من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية

حسن حنفی d. 1443 AH
152

من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية

من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية

اصناف

وفي الشروح والملخصات ظهر العقل من أجل إيجاد اتساق الخطاب مع نفسه بمزيد من الاستدلال دون إضافة واقع جديد حتى انزوى العقل في النص ولم يخرج منه. اتسق الفكر، وأمكن التعبير عنه في قضايا عقلية معدودة والإسهاب فيها بإيجاد الدلالة العقلية عليها ثم التدليل على الأدلة ثم التدليل على التدليل إلى ما لا نهاية حتى أصبح العقل بلا موضوع إلا ذاته. فالاعتماد على العقل الخالص بلا واقع اجتماعي للناس صورية خالصة تعبر عن البيئة الثقافية القديمة. بل لقد تحول التصوف إلى حجة مضادة للعقل وهادمة له، وبالتالي تم القضاء على أساس العلم.

ويعطي الدليل النقلي الأولوية للنص على الواقع، فهو بداية من خارج الواقع وكأن النص هو الواقع مع أن النص في بدايته واقعة معروفة في أسباب النزول. يغفل الدليل النقلي ليس فقط الواقعة الجديدة المشابهة، بل أيضا الواقعة الأولى؛ وبالتالي يستخدم النص طائرا في الهواء بلا محل، يخلقه واقعه من نفسه، فيظل فارغا بلا مضمون. ينغلق النص على ذاته أو يستعمل في غير موضعه طبقا للهوى والمصلحة كواقع بدليل. إن النص بطبيعته مجرد صورة عامة تحتاج إلى مضمون يملؤها. وهذا المضمون بطبيعته قالب فارغ يمكن ملؤه من حاجات العصر ومقتضياته التي هي بناء الحياة الإنسانية التي عبر فيها الوحي في المقاصد العامة. ومن ثم فالتأويل ضرورة للنص. ولا يوجد نص إلا ويمكن تأويله من أجل إيجاد الواقع الخاص به. لا يعني التأويل هنا بالضرورة إخراج النص من معنى حقيقي إلى معنى مجازي لقرينة، بل هو وضع مضمون معاصر للنص؛ لأن النص قالب دون مضمون. التأويل هنا ضرورة اجتماعية من أجل تحويل الوحي إلى نظام بتغيير الواقع إلى واقع مثالي. حتى النصوص الجلية الواضحة التي لا تحتاج في فهمها إلى تأويل أو إلى سبب نزول، بل إلى مجرد الحدس البسيط، حتى هذه النصوص لفهمها حدسا تحتاج إلى مضمون معاصر يكون أساس الحدس. وبدون هذا المضمون المعاصر لملء النص الجلي لا يمكن رؤيته حدسا . وقد حوت النصوص أنماطا مثالية للوقائع يمكن أن تكون أصولا لمجموع الوقائع الجديدة اللامتناهية، وتلك هي مهمة القياس الشرعي. العلاقة إذن ليست بين العقل والنقل وحدها ولكنها علاقة ثلاثية بإدخال طرف ثالث هو الواقع يكون بمثابة مرجع صدق وتحقيق لو حدث أي تعارض بين العقل والنقل. ولا يكاد يتفق اثنان على معنى واحد للنص في حين أن استعمال العقل أو اللجوء إلى الواقع يمكن أن يؤدي إلى اتفاق. ولا تستطيع اللغة وحدها أن تكون مقياس فهم النص والتوفيق بين المعاني. تحتاج اللغة إلى حدس وهو عمل العقل أو إلى تجربة وهو دور الواقع. فالواقع واحد لا يتغير. ولا يمكن الخطأ فيه لأنه واقع يمكن لأي فرد أن يتحقق من صدق الحكم عليه. وإن كل اختلافات الأحكام على الواقع إنما ترجع في الحقيقة إلى اختلافات في مقاييس هذه الأحكام وأسسها وليس إلى موضوع الحكم. وغالبا ما تكون هذه الأسس ظنونا أو معتقدات أو مسلمات على أحسن تقدير أو مصالح وأهواء ورغبات وسوء نية على أسوأ تقدير. وفي حقيقة الأمر الفكر هو الواقع، والواقع هو الفكر، وليس لأحدهما أولوية زمانية على الآخر أو أي نوع من الأولوية من حيث الشرف والقيمة. الفكر واقع متحرك والواقع فكر مرئي. وكل فكر لا يتحقق في الواقع لا يكون إلا هوى أو انفعالا ذاتيا، وكل واقع لا يتحول إلى فكر يكون واقعا مصمتا أو واقعا ناقصا.

وأولوية النص على الواقع تعطي الأولوية للتقليد على التجديد، وللماضي على الحاضر، وللتاريخ على العصر.

13

يرجع التاريخ إلى الوراء لأنه ما زال يعتمد على سلطة الوحي وأمر الكلمة، وما زال يتطلب الطاعة المطلقة لمجرد الأمر، في حين أن اكتمال الوحي يعني بداية العقل وأن الوحي ما هو إلا تعبير عن كمال الطبيعة وكمال الإنسان. منهج النص يحيل الشعور إلى شعور سلبي خالص، يجعله مجرد آلة لتنفيذ الأوامر دون تعقيل لها أو حتى إيمان شخصي بها .

14

والتقليد ليس منهجا عقليا أو نقليا، بل هو من مضادات العلم. وتقدم العلم مرهون برفع التقليد.

15

ولما كان النص فارغا إلا من الوقائع الأولى التي سببت نزوله، فإن كثيرا ما تتدخل الأهواء والمصالح الشخصية والظنون والمعتقدات لتملأ النص وليست مقاصد الوحي ذاتها. ومن ثم يتحول النص إلى مجرد قناع يخفي وراءه الأهواء والمصالح والنزعات والرغبات والميول. وتتمثل الخطورة أكثر فأكثر في موضوعات السياسة كما يبدو ذلك في استعمال منهج النص في الإمامة عند القائلين بأن الإمامة بالنص. فقد نص الكتاب على إمامة شخص بعينه وجعلها في سلالته؛ ومن ثم يعارض منهج النص مبدأ الوحي في الشورى والخروج على الإمام العاصي. والنص سلاح ذو حدين. يمكن استعماله وتوجيهه ضد قائله وقلب الحجة النقلية عليه. يستطيع صاحب كل مذهب أن يعتمد على نص وأن يجد له نصا في الكتاب يؤيده، بل يستطيع أنصار المذاهب المتعارضة أن يجدوا جميعهم نصوصا لتأييدهم إما عن حسن نية أو سوءة نية مهما كانت هناك من مناهج للتعارض والتراجيح. وفي حقيقة الأمر يخضع منهج النص للاختيار الاجتماعي والسياسي للنصوص. فقد حوت النصوص كل شيء. ويمكن لكل فرد أن يجد فيه ما يبغي وما يهوى. صحيح أن هناك مقاييس موضوعية، مثل مبادئ اللغة وأسباب النزول والمصالح العامة، ولكن مع ذلك لا يخلو استعمال النص عن هوى أو رغبة أو ميل أو مصلحة بصرف النظر عن درجتها خاصة أم عامة. ولا يعني ذلك بالضرورة سوء النية، ولكن كل فرقة تود نصرة آرائها بالاعتماد على سلطة النصوص فتختار ما يوافق هواها. النص في الحقيقة تابع لشيء آخر هو الرأي أو الهوى أو المزاج؛ فهو يستعمل خادما لا مخدوما، وتابعا لا متبوعا. وعموم النص يعطيه القدرة على خدمة الجميع على قدم المساواة، يعرض النص خدماته على الجميع، ويمكن إثبات شيئين متعارضين من فريقين مختلفين بنفس النص، كل منهما يرى فيه نفسه ويسقط عليه ما يريد.

16

نامعلوم صفحہ