من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية
من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية
اصناف
Théologie
أي نظرية في «الله» أو «علم الله» أو «الإلهيات» بالمعنى الفلسفي، وكل المشاكل الأخرى، ولو أنها تبدو إنسانية في مظهرها إلا أنها لا توضع إلا في علاقة مع الله، فالله طرف في الطبيعة في صورة معجزة، فقد تصور المتكلم القديم أن الله قادر على خرق قوانين الطبيعة في حين أنها نواميس ثابتة يمكن للعقل إدراكها وللإرادة السيطرة عليها في عالم مسخر للإنسان، والله طرف في الحرية في صورة إرادة، فتصور المتكلم القديم أن الحرية تدخل كطرف مقابل للإرادة الإلهية في حين أن طرفها المحدد هو الموقف أو العالم وليست الإرادة الإلهية، والله طرف في العقل في صورة شرع ووحي ونقل، فتصور المتكلم القديم أن النقل هو الطرف المقابل للعقل في حين أن الواقع هو الطرف الآخر للعقل وليس النقل. والله طرف في الخير والشر في صورة خلق شامل لكل شيء بما في ذلك أفعال الإنسان ، فتصور المتكلم القديم أن الخير والشر من الله في حين أنهما مسئولية إنسانية واختيار حر للإنسان كخالق لأفعاله في أوضاع اجتماعية معينة هو مسئول عنها. والله طرف في المعاد ومستقبل الإنسان، فتصور المتكلم القديم أن الله يتدخل في تحديد مستقبل الإنسان ومصيره في حين أن الإنسان وتحقيق رسالته في الحياة هو الذي يحدد مستقبله وكيفية خلوده. والله طرف في السياسة في صورة تعيين الإمام، فتصور عالم الكلام القديم أن الله يعين الإمام، وأن علاقة الرئيس تتحدد برئيس آخر له، هو الله، وليس الشعب الذي يعقد البيعة والذي منه تستمد السلطة، وهكذا دخل الله بصفاته وأفعاله طرفا في كل المشاكل الإنسانية والطبيعية، ووضعت المسائل كلها وضعا لاهوتيا؛ فمسألة خلق القرآن مثلا وضعت وضعا خاطئا بجعل الله طرفا فيها، في حين أن الوحي كلام موجود، مقروء ومسموع، متلو ومحفوظ، يحتوي على تصور للعالم بعد فهمه، وعلى باعث على السلوك بعد ممارسته، فهو موضوع مادي وليس صفة مطلقة لذات مشخصة، والخلق في نهاية الأمر صفة إنسانية لفعل إنساني كما هو واضح عند الفنان.
17
علم الكلام إذن مسئول عن القضاء على النظرة العلمية للظواهر، وذلك بالقضاء على استقلال الموضوعات وربطها دائما بطرف آخر هو الله؛ إذ لا يتحدد أي موضوع مثل الوجود أو الحياة أو الحرية أو السياسة أو الأخلاق ... إلخ إلا إذا كان الله طرفا فيه ثم تفسير هذه الظواهر باللجوء إلى العلة الأولى دون العلل المباشرة؛ ومن ثم يجعل علم الكلام موقف الإنسان في العالم موقفا مغتربا لأنه يتصور أن أمور الدنيا إنما تتحدد بأفعال ذات مشخصة من خارج العالم وليس بأوضاع العالم الفعلية، يمكن إذن تغيير علاقات الأطراف في المسائل الكلامية وجعل الإنسان في علاقات مع الآخرين ومع الأشياء، ووصف الإنسان في العالم كطرف فيه؛ ومن ثم تتغير مادة العلم من مادة لاهوتية إلى مادة اجتماعية، ومن علاقات غيبية إلى علاقات مرئية، وقد يتغير فهم الدين التقليدي الوارد من تاريخ الأديان من عبادة ومعجزة وتشخيص وطقوس وعقائد وسلطة، وسحر وخرافة وغيب وأسرار، ويعود إلى أصله من كونه وصفا للإنسان في العالم كفعل وشعور وفعل وذات. الوحي نفسه مجموعة مواقف إنسانية نموذجية تتكرر في كل زمان ومكان، تصف الإنسان في العالم، فالعالم هو الوطن الأوحد للإنسان، أما علم الكلام فإنه يعرض الوحي في صورة أخرى مخالفة لتلك الصورة التي عرض الوحي بها نفسه. في علم الكلام يضمر الوحي، ويتحجر، ويتقوقع على نفسه، ويصبح لاهوتا في حين أن الوحي نظرية في الإنسان وقصد نحوه. في علم الكلام ينقلب الوحي من الإنسان إلى الله، ويصبح «علما إلهيا»، في حين أن الوحي بناء إنساني ووصف لوضع الإنسان في العالم، بل إن المشكلة الأولى في علم الكلام، وموضوعه الأول، وهو ذات الله وتشخيص ماهيته وأفعاله، موضوعة وضعا خاطئا؛ فالوحي قصد نحو الإنسان، ووصف لوضعه في العالم، وليس وصفا لذات مشخص يدور حول نفسه، يضع المتكلم المشكلة وضعا خاطئا، ويقلب الوضع بتحويل الوحي إلى قصد من الإنسان نحو الله وبتغيير اتجاهه من حيث هو قصد من الله نحو الإنسان إلى قصد من الإنسان نحو الله؛ الوحي قصد موجه نحو الإنسان، يعطيه نظاما لحياته ومعاشه، هو وصف للعالم وللإنسان في العالم، وصف واقعي حسي، بديهي وجداني، وليس قصدا من الإنسان نحو الله يعطي نظرية في الذات والصفات والأفعال على نحو غيبي افتراضي خالص يقع في التشبيه، وقياس الغائب على الشاهد لا محالة، فما كان في الوحي بداية وهو الله أصبح في علم الكلام نهاية، وما كان في الوحي نهاية وغاية ومقصدا وهو الإنسان أصبح في علم الكلام بداية ومنطلقا. علم الكلام إذن تدمير للوحي كما أن الوحي تدمير لعلم الكلام؛ الوحي تعبير عن وضع الإنسان الأمثل في الجماعة ليدرك المسافة بين الواقع والمثال ويقوم بتحقيق رسالته في التوحيد بينهما بالفعل وعلم الكلام اغتراب للإنسان وقذف به خارج العالم من أجل عبور المسافة من الواقع إلى المثال عن طريق التمني والخيال أو الوهم والخداع ، فأيهما موقف صحيح وأيهما موقف مزيف؟
18 (3) ذات الرسول
وقد يضاف إلى «ذات» الله «ذات» الرسول ، فيكون موضوع العلم قطبين: الله والرسول؛ وهو ما وضح أساسا في علم الكلام المتأخر في عصر الشروح والملخصات وفي كتب العقائد بعد القرن الثامن الهجري.
19
صحيح أن ذات الرسول مخلوق بشري فان، ولكن التركيز على هذين القطبين، الله والرسول، يوحي بعقائد ملل أخرى تعقد رباطا جوهريا بين الشخصين.
20
بالإضافة إلى أن هذين القطبين يمثلان مصدر الوحي ورسول الوحي فقط وغياب المرسل إليهم كلية في هذه العلاقة الثنائية وهم الناس والشعب والأمة، وكأن هذا الطرف الثالث لا وجود له كمحور في العقائد كما أن لا وجود له في حياتنا السياسية المعاصرة. إن العلاقة الكاملة ثلاثية: مرسل، ومرسل إليه، ثم رسول يتم بواسطته التبليغ وحمل الرسالة، والمرسل إليه هم الناس، والناس يعيشون في عالم، ويبحثون عن نظام، والرسول ليس له هذه الأهمية التي تجعله محورا من محاور العلم مع الله كمحور أول، فالرسول ما هو إلا مبلغ؛ أي أنه وسيلة وليس غاية، وما على الرسول إلا البلاغ، وإلا وقعنا في «علم السيرة»، وهو من العلوم النقلية الخالصة كما وقعنا في «علم الكلام» الذي يأخذ المرسل موضوعا له، أي الله. الغاية هم الناس، وهم البشر، وهو العالم، فكيف نسقط الغاية من الحساب، ونجعل الوسيلة جزءا من موضوع العلم؟ وإذا كان التصوف قد ركز على الوسيلة إلى حد الإطلاق فيما سماه «الحقيقة المحمدية»، فإن علم الكلام حتى في حركات الإصلاح الديني الأخيرة يكون قد انتهى إلى مثل ما انتهى إليه التصوف من التركيز على شخص الرسول حتى ضاعت الرسالة وضاع المرسل إليهم، إن الرسول ليس موضوعا مستقلا لعلم أصول الدين لأنه وسيلة إيصال الوحي فقط، ووسيلة تبليغ، فهو وسيلة لا غاية، وطريق لا هدف، وحامل لا محمول، أما الوحي فإنه موضوع مستقل غير مشخص، وإدخال الرسول كجزء من الوحي تشخيص للوحي، وتركيز للتشخيص الذي حدث بتحويل الوحي إلى ذات، في الموضوع الأول وهو «ذات» الله، والانتقال من كلام الله إلى ذات الله؛ وبالتالي تصب علوم الحكمة وعلوم التصوف مع علم الكلام في نفس الاتجاه ، وهو تشخيص الوحي، والتشخيص هو أحد مآسينا المعاصرة، التشخيص السياسي في صورة القائد أو الزعيم، والتشخيص الاجتماعي في صورة الأب أو رئيس المصلحة، والتشخيص الاقتصادي في صورة اللصوص والمرتشين وبطانة السوء، ويلتحم ذلك كله بالدين «الشعبي» القائم على تشخيص الأفكار والمبادئ والعقائد في الرسول وآل البيت والأولياء.
نامعلوم صفحہ