من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية
من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية
اصناف
اختلفت آراء القدماء حول تسمية هذا العلم، هل هو «علم الكلام» أو «علم التوحيد» أو «علم الذات والصفات» أو العلم الذي يدور حول «الله والرسول» كما هو واضح في الشهادتين، أو «علم أصول الدين» أو «علم العقائد» أو «الفقه الأكبر»؟ وقد كانت لكل تسمية ظروفها وبواعثها وربما أهدافها، لم ينتشر الاسمان الأخيران كثيرا؛ «فالفقه الأكبر» كان تسمية القرن الثاني حتى قبل أن يبدأ العلم كبناء نظري وليس كمجرد نظريات متفرقة في بعض موضوعاته المتناثرة طبقا للظروف والأحداث، و«علم العقائد» تسمية متأخرة متضمنة في «علم التوحيد»، أما الأسماء الثلاثة الأولى فهي الأسماء الأكثر شيوعا. (1) علم الكلام
بلغت أهمية موضوع «الكلام» الإلهي درجة أنه أصبح الموضوع الأول للعلم، ولكون صفة الكلام من أكثر الصفات المتنازع عليها.
1
والحقيقة أن اعتبار «الكلام» موضوعا للعلم تجاوز عن موضوع العلم ذاته، فالكلام أحد موضوعات العلم وليس موضوعه الأوحد، ولا يمكن أخذ أحد أجزائه واعتباره موضوع العلم كله وهو التوحيد أو العقائد أو الدين، كما أن «الكلام» ذاته موضوع جزئي من موضوع أشمل وأعم وهو موضوع الصفات، فهو الصفة السادسة من صفات الذات السبع (العلم، القدرة، الحياة، السمع، البصر، الكلام، الإرادة )، أما السؤال الذي من أجله تطايرت الرقاب وقضي على الحريات، وقاسى المفكرون بسببه أشنع أنواع الاضطهاد وهو: هل الكلام قديم أم حادث؟ فإنه ينطبق على سائر الصفات. لم يحدث النزاع في الكلام فقط حتى يكون الكلام هو موضوع العلم بل حدث أيضا في الصفات وفي الأفعال، بل وفي الإلهيات وفي السمعيات كلها بابي العلم الرئيسيين، كما وصل الخلاف إلى حد القتال وشق الأمة إلى فرق متنازعة متحاربة في موضوع الإمامة، آخر موضوع في السمعيات؛ فاعتبار «الكلام» موضوعا للعلم ليس بأولى من اعتبار الموضوعات الأخرى من موضوعات العلم كذلك؛ فهي ليست أقل أهمية سواء من الناحية النظرية أو من الناحية العملية.
2
ويحتوي «الكلام» على التباس: هل هو صفة الله، قديمة أم حادثة، أم هو كلام الله الذي أوحى به إلى الرسول، وهو القرآن الكريم؟ والأول لا علم لنا به إلا من خلال الثاني، وبالتالي يكون الوحي من حيث هو كلام أي قرآن هو موضوع العلم كما هو الحال في العلوم الإسلامية الأخرى، خاصة علوم القرآن والتفسير، أو حتى العلوم النقلية العقلية مثل علم أصول الفقه وعلوم الحكمة أو علوم التصوف أو العلوم الإنسانية مثل علوم اللغة والأدب، علم الكلام إذن هو علم «وضعي» يدرس ما هو كائن، وهو القرآن، كتاب محسوس وملموس، ويخرج من هذا الالتباس الأول التباس ثان، وهو أن هذا الكلام هل هو «كلام الله» باعتباره مصدر الوحي أو «كلام الإنسان» باعتباره متلقي الوحي وقارئه بصوته، فاهمه بعقله، مدركه بتجربته، محققه بإرادته؟ الكلام الأول لا يمكن معرفته معرفة مباشرة إلا من خلال الكلام الثاني؛ وبالتالي يكون «كلام الإنسان» حديثا عن «كلام الله» في عقله وقلبه وبلسانه وصوته، يكون حديثا عن الله
Discours sur Dieu
وليس حديثا من الله
Discours de Dieu ، وفي هذه الحالة يمكن للكلام باعتباره الوحي الموجود أمامنا المقروء بصوتنا، المتلو بلساننا، المكتوب بأيدينا، المرئي بأعيننا، المحفوظ في صدورنا، المفهوم بعقولنا والمؤثر في حياتنا، وليس الكلام كصفة لذات مشخصة بل كموضوع موجود بالفعل في وحي؛ أي في معطى تاريخي مدون وملموس، محدود ومتعين - يمكن لهذا الكلام أن يكون موضوعا للعلم بل لعدة علوم منها: علم النقد التاريخي، وهو العلم الذي يدرس صحة الكلام في التاريخ، طرق ضبطه، ووسائل نقله، شفاهيا كما حدث في علم الحديث أو كتابة كما حدث في علوم القرآن.
3
نامعلوم صفحہ