من النقل إلى الإبداع
من النقل إلى الإبداع (المجلد الأول النقل): (٣) الشرح: التفسير – التلخيص – الجوامع
اصناف
ومذهب ابن سينا أكثر إشراقية من الفارابي، وتقوم الآراء الثلاثة على أن التغير في الجوهر، وأنه لا يخرج شيء من لا شيء. لقد توهم ابن سينا أن المادة التي بالقوة توجد لجميع الأجسام مع أن الجسم السماوي ليس فيه قوة منقسمة بانقسام الجسم أي صورة هيولانية. فلو كان فيه كذلك لكانت توجد فيه المادة التي هي بالقوة، ولا يوجد شيء أزلي فيه قوة على الفساد. لقد أخطأ ابن سينا في قوله بأن هناك شيئا ممكنا من ذاته أزليا وضروريا من غيره مثل حركة السماء الوحيدة المستثناة من قسمة الوجود إلى وجود بذاته ووجود بغيره. فلا يمكن وجود شيء ممكن من قبل غيره وفي نفس الوقت يكون ضروريا إلا إذا انقلب الطبع. يرفض ابن رشد هنا الوجود المتوسط بين الواجب والممكن.
140
ويدافع ابن رشد عن ابن سينا مرة واحدة ضد رواية كاذبة منسوبة إليه وهي أن شهادة الشاعر كدليل نظرا لطباعه وقوته الخيالية الغالبة على قوته الفكرية تجعله لا يصدق بالبرهان إن لم يصحبه تخيل. يدافع ابن رشد عن صحة مذهب ابن سينا ويفند الرأي المنسوب إليه خطأ عن أهمية القول الشعري ودور الخيال في الإدراك وكأن ابن رشد هنا يصحح الفهم الخاطئ لمذهب ابن سينا كما يفعل مع أرسطو. مع أن هذا الرأي لا يبعد عن آراء ابن سينا في النبوة وأهمية المخيلة للنبي وكيف أنه يفوق بها عقل الفيلسوف مما يطرح سؤال: هل كان موقف ابن رشد من ابن سينا موقف القاضي الحصيف المعروف عنه في «تهافت التهافت» دفاعا عن الفلاسفة أم أنه قسى عليه في نقده لاحتلال مكانه بالرغم من اختلاف الموقفين، شارح أرسطو «ابن رشد» ومنسق أرسطو «ابن سينا»؟
ويذكر ابن رشد أستاذه ابن باجه في التاسعة من تفسير ما بعد الطبيعة في نظرية الاتصال تأكيدا من ابن رشد على أن الاتصال بالعقل المفارق يتم بقوة في العقل النظري عند كماله وليس بقوة فكرية عن روية كما يقول ابن باجه؛ فالعقل عند ابن باجه بالفعل وعند ابن رشد بالقوة في الاتصال بالعقل الفعال. وهو من أضعف النقاط عند ابن رشد التي لم يستطع أن يتخلص منها. وماذا عيب القوة التي تحدث للعقل بروية وفكر، وهما أقرب إلى العقل الخالص عند ابن باجه، هنا يبدو ابن باجه أكثر عقلانية من ابن رشد، وابن رشد أكثر إشراقية من ابن باجه.
141
وتدل ألفاظ واهب، معط، أعلى، وأسفل، على تحول علم ما بعد الطبيعة إلى صياغات إنشائية تدخل فيها انفعالات النفس.
كما يذكر ابن رشد يحيى النحوي وملة النصارى مع المتكلمين وابن سينا، فالحضارة الإسلامية واحدة. فيحيى النحوي نصراني وشارح لأرسطو مع الشراح المسلمين، عربي يكتب بالعربية. فعنده لا يوجد إمكان إلا في الفاعل فقط. كما شك على المشائين نظرا لاستقلاله عنهم.
142 (ب) العلم الطبيعي والعلم الإلهي
ويحدد ابن رشد الصلة بين العلم الطبيعي والعلم الإلهي. فبعد أن يبين ابن رشد خطأ ابن سينا في الخلط بين العلمين يضع تصوره الخاص للصلة بينهما مع مراجعة نقدية للموضوع في تاريخ الفكر الفلسفي عند اليونان والمسلمين على حد سواء. ويبدأ بتصنيف العلوم في ثلاثة؛ العلم الطبيعي لدراسة الجواهر المتكونة، وعلم التعاليم لدراسة صور الجواهر المادية، والعلم الإلهي لدراسة المبادئ الأول وعلل كل شيء؛ لذلك كانت الأجرام السماوية موضوع العلم التعاليمي عالما متوسطا بين العلم الطبيعي والعلم الإلهي. والعلوم الإنسانية الإرادية تدخل مع العلم الإلهي مما يدل على ارتباط الإلهيات بالإنسانيات فيما يتعلق بعلم النفس ونظرية الاتصال وبعلم الأخلاق، الخير والخير الأقصى والسياسة والاجتماع، نظام المدينة وشرف الرئاسة فيها. وتتفاوت مراتب العلم طبقا لتفاوت مراتب الشرف لموضوعاتها. وأشرفها وآثرها موضوع العلم الإلهي. وهذا يدل من جديد على البعد الإنساني في الإلهيات. وإنها تشخيص إنساني لعلم ما بعد الطبيعة. ولا تختلف كثيرا هذه القسمة الثلاثية عما قاله ابن سينا من قبل من أن الموجودات إما قبل الكثرة (ما بعد الطبيعة) أو مع الكثرة (الرياضيات) أو بعد الكثرة (الطبيعيات).
143
نامعلوم صفحہ