54

فأنت ترى أن أحاديث الحب لا يمكن أن تكون عذبة، ولا مثيرة لتلك العواطف الخفية بين ناس كهؤلاء الناس، وإنما هي أحاديث أرقى من هذا كله وأدق، ثم إن هؤلاء الأشخاص الذين لا أشك في أنك ستحبهم، وتكلف بهم، وتعطف على بعضهم، هؤلاء الأشخاص ليسوا عاديين، ماذا أقول: إني لأتساءل: أيمكن أن يوجد في حياتنا الواقعة أشخاص كهؤلاء يتحدثون كما يتحدث هؤلاء الناس، ويعملون كما يعمل هؤلاء الناس، وأكاد أعتقد أن الكاتب لم يحاول تصوير ما هو كائن في الأرض، وإنما استنزل المثل الأعلى من السماء فصوره تصويرا متقنا، ثم عرضه على الناس ليهيج شوقهم إليه، ورغبتهم فيه، ولعله حاول مع هذا أن يحل هذه المشكلة العويصة، مشكلة الجهاد العنيف المتصل بين عقل الرجل الكبير وشعوره.

فهل وفق إلى هذا الحل؟ أعتقد أنا أنه لم يحل المسألة، ولعل هذه المسألة لا تحل، وحسب الكاتب مجدا، وحسبه من الفوز العلمي أنه قد استطاع أن يظهر لك بطريقة لا تحتمل شكا ولا ريبا أن أشد الناس نبوغا في العلم، وتفوقا في حل معضلاته، وأشدهم مضيا في الإلحاد، وإنكار الإله والدين خاضع كما يخضع أشد الناس جهلا، وأكثرهم إغراقا في الغفلة والذهول لهذه العواطف التي تحمل على الخوف والإشفاق، والرحمة والحنان، والأمل في المستقبل، والطمع في حياة أخرى بعد الموت، بل في جزاء للأعمال التي نأتيها في هذه الحياة، خاضع لهذه العواطف التي ينشئها الدين في نفوسنا، فهو مجتمع شيئين متناقضين: عقل ملحد كل الإلحاد، وقلب مؤمن كل الإيمان .

نعم وفق الكاتب إلى عرض هذه المسألة وإيضاحها، وسواء علينا أوفق إلى حلها أم لم يوفق، فذلك شيء في نفسه ليس بذي خطر، وإنما الأمر كل الأمر أن نعرف أن أشد الناس ذكاء وأكثرهم إلحادا مؤمن سواء أراد أم لم يرد؛ مؤمن لأنه إنسان ليس غير، ثم قد يكون إيمانه واضحا، وقد يكون غامضا، وقد يكون موضوع هذا الإيمان جليا، وقد يكون خفيا، ولكنه مؤمن على كل حال، يحتاج حين يغلب قلبه على عقله إلى أن يلجأ إلى قوة قاهرة يستمد منها الغوث والمعونة، فلننظر بعد هذه المقدمة إلى القصة.

قلت إن أشخاص هذه القصة ليسوا عاديين، والحق أنهم جميعا ممتازون، فأولهم: «ألبير دونا» طبيب قد نبغ في فنه، وأصبح موضع إعجاب قومه، بل موضع إعجاب العالم كله، تفاخر به فرنسا كما تفاخر بنابغتها «باستور». والثاني: «لويز» امرأة هذا الطبيب، بارعة الجمال، شديدة الذكاء، رقيقة القلب، حادة العاطفة. والثالث: «موريس كورميه» نابغة في علم النفس، يعمل فيه عملا لا يعرف الملل، يستخدم التجربة، ويصل إلى نتائج عظمية القيمة، ويحاول أن يجعل علم النفس علما حقا، ينتج كما تنتج العلوم الأخرى التي تم تكوينها. والرابع: «أنطوانيت ميلا» فتاة في الثامنة عشرة من عمرها، فقيرة معدمة، يتيمة، جميلة جدا، شديد التأثير في نفس من يراها، ولكنها مريضة، قد ألح عليها السل، فجزم الأطباء بأنها ميتة، وهي تستعد لحياة الراهبة. •••

فإذا ابتدأت القصة رأينا «لويز» جالسة في لبسة المتفضل، مرسلة الشعر تكتب، فتدخل عليها أختها «جان» التي لم نسمها؛ لأن أثرها في القصة قليل، تنبئ «جان» أختها «لويز» بنبأ عظيم، بخطب جلل يوشك أن يدك حولها كل شيء، وهو أن زوجها الطبيب متهم، يراد أن يقبض عليه، وأن الناس جميعا يتحدثون بذلك، فإذا سألت «لويز» عما يتهم به زوجها، فإن التهمة شنيعة، ولكنها تشرف المتهم، تشرفه أمام العقل وأمام العلم، وتجعله مجرما أمام القانون وأمام الضمير، وإذن فقد خلق الموقف العسير الذي تدور عليه القصة، موقف التناقض بين العقل والعلم من جهة، وبين القانون والضمير من جهة أخرى، ذلك أن «ألبير دونا» الطبيب قد اتخذ المرضى موضوعا لتجربة مهلكة، فهو يبحث عن مصل يداوي به السرطان، وقد اضطره هذا البحث إلى أن يلقح «بميكروب» السرطان بعض المرضى، فنجحت التجربة، وأصيب هؤلاء المرضى بهذه العلة المهلكة، فالتجربة في نفسها خير، بل هي واجب علمي، بل هي واجب خلقي إنساني؛ لأنها وإن ضحت بطائفة من الناس فستضمن البر والعافية للناس جميعا، فهي من هذه الجهة خير، ولكنها قتل، فهي جريمة ينكرها الضمير والخلق والدين، ويعاقب عليها القانون، هذا هو الموقف أو هي العقدة كما يقول الممثلون، وليس لهذه العقدة حل إلا أن تتطور الإنسانية، فينتصر العقل انتصارا مطلقا يخضع لسلطانه القوانين، والأخلاق، والعرف، والأديان، أو ينتصر الضمير انتصارا مطلقا يمحو العقل ويزيل آثاره.

ولكننا الآن في شغل عن هذه المسألة التي ستدرس فيما بعد؛ ذلك أن هذا الحديث بين الأختين قد أظهر أن «لويز» لا تحب زوجها، أو أنها شقية كل الشقاء مع هذا الزوج؛ لأنها كانت تحبه الحب كله، فلم تظفر منه بما يرضي قلبها وعواطفها؛ لأن هذا العالم شغل بعلمه وبحثه، وبره بالمرضى والضعفاء عن امرأته، وعما يحتاج إليه قلبها وعواطفها وحبها، فعاشا معا عيشة أليمة، لا يشعر الناس بما فيها من ألم، بل لا يشعر الزوج نفسه بما فيها من ألم، وإنما تألم هذه الزوجة المسكينة وتتعذب دون أن يشعر بها أحد، أو يعطف عليها إنسان، وهي منذ عشر سنين في هذه الحياة المرة، تجل زوجها وتكرمه؛ لأنه نابغة، ولأنه خير، ولكنها تشقى بجواره؛ لأنها لا تجد عنده ما تريد، وهي تضطرب بين شرين؛ أحدهما: الوفاء لهذا الزوج المعرض اللاهي، وما يستتبعه هذا الوفاء من ألم وضنك. الثاني: الحرية والاستمتاع بلذات الحياة، وإرضاء قلبها وعواطفها، وميلها القوي إلى السعادة، وما يستتبعه هذا كله من الخيانة والغدر، ومخالفة الضمير، والخلق، والدين.

موقف آخر عسير كالموقف الأول، كانت «لويز» تحاول أن تجد منه مخلصا، لا سيما وأن هنالك شخصا ثالثا يحبها، ويكلف بها، ويظهر لها هذا الحب والكلف، وهي تميل إليه، ولا تجد غضاضة في مجالسته، والتحدث إليه، وهذا الشخص هو «موريس كورميه» النابغة في علم النفس، والصديق الوفي لزوجها، كانت إذن تنتهز الفرصة للتخلص من هذا الموقف، فقد سنحت الفرصة، أصبح زوجها مجرما وهي لا تحبه، وإذن فستفارقه، وتسترد حريتها، وتشاطر صاحبها لذات الحياة، وإنها لتتحدث في هذا كله إلى أختها إذ تدخل الخادمة، فتنبئ بأن فتاة أقبلت تريد أن تلقى الطبيب؛ لأنها منه على موعد، فيؤذن لهذه الفتاة في الدخول؛ لأن «لويز» تفترض أن هذه الفتاة ضحية من ضحايا زوجها، فتريد أن تتبين منها الأمر. تدخل هذه الفتاة وهي «أنطوانيت»، فتقص على الأختين ما ذكرنا لك من أمرها، وتنبئهما بأنها قد شفيت أو كادت لحسن علاج الطبيب، وأنها أقبلت تستشيره بعد أن كتبت إليه، فأذن لها في ذلك، ويأتي الطبيب فتنبئه أخت امرأته بما علمت من أمره، وتطلب إليه أن يحتاط، وأن يخفي أوراقه قبل أن تأتي الشرطة للتفتيش، وكانا يتحدثان في ناحية، فتعلم من حديثهما أمرين؛ الأول: أن هذه الفتاة ضحية من ضحايا الطبيب؛ لأنه واثق بأنها ستموت، وإذن فقد اتخذها موضوعا للتجربة. الثاني: أنه سيخفي أوراقه عند صديق أمين هو «موريس كورميه» الذي علمت من أمره مع لويز ما علمت، ثم تخرج «جان»، ويعنى الطبيب بهذه المريضة، فيسألها عن أمرها، وتجيبه بأن صحتها جيدة، وأنها تحس كأنها تخلق خلقا جديدا، ولكن دملا قد ظهر في جسمها لا يريد أن يشفى، ولا أن يفتح، ولهذا أقبلت تعرضه على الطبيب، وقد علمت طبعا أن هذا الدمل هو السرطان، يفحص الطبيب صدر المريضة فكلما تقدم في الفحص اشتد خوفه وذعره واضطرابه؛ ذلك لأنه يلاحظ أن هذه الفتاة قد برئت من مرض السل، وإذن فهو قاتلها؛ لأنها ستموت بالسرطان.

الطبيب واله جزع، ولكنه يتجلد، ويسأل الفتاة في عنف عما اتخذت من دواء، فتجيبه بأنها لم تتخذ إلا دواءه هو، وأنها قد اتخذت شيئا آخر تخشى أن تذكره، فيغضب الطبيب، شربت ماء «لورد» - وهي قرية فيها ينبوع ظهر في القرن الماضي فقدسه الناس، وزعموا أن العذراء هي التي أخرجته، إلى آخر ما هو معروف من أمره.

إذن فلم يبق شك عند الطبيب في أنه قاتل، وفي أنه يستحق عقاب القاتل؛ ذلك لأنه كان يعتقد أن تجاربه ليست شرا، فهو لا يجربها إلا في أشخاص لا يشك في أنهم ميتون، وإذن فهو لم يكن يجني على الإنسانية، بل لم يكن يجني على المرضى أنفسهم، أما الآن وقد برئت هذه الفتاة من السل، فالأمر غير ذلك، قد جنى على الإنسانية فأفقدها بعض أفرادها، وجنى على هذه الفتاة فأفقدها الحياة، وإذن فهو قاتل.

تتفق «لويز» مع هذه الفتاة على أن تقيم عندها لتعالج في البيت، ثم تخرج الفتاة، ويقف الزوجان وجها لوجه، فانظر كيف يبتدئ بينهما الحديث:

نامعلوم صفحہ