كان مختار هذه المرآة الصافية المجلوة التي تنعكس فيها حياة مصر على اختلاف أزمنتها وما يحيط بها من الظروف، فكان من هذه الناحية أشد أبناء مصر اتصالا بها وقربا منها وتمثيلا لها. ولكنه على ذلك كان غريبا في مصر أثناء هذه الأسابيع التي ختمت مساء الثلاثاء حين ختمت حياة مختار. أقبل من أوروبا فلم تكد الصحف تتحدث عن إقباله، ولم يكد يخف للقائه من أصدقائه إلا نفر قليلون. وأقام في مصر مريضا مكدودا يلح عليه الألم والسقم فلا يكاد يذكره من المصريين الذين كانوا يعجبون به ويحشدون له ويهتفون باسمه ويعتزون بمجده ويرفعون رءوسهم بآثاره إلا نفر يحصون، ولعلك إن أحصيتهم لم تبلغ بهم العشرين، وأخشى ألا تبلغ بهم أقل من هذا العدد اليسير. ثم اشتد عليه المرض وألجأه إلى المستشفى، فلم تكد الصحف تتحدث عن ذلك إلا حديثا يسيرا جدا. وخف أصدقاء مختار إلى المستشفى يسألون عن صديقهم ويريدون لقاءه فحال المرض بينهم وبين اللقاء، وأعلن إليهم أن الحجاب قد ألقي بينهم وبين هذا الصديق، وإن كانت الحياة ما تزال تتردد في جسمه النحيل. ثم أصبح الناس يوم الأربعاء وإذا نعي مختار يملأ القاهرة ويقع من نفوس أهلها موقع الألم اللاذع والحزن الممض. ثم أمسى الناس يوم الأربعاء، وإذا جماعة من خاصة المصريين وقليل من الأجانب عند محطة القاهرة يستقبلون جثمان مختار، ثم يسعون معه إلى المسجد، ثم يتفرقون ويمضي مختار إلى مستقره الأخير، ومن حوله جماعة قل في إحصائهم ما شئت فلن تستطيع أن تبلغ بهم نصف المائة. ثم يصل مختار إلى قبره، ثم يهبط مختار هذا القبر، وهؤلاء الأصدقاء قائمون قد ملكهم وجوم عميق لا يقطعه إلا هذا الصوت الرفيق المزعج، صوت المساحي والمعاول وهي تسوي القبر عليه، وتقطع ما بقي بينه وبين الحياة من أسباب، وإلا هذا النداء الذي يتردد بين حين وحين عنيفا يتكلف الرفق، طالبا الماء الذي يحتاج إليه في تسوية هذا القبر، وإقامة هذا السد بين صاحبه وبين الحياة، وإلا هذا اللغط الذي يؤذي الأسماع، وكان من حقه أن يكون موسيقى عذبة رقيقة تأسو القلوب الجريحة وتهدئ النفوس الثائرة، وترد الجازعين اليائسين إلى ما ينبغي لهم من الإذعان لقضاء الله والرضى بحكم الله. وهو لغط هؤلاء القراء الذين يلوون ألسنتهم بالكتاب وقد كره الله أن يلوي الناس ألسنتهم بالكتاب؛ لأنه كتاب مبين مستقيم لا عوج فيه ولا التواء، وإنما فيه هداية للعقول وشفاء لما في الصدور. ثم ينقطع كل صوت، ويتفرق هؤلاء الأصدقاء يحملون في قلوبهم ما يحملون من حب ووجد، ومن أسى ولوعة، يحملون هذا كله لينغمسوا به في هذه الحياة التي تنتظرهم على خطوات قليلة قصيرة من مستقر الموتى.
وكذلك انتهت قصة مختار مع انتهاء النهار يوم الأربعاء، وكذلك أسدل ستار الموت على حياة مختار في الوقت الذي أسدل فيه ظلام الليل على حياة الأحياء. وما أكثر ما تنتهي قصص الناس في كل يوم! بل في كل ساعة، بل في كل لحظة! وما أكثر ما يسدل ستار الموت حين تشرق الشمس أو حين تغيب، فلا نحس ذلك ولا نلتفت إليه! لأن الذين تختطفهم المنية أو تحصدهم في جميع الأوقات قوم مجهولون لم تميزهم الظروف أو لم تميزهم أنفسهم، فهم يمضون دون أن يحسهم أحد كما يقبلون دون أن يحسهم أحد، ولكن مختارا كان غريبا حقا في آخر حياته، وكان غريبا حقا في أول موته، وأي عجب في هذا؟ لقد آثر حياة الغربة منذ أعوام، فكان لا يزور وطنه إلا لماما، ولقد تعود الجفوة من مواطنيه. وأكبر الظن أن ذلك كان يؤذيه، ولكنه كان أكرم على نفسه من أن يشكو أو يظهر الألم. ولقد سمعنا أنه احتمل المرض شجاعا، واستقبل الموت شجاعا، لم يدركه جزع ولا فرق.
ولو أنه رأى بعد أن مات كيف ودعه مواطنوه لما أثر فيه ذلك أكثر مما أثرت فيه جفوة مواطنيه قبل أن يموت. ولعله كان يألم لذلك في قرارة قلبه الممتاز، ثم لا يظهر من ألمه شيئا كما كان يفعل أثناء الحياة، إنما نحن الذين ينبغي لهم أن يألموا أشد الألم، وأن يحزنوا أشد الحزن، وأن يستشعروا شيئا غير قليل من اللوعة والحسرة وخيبة الأمل حين نرى هذا العقوق، وحين نقدر أثره في نفس صديقنا الراحل العزيز؛ فقد كنا وما زلنا نتحدث بأن مختارا هو الذي رد إلى مصر بعض حظها من المجد الفني، وكنا وما زلنا نتحدث بأن مختارا قد مكن مصر من أن تعرب عن نفسها وعما تجد من الألم والأمل بلسان جديد لم تكن تستطيع أن تصطنعه من قبل، وهو لسان الفن. وكنا وما زلنا نتحدث بأن مختارا قد أنطق مصر بهذه اللغة التي يفهمها الناس جميعا وهي لغة الجمال، لغة الفن، بعد أن كانت لا تنطق إلا بهذه اللغة التي لا يفهمها إلا جيل بعينه من الناس، وهي لغة الكلام.
وكنا وما زلنا نتحدث بأن مختارا قد جدد في مصر سنة كانت قد درست ومضت عليها قرون وقرون، وهي سنة الفن. وكنا وما زلنا نتحدث بأن مختارا قد لفت الأوروبيين إلى مصر، وأقام لهم الدليل على أن مطالبتها بالاستقلال لم تكن عبثا ولا لغوا، وإنما كانت نتيجة لحياة جديدة ونشاط جديد، وقد لفت مختار الأوروبيين إلى ذلك في أشد الأوقات ملاءمة، في وقت الثورة السياسية. وكنا وما زلنا نتحدث بأن مختارا على حداثة عهده بالفن كان أسبق المصريين إلى إعجاب أوروبا، ألم يعرض آثاره في باريس؟ ألم تتحدث صحف الفن عن مختار قبل أن تتحدث صحف الأدب عن كتابنا وشعرائنا؟ ألم تستقر آثار مختار في متاحف باريس قبل أن تستقر آثار كتابنا وشعرائنا في مكاتبها؟ كنا نتحدث بهذا كله، وكنا وما زلنا نتحدث بأن مختارا قد رد إلى المصريين شيئا غير قليل من الثقة بأنفسهم، والأمل في مستقبلهم، والاطمئنان إلى قدرتهم على الحياة الممتازة الراقية.
كنا وما زلنا نتحدث بهذا وبأكثر من هذا، ومع ذلك فقد قضى مختار آخر حياته شريدا أو كالشريد، وقد قضى مختار آخر أيامه في مصر منسيا أو كالمنسي، وقد عبرت جنازة مختار مدينة القاهرة يطيف بها جماعة من الخاصة ليس غير! نستغفر الله، بل مرت جنازة مختار أمام التمثال الذي صنعه بيديه كما تمر أمام أي شيء، لم يظهر على التمثال ما يدل على الحزن أو ما يدل على الاكتئاب، أو ما يدل على الشكر وعرفان الجميل. وعبرت جنازة مختار مدينة القاهرة تجهلها الحكومة المصرية أو تكاد تجهلها، لم يمش في جنازة مختار ولم يقم على قبر مختار وزير العلوم والفنون، ولم يلق أحد على قبر مختار كلمة الوداع، وإنما كان الصمت يشيعه، وكان الصمت يواريه التراب، وكان الصمت يودعه حينما تفرق من حوله الأصدقاء. ولو قد مات مختار في بلد غير مصر لكان لموته شأن آخر، ولو قد كان مختار فرنسيا أو إنجليزيا أو إيطاليا وأدى لبلده مثل ما أدى لمصر لقامت الدولة له بشيء آخر غير الإهمال والإعراض. إذن لكانت جنازته رسمية تنفق عليها الدولة، ويمشي فيها رجال الدولة، ويخطب فيها كبار رجال الدولة، ولكن مختارا نشأ في مصر، وعمل لمصر، ومات في مصر، فحسبه ما أتيح له يوم الأربعاء من توديع الذين كانوا من أصدقائه وأحبائه ليس غير.
ولا ننس أن رئيس الوزراء قد تفضل فندب من مثله في جنازة مختار. وهذا - ويا لسخرية الأقدار - كثير جدا ينبغي أن يشكر لرئيس الوزراء؛ فقد ينبغي ألا ننسى أن مختارا لم يكن من أنصار السياسة الرسمية، ولا من الذين يستمتعون بعطفها وحبها ورضاها، فكثير أن يتفضل رئيس الوزراء فيندب من يمثله في جنازة هذا المعارض وإن كان صاحب فن، وإن كان قد أنفق حياته كلها لمصر لا لحزب من الأحزاب ولا لجماعة من الجماعات. لا أكذب المصريين أن لنا في مثل هذه الأحداث والخطوب مواقف لا تشرفنا ولا تلائم ما نحب لأنفسنا من الكرامة، ولا تشجع العاملين على أن يعملوا. ومن الذي نسي موت الشاعرين العظيمين حافظ وشوقي وموقف السياسة منهما؟ ذهب المعارضون بحافظ، واستأثر المؤيدون بشوقي، ثم ذهب المعارضون بمختار منذ أيام، وضحي بالأدب والفن في سبيل الأهواء والشهوات، وظهر المصريون في مظهر العقوق الذي لا يليق بالشعب الكريم. لا أكذب المصريين أنهم في حاجة إلى أن يرفعوا أنفسهم أمام أنفسهم وأمام غيرهم عن هذه المنزلة المهينة، إنهم في حاجة إلى أن يرفعوا الأدب والعلم والفن عن أغراض الحياة، وأغراض الخصومة السياسية؛ لأن في الحياة أشياء أرقى وأطهر وأكرم من السياسة وخصوماتها، والأدب والعلم والفن أول هذه الأشياء. لقد هم أصحاب حافظ أن يخلدوا ذكر حافظ فلم يوفقوا، وهذا حافظ يخلد ذكر نفسه. ولقد هم المستأثرون بشوقي من رجال السياسة الرسمية أن يخلدوا ذكر شوقي فلم يفلحوا، وهذا شوقي يخلد ذكر نفسه. فهل بين المصريين من يهمون بحماية آثار مختار من الضياع وبتخليد ذكر مختار؟ وهل هم إن فعلوا موفقون إلى ما يريدون؟ أم هل تدخل السياسة في أمر مختار فتفسده كما أفسدت أمر حافظ وشوقي؟ سؤال مؤلم ما كان ينبغي أن يلقى، ولكن انتظار جوابه لن يكون طويلا، ولعله لا يضيف ألما إلى ألم، وحزنا إلى حزن.
أحاديث الأسبوع
كان جو القاهرة قلقا مضطربا أثناء الأسبوع، يذكر الشتاء المدبر فيستحضر بعض أرواح البرد، ويلمح الصيف المقبل فيسرع إلى بعض بشائر القيظ. وكان النهار ضعيف الذاكرة جدا، محي الشتاء من نفسه محوا على قرب عهد الشتاء، وكان الليل وفيا بعض الشيء ، قوي الذاكرة إلى حد ما، رفيقا بالناس بعض الرفق، كأنما كان يشفق عليهم من قسوة النهار ونسيانه للعهد، وزهده في الأمس وتهالكه على غد، فكان يثير لهم بعض هذه النسمات الهادئة الحلوة التي تغرق أحيانا في الهدوء والخفة حتى توشك أن تكون لاذعة، وحتى تلفت الناس إلى أن من الخطر أن يخونوا عهد الشتاء كما خانه النهار، وأن يتهالكوا على عهد الصيف كما تهالك عليه النهار، وأن يتخففوا من ثيابهم، ويتهاونوا في الاحتياط والحذر من هذه الأرواح القليلة الخفية المغرقة التي تتعلق بشعاع من أشعة القمر، أو بنفس من أنفاس النسيم، والتي لا تكره أحيانا أن تمس المهملين مسا خفيفا، فتعرضهم للأذى، وتحملهم من الآلام جهدا ثقيلا.
وكان الناس، أو بعبارة أدق، كان الأدباء يسايرون الزمان كدأبهم في كل حين وفي كل بيئة، كانوا يفترون للنهار وينشطون لليل، كانوا يثقلون للظهر ويخفون لمغرب الشمس، كانوا يؤدون أعمالهم خامدين هامدين في الضحى، أو يتخذون شكل الذين يؤدون أعمالهم وهم لا يؤدون منها شيئا، فإذا ألقت الشمس يدا في كافر كما كان يقول لبيد؛ خفت الأجسام، ونشطت النفوس، واتسعت الرئات للهواء، وتفتحت العقول والأذهان للخواطر، وانطلقت الألسنة بالحديث، ولم تكن أحاديث الأدباء في هذا الأسبوع قليلة الخطر، ولا ضئيلة الشأن، ولا هينة الأمر على المتحدثين بها من الأدباء، والمتناقلين لها من غير الأدباء، فهم قد بدءوا أحاديث الأسبوع بهذا الاجتماع الذي كان عند جماعة «الإسيست»، وقصد به لا أقول إلى إحياء ذكر مختار، بل أقول إلى ذكر مختار ليس غير. وكان حديث الأدباء عن هذا الاجتماع طريفا؛ لأنه لم يزد على أن ذكره وألم به دون أن يفسره أو يعلق عليه. وهل أحاديث غير الأدباء في مصر الآن خير من أحاديث الأدباء؟ فأنت تستطيع أن تلتمس النشاط عند رجال السياسة، أو عند أصحاب المال، أو عند غير أولئك وهؤلاء من طبقات الناس، فإن استطعت أن تجد صورة من صوره فأنت منصف حين تلوم الأدباء على القصور، وتعيبهم بالفتور. على أن شيئين لم يهملهما الأدباء حين تحدثوا عن هذا الاجتماع، إن كانوا قد تحدثوا عنه بالفعل أو خاضوا فيه حقا، ولم يكن هذا الحديث الذي أنقله عنهم خيالا فاترا فتور حياة الأدباء كلها في هذه الأيام. فأما أول هذين الشيئين: فهو أن هذا الاجتماع إنما كان أثرا من آثار الشباب وحدهم، هم الذي فكروا فيه، وهم الذين دعوا إليه، وهم الذين ألحوا في الدعوة، فوفقوا إلى إكراه جماعة من الكهول والشيوخ على الاستجابة لدعوتهم، وظفروا من جماعة أخرى بالوعود والأماني التي لم يقدر لها الوفاء ولا التحقيق، ولم يظفروا من جماعة آخرين بوعد ولا أمنية، فضلا عن الوفاء أو التحقيق.
وأما الشيء الثاني فهو أن هذا الاجتماع لم يحدث في الأدب حدثا، ولم ينتج له جديدا، إلا كلمة طريفة قيمة مؤثرة قالها صديقنا مصطفى عبد الرازق. فأما ما دون هذه الكلمة فلم يكن شيئا، حتى إن صديقنا مطران لم يستطع إلا أن يعيد على السامعين قصيدة رائعة بارعة من غير شك، ولكنها قديمة، أنشئت وأنشدت لاستقبال مختار حين عاد ظافرا يستقبل المجد، ثم استخرجت وأنشدت لوداع مختار حين استأثر به الموت، فولى يودع المجد ويودع الحياة. والغريب أن هذا الاجتماع كان لتكريم الفن، ولتأبين المثال الأول في تاريخ مصر الحديثة، المثال الذي ابتكر من الآثار ما يقال إنه جميل رائع ينطق البكم ويثير حس الذين لا يثور لهم حس، ويفيض شعور الذين لا يفيض لهم شعور، ومع ذلك فهو لم ينطق أدباءنا وما أكثر ما كانوا ينطقون! ولم يثر حسهم وما أكثر ما كان يثور! ولم يفض شعورهم وما أكثر ما كان يفيض! تساءل الأدباء عن مصدر هذا في السر أو في الجهر، في النوم أو في اليقظة، في الحقيقة أو في الخيال؛ فكان الجواب أن مصر الآن نائمة تستريح.
نامعلوم صفحہ