من النافذة
من النافذة
اصناف
والبلاء أن عبد المنعم كثير المرح في هذا الصباح على خلاف عادته، وهو بادي الحفاوة بصاحبته الجديدة والإقبال عليها والضحك إليها، فإذا كنت قد دعوت عليه فإن لي العذر، وما فعلت ذلك إلا بلسان زكية. وعلى أني لا أظن أن اللعنة تنقصه، فما يخدعني هذا القميص الأبيض النظيف، وإني لأستطيع أن أرى - من نافذتي - وضر زيت أو شحم على إحدى ساقي السراويل فوق موضع المفصل، فأكبر الظن أن صاحبنا صانع ميكانيكي يعمل في إصلاح السيارات. والأرجح أنه خراط أو حداد، فإن يده معصوبة إلى الرسغ، وعسى أن يكون حد المخرطة قد جرحها أو وقعت عليها المطرقة.
والصورة التي ترتسم في ذهني لعبد المنعم هي أنه يتيم - أعني أن أمه قد ماتت عنه - ويكبر في وهمي أن أباه تزوج أختها بعدها، فعبد المنعم وأخته - فإني أتخيل له أختا أصغر منه سنا - يعيشان مع أبيهما وخالتهما. وجاءت الحرب فأيسر الرجل قليلا وألفى نفسه ذا وفر «نسبي» لم يعهده من قبل، فطلق المسكينة واتخذ زوجة أخرى أصبى وأنعم وألين، وترك ولديه مع الخالة المطلقة، واكتفى بأن يبعث إليهم بنصف ريال في اليوم، فهم في شدة من العيش، فاضطر عبد المنعم أن يعمل بيديه لكسب رزق آخر؛ سبعة قروش أو نحوها تضاف إلى العشرة فتخفف ما هم فيه من ضنوكة. أما الأخت فبعثوا بها إلى خياطة تتعلم، وتستطيع بعد ذلك أن تكسب شيئا يعين الأسرة على العيش. ولعلها لا تزال عند الخياطة لا تتعلم شيئا، فإن الخياطات ضنينات على الفتيات بالتعليم، وعسى أن تكون كل ما تصنعه هذه الأخت الصغيرة هو أن تخرج لقضاء الحاجات؛ تشتري اللحم والخضر للخياطة والبلح حين يمر بائعه، وتذهب بالثياب المخيطة إلى الكواء وتعود بها بعد كيها، ولا تزال طوال نهارها طالعة نازلة، داخلة خارجة، تحادث وتضاحك من تلقى من خدم السكان، ويمازحها - وقد يغازلها - غلام الكواء أو الجزار أو غيرهما من أصحاب الدكاكين التي اعتادت أن تذهب إليها، وتقف في موعد الانصراف أو القدوم مع زميلاتها من الفتيات اللواتي يطلبن هذا العلم أو الفن، فتقص كل واحدة منهن على الأخريات ما ترى أن تبيحهن من تجاربها، وكيف ذهبت إلى السينما مع صاحب لها، وبماذا أكرمها، وماذا أطعمها، وبماذا كان يوشك أن يهم. ويتبادلن الأخبار؛ أخبار المعارف والجيران وسكان العمارة وغيرها مما يقع لهن شيء عنه، ويغتبن معلمتهن، ويذممنها أو يثنين عليها، ويلغطن بذكر السيدات والأوانس اللواتي يفصلن ثيابهن عند معلمتهن ... وهكذا إلى آخر ذلك - إن كان له آخر يعرف.
ولنسم هذه الأخت - التي لا أعرف أن لها وجودا - فتحية. وبعد عام أو عامين من التحصيل في هذه المدرسة تصبح فتحية أعرف بالحياة مني ومنك، وأحسن اطلاعا على بواطنها وخفاياها، وأجرأ - من أجل ذلك - على المغامرة فيها، وأشد استهانة بعقبى الاجتراء، وأسرع استجابة للإغراء.
وركبت زكية الترام، واكتفت من توديع صاحبها بهزة رأس خفيفة لا تكاد تلمح، فلولا أن عيني عليها لما تبينت أنها هزت رأسها، وليت من يدري كيف تزاول عملها في يومها هذا! وإلى أي حد تخلط وتغلط، وماذا يبلغ من صبر رئيسها أو رئيستها عليها وحلمها معها! وقاتل الله الغيرة، فإنها بلاء وداء عياء، وسخافة ما بعدها سخافة - في نظر العقل - أما في إحساس القلب فإنها ما تعرف - أحر نار الجحيم أبردها - على حد قول الشاعر، وما يستطيع أحد أن يقهرها إلا بالرياضة الشاقة. وإني لأكون كاذبا إذا زعمت أن الله وقاني شرها، ولكي أستطيع أن أزعم أني استطعت بالرياضة وبتغليب الإرادة المعتمدة على العقل أن أكتمها وأحجبها وألطف من سورتها في آن معا، وأن أظهر أيضا خلافها، فأفادني هذا راحة، ويسر لي ما كان - لولا ذلك - خليقا أن يكون عسيرا، وأبقى زمامي بيدي.
وهذا باب في القول استطردت إليه وفتحته على نفسي، والكلام فيه يطول فيحسن أن أرجئه. ***
صار أمر عبد المنعم أعقد من أن تغني في حله نظرة من نافذة، ولو كانت كمرصد حلوان. فما عدت أرى زكية في هذه الأيام الثلاثة الأخيرة، فماذا صنع الله بها يا ترى؟ أهي «مريضة حبا»، أم مزكومة، أم غيرت طريقها لتعفي عينيها من رؤية هذا الفتى الغادر، الذي لا يزال يجيء كل يوم بفتاة بارعة الحسن على ذراعه؟ أم تركت عملها إلى سواه؟! وحسنا صنعت إذ تخلفت اليوم على الأقل، فلو أنها رأت ما أرى لطقت وانشقت مرارتها من الغيرة والكمد. فإن عبد المنعم اليوم مخلوق جديد لا عهد لي به، حتى لقد ارتبت في صدق فراستي، فمن لي بمن يعينني على التوجس عن أخباره، فإنه يحيرني. من أين جاء بهذه البذلة الجديدة الكاملة؟ ذهب القميص الأبيض وما كان من حرير بل قطن، وطرح السروال الملوث بالزيت والشحم، وهذا ثوب جديد من صوف لا يقل ثمن المتر منه في أيامنا هذه عن ثلاثة جنيهات، وهو مفصل على قده، فلا ضيق ولا سعة، ولولا ذلك لقلت استعاره من قريب له، وهذا الحذاء الأسود اللامع يبدو لي أيضا غير قديم، فإن النعل طويلة لطيفة كهيئة اللسان، والجلد ليس فيه تجعد أو تثن من أثر المشي، وهذا القميص المخطط البراق لا أشك في أنه من الحرير، والربطة أيضا ثمينة، فأنى له هذا كله؟ أورث كارنيجي وروكفلر معا؟! أم هو مهرب مخدرات غفل عنه الشرط، أم أملوا له ليخدعوه ويوقعوه في حبائلهم؟!
وهذه الفتاة الجديدة ما حكايتها أيضا؟ إنها ليست كالتي كانت معه منذ أيام وأسخطت عليه زكية وتركتها محنقة تتقي - على ما يظهر - أن تلقاه مرة أخرى، وهي - أي الجديدة - من طبقة أخرى، وكأني بها معلمة أو طبيبة أو شيء من هذا القبيل، فإن فيها لتوقرا واعتزازا بنفسها، على الرغم من إقبالها عليه وبشاشتها له وأنسها به، وتناولها أصابع يسراه خفية وفركها بأصابعها والضحك إليه بعينيها، وهي تفعل ذلك وتحسب أن لا أحد يراها، ولا تدري أني من مرصدي هذا أرقب كل قمر طالع من فلك «الميدان».
وثيابها أيضا نفيسة ناعمة، وكأنها الغلالة الرقيقة التي تلبس تحت الثياب، وهي قطعتان كذلك؛ صدار أبيض قصير الكمين، وفوق موضع القلب منه، أو أعلى قليلا، حرفان يرمزان إلى اسمها بخيوط حمر؛ والثانية مجول أزرق هفهاف يخف مع الريح، والحذاء سيور بيض وزرق، وإبهام القدم بارز والظفر أحمر. أما الشعر ففينان مسترسل وقد لفت عليه - دون أن تغطيه - منديلا أدارته كطرف العمامة. وأما الوجه والقد فلا قبل لي بوصفهما، فتخيل ما شئت على هواك، واعلم أنها استغنت بجمالها عن كل زينة أخرى، فلا أحمر على الشفتين، ولا شيء على الخدين، وهي فوق ذلك رزان، وإن كانت غير قليلة الكلام أو الابتسام؛ ولا كبر بها، ولا خفاء بتحببها إلى صاحبنا - أو صاحبها هي على الأصح.
وما أظن بها إلا أنها وقعت عليه أول ما وقعت في غير مصر، فإني أرى على محياها الصابح سمرة العائدة حديثا من مصيفها بالإسكندرية على الأرجح، ولا أستكثر، أو أستغرب أن يكون عبد المنعم قد تيسر له أن يقضي أياما على ساحل بحر الروم؛ ومن أدراني أنه لم يحصل على «استئمارة» سفر - ذهابا وإيابا - في الدرجة الأولى؟ أبعيد أن يكون له قريب في السكة الحديدية يجود بها عليه؟ أو صديق يحرم نفسه ويعطيه؟ وإني لأرى له قوام الشاب المغرى بالرياضة، فلعله سباح ماهر، أو لاعب كرة بارع، وعسى أن يذلل له هذا ما يعترض طريق السفر من مصاعب. ويكبر في وهمي أنه لقيها في القطار، فأعانها على شيء، كفتح شباك أو إدارة مروحة، واتصل حبل الكلام، ولانت النظرات، ورقت الأصوات، وكثرت النكات. أو لعله أنقذها من الغرق، فعرفت له جميل صنعه، أو أعجبها في الماء فتظاهرت بالإشفاء على الغرق ليخف لنجدتها، فإن للمرأة لحيلة، ثم ذهبت بعد ذلك تتلقى عليه دروسا في السباحة وهي تحسنها كالسمكة، ولم يخطر لها أن تسأله من أنت؟ وما عملك؟ واكتفت بأن تقص عليه هي تاريخ حياتها مذ عرفت أن لها حياة وتاريخا. وأحسب أن نفسه نازعته أن يصارحها كما صارحته، ثم أحجم مستحييا أن يقول إنه صانع، وإنه يكسب رزقه بعرق جبينه وكد يديه، فعدل عن هذا وأخذ في حديث الرياضة وما أجاد منها وبلغ فيها، وتركها فيما عدا ذلك تتوهمه شيئا ذا قيمة، وهل يكون راكب الدرجة الأولى إلا ذا شأن؟! وإذا كان قد آثر أن يمسك عن التحدث عن آله ومقامه وجاهه، أفلا يجوز أن يكون ذلك منه إشفاقا عليها حتى لا يروعها، أو اتقاء لأن يذكر لها ما تدرك منه أنها دونه مالا وجاها؟! إن منطق المرأة عجيب، وهو أعجب ما يكون حين تعشق. وقد عشقت هذا الفتى ما في ذلك ريب، فإني أرى من مرصدي ما يرفع الظن إلى مرتبة اليقين.
وتورط عبد المنعم، فماذا يصنع؟! إن صاحبته - ولنسمها كريمة - تقبل عليه مشغوفة به، في خفر واستحياء؛ إي نعم هذا واضح، ولكنه خفر لا يجعلها تكتم تحببها، بل تغزلها، وهو يستظرفها ويتمنى لو اتصلت أسبابه بأسبابها، ولكنه حائر لا يسعه أن يكاشفها بحقيقة أمره بعد أن تركها تخدع، وما كذب عليها، ولكنه غالطها بالكتمان، وأطلق لها أن تتخيل ما شاءت مما يقع في الروع من ظاهره؛ وليس في وسعه أيضا أن يسايرها ويطاوعها ويلين في العنان لها، لأنه يعرف أنه دونها في كل شيء؛ في العلم والمقام وما إلى ذلك. ثم إنها حدثته - فيما يخيل إلي - أنها مخطوبة لقريب أو غريب، ولكن بينها وبين خطيبها خلافا، فإنها هي تبغي البقاء بالقاهرة، وهو في أسيوط أو دمياط، ولا يريد أن يتطامن ويتواضع ويوسط بعض أولاد الحلال لينقل إلى القاهرة، وقد ثقل هذا الخلاف على كاهل صبره، فرحل إلى حيث عمله معلنا أنه لن يعود إلا بعد أن تستقر هي على رأي حاسم؛ فإما أن تكون معه حيثما يكون عمله وإلا ...
نامعلوم صفحہ