من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية
من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية
اصناف
ولكن من خلال المقالات والكلام والمسائل تظهر الفصول التي تدل على بعض الموضوعات المستقلة وليس على بناء العلم ككل، مثل موضوعات خلق القرآن، والقدرة، والرؤية، والشفاعة، يشير الأول والثالث إلى التوحيد، ويشير الثاني إلى العدل، وكلاهما أصلان في الإلهيات، وتشير الشفاعة إلى المعاد، وهو أصل في السمعيات، ومع ذلك تشير هذه المسائل إلى بناء العلم، فتظهر نظريتا العلم والوجود لأول مرة دون أن يكونا مقدمتين للعلم، بل يظهران متواريين أمام الإلهيات والسمعيات، ولا يجاوزان جزءا من أربعة عشر جزءا من العلم ذاته؛ ومن ثم يكون العلم المتأخر قد تقدم بالفعل عندما فاقت المقدمتان العلم ذاته، ولو تطور العلم فيما بعد لابتلعت المقدمات كلها ما تبقى من الإلهيات والسمعيات، ويكون فكرنا المعاصر الآن قد تخلف عن هذا التقدم السابق بتواري نظريتي العلم والوجود أمام الإلهيات والسمعيات، ومن حيث الكم تفوق السمعيات الإلهيات إلى حد ما مما يدل على أهمية السمعيات وأمور المعاد في بدايات العلم، وتكون سيادة السمعيات في وجداننا المعاصر عود إلى بدايات العلم وقضاء على تقدمه، وفي الإلهيات يتميز العدل عن التوحيد، ويساويه في الأهمية، ولم يتم ابتلاعه داخل التوحيد كما هو الحال في العقائد المتأخرة وفي وجداننا المعاصر، وفي السمعيات تكون للإمامة وللإيمان والعمل الأولوية على المعاد والنبوة من حيث الترتيب؛ إذ إنها يبدآن السمعيات، ومن حيث الكم إذ إنهما يبلغان ثلاثة أرباع العلم، ويكون فكرنا المعاصر متخلفا عن هذا النمط القديم عندما أصبحت الأولوية للنبوة وللمعاد كما هو الحال في بناء العلم المتأخر، بل إن الإمامة لها الأولوية على الإيمان والعمل من حيث الترتيب والكم مما يدل على أهمية السياسة في بدايات العلم وتخلف واقعنا المعاصر عن هذا النمط القديم بإخراجنا السياسة كلية من بناء العلم، كما هو الحال في العقائد المتأخرة أو على أقصى تقدير اعتبارها ملحقا للعلم وليس داخلا فيه كما هو الحال في بناء العلم النهائي، ومما يدل أيضا على أولوية العمل الجماعي على العمل الفردي كما هو واقع في حياتنا المعاصرة من إعطاء الأولوية للعمل الفردي على العمل الجماعي؛ أي عمل الزعيم على ممارسة الجماهير، وبطولة القائد على إشراك الشعوب، ثم تظهر الموضوعات الأربعة المستقلة من خلال المسائل، وهي الموضوعات التي ما زالت مثارا للجدل وللخلاف: القرآن، والقدر، والجرح والتعديل، والشفاعة، والرؤية؛ القرآن والرؤية في التوحيد، والقدر والجرح والتعديل في العدل، والشفاعة في السمعيات، ولكن الترتيب من حيث الكم هو في الحقيقة: خلق القرآن، الإرادة، الرؤية، الشفاعة، مما يدل على أن موضوع خلق القرآن كان من أولى موضوعات الجدل والنزاع، وهو الأولى بالإحياء في فكرنا المعاصر بمدلول حديث في اعتبار الوحي تعبيرا عن واقع؛ ومن ثم فهو حادث أكثر منه تنزيلا من فكر ومن ثم فهو قديم، تعني حادث أنه يتغير في فهمه وتفسيره طبقا لمتطلبات الواقع وتعني القديم أنه سابق على التجربة لا يتغير بتغير الواقع وتطور التاريخ، ويعادل موضوع خلق القرآن أربعة أضعاف الرؤية من حيث الكم، هو ما يحدث في فكرنا المعاصر عندما تثار قضية الرؤية في الدين الشعبي وفي الطرق الصوفية دون إثارة قضية خلق القرآن بمدلولها الحديث، وتدل هذه الموضوعات الأربع على سيادة الإلهيات، خلق القرآن، والرؤية، والإرادة على السمعيات في موضوع الشفاعة، وهو أيضا ما يحدث في فكرنا المعاصر، ولكن في الإلهيات، يبلغ التوحيد أربعة أضعاف العدل من حيث الكم، وهذا ما حدث في علم الكلام العقائدي عندما ابتلع التوحيد العدل كلية حتى ضاع العدل من وجداننا المعاصر، وفي السمعيات لا يظهر إلا موضوع الشفاعة وهو ما يحدث في فكرنا المعاصر من استمرار للشفاعة الدينية والدنيوية معا كموجه لسلوكنا القومي.
5 (2) من الموضوعات إلى الفصول، ومن الفصول إلى الأبواب
ثم تتحول هذه الموضوعات إلى فصول، والفصول إلى أبواب، وقد تم ذلك أيضا في القرنين الرابع والخامس، وإن ظهور الموضوعات في فصول كثيرة دون تبويبها في موضوعات أقل ودون إحصاء لهذه الفصول ليدل على أن بناء العلم لم يكتمل بعد في حين أن الموضوعات قد أخذت استقلالها النهائي، فتظهر نظرية العلم مع شرعيته في حين تختفي نظرية الوجود؛ وذلك يدل على أن انفصاله عن التوحيد فيما بعد يمثل تقدما ملموسا للعلم وتبرز الطبيعة ولو أنها ما زالت سلما لله، وتمثل نظرية العلم حوالي عشر العلم، وبالتالي يكون علم الكلام المتأخر قد خطا خطوات حاسمة باتساع موضوعي العلم والوجود حتى إنهما أصبحا ثلاثة أرباع العلم، ويكون وجداننا المعاصر قد تخلف عن بناء العلم بإسقاطنا من حياتنا العلم والوجود أو المعرفة والطبيعة؛ نظرا لسيادة الإلهيات وابتلاعها الطبيعة، والسمعيات كبديل للمعرفة، ثم تتعادل الإلهيات والسمعيات من حيث الكم إن لم تفق الأولى الثانية بقليل، وفي الإلهيات يختلط موضوع العدل بالتوحيد مما سهل ابتلاع التوحيد للعدل في علم الكلام العقائدي، ومما يسبب رسوخ تواري مقولة العدل من وجداننا المعاصر، بالإضافة إلى أن التوحيد يفوق العدل من حيث الكم، أكثر من خمسة أضعاف، مما يدل على طغيان التوحيد على العدل في نمط فكرنا القديم، واستمرار هذا النمط حتى الآن باستثناء الأصول الاعتزالية عندما فاق العدل التوحيد، أما السمعيات فتختلط بعض مسائلها مثل الإيمان والعمل مع بعض مسائل العدل، كما تظهر بعض مسائل العدل مع الإمامة مما يدل على تشتت العدل وضياعه بعد أن ابتلع التوحيد جزءا منه، وتشتت الباقي في السمعيات، مرة في المعاد، ومرة في الأسماء والأحكام، ومرة في الإمامة، كما تختلط في السمعيات بعض مسائل الإيمان والعمل مع بعض موضوعات المعاد، وسيادة المعاد على الإيمان والعمل، وهو ما يحدث في فكرنا المعاصر حتى الآن، وتدخل بعض موضوعات النبوة في الإمامة مما يدل على سيادة التفكير الديني على الفكر السياسي، وهو ما يحدث حتى الآن، كما تظهر الإمامة كموضوع إلهي أكثر منه كموضوع سياسي، وانتهاء الإمامة بالهجوم على الروافض من أهل الإباحة وأهل النجوم؛ أي على الصوفية والفلاسفة، مما يشير إلى اتصال العلوم القديمة بعضها ببعض، وبداية ظهور موضوع التاريخ كملحق للإمامة.
6
وقد تختفي نظرية العلم، وتظهر نظرية الوجود؛ لأن الربط بين العلم والمعلوم لم يكن ضروريا بعد، كما حدث في بناء العلم، ولا يمثل الوجود إلا حوالي جزء من عشرين جزءا مما يكونه العلم، وهو ما يحدث في وجداننا المعاصر من ربط للعلم بالإشراقيات أو ترك المعلوم بلا علم، ويظهر العلم ذاته من عدة فصول دون عد أو إحصاء، ولكن تبدأ الأبواب في الظهور، على الأقل باب واحد في ذكر ما يستحيل في أوصاف الباري، وأصل واحد في حدوث العالم ووجود الصانع؛ ومن ثم تبدأ الفصول المتفرقة في التجمع تحت أبواب أكبر، وفي أصول أشمل حتى يظهر بناء العلم فيما بعد، وتبلغ الإلهيات ثلاثة أضعاف السمعيات مما يدل على استمرار النمط القديم في فكرنا الديني المتأخر وفي وجداننا المعاصر، وفي الإلهيات يظهر التوحيد ثم العدل مختلطا ببعض مسائل التوحيد، وكأن العدل ما هو إلا تطبيقات للتوحيد، وليس بابا مستقلا عن فعل الإنسان وعقل الإنسان، ومن حيث الكم يفوق التوحيد العدل، ويبلغ ثمانية أضعافه مما يدل على سهولة ابتلاع التوحيد للعدل في فكرنا الكلامي المتأخر، وضياع العدل كلية من وجداننا المعاصر، وفي السمعيات تبتلع النبوة باقي الموضوعات مثل المعاد والإيمان والعمل، وتظهر مسألة العقل والنقل مع النبوة، وهي في الحقيقة إحدى مسائل التوحيد، وتبلغ النبوة ثلاثة أرباع السمعيات، ولا تترك للإمامة إلا الربع الأخير؛ فالتوحيد هو الموضوع الأول، وما سواه ملحق له، وهو الموضوع الوحيد الذي ظهر على أنه أصل، وهو الموضوع الوحيد الذي ظهر في باب مستقل هو الباب الوحيد، وما سواه فصول، مما يدل على أن علم الكلام كله قائم على أصل واحد هو التوحيد، وهو ما ظهر في إحصاء الأصول قبل بناء العلم الكامل.
7
ثم تظهر الفصول في أبواب أكثر، ويتحدد بناء العلم ولو أنها أبواب في القول، وتظهر نظريتا العلم والوجود معا مما يشير إلى بداية استقرار العلم من حيث مقدماته النظرية، ولكنها تشمل من حيث الكم جزءا من خمسة عشر جزءا تكون مادة العلم كله؛ وبالتالي يكون علم الكلام المتأخر قد خطا خطوات واسعة بإعطاء الأولوية للمقدمات النظرية على مادة الكلام ذاتها، ونكون نحن قد تخلينا عن مكاسب العلم المتأخرة بإسقاطنا العلم والوجود من وجداننا المعاصر، وتمثل الإلهيات أكثر من ضعف السمعيات، وهو ما زال أيضا في فكرنا المعاصر عندما نتبادل الإلهيات والسمعيات معا كمحاور في فكرنا القومي، وفي الإلهيات يفوق التوحيد العدل؛ إذ يمثل التوحيد ثلاثة أخماس الإلهيات، والعدل الخمسين الباقيين، وهو ما استمر في علم الكلام المتأخر باختفاء العدل في بطن التوحيد ثم ضياعه كلية من وجداننا المعاصر، وفي السمعيات تعادل النبوات من حيث الكم الموضوعات الثلاث الأخرى: المعاد، والإيمان والعمل، والإمامة، مما يدل على استمرار هذا النمط حتى الآن في فكرنا المعاصر بتركيزنا على النبوة، وبتفكيرنا في النبي، ويكون موضوع الإيمان والعمل أقل الموضوعات كما هو واضح في حياتنا المعاصرة بالرغم من محاولة الحركات الإصلاحية من تغيير ذلك، وتتداخل بعض مسائل الإمامة مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين المعاد والإيمان والعمل، وكذلك تبرز بعض مسائل العدل مثل الآجال والأرزاق والأسعار في السمعيات بين النبوة والمعاد.
8
وقد تظهر مع الأقوال والفصول والأبواب الكتب، مجموعة من الأقوال تكون فصلا، ومجموعة من الفصول تكون بابا، ومجموعة من الأبواب تكون كتابا؛ وبالتالي يتحدد بناء العلم أكثر فأكثر في عدة جوانب تكون أساسا للعلم، وتظهر نظريتا العلم والوجود في خمس العلم تقريبا مما يدل على بدايات ابتلاع المقدمات النظرية للعلم، ولكن الوجود يفوق العلم من حيث الكم؛ إذ ينحو نحو الاستقلال بذاته، وتتداخل مباحثه مع التوحيد حتى إنه بقدر ما يظهر الوجود يختفي التوحيد، وبقدر ما يظهر التوحيد المشخص يختفي الوجود، وكأن تحويل «الثيولوجيا» إلى «أنطولوجيا» عملية فكرية وتاريخية طبيعية، وتظهر مباحث جديدة في الوجود مثل مباحث العدل ومباحث الأحوال، وتبدو الإلهيات وقد تجاوزت من حيث الكم السمعيات وكأن السمعيات لا تكون جزءا أساسيا من بناء العلم، حوالي الثمن، والإلهيات سبعة أثمان العلم، على خلاف الحال الآن في وجداننا المعاصر المفتوح على السمعيات بلا تردد، وفي الإلهيات لأول مرة تفوق مسائل العدل مسائل التوحيد؛ نظرا لبلوغ التيار الاعتزالي قمته، ومحاولة الأشاعرة صده، والوقوف أمامه؛ إذ تبلغ مسائل العدل ثلاثة أرباع الإلهيات ، والتوحيد الربع الأخير، وتكون خسارة كبيرة ما حدث فيما بعد في بناء العلم الأشعري عندما ابتلع التوحيد العدل في نظرية الذات والصفات والأفعال، وعندما ضاع العدل كلية من وجداننا المعاصر بالرغم من محاولات بعض الحركات الإصلاحية من إحيائه من جديد، وتتفصل مسائل العدل إلى الإرادة، والقدر، والتولد، والطبائع، والتعديل والتجوير، أما السمعيات فلا تشمل إلا موضوعا واحدا هي النبوات دون المعاد أو الإيمان والعمل أو الإمامة، مما يدل على استمرار هذا النمط حتى الآن في وجداننا المعاصر، خاصة بتواري الإيمان والعمل والسياسة.
9
نامعلوم صفحہ