من العقیدہ إلی الثورہ (٤): النبوۃ – المعاد
من العقيدة إلى الثورة (٤): النبوة – المعاد
اصناف
ولكن هل يكون التصور وحده سببا للدوام، حتى ولو كانت هناك أفعال سببا للانقطاع؟ هل لا يضر مع الإيمان معصية، ولا ينفع مع الكفر طاعة؟ وأيهما أكثر استحقاقا من حيث الدوام والانقطاع؛ التخليد أو العفو، المؤمن العاصي أم الكافر المطيع؟ أيهما أكثر استحقاقا، نظر بلا عمل أم عمل بلا نظر؟ إن كثيرا من المسلمين قد لا يدخلون الجنة؛ لأنهم لا يستحقونها نظرا لمعاصيهم، وإن كثيرا من الكفار ليدخلون الجنة نظرا لطاعاتهم. وإن جعل الخلود للكفرة وحدهم دون المؤمنين تعذيب للآخرين، وإنقاذ للذات، وجعل مقياس الاستحقاق النظر دون العمل. إن التصور وحده ليس فعلا للاستحقاق؛ فالتصور هو أساس للسلوك وموجه له، وما دام السلوك قد خرج عن التصور يصبح التصور فارغا من غير مضمون. وإن تعدد الأطر النظرية شرعي ما دام يؤدي إلى وحدة العمل؛ لذلك كان خبر الآحاد يورث الظن في النظر، واليقين في العمل. ليس النظر وحده مقياس الاستحقاق دون العمل. والقول بأن المؤمن العاصي لن يذوق النار، وأن الكافر المطيع لن يذوق الجنة، قسوة وأنانية وغرور، مثل قول اليهود بأنهم أبناء الله وأحباؤه، ينكر العمل الصالح، ويخلط بين الظن النظري واليقين العملي. ولا يمكن أن تكون الحجة في ذلك نفي الاستحقاق، وإلا عدنا على بدء؛ فالاستحقاق ثابت عقلا وسمعا. ولا تكون الحجة إثبات الاستحقاق في الثواب دون العقاب، قبل التوبة والتخلي عن شرط استحقاق العقاب، وهو العناد والإصرار. أما التفضل فهو إلغاء للاستحقاق وإنكار للفعل. إن أقصى ما يمكن عمله هو دوام الاستحقاق ثوابا إذا كان الترجيح للحسنات على السيئات، أو عقابا إذا كان الترجيح للسيئات على الحسنات. وقد تقام حجج جدلية لإثبات انقطاع عقاب المؤمنين ودوام عقاب الكافر، مثل الحجة التي تعطي احتمالات ثلاثة: دخول صاحب الكبيرة الجنة بإيمانه وهو باطل، أو دخوله النار بكبيرته وهو باطل، أو دخوله النار بكبيرته ثم الجنة بإيمانه وهو الحق. فالفعل هو المنقطع، والتصور هو الدائم. العمل هو الجزء، والنظر هو الكل. وكذلك حجة إثبات انقطاع العقاب على الفعل بدوام الثواب على التصور. وهذا كله يجعل الدوام والانقطاع خاضعين لقوانين فرعية، مثل الإحباط والتكفير والموازنة وغيرها، وهي كلها تقوم على حساب الأفعال، وليس على مجرد التصورات.
10
وقد يترك الأمر كله جوازا عند الله دون فرض للدوام أو الانقطاع، وهو إرجاع للسمعيات إلى العقليات، وعود بالعدل إلى التوحيد. وقد تخفف النار ويخفف العذاب إيثارا لانقطاع العقاب ودوام الثواب، وقد يصل حد تخفيف العذاب إلى أن يكون العصاة المؤمنون في النار دون عذاب ودون استمتاع بالجنة. وقد يتقرر مبدأ الانقطاع للعقاب كمبدأ لا لأشخاص معينة.
11
وقد ينقطع العقاب ويدوم الثواب عن طريق التخصيص والاستثناء، واعتبار آيات الوعد من المحكمات، وآيات الوعيد من المتشابهات بها عموم وخصوص. صحيح أن ذلك أقرب إلى التفسير الإنساني؛ فالغاية من الوحي مصلحة الإنسان لا عقابه، ومع ذلك فالخطورة هو التأويل بالتخصيص والاستثناء لحساب فئة دون فئة، ويكون سلاحا ذا حدين، توجهه كل فئة إلى خصومها. وإن تعميم النصوص أو تخصيصها إنما يخضع في حقيقة الأمر إلى البواعث والأفكار وإلى المصالح والأهواء أكثر من خضوعه لقواعد اللغة. تأتي قواعد اللغة لتأييد الباعث والفكرة، وليس لطردها؛ لذلك يستحيل أن يكون في العموم استثناء أو تخصيص؛ لأن ذلك يقضي على قانون الاستحقاق؛ فالاستثناء أو التخصيص يدل على الأثرة والأنانية، أخذ الثواب وترك العقاب، دوام الثواب وانقطاع العقاب، ثواب الأنا وعقاب الغير. ولماذا لا يكون في الثواب أيضا تخصيص واستثناء، وأن يكون الهدف من ذلك التشجيع على الخير وتقوية الباعث عليه؟ ولو كان الوعيد منقطعا أو غير واقع، لكان ذلك دافعا للناس إلى الإثم، وتشجيعا لهم عليه. وما هي أنواع الأفعال التي يكون فيها التخصيص؛ حقوق الله أم حقوق العباد؟ لو جاز في حق الله، فهل يجوز في حق العباد؟ وأي نوع من أفعال العباد يجوز فيها الاستثناء؛ القتل، أكل أموال الناس بالباطل، والظلم والطغيان؟ وهل أهل الصلاة كلهم مستثنون بصرف النظر عن أعمالهم؟ وهل القرآن أساس على الخصوص ثم بعد ذلك يحمل على العموم، أو إنه على العموم ثم يحمل بعد ذلك على الخصوص؟
12
وقد يعني الخصوص الاستثناء والمحاباة والتحيز، وهو نقض لقانون الاستحقاق؛ فإذا غفر الله لواحد غفر للجميع، وإذا عوقب واحد عوقب الجميع، فلا مجال للاختصاص ما دام الكل في المقياس النظري واحدا، إلا إذا تصورنا اختلافا في درجات المعرفة والفهم. وهنا يكون الحساب على أعمال الشعور الخالصة، وليس على أعمال الجوارح؛ أي الأفعال في العالم. وكيف يغفر للجميع، فيستوي صاحب الذنوب الكثيرة مع صاحب الذنوب القليلة؟ على أقصى تقدير يغفر للأكثر ثوابا والأقل عقابا، وهو أقرب إلى العقل. وإن إرجاع الموضوع إلى مشيئة الله لهو وقوع في الإرجاء دون حل للإشكال العقلي، وعود بالعدل إلى التوحيد، بل ناقض التخصيص والاستثناء التوحيد؛ لجعلهما المشيئة خاصة بفرد دون فرد، في حين أنها عامة لكل الأفراد. والعدل يقتضي معاملة الأفراد جميعا تحت قانون واحد، مع الأخذ بعين الاعتبار المواقف الخاصة لكل فرد، المراعاة ضمن القانون العام، والتي تكون فيها الأولوية أيضا للفعل الإنساني في التوبة.
13
والحقيقة أنه لا يمكن رد كل شيء إلى المشيئة الإلهية كما هو الحال في الإرجاء، وفي الوقت نفسه إصدار أحكام على منع التخليد للكفرة وعدم تخليد المؤمنين في النار، كما أن الإرجاء وقوع في مقياس مزدوج بالنسبة للكافرين وللمؤمنين، إثباتا لدوام العقاب للكافرين، وبانقطاعه عن المؤمنين. ولما كان الإرجاء يعتمد أساسا على روايات، وليس على براهين عقلية، فقد ظهر عدم اتساق بين إدخال الجنة للمؤمنين العصاة في النهاية وبين تعذيبهم؛ بين دوام الثواب وانقطاع العقاب، بين التخفيف والتخليد، بين القول بانقطاع العقاب ورفض الإحباط والتكفير، والموازنة التي تحاول فهم الانقطاع من داخل الدوام حتى ينقطع العقاب ويدوم الثواب؛
14
نامعلوم صفحہ