من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية
من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية
اصناف
39
والأعراض في صيغة الجمع في حين أن الجوهر في صيغة المفرد وكأن هناك أعراضا كثيرة وجوهرا واحدا في مبحث الأعراض والجواهر. وأحيانا الجوهر والأعراض وكأن الجواهر العديدة المنقسمة وغير المنقسمة ذاتها من نفس وعقل تنتهي كلها إلى جوهر واحد. والبداية بالأعراض قبل الجوهر، وكأن الحدوث والتغير والانتقال فيهما سابق على الجواهر ومؤد إليها؛ مما يدل على البداية بالظواهر قبل الحقائق، واكتشاف العالم الطبيعي كما يبدو قبل اكتشاف الأشياء ذاتها. فالإنسان يعرف الظواهر قبل الأشياء ولا يدرك الأشياء إلا من خلال مظاهرها. وتبدو القسمة الرباعية مع الثلاثية في أبحاث الأعراض (الكم، والكيف، والنسبة، والإضافة)، وفي أبحاث الكيف (الحسية، والنفسية، والكمية ، والاستعدادية)، وفي أبحاث الجوهر (الجسم، عوارض الأجسام، النفس، العقل)، وفي أبحاث الجسم (الأفلاك، الكواكب، العناصر ، المركبات). ولما كان الغالب على الأعراض الكم والكيف والنسبة والإضافة، وأطولها الكيف، وأهمها الكيفيات المحسوسة والنفسانية والكمية والاستعدادية، فقد ظهر الإنسان قاصدا نحو العالم. ولما كان الغالب على مبحث الجواهر؛ أي عالم الأجسام النفس والعقل، فقد ظهر العالم قاصدا نحو الإنسان. وبالتالي يكون مبحث الأعراض والجواهر هو مبحث «الإنسان في العالم» أو مبحث الإحالة المتبادلة بين الإنسان والعالم. وإذا كانت «الأمور العامة» هي بحث في «الواجب» طبقا لقسمة الوجود إلى واجب وعرض وجوهر كانت نظرية الوجود مركزة أساسا على الإنسان بين الواجب والعالم؛ أي الإنسان بين عالمين، بين المقال والواقع، أو بين الفكر والوجود، أو بين الروح والطبيعة. وبالتالي يظهر بناء نظرية الوجود الثلاثي في: «ميتافيزيقا الوجود» أو «الأمور العامة» (الواجب)، وفي «فينومينولوجيا الوجود»؛ أي ظواهر الوجود (الأعراض) وفي «أنطولوجيا الوجود»؛ أي الأجسام (الجوهر).
فما يسمى المباحث الطبيعية في علم أصول الدين هو في حقيقة الأمر نظرية الوجود، وبوجه خاص مبحثا الأعراض والجواهر، الغرض منها دراسة المعلوم، أي الموجود أو المعدوم إذا كان المعدوم شيئا وليس الغرض منه المبحث الطبيعي من أجل تأسيس علوم الطبيعة. قد يأتي المبحث الطبيعي على نحو غير مباشر بدراسة المعلوم والمبحث في الوجود والتجرد نهائيا عن المبحث الديني في «الله» كذات وصفات وأفعال التي تتلو المقدمات النظرية كلها، وليست سابقة عليها، وكأن تأسيس العلم الطبيعي ممكن بالاستقلال عن الفكر الديني، ثم يأتي الموضوع الأول في الفكر الديني تاليا عليه. وإن شئنا يكون البحث الطبيعي هو المدخل للفكر الإلهي. وقد بلغ مبحثا الأعراض والجواهر حدا من الاستقلال لدرجة أنه أمكن التأليف فيهما تأليفا مستقلا، سواء من القدماء أو من المحدثين.
40
ولكننا أسقطناها من وجداننا المعاصر، فغاب العلم الطبيعي وضاع منا الإحساس بالعالم ولم يبق إلا الواجب الشخصي، وأصبح الإنسان معلقا في الهواء بلا أرض تحت قدميه، يناجي الواجب الشخصي ويستمد منه العون والبقاء؛ ففقد التوازن حتى أمكن تعليقه بعد ذلك في غياهب السجون، قدماه إلى أعلى ورأسه إلى أسفل وهو يصرخ من آلام التعذيب وما من مجيب!
وفي نظرية الوجود المتأخرة يشار صراحة إلى المباحث الفلسفية، وتوضع لها الأقسام الخاصة وتذكر إما بتأييد أو المعارضة، ويقوم الجدل بين علم أصول الدين وعلوم الحكمة، بين المتكلمين والفلاسفة. وتتشعب التقسيمات بين المتكلمين والحكماء. وتسود تقسيمات الفلسفة فهي أشد تنظيرا وأوسع أفقا وأكثر اتفاقا مع العقل. فإذا كان علم الكلام العقلي قد قضي عليه مبكرا، فإن الفلسفة قد أتت في النهاية وأعطت الكلام ما فقده من قبل من تعقيل وتنظير، ولو أنه كان التعقيل الفلسفي بما فيه من إشراقيات وخيال.
41
لم تتوقف الحركة العقلية إذن في القرن الخامس بعد القضاء على الحركة الاعتزالية. ظهر العقل متخفيا في علم الكلام السني بعد القرن الخامس في هذه المقدمات النظرية، نظرية العلم وخاصة نظرية الوجود. ولم تزد نظرية الوجود في المصنفات المتأخرة شيئا من مباحث الوجود المتقدمة إلا التفريعات والحجج الواردة من الفلسفة عن الوجود والماهية والممكن والجوهر والعرض، وكأنها أبحاث لذاتها، وفقدت دلالاتها الأولى في الفكر الديني وأصبحت أبحاثا منطقية وجودية خالصة.
42
وقد يكون سبب الاتصال بالمباحث الفلسفية أن الفلسفة ذاتها أصبحت تمثل خطرا على العقيدة؛ فبعد أن راجت الفلسفة في الحضارة تحول علم الكلام إلى هذا الخصم الداخلي بعد أن أقام معركته من قبل مع الخصوم الخارجية أو البدع الأولى. فبقدر ما استفاد منها نقدها، وقام معها بعملية الاحتواء،
نامعلوم صفحہ