من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية
من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية
اصناف
Traité ، عارضة مادته وموضوعاته، فهي مؤلفات في العلم، وأعطيناها الأولوية على المؤلفات الجزئية الأخرى التي تتناول جانبا واحدا من العلم أو التي تشير إلى موضوع واحد منه أو التي تتعرض له بالنقد والتحريم، فهذه تتضمن حكم القدماء، ولا تحتاج إلى إعادة بناء كالمؤلفات الكلامية الشاملة، هي مجرد دلائل وقرائن على وضع هذا العلم وشرعيته في التراث القديم، ومؤشر على شرعية التساؤل حول شرعية هذا العلم.
4
وكثير من المؤلفات لها شروح وحواش، وقد ساد هذا اللون من التأليف في العصور المتأخرة حين جدب الفكر لانفصاله عن الواقع، وكرر ذاته، وعاش على نفسه، كما تأكل الرأس الذيل في النهاية، يوافق كل شارح المؤلف الأصلي، ويزيد عليه من الحجج أو يضيف إليه من المادة التاريخية أو يعبر عن نفس الفكرة في عبارة أخرى دون أن ينقد أو يعدل أو يغير أو يرفض أو يبدأ من جديد، يزيد من النصوص النقلية أو من الحجج العقلية أو من ذكر أسماء الأعلام أو النصوص من مؤلفات أخرى أو إعرابا للكلام إن لم يجد شيئا! الذهن الشارح والذهن الخالق إذن على طرفي نقيض، والذهن التابع غير الذهن البادئ، لم تضف الشروح جديدا، بل عبرت عن اجترار الحضارة لذاتها في فترة تؤرخ فيها الحضارة لذاتها، تقدم لنفسها الحساب أمام التاريخ، ويحدث هذا الاجترار دائما عندما تكون الحضارة في موضع الخطر، وعندما تضيع الأرض، وتريد الجماعة المحافظة على نفسها، فتدون تاريخها، وتخلد نفسها في الفكر أمام تهديدات استئصالها في الواقع كما حدث لقدماء العبرانيين أثناء الأسر البابلي.
5
والشروح والحواشي أكثر شيوعا من التلخيص لأنها أكثر إيفاء بالغرض، وأكثر تعبيرا عن طاقة خاوية تتصرف في فراغ، ومع أنها لا تضيف جديدا، إلا أن أهميتها ترجع إلى أنها مادة خصبة لدراسة العمليات العقلية، والأساليب الفكرية التي أدت إلى التخلف أو التي أدى التخلف إليها كما هو الحال في مؤلفات الباحثين المعاصرين العارضين لمادة القدماء، سواء في العلم أو في السياسة عندما يشرح المعاصرون أقوال الزعيم ويفسر المنظرون خطبه وأقواله وكأنها الدر في أحشاء البحر كامنة، قد تحتوي بعض الشروح والملخصات على بعض الانتقادات الجزئية، ولكنها لا تغير من المضمون شيئا، لا تؤثر في قصد العلم أو في بنائه مما يدل أيضا على مدى تخلف العقلية الشارحة والملخصة «بتمحكه» في الجزء وترك الكل.
6
ولما كان الشرح في حاجة إلى مادة يشرح بها، فقد استعار علم الكلام جزءا من مادته من العلوم الأخرى كالفلسفة، والتصوف، وأصول الفقه، وعلوم القرآن، والحديث، والتفسير، واللغة، مما يشير إلى وحدة الحضارة في نهايتها وكأنها تود لم شملها في وحدة واحدة كما بدأت وحدة واحدة.
7
ولا يهمنا في الشروح والملخصات التي يقوم أصحابها بتفنيد آراء مؤلفي المتون أو بيان أغلاطهم أو الحكم فيما نشأ بينهم من خلاف أو حتى رصده، بل يهمنا أخذ المادتين معا من أجل التعرف على وضعهما في بناء العلم؛ أي الارتفاع بالحاجة إلى الموضوع نفسه الذي نود أن نعرف بناءه القديم أو نقله على البناء النفسي المعاصر، وعلى هذا النحو، يفقد اختلاف أوجه النظر دلالته، والحقيقة أن «التراث والتجديد» كله ما هو إلا شروح على الماضي، ولكن لا يعني الشرح هنا مجرد تحصيل حاصل، شرح عبارة بعبارة، ولفظ بلفظ مرادف أو إعراب جملة أو زيادة مادة قديمة تالية على تاريخ النص المشروح أو حتى التأييد أو التفنيد، بل هي إعادة بناء القديم كله على أساس نظرة متكاملة، والبحث عن الموضوعات ذاتها، وكيف أن أبنيتها تعبر عن بناء نفسي قديم، ثم إعادة بناء هذه الموضوعات ذاتها على أساس من أبنيتها النفسية المعاصرة.
وفي نفس الوقت الذي يكون فيه الشرح مجرد شرح داخلي يصيب الإنسان بالإغماء والدوار ويبعث في النفس الخواء؛ إذ لا يزيد الشارح شيئا إلا العبارات الشارحة التي لا تفيد جديدا - يأتي التلخيص كتقييم للمصنف السابق وكمبرز لثمينه دون غثه، ومصلح لحججه وبراهينه، ويكون له دور إيجابي في أحكام العلم إن لم يكن من حيث البناء، فعلى الأقل من حيث الحجج،
نامعلوم صفحہ