من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية
من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية
اصناف
وقد حاول الصوفية حل الإشكال عن طريق الرمز، ولكن اللغة الرمزية أيضا ينطبق عليها قصور اللغة التقليدية، فمهما كان للرمز من قدرات تعبيرية فائقة فإنه يظل محدودا بما يثيره في الذهن من معان مرموز إليها، ويظل الفرق شاسعا بين الرمز والمرموز، وبين المرموز وموضوع الرمز، وإن ما يوحي به الرمز من حس وتخييل وتصوير يثبت أنه لا يمكن الحديث عن «ذات» الله إلا بطريق التخييل والتصوير الفني كما لاحظ ذلك قدماء النقاد والمحدثون المعاصرون.
9
ليس أمام الإنسان إذن، إذا ما أراد الحديث عن «ذات» الله إلا التشبيه والقياس، التشبيه بنفسه والقياس على العالم، وإثبات أوصاف الإنسان الإيجابية كصفات ثبوتية لله، ونفي أوصاف الإنسان السلبية كصفات سلبية عن الله؛ وبالتالي يكون كل حديث عن الله هو حديث عن الإنسان، يتوهم الإنسان أنه يتحدث عن الله في حين أنه يتحدث عن نفسه.
10
لذلك قد تكون اللغة الوحيدة الممكنة للحديث بها عن الله هي لغة الإشارة أو الحركة أي لغة الجسد كما هو واضح في الرقص الديني ومظاهر الطقوس وشعائر العبادات، ولكنها أيضا لغة رمز تعبر عن مرموز، فالرمز قد يكون باللفظ أو بالحركة، أما الفعل غير الرمزي فهو «الشهادة»؛ أي لغة المقاومة، وظهور «الذات» الإلهي في الذات الإنساني كحركة ونشاط وفعل ومقاومة وجهاد ونصر.
11
الله إذن ليس موضوعا للمعرفة أو للتصور أو للإدراك أو للتصديق أو للتعبير، بل هو باعث على السلوك، ودافع للممارسة، وقصد للاتجاه، وغاية للتحقيق، الله طاقة حالة في الإنسان من أجل أن يحيا ويسلك ويعمل، ويحس ويشعر ويتخيل وينفعل أيضا، الله طاقة حيوية يحولها الإنسان إلى فعل، الله ليس موضوعا ثابتا للمعرفة بل حركة ممكنة تتم من خلال فعل الإنسان، ومشروع يمكن أن يتحقق بجهده، الله ليس تصورا بل فعل، ليس نظرا
Logos
بل عمل
، الله ليس موضوعا لنظرية المعرفة إلا من حيث وجود مبدأ واحد شامل، بل هو باعث سلوكي في علم الأخلاق، الله ليس موضوعا لفهم العالم بل وسيلة لتغييره، الله ليس موجودا وجودا نظريا يمكن إثباته بالدليل العقلي، بل هو عملية إيجاد وتحقق وخلق وتقدم، الدليل الوحيد على وجوده هو دليل عملي لا نظري، والبرهان الوحيد على وجوده هو إيجاده بالفعل عندما يحققه الفرد كغاية والإنسانية كمشروع، الحديث عن «ذات» الله إذن خطأ آخر في نظرية السلوك الفردي الإنساني أولا والاجتماعي التاريخي ثانيا؛ فتصور الله على أنه موجود كامل هو في الحقيقة تعبير عن رغبة، وتحقيق لمطلب، وتمن لأمل، ونظرة بعيدة إلى هدف، وسير حثيث نحو غاية، وليس حكما على وجود في الخارج، فنحن بهذا التصور نعبر عن أعز ما لدينا، وعن أعمق تمنياتنا في أن نكون كاملين عاملين قادرين، ونبعد عن أنفسنا عيوبنا ونقائصنا من موت وعجز وجهل، فذات الله هو ذاتنا مدفوعا إلى الحد الأقصى، ومثلنا بعد أن شخصناها ماثلة أمام الأعين، «ذات» الله المطلق هو ذاتنا نحو المطلق، ورغبتنا في تخطي الزمان وتجاوز المكان، ولكنه تخط وتجاوز على نحو خيالي، وتعويض نفسي عن التحقيق الفعلي لهذه المثل في الحياة الإنسانية.
نامعلوم صفحہ