من العقيدة إلى الثورة
من العقيدة إلى الثورة (٥): الإيمان والعمل - الإمامة
اصناف
28
ويمكن الجمع بين الحجتين، الإجماع والمصلحة، في حجة واحدة، وهي أن ما دام فيه ضرر مظنون فإن دفعه واجب إجماعا. وفي هذه الحالة إذا تم نقد الإجماع فإنه لا يمكن نقد المصلحة. وطالما قامت الفتن في حال وفاة إمام وتنصيب آخر. ليس في الإمامة إضرارا منفيا لأنه لا ضرر ولا ضرار. وإن الإضرار الناشئ من ترك الإمامة أعظم من الإضرار الناشئ من تنصيبها، ودفع الضرر الأعظم عند التعارض واجب. وإن تولية الإنسان على مثله ليس ضررا؛ لأن الولاية ليست للشخص، بل للشريعة، ولأن الوالي إنما تمت بيعته عن مثله؛ فالناس هم الولاة وليس الوالي. وإن استنكاف البعض من أن يولي مثله عليه هو تشخيص للشريعة وضياع لها، وتحويلها إلى مجرد رغبة في السلطة وتنافس عليها. وإن عزل الإمام مصلحة وليس مفسدة، سلام وليس فتنة، وهو أخف ضررا من إبقائه. فإذا كان تنصيب الإمام واجبا إذا ما التزم بالشرع، فإن عزله يكون أيضا واجبا إذا ما أخل به.
29
ويظل العيب في هذا التصور هو صورة الإمام القاهر المستبد العادل الذي يحقق مصالح الناس، ولكنه قاهر يخشاه الناس، مع أن البيعة لا قهر فيها، والاختيار طواعية ورضا. وقد أدت هذه الصورة إلى جعل الإمام باستمرار قاهرا للأمة، وسلطانه غير مستمد منها، يرعى مصالحهم بالقوة فيرغمهم، فتسابق الناس على الإمامة، ونشأت الانقلابات كل منها يعلن عن تحقيقه لمصالح الأمة. (2-3) وجوبها على العباد عقلا
مهما كانت هناك من حجج شرعية أو مصلحية لوجوب الإمامة، فإن الشرع والمصلحة كلاهما من مقتضيات العقل؛ فالوحي والعقل والواقع وحدة واحدة تتأصل فيها حياة الناس. يقوم الشرع على العقل والمصلحة، كما تقوم المصلحة على الشرع والعقل، ويكون العقل دعامة الشرع والمصلحة. لا يمكن إذن رفض الوجوب العقلي أو الوجوب المصلحي؛ فهو وجوب واحد مرة في الشرع، ومرة في المصلحة. والوجوب العقلي لا ينافي الوجوب الشرعي لارتكازهما معا في الوجوب المصلحي.
30
وإن كل الحجج والتحليلات التي تقدم لنفي الوجوب العقلي بالرغم من تعددها وتنوعها لا تنفي الوجوب العقلي، بل تثبته مسبقا أو تتركه جانبا؛ فاعتبار الإمام من باب التمكين، لولا الإمام لما كانت السموات والأرض، ولما صح من العبد فعل هو نقل للوجوب من العقل إلى الوجود. والعقل هو الوجود، والوجود هو العقل. يستحيل التمكين لأن المكلف قادر على التكليف دون إمام، خاصة إذا كان الصفات المطلوبة في الإمام صعبة التحقيق. واعتبار الإمام من جانب البيان وجواز خلو المكلفين منه يجعل المعرفة منقولة وليست عقلية، ولا غنى للمعرفة النقلية عن المعرفة العقلية. وإذا كان الإمام حجة لله على خلقه، ولا يخلو زمن من حجة، سواء كان نبيا أو إماما، فإن ذلك إلغاء لحجة العقول. أما اعتبار الإمام من باب اللطف، فإن العقل أيضا لطف، واللطف من الواجبات العقلية مثل المصلحة بالرغم من التقابل بين أنصار اللطف وأنصار المصلحة. اللطف هبة من أعلى، والمصلحة اقتضاء من أسفل. واللطف يحتاج إلى دليل، وهو كونه معرفا من جميع عامة المسلمين وجميع المكلفين.
31
لا يمكن رفض التأسيس العقلي للمشكلة السياسية. وإن ضرورة وجود رئيس يجمع الكلم، ويوفق بين الإرادات الفردية، ويعبر عن الإرادة الجماعية، وهي ضرورة عقلية ومصلحية في آن واحد، يعلم اضطرارا واكتسابا، بداهة واستقراء. وكيف يؤدي التأسيس العقلي للقيادة، أي تأسيسها على أسس لا عقلية؟ وإن الأدلة السمعية لتشير إلى هذه الضرورة النظرية والعملية في آن واحد؛ فالمصلحة ليست مجرد تحقيق منافع، بل هي أساس عقلي. فإذا كانت وظيفية الإمام تعيين الولاة في الأمصار وإقامة الحدود وتجهيز الجيوش، ففي ذلك صلاح العباد، والصلاح أصل عقلي كما هو وضع اجتماعي وأساس وجودي.
32
نامعلوم صفحہ