وخص عدوا له عظيما بالهجو هو وقومه المعادين لليونانيين في حروب بينهما. فكان رب النعمة العظيمة بذلك عند اليونانيين وعظموه حتى اعتقدوه رجلا إلهيا، المعلم الأول لجميع اليونانيين.

164

ومن عادات الشرف عند اليونانيين توفير الشعور. والإكراه مؤذ كما عبر عن ذلك الشعراء اليونانيون. ويشتد الحياء حين النظر مثل الإيحاء لمن يتوانى في المحاماة عن الدفاع عن اليونانيين بأن اليونانيين ينظرون إليه. وكذلك يغطي من يقتل وجهه حتى لا ينظر ويستحي من العار كما عبر عن ذلك أحد شعراء اليونان. ولا يحسد البعداء في المكان الأخيار كما لم يحسد خيار اليونانيين الأخيار في جزيرة هرقلس بالأندلس. واليونانية هي أيضا اللسان. ففي اليونانية أسماء وسط بين المذكر والمؤنث وهي الجماد. والاستقامة في اللسان اليوناني هو الإعراب في اللسان العربي، ويكون المدح بحضور من يحبون الممدوحين كما قال سقراط إنه أسهل مدح أهل أثينية بأثينية. وينبغي لمن يشكك في المقدمات المأخوذة من السنة أن يفعل ما كان يفعله سقراط مع الخطباء من أهل أثينية بذم تلك المقدمات بتأويلها. فالتأويل ذم للقول.

أما العرب فهم أكثر ذكرا من اليونان؛ فللعرب عاداتهم في مخاطبة الجمهور، ومقدماتهم أشبه بالمثل. والأمثال التي هي أخص بالمقدمة المخترعة عند أرسطو مثل «ذكرني الطعن وكنت ناسيا» أو «بلغ الماء الزبى». وإذا وزنت الأمم أشعارها بالنغم والوقفات فإن العرب تزنها بالوقفات فقط. وإذا كانت عادة الأمم الأخذ بالوجوه في الأشعار مقام الألفاظ أي التشكيلات ويحذقون اللفظ الدال على المعنى إما للاختصار أو للوزن والإلذاذ فهو ما لم تجربه عادة العرب. وقد تكون كثير من أوجه الاتصال في التشبيهات غير بينة في نفسها أو غير بينة عند كثير من الأمم مثل كثير من التمثيلات التي جرت عادة العرب أن يستعملوها. وكان من عادة العرب تشبيه النساء بالظباء في الجنس القريب أو تشبيه أحد بالنوع مثل تشبيه الجميل بيوسف. والفصاحة في كلام العرب قول أكرمت زيدا لجوده وليس لجوده أكرمت زيدا. وربما تكون الأزمنة التي بين المقاطع والأرجل سكنات ووقفات على ما هو عليه في أوزان العرب وعند سائر الأمم مركب من سكنات ونبرات. وبعض النبرات تسمى عند العرب مواضع الوقف فإن العرب تستعمل الوقفات عوضا عن النبرات، والاستعارة موجودة في أشعار العرب وخطبها، والمجاز استعارة تشبيهية عند أهل لساننا الناظرين في الشعر والبلاغة. وكثير في أشعار العرب جعل الاختيار والإرادة لغير ذوات النفوس. والمبالغة والإفراط كثير في كلام العرب، وكذلك الغريب وغير المألوف والأقاويل الانفعالية التي توجب استغرابا للشيء وانفعالا به كثير في أشعار العرب وخطبها.

165

وفي كل لسان ألفاظ ليست منه كما يوجد في لسان العرب كثير من ألفاظ الفرس. والمزينة وهي ألفاظ في بعض أجزائها نغم، والمركبة مثل عبد قسي بدلا من عبد قيس وعبشمي بدلا من عبد شمس فليسا موجودين في لسان العرب على غير ما يفعل بعض المحدثين. وأما الإدغام فهو موجود في لسان العرب طبقا لمخارج الأصوات لعسر فيها؛ لذلك تتبدل إحدى الصادين ياء لتضاد المخارج؛ لذلك قل في لسان العرب اسم يوجد على وزن فعلى. ومثال الأسماء الباردة التي ينبغي أن يتجنبها الخطيب أربعة: الأسماء التي يصعب فهم معناها أو التي توحي بمعاني زائدة، وهذا لا يوجد في لسان العرب. ولم يوضع بعد في لسان العرب علامات الاتصال والانفصال التي تشمل القراءة. ويستعمل الأسلوب العربي في الإحالة إلى اللاشخصي باسم زيد أو عمرو.

166

وبالرغم من هذا الحضور الظاهر للموروث إلا أن كتاب الخطابة لم يؤثر في البلاغة العربية هذا التأثير الذي يعزوه إليه كثير من المستشرقين وروافدهم في الوطن العربي، أكثر أو أقل من كتاب الشعر وأثره في النقد العربي ليس فقط لحدود منهج الأثر والتأثر وأخطائه المنهجية، اعتبار اليونان هم الأصل والعرب الفرع، الحكم بالتشابه الخارجي وليس بالتعليل الداخلي، الحكم على الشكل وليس على المضمون، إفراغ الحضارة الإسلامية من مضمونها الإبداعي، ولكن لنقص البراهين التجريبية القائمة على تحليل المضمون لنص «تلخيص الخطابة».

167

ويحضر الموروث الشرقي في مقابل الوافد الغربي. فمن الشعراء الفرس يظهر ابن بابك الشاعر والملك أردشير بن بابك والفرس.

نامعلوم صفحہ