من العقيدة إلى الثورة
من العقيدة إلى الثورة (٥): الإيمان والعمل - الإمامة
اصناف
28 (2-5) تأويل العبادات
فإذا لم تنته الأحكام أو يسقط التكاليف أو تباح المحرمات أو توقف الحدود، تئول العبادات والمعاملات بحيث تكون أكثر اتساقا مع الظروف النفسية والأوضاع الاجتماعية لمجتمع الاضطهاد في مواجهة مجتمع الغلبة. التأويل ليس استنباطا موضوعيا لحكم من الآية، بل هو وضع الخاص الانفعالي فيها لإيجاد مبرر لها. وهو موقف هوى، وليس نموذجا عاما للفعل الإنساني كما هو الحال في أسباب النزول. التأويل إذن هو إيجاد الوقائع داخل الآية حسب الهوى. والهوى ليس فرديا فقط، بل هو تعبير عن موقف نفسي اجتماعي، سواء لمجتمع الاضطهاد أو مجتمع الغلبة، يتجه نحو الأعماق، ويكشف أبعاد الذهن، فيصبح مبررا للوضع النفسي والاجتماعي للمتأول. وكما تئول الأحكام إلى أشخاص وأكوان تئول الفرائض، مثل الطهارة والصلاة والزكاة والحج، بين الشدة واللين، الشدة زيادة في التعصب والتصلب تعذيبا للنفس، وتأكيدا لصلابتها في مجتمع مغلق في حاجة إلى تماسك داخلي في مواجهة مجتمع القهر، واللين رفقا مع النفس وتسامحا معها في عالم من القهر والظلم والطغيان؛ حتى تستريح النفس وتنعم بحريتها الداخلية إن استحالت ممارسة حريتها في الخارج؛ فالوضوء قد يكون غير واجب إذا تم بماء مغصوب، أسوة بعدم جواز الصلاة في الدار المغصوبة؛ فالغصب رؤية تتحدد العبادات من خلالها؛ لأنه هو البنية النفسية والاجتماعية لمجتمع المضطهد الذي تم اغتصاب السلطة منه في مجتمع الغلبة والقهر. وقد يؤدي تأويل العبادات إلى فهم معانيها وعللها، ثم تحوير صورها وإعادة صياغة أشكالها، خاصة في موضوعات صغيرة جانبية بعد أن يستعصي التعرض للموضوعات العامة التي أصبحت حكرا على مجتمع القهر. يتعرض وعي الجماعة المضطهدة إلى نقائض الوضوء، هل هو النوم مع الحدث أو النوم مضطجعا؟ المسح بالماء على ظهور الأقدام أو أسفلها ... إلخ. ويظهر التشدد في ضرورة الوضوء من قرقرة البطن، كما يظهر اللين في الاستحمام في الآبار التي نشرب منها، أي الشرب من ماء الاستحمام، وحدة الذات والموضوع كما هو الحال في النرجسية. فإذا ما تم عقل الأحكام يمكن إنكار المسح على الخفين باعتبار أن الوسخ في أسفل الخفين وليس في أعلاهما، حتى يظهر تعسف أحكام مجتمع القهر وشريعة الغلبة.
29
أما بالنسبة للصلاة فإنه لا يجوز أيضا الصلاة في الدار المغصوبة؛ لأن الفعل الواحد لا يكون طاعة ومعصية في الوقت نفسه، وتحرير الأرض سابق على طاعة الله فيها، وذلك في مجتمع يعاني من الاغتصاب، اغتصاب الشرعية والاستيلاء على السلطة، ولا فرق في ذلك بين العدو الخارجي والعدو الداخلي.
30
كما يختلف الأمر فيها أيضا بين اللين والشدة؛ ففي اللين لا تجب إعادة الصلاة على من تركها متعمدا، خاصة إذا كان قد فهم معناها، وتحقق بالحكمة منها، ووصل إلى غايتها. ولماذا الإسراع والجري إلى الصلاة إذا حان وقتها، فيتحول الناس إلى هرج ومرج وسباق وتزاحم؟ ولماذا المشي إلى الصلاة واختيار المساجد البعيدة سعيا في مزيد من الثواب وكأن الأمر تجارة ومكسب؟ قد تكفي الواجبات دون النوافل، والحد الأدنى دون الحد الأعلى. يكفي الواجب دون المندوب، والامتناع عن المحرم دون المكروه، أقل القليل من الفرائض لإفساح المجال إلى المعارف. وقد يكون اللين من حيث الكم، فلا صلاة واجبة إلا ركعة بالغداة وركعة بالعشي، أو ركعتان بالغداة وركعتان بالعشي. كما يمكن الجمع بين صلاتي الظهر والعصر في أول الزوال، والمغرب والعشاء في جوف الليل. وفي صلاة المسافر تكبيرتان دون ركوع أو سجود أو قيام أو قعود أو تشهد أو سلام. وتصح الصلاة في ثوب كله نجس على أرض نجسة ومع بدن ظاهر النجاسة؛ إذ يكفي الطهارة من الأحداث دون الأنجاس. والتحرر من نجاسة البدن أسهل من التحرر من نجاسة المجتمع وشرعه ونظمه التي تقوم على القهر والغلبة. ويكفي دفن الميت بعد كفنه دون غسله والصلاة عليه؛ فهما سنتان غير مفروضتين. كما تجوز الصلاة بلا نية، يكفي نية الإسلام منذ البداية.
31
وقد يظهر التشدد والانتقال من الأخف إلى الأثقل حرصا على تماسك الجماعة الداخلي، وأخذا بالشدة دون اللين، خاصة في مجتمع الأقلية المغلق؛ فتكون الصلاة سبع عشرة مرة أو تسع عشرة مرة في اليوم والليلة. واقل الصلاة خمس عشرة ركعة! وقد تكون الصلاة خمسين مرة كل يوم وليلة، وفي كل مرة خمس عشرة ركعة كذلك.
32
فالنقيض يولد النقيض، والضد يحيل إلى الضد، وكأن القهر يأخذ صورتين؛ الأولى اللين والتخفف مع النفس، إذ يكفي قهر المجتمع؛ والثانية الشدة والتصلب، تقوية للنفس لمقاومة قهر المجتمع.
نامعلوم صفحہ