من النافذة
من النافذة
اصناف
قلت: «وهذا أحسن، وجدتم على الأقل موضوعا للكلام لا تخشون أن ينضب معينه.»
قال: «اسمع. إني رجل كبير، وقد أديت واجبي، وربيت أبنائي، وهم الآن رجال يعتمدون على أنفسهم ولا يحتاجون إلي. فرغت من هذا الأمر، وأحب أن أقضي ما بقي من عمري في بيتي ... بيتي أنا؛ البيت الذي ورثته عن أبي وقضيت فيه خير عمري - بل عمري كله - وحولي جيراني؛ أعرفهم ويعرفونني، وأستطيع أن أجدهم عند الحاجة. لقد رفسني حمار في الطريق فأغمي علي، فلما أفقت ألفيتني في بيتي على سريري. هل تعرف من حملني؟ جيراني؛ عرفني أهل الحي فحملوني إلى بيتي، لو وقع لي هذا في الحي الجديد الذي نقيم فيه الآن لجاء الإسعاف وحملني إلى المستشفى.»
قلت: «معقول! أنت تفضل أن يحملك جيرانك وأهل حيك إلى بيتك في مثل هذه الحالة، ولكن بنيك يفضلون في مثل هذه الحالة أن يحمل المرء إلى المستشفى، زمنك لم يكن يعرف المستشفيات، فأنت تنكرها وتشفق من أن تحمل إليها، ولعلك تتطير من دخول المستشفى، وعسى أن يكون اسم المستشفى مقرونا في ذهنك بفكرة الموت. ولكن الزمن تغير، والرأي في المستشفيات اختلف، وأبناء هذا الزمن الجديد يؤثرون العلاج في دوره المجعولة له على العلاج في البيوت؛ فالذي تعده أنت مزية يرونه هم نقصا، والذي تراه أنت شرا يعتقدون هم أنه خير، وهذا بعض الفرق بين الزمنين.»
قال: «ولكني كبرت يا سيدي. ماذا يضرهم لو تركوني أقضي الأيام الباقية لي كما أحب؟»
قلت: «إنه لا يضرهم، وثق أنهم لا يأبون عليك ولا يكرهون لك أن تحيا حياتك على هواك، ولكن تيار الزمن حملهم - وحملك معهم - إلى حيث لا تشعر إلا بالقلق وعدم الرضا، والذنب للزمن، لا لهم!»
قال: «إنهم يضحكون مني حين أقول لهم: إن بيتنا قريب من المساجد، فأنا أستطيع بلا عناء أن أزور السيدة نفيسة أو السيدة زينب، وأن أصلي المغرب في سيدنا الحسين، ثم أشرب الشاي المغربي البديع هناك في قهوة من القهوات القديمة، وأنتظر حتى أصلي العشاء، ثم أعود إلى البيت ... يضحكون يا سيدي ويجعلون هذا موضوعا لفكاهاتهم، لا يعجبهم إلا جروبي وشارع عماد الدين والسينما ...»
قلت: «أنت محق وهم غير مخطئين، لقد فرغت من حياتك أو من واجبك فيها، فأنت تريد أن تفرغ لربك، ولكنهم هم في بداية الأمر وأول مراحل الحياة، ولكل حياة بداية ونهاية، ومن العنت أن تفرض عليهم في البداية الحالات النفسية التي لا تكون إلا في النهاية. وأنت لا تشعر بالحاجة إلى السينما مثلا؛ لأنك لم تعتدها، إذ لم يكن لها في زمنك وجود. وقد عشت بغيرها أكثر عمرك، ففي وسعك بسهولة أن تعيش بقية العمر من غير أن يخطر لك أن السينما لازمة أو أنها ملهاة مستحبة، ولكنهم هم نشئوا في ظلها، فصارت من وجوه حياتهم المألوفة، وأحسبهم حين تعلو بهم السن ويفرغون من أمور الدنيا سيظلون يذهبون إلى السينما كما تذهب أنت الآن إلى المساجد للعبادة، ولن يكونوا حينئذ أقل زهدا في الدنيا أو انصرافا عن باطلها أو ابتغاء لرضى الله. ومن يدري ... فقد تكون هناك يومئذ أشياء جديدة غير السينما يرتادها أبناؤهم، فينكر أبناؤك على أحفادك هذا الشغف بالجديد الذي جاء به الزمن، كما تنكر أنت اليوم على بنيك كلفهم بالسينما ... لكل زمن يا سيدي حكمة، ولكل جيل روحه ... ويحسن بالمرء أن يوطن نفسه على ذلك.»
قال: «نعم، نعم ... إني لست جامدا ولا متعنتا، بل أنا أدرك ذلك كله.»
قلت: «إن الإدراك وحده لا يكفي، والمعول في مثل هذه الأمور على العادة لا على الإدراك.»
قال: «صحيح ... ولكني مظلوم ... تصور أني لا أشعر برمضان في هذا الحي ... لا نسمع المدفع، ولا يدق الباب علينا أحد ليوقظنا للسحور ... ولا نسمع الطبلة القديمة ... ولا المؤذن ... لا ... لا شيء من ذلك. وقد احتجنا إلى المنبه لنستيقظ على صوته حتى لا يفوتنا السحور ... تصور هذا ... الحق أقول لك: إني كنت لا أشعر أن هذا هو رمضان، ولا أكاد أصدق أن صيامي مقبول! أهذا هو رمضان؟! من يقول هذا؟ أين الأولاد الذين يطوفون بالمصابيح فيها الشموع الموقدة؟ أين صيحات فرحهم وسرورهم بليالي رمضان ... أين السهرات اللذيذة ... سهرات الإخوان في البيوت ... إني أحس في هذه الشقة الضيقة التي نسكنها أني يتيم ... صحيح!»
نامعلوم صفحہ