من العقیدہ إلی الثورہ (٤): النبوۃ – المعاد
من العقيدة إلى الثورة (٤): النبوة – المعاد
اصناف
والحقيقة أن كل هذا الوصف إنما يأتي من الروايات والأخبار الضعيفة، والتي لم تعتمد عليها كتب العقائد المتقدمة ، بل امتلأت بها الشروح المتأخرة مستمدة مادتها من تآليف مستقلة عن علم أصول الدين، بعد أن أصبح موضوعا مستقلا تكثر فيه التآليف في فترات الانحطاط؛ تعويضا عن مآسي العصر وأحزان الزمان وهزائم المجتمعات وانهيار الدول؛ فتنشأ الأخرويات كتعويض عن الدنيويات، وكانتصار للروح بعد هزيمة البدن، وكأمل في المستقبل بعد ازدياد الكرب في الحاضر. كلها روايات وأخبار لا تتوافر فيها شروط التواتر، وفي مقدمتها الاتفاق مع العقل والحس ومجرى العادات، بل ولا حتى ترتقي إلى أخبار الآحاد. وهي على هذا النحو لا تعطي اليقين النظري أو العملي. لم يرد منها شيء في أصل الوحي الأول وهو القرآن، وليس في الحديث الصحيح كل هذه التفصيلات النظرية التي لا تهم السلوك العملي وتوجيه حياة الناس؛ فهي أمور لا تعم بها البلوى، ولا ترتبط بها مصالح الأمة. إنما يمكن فهمها بناء على تحليل التجارب البشرية، وهي ليست التجارب التي يعتمد عليها المتأخرون لإثبات حياة القبر الصحيح منها، مثل النوم أو المرض مثل الهلوسة وباقي الأمراض العقلية، أو ما سماه القدماء عجائب النفس، وما نشاهده من صور أو خيالات في النوم أو اليقظة، بل التجارب البشرية العادية، مثل الرغبة في قهر الموت وتجاوزه، واستمرار الحياة، والخوف من عواقب الأمور، وتحسب نتائج الأعمال.
18
وقد تبدو أهمية ذلك في مراقبة النفس وحسابها، خوفا من الله، والرقابة على الذات واستدراك الأمور، ولكن الخيال الشعبي حولها إلى استجواب كما يحدث في المباحث العامة، وتعذيب كما يحدث في المخابرات العامة، وتسجيل اعترافات كالتي تقوم بها أجهزة الأمن؛ قياسا للغائب على الشاهد، ونقلا من الواقع إلى الخيال. وقد كانت البداية مجرد أسماء ثم تحولت إلى أشياء بعد تحجر التجارب الحية الفردية والاجتماعية، وخلقها موضوعات من ذاتها تشخصها وتتعامل معها، فيسعد الإنسان بوهمه وخياله الذي صنعه. قد يكون منكر هو العقل والقول، ونكير هو الحكم عليهما بذلك، وليسا شخصين أو ملكين. تتحول الأسماء إلى معان مستقلة، ثم تتحول هذه إلى أشياء، ثم تتشخص الأشياء وتحيا وتصبح شخصيات حية، كما كان الحال في ألقاب المسيح. فهما للمؤمن مبشر وبشير، وبالنسبة للكافر منكر ونكير. هي أسماء تعبر بدلالاتها على التجربة الإنسانية، بل إنها ألفاظ يعبر بها الإنسان عن تجاربه في الحياة، ثم تتحول الأسماء إلى معان، ثم إلى أشياء، ثم إلى أشخاص، ثم تصبح مقدسات وفاعلات في العالم ضد الإنسان أو معه طبقا لعواطف الإيجاب والسلب وانفعالات الخير والشر. وهو ما يحدث باستمرار في ألقاب الأنبياء وصفات الآلهة.
19
ويقوم الخيال الشعبي المتصل بنوع من التواتر المعنوي، فيصبح مترادفا عند عديد من الشعوب، يعبر عن حكمة البشر وتجاربهم الحية عبر التاريخ. فهناك ملك للخير على اليمين، وملك للشر على اليسار، كريمان كاتبان، يدونان كل شيء إلى يوم الحساب. وهي الثنائية الدينية التقليدية المعروفة في الديانات القديمة القائمة على الصراع بين الخير والشر. وقد كانت هناك أنماط سابقة من هذه الخيالات في البيئة الحضارية القديمة فيما يتعلق بحياة القبر، سواء في ديانات مصر القديمة، مثل عودة ألكا وألبا إلى القبر وتحنيط جثة الميت واستئناف الحياة من جديد فيه، وكذلك في أسطورة إيزيس التي لمت أشلاء زوجها وأخيها أوزوريس، فعادت إليه الحياة، أو في معجزات المسيح، وتقطيعه الطير أربعة أجزاء، ثم جمعها وعودة الحياة إليه. يمكن إذن بدراسة أساطير الموت والبعث دراسة مقارنة من خلال تاريخ الأديان معرفة هذه الأنماط المثالية الأولى، التي عليها تم نسج صور حياة القبر في بيئة حضارية لم تكن تريد الإحساس بالنقص أمام سير الأولين وقصصهم. وما أكثر الصور الشعبية حول الموت وحياة الميت بعد الموت، مثل تلك التي يطير فيها التابوت، أو يخف حمله وسط تهليل المشيعين وراءه بأنه من أولياء الله، يتشبثون به حتى لا يطير في الهواء، أو يسير التابوت بسرعة، أو يتوجه نحو حبيب أو شخص أليف، ثم يحط في مكان ولا يتزحزح منه، فيدفن فيه بناء على رغبة الميت واختياره الأخير. وفي حياة القديسين بعد الموت، ومقاومة رفاتهم للفناء والتحلل، أمثلة أخرى عديدة على أن الروح قادرة على أن تظل في الجسد بعد موته، فتحافظ عليه وتحرسه من الفناء، وقادرة على اختراق المادة، والإبقاء عليها دما وعظما في أوعية أمام أنظار المشاهدين، على ما هو معروف في تاريخ الأديان وتقديس رفات القديسين. وقد أفاض المتأخرون في هذه الأوصاف؛ اعتمادا على الخيال الشعبي، وإلهابا لمشاعر العامة، ونقصا في العقل عند الداعية والجمهور وبموافقة السلطة. وكان من الطبيعي في مقابل إثبات حياة القبر وصورها كأشياء، أن ينشأ رد فعل بالإنكار أو بالتأويل.
20
والحقيقة أنه يمكن تحويل هذا الجزء كله إلى عقليات عن طريق التساؤلات حوله؛ حتى يمكن فهمه عن طريق درء المعارض العقلي؛ حتى لا تكون أمور المعاد الأخروية أضعف أجزاء علم أصول الدين. كما يمكن تحويلها إلى صور فنية الغرض منها التأثير على الجمهور، وتصبح جزءا من تاريخ الأدب الديني. كما يمكن تحويلها إلى فلسفة لتجاوز الموت؛ فلسفة أمل مثلا، أو فلسفة حياة متصلة. وقد تكون في النهاية بدايات علوم للمستقبل، وحساب المستقبل، والتنبؤ بمساره في صورتها الأولى عندما كانت مرتبطة بتاريخ الأديان. (4) هل يوجد عذاب في القبر؟
ويبدو أن الغاية القصوى من حياة القبر وسؤال الملكين هو في النهاية عذاب القبر للكافرين ونعيمه للمؤمنين؛ ولذلك قد يكون هو الموضوع الوحيد المذكور في الأخرويات، مع البرهنة عليه والدليل على وجوده. وأحيانا يكون عنوانا للموضوع كله عن طريق تعريف الشيء بعلته الغائية وهو عذاب القبر، وليس بعلته الفاعلة وهي حياة القبر. وبالرغم من أن الأدلة جميعها من الأخبار والروايات البعيدة التأويل من القرآن والمشهورة في الحديث، إلا أن بعض الأدلة يقوم على قياس الغائب على الشاهد دون إعطاء أدلة عقلية صرفة، ودون الرد مسبقا على المعارض العقلي. ومثال ذلك حياة النائم بين الحياة والموت أو حالة المرض أو الصراع أو المغمى عليه. وقد يكون المثل هو الوحي ذاته، عندما يرى الرسول جبريل ولا يراه من حوله.
21
وهذه الأمثلة كلها لا يجوز القياس عليها؛ فالنوم وحالات المرض ورؤية الرسول لجبريل، كل ذلك إنما يتم أثناء الحياة، وليس بعد الموت. ولا يمكن قياس ما يحدث بعد الموت على ما يحدث قبل الموت؛ نظرا لاختلاف الفرع مع الأصل. إنما يمكن فقط إرجاع تصورات ما بعد الموت إلى نشأتها في الحياة؛ تعبيرا عن تجربة بشرية؛ الرغبة في تجاوز الموت، وتعدي الانقطاع، واستمرار الحياة. ومع ذلك تظل الأدلة الغالبة لإثبات عذاب القبر ونعيمه هي الأدلة النقلية المستمدة معظمها من الحديث، وليس من مصدر الوحي الأول وهو القرآن. وما ذكر من المصدر الأول تأويل بعيد؛ فالمعيشة الضنك لا تشير إلى عذاب القبر، وما ذكر من المصدر الثاني إما أنه غير متواتر بل مشهور، والمتواتر منه لا يعني النار فيه عذاب القبر في الدنيا في حياة القبر، بل في الآخرة، وقد يعني البعض منها تشبيها وتورية وخصوصية للرسول، وقدرته على سماع ما لا يسمعه الناس أسوة بالوحي. والعجيب أن مثبتي عذاب القبر يئولون القرآن دون حاجة، ويأخذون الحديث حرفيا حيث الحاجة إلى التأويل.
نامعلوم صفحہ