من النافذة
من النافذة
اصناف
وأحد هذين الغلامين يسقم ويمرض إذا وقعت عينه على قطرة دم، ولكنه يشهد ذبح الخروف وسلخه ويرى دمه يسيل فلا يضطرب ولا يتألم ولا يصيبه سوء، بل يعود من هذه «الفرجة» منشرح الصدر قرير العين، ويظل أياما يتحدث بها ويصف ما كان فيها.
قطرة دم واحدة من سن سقطت في فمه تدير رأسه وتغثي نفسه، وتصده عن الطعام واللعب يوما كاملا على الأقل ، وملء طشت من دم الخروف يفرحه ويسره! وهو غلام يحزنه أن يسمع أحدا يتوجع، ولكنه لا يبالي ألم الخروف وقشعريرته «وماءاته» حين يقيده الجزار ويضع على رقبته السكين؛ وهو في العادة يأبى أن يأكل لحم حيوان أو طير إذا رآه يقطع في المطبخ، ولكنه يرى سلخ الخروف فلا تتحرك شعرة في رأسه؛ ويرى الساطور يهوي على جسمه ويقطعه فلا يشعر بدوار ولا يصده هذا عن الأكل.
كلا، لم أخطئ حين قلت: إن من يلاحظ الأطفال لا يسعه إلا أن يقول: إن الإنسان لا أكثر ولا أقل من حيوان، وإنه في الحقيقة لا يعرف شرا أو خيرا، وإنما يعرف غرائز يطيعها؛ وما الخير والشر إلا وسيلة لتنظيم جماعة الإنسان لجعل حياتها محتملة بعد أن ارتقى عقل الإنسان عن عقل الحيوان. ***
قلت لصديقي ونحن خارجون من السينما - أو لعلنا كنا داخلين فما أذكر الآن: «يا أخي، أحسب أن من الخسارة علينا أننا خلقنا في هذا الزمان، ولو تأخر بنا الحظ جيلا آخر لكان عيشنا خليقا أن يكون أطيب وأرغد، فإن هذا عصر انتقال لن تستقر فيه الأمور على حد مريح.»
فوافق، واستطردنا إلى حديث آخر، ولكني ظللت أفكر فيما قلت فبدا لي أني أخطأت. ولا نكران أن زمننا هذا زمن انتقال، ولكن هذا حال كل زمان، فما تلزم أمور الحياة حدا تنتهي إليه، ولا تكون قط على حال لا يتغير أو يتبدل، وكل عصر عصر انتقال. والتحول هو قانون الحياة؛ فلا وقوف ولا رجوع لأن هذا وذاك مستحيلان في الحياة. ولو كنا خلقنا في زمن غير هذا - قبله - لكنا أحسسنا ما نحسه الآن من أننا في عصر انتقال، وأننا نعاني من جراء ذلك اضطرابا وقلقا وقيودا كثيرة تثقل علينا، ونعتقد أن الأيام ستصدعها عن الناس وتعفيهم منها، ولتوهمنا أن الناس حينئذ سيكونون أسعد وأرغد عيشا وأكثر حرية وأقل شعورا بالتقلقل والاضطراب، والحيرة بين القديم المشنوء الذي يتزلزل، والجديد المأمول الذي بدت بشائره.
وحضرني وأنا أفكر في هذا مثال قريب، فقد كنا في الجيل الذي مضى نسخط على الحجاب وما يقتضيه من التفريق بين الرجال والنساء، وكانت بشائر السفور قد بدت، ولكن أملنا يومئذ في إدراك عهده والانتفاع به قبل أن تعلو بنا السن وتفتر الحيوية ويفسد علينا الأمر كله كان يبدو لنا بعيدا. وقد أدركنا زمن السفور بأسرع مما كنا نتصور، ووثبنا إليه في أوجز مما كنا نقدر، وقبل أن ترتفع أسنان وينضب معين الحيوية فينا، غير أنا بعد أن صرنا إلى هذا الحال الجديد الذي كنا نحلم به، ونتطلع إليه، ونتخيل أن الحياة ستكون أهنأ وأطيب، لم نرض ولم نقنع. ولسنا الآن في حاضرنا ننظر إلى ما كان، بل نحن ننظر إلى تيار الزمن واتجاهه، ونقول: إنه ينحدر إلى ساحة من الحرية أوسع وأرحب، ولا سيما بعد أن عرف الإنسان ضبط النسل. والشجرة - كما لا أحتاج أن أقول - تعرف بثمرها، فحيث لا توجد ثمرة لا يخطر للمرء أن هناك شجرة، فهي غير موجودة فيما يعلم، وإن كانت في الواقع هناك.
لا ... لم نخسر بأن خلقنا في هذا الزمان؛ وليست العلة أننا موجودون في زمان دون آخر، بل العلة أن العمر إلى انتهاء، وأن الحياة إلى نفاد، كائنا ما كان الزمن الذي نحن فيه؛ ولا خير في تقطيع النفس حسرات على ما عسى أن يكون الغيب منطويا عليه، وأحجى بالإنسان أن يقصر همه على حاضره، فإنه هو الحقيقة التي يضيع كل شيء إذا هو ضيعها. ومهما يبلغ من اتساع نطاق الحرية في المستقبل فإن حياة الجماعة لا تنتظم إلا بالقيود والحواجز والأسداد. وستظل هناك قيود من ضروب شتى.
ومع ذلك ماذا ينقصنا من الحرية في زماننا هذا؟ ألسنا نصنع ما نحب كما نحب وحينما نحب؟ ولا شك أن هناك قيودا وأغلالا غير قليلة أو هينة، ولكن هذه القيود هي التي تكسب الحياة الطعم وتفيدها المزية والفضيلة. ولست أحاول أن أعزي نفسي بهذا الكلام أو أغالطها به، بل أنا أومن بأن الأمر كما أقول والحال على ما أصف.
وتصور أن الماء المتحدر من الجبال أو غيرها لم تعترض طريقه الأسداد، ولم يمنعه شيء أن يظل يتدفق وينتشر على وجه الأرض حتى يذهب أو ينتهي إلى البحر، أكان من الممكن في ظنك أن تتكون بحيرة مثلا؟ وقد لا تكون ثم حاجة إلى البحيرة، وقد تحتاج الجماعة في وقت ما إلى محوها من الوجود، ولكن هذا لا يؤثر في القضية، ولا ينفي أن البحيرة إنما تتكون بفضل الأسداد التي يلقاها الماء وهو يجري.
والطيارة التي تحلق في الجو وتنقلنا إلى حيث نحب، وتقصر المسافات، وتطوي الأبعاد، والتي نعدها من آيات هذا العصر، كيف كان يمكن أن تفعل ذلك لولا مقاومة الهواء لدفع المحرك؟ بل كيف كان يتسنى أن تتحرك لولا هذه المقاومة؟! ولست أعرف شيئا في هذه المسائل العلمانية، فإني من أجهل خلقه - سبحانه وتعالى وتنزه عن العبث - ولكني التفت إلى هذا الأمر يوما وكنت في طيارة، وإنا فيها لمسرورون مغتبطون بهذا التحليق. وإذا بها تسقط كالحجر مائة وخمسين قدما - على ما قيل لي فيما بعد - وكانت هنيهة قصيرة جدا، ولكنها على قصرها الشديد كانت أقسى ما جربت في حياتي، فقد أحسست أن قلبي صار في حلقي من فعل السقوط المفاجئ لا من الخوف، فما اتسع الوقت لخوف أو رجاء. ثم عادت الطيارة فمضت بنا في طريقها، وكرت إلى مثل الارتفاع الأول، فلم أفهم سبب هذه السقطة المزعجة؛ فلما نزلنا كدت أنسى أن أسأل عن السر فيما حدث، ولكني تذكرت بعد أن مشيت خطوات، فارتددت إلى الطيار فقلت له: يا أخي، لقد سقطنا في الهواء، فما سبب ذلك؟ قال: هل أحسست شيئا؟ قلت: كيف لا أحس وقد كادت أنفاسي تتقطع؟ قال: لقد صادفنا فراغا. قلت: كيف؟! واستغربت، فبين لي أن بعض طبقات الجو تخلو - لأسباب شتى نسيتها - من الهواء، فتصبح فارغة، فإذا دخلت الطيارة منطقة الفراغ لم تستطع أن تجتازها؛ لأن الهواء هو الذي يعينها بمقاومته على الطيران، ولهذا تسقط حتى تخرج من المنطقة الفارغة فيتيسر لها أن تمضي في طيرانها، وذكر لي أن المنطقة التي صادفناها كانت من أكبر ما لقي من الفراغ مذ ركب طيارة.
نامعلوم صفحہ