من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية
من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية
اصناف
14
ويظل السؤال الأول قائما: هل يوجد تصور كسبي استدلالي نظري، وهل يوجد تصديق ضروري بديهي فطري؟ قد تحتاج بعض التصورات إلى نظر مثل الجزء والكل، والوجود والعدم، كما تحتاج بعض التصديقات إلى استدلال مثل وجود الله. وقد لا تحتاج بعض التصديقات إلى استدلال إذا أمكن تصور المقدمتين معا والانتهاء إلى النتيجة المباشرة. هناك إذن تصوران: تصور بسيط ساذج، وتصور يتضمن تصنيفا. كما أن هناك تصديقين: تصديق بسيط ساذج، وتصديق يقوم على أحكام متتالية. هناك تصور بسيط وآخر مركب، وتصديق بسيط وآخر مركب. والحقيقة أن التصورات والتصديقات ليست مقولات مستقلة للعلم، بل أفعال للشعور تتفاوت بين البساطة والتركيب. وقد تكون بعض التصورات السمعيات كسبية مثل «الجن» و«الملائكة». وفي هذه الحالة يجب أن تتفق مع شهادة الحس وبداهة العقل والوجدان، وبالتالي ترجع إلى الضرورية. أما التصديقات البديهية فهي إدراكات حسية يمكن الاستدلال عليها مثل قوانين الفكر الأولية.
15
قسمة العلم إذن إلى تصور وتصديق قسمة منطقية أي صورية خالصة تجعل العلم مجرد تصورات وأحكام مع أن التصورات نفسها تنشأ من طبيعة الذهن وهي البديهيات والأوليات، والبعض الآخر ينشأ من الحس والمشاهدة. التصور أحد مراحل بناء العلم، أما الأحكام فبعضها فطري ضروري وبعضها مكتسب نظري، قد تصدر بالعقل وقد تصدر بالوجدان، وقد تكون نتيجة للعادات الاجتماعية. تنشأ التصورات في مواقف إنسانية معينة وتتحكم في التصديقات البواعث والمصالح. لا يوجد إذن بناء منطقي صوري خالص. وقد تبلغ قسمة المنطق إلى تصور وتصديق من الأهمية بحيث تصبح هي ذاتها نظرية العلم. وتصبح نظرية المنطق الجامع بين علم أصول الدين وعلوم الحكمة، ويكون التمييز بين التصور والتصديق هو الحكم المنطقي إثباتا ونفيا. وهنا لا يكون المنطق منطقا بل بحثا في المبادئ العامة في أوليات العلم،
16
والحقيقة أن قسمة العلم إلى ضروري واستدلالي إنما ترجع في نهاية الأمر إلى شهادة الحواس ومعطيات الوجدان؛ أي إلى الرؤية المباشرة للواقع وإدراكه ابتداء من مقاصد الوحي وقياس المسافة بين الواقع والمثال، فالرؤية المباشرة للواقع والتنظير له هي أساس العلمين الضروري والاستدلالي. (3) إثبات العلم الضروري
العلم الضروري هو العلم الفطري البديهي الذي يعتمد على الحس والعقل والوجدان، يجده كل إنسان في نفسه دون تعلم أو تكسب، مثل الحسيات والبديهيات والوجدانيات، هو موجود في استعدادات الفطرة. ولا يمكن القول في هذه المرحلة من تأسيس العلم إنه من خلق «الله»؛ لأن الله لم يثبت بعد ولم يظهر بعد كموضوع في بناء العلم؛ فما زال الحديث قائما عن إمكانية قيام نظرية في العلم. لا يمكن إذن جعل العلم كله نظريا بدعوى خلو النفس من الأفكار الضرورية وحدوث العلوم كلها من خلال الكسب؛ لأن نقصان الاستعداد لا يعني غياب العلم الضروري.
17
ولا يزول العلم الضروري بالغفلة والنوم؛ لأن الحياة واليقظة والوعي شروط للعلم. فإن لم تحدث المعرفة الضرورية عند شخص ما، فإن ذلك قد يعني أن شعوره كان غافلا، أو أنه قد فقد التوازن بين مستوياته وفقد القدرة على البيان والإيضاح، وأن عدم وجوده عند البعض لا يعني عدم وجوده مطلقا. ولا يعني اختلاف العلماء فيما بينهم انتفاء العلم الضروري، بل يعني فقدان الشعور شروطه كالحياة أو التجرد أو التوازن؛ فالعلم الضروري عام ومشترك بين العقلاء جميعا، واختلافهم لا يدل على انتفائه، بل قد يشير إلى وجود بعض معارف موروثة تمنع من حدوث المعرفة الضرورية. كما لا تعني ضرورة الشك وأوليته على المعارف الضرورية نفيها؛ لأن وظيفة الشك في نقد الموروث وتأسيس اليقين وإثبات المعارف الضرورية. فإذا ما توافرت الشروط العادية له وجد العلم. إذا وجد إنسان يحيا له حس وعقل وقلب يكون له بالضرورة، علما ضروريا، شهادة الحس، وأوائل العقول، وبداهات الوجدان.
فالعلم الضروري هو القائم على الحس والمشاهدة، وتعني أصلا حاسة البصر، ثم امتدت حتى شملت الحواس الخمس عند القدماء. فلا يمكن إنكار ضرورة الحس دفاعا عن ضرورة العلم النظري بحجة أن الحس لا يمكن أن يكون مصدرا للحكم على الكليات إلا عن طريق الافتراض والاطراد والتعميم. كما أن الحس قد يقع في الخطأ في إدراك الجزئيات؛ إذ ترى الصغير كبيرا والكبير صغيرا، وتشعر بالحار باردا وبالبارد حارا، ونرى الثلج أبيض وهو ليس كذلك، كما أن الحس لا يميز بين الأمثال.
نامعلوم صفحہ