من العقيدة إلى الثورة
من العقيدة إلى الثورة (٥): الإيمان والعمل - الإمامة
اصناف
33
وتعتمد هذه البداية الشعرية مع الكتب المقدسة الأخرى القائمة على عقائد السقوط والطرد والحرمان كوقائع وحوادث تاريخية، وليس فقط كصور شعرية. ونظرا لاعتماد الفرقة الناجية على التفسير بالمأثور، فقد دخلت كثير من الإسرائيليات لتأصيل عقائدها، وهي الصورة الشعرية نفسها الموجودة في حضارات أخرى وتفسر لا على أنها صراع العقل مع النقل، وصراع الموضوعية مع الذاتية، وصراع الحرية مع القدرية، بل على أنها تنقل أخبارا عن وقائع العصيان والحرمان والطرد والخطيئة والسقوط.
34
وتضع الصورة الشعرية شبهات سبعة
35
تفيد بأن الموقف الإنساني شبهة، وأن السؤال عنها يوقع لا محالة في تناقض، وهي الشبهات نفسها التي يقوم عليها علم الكلام. تمثل الفرق الهالكة، وفي مقدمتها المعارضة العلنية من الداخل، اختيار الشيطان نظرا لاعتمادها على العقل. وتمثل الفرقة الناجية، فرقة السلطان، اختيار الله نظرا لاعتمادها على النقل. الشبهة الأولى تشير إلى تعارض العلم المطلق مع الخلق باعتباره مصيرا وتاريخا محددا في العلم، ومع ذلك مرهون بحرية الإرادة الإنسانية. وإذا كانت الفرقة الناجية تأخذ صف العلم الإلهي وتضحي بالخلق الإنساني، فإن الفرق الهالكة خاصة المعارضة العلنية من الداخل تأخذ جانب الحرية الإنسانية وتضحي بالعلم المسبق. فإذا كان القياس هو المزايدة في الإيمان أمام العامة وفي أعين السلطان، كان الاختيار لعقائد الفرقة الناجية! والحقيقة أن العلم المطلق لا يمنع من تقرير مصير الإنسان لذاته؛ لأن العلم المطلق علم حقيقي، أي أنه مطابق للواقع، لا بمعنى أنه يفعل مباشرة، بل بمعنى أنه يفعل من خلال الفعل الإنساني. وهذا لا يعني أن العلم المطلق خامل غير مؤثر، بل بمعنى أن الإنسانية لا تتحقق إلا بالفعل في التاريخ. العلم مسار التاريخ، أو فكر العمل، أو نظرية السلوك، إذا ما بعد العلم عن التشخيص الذاتي كصفة لذات مشخص. والشبهة الثانية تشير إلى التعارض بين خلق الإنسان على إرادة الله وبين تكليفه على إرادة الإنسان الخاصة. فإذا أخذت الفرقة الناجية الاختيار الأول، فإن الهالكة تأخذ الاختيار الثاني. أليس فضل الله على الإنسان عظيما أمام السلطان وفي أعين العامة؟ والحقيقة أن التكليف إثبات لغاية الإنسان ودعوته، وأن الحياة الإنسانية أساسا هي تحقيق الرسالة. ولا يتم هذا التحقيق وفقا لإرادة مسبقة، فالإرادة المطلقة هي إرادة التاريخ وقوانينه ومساره التي تتحقق بالفعل الإنساني الفردي والجماعي على السواء؛ وبالتالي تبتعد الإرادة المطلقة عن التشخيص الذاتي الخارجي، وتعود إلى أصلها كقانون عام لمسار التاريخ، أو كنمط للتحقيق والتكليف ليس مضادا للحرية، وليس مانعا لها، بل هو موجه لها يعطيها أساسها النظري ومسارها المختار. والشبهة الثالثة عن أمر الشيطان بالسجود لآدم وعصيان الشيطان لله، بطبيعة الحال تختار فيها فرقة السلطان الطاعة لله وتنفيذ الأوامر، بينما تختار الفرق الهالكة العصيان ورفض السجود لأحد إلا لله، حتى ولو كان ذلك عصيانا لأوامر الله. واختيار الفرقة الناجية يرضاه السلطان، ويتملق أذواق العامة إيمانهم الاجتماعي بالله. ومن ذا الذي يرفض أوامر الله وأوامر السلطان؟ والحقيقة أن الإنسان هو القيمة الأولى في الحياة على رأس سلم القيم، وله يخضع كل شيء في الطبيعة، وكل فعل في التاريخ يقاس بمدى تحقيقه لهذه القيمة؛ فرفض السجود لآدم هو رفض للاعتراف بالإنسان كقيمة مطلقة. وإن السجود للإنسان وليس السجود لله لهو تنفيذ للأمر الإلهي وتحقيق لإرادته. والشبهة الرابعة تحتوي على الحكم بإدانة كل من لا يعترف بالإنسان كقيمة أولى، حتى ولو كان السبب في عدم الاعتراف التشدق بالإيمان والمزايدة فيه بدعوى عدم السجود إلا لله. الإنسان قيمة في أعلى سلم القيم. وقد تتنازل قيم أخرى أعلى منه حتى الفكر المطلق ليعلن أن الإنسان قيمة أولى. وهو بهذا الإعلان والاعتراف يثبت إطلاقيته، فلا إطلاقية تثبت إلا بإثبات الإنسان كقيمة أولى. والشبهة الخامسة أنه بالرغم من لعن الشيطان وإصدار حكم عليه بالإدانة، فقد دخل الجنة ووسوس للإنسان. ولا يعني ذلك أن كل ما يأتي للإنسان من أفكار فإنها من وسوسة الشيطان كما تقول الفرقة الناجية وكما يريد السلطان، بل تعني أن الاعتراف بالإنسان كقيمة أولى ليس مجرد اعتراف نظري، بل هو جهد عملي يتحقق بالفعل، وكأن الاعتراف النظري يحتاج إلى اعتراف آخر عملي بدفاع الإنسان عن وضعه كقيمة أولى، والدخول في صراع مع كل القوى التي تنكر عليه هذا الحق. فالإنسان ليس إمكانية محدودة ذات اتجاه واحد، بل هو إمكانية تحقق سلبا أم إيجابا. هو إمكانية تحقق في مواقف تتخللها عقبات؛ لأن وجود العقبة ضرورة لتحقق الإمكانية، وحشد الطاقات النظرية والعملية. وقد تكون الموانع ذاتية مثل الأهواء والانفعالات، وقد تكون موضوعية مثل الأوضاع الاجتماعية والسياسية. فالمانع ضرورة لتخطيته، والعقبة شرط لتذليلها. والشبهة السادسة عن وسوسة الشيطان ليس فقط لآدم، بل لأولاده، تتملق أذواق العامة عن براءة الأطفال وعدم مسئوليتهم عن غوايات الآباء. والحقيقة أن الإنسان هو الإنسان في كل زمان ومكان؛ بناؤه واحد، وشعوره واحد، وموقفه من العالم واحد، لا فرق بين أب وابن، أو بين أسلاف وأحفاد. كل إنسان مسئول عن نفسه من حيث هو إنسان، وليس من حيث هو ابن لأب. والشبهة السابعة والأخيرة عن السبب في الاستمهال والنظرة، فإنها تقوم أيضا على المزايدة في الإيمان، وافتراض تدخل الله لهزيمة الشيطان دفاعا عن الإنسان، وحرصا له من الوقوع في الغواية، وإنكار دور الإنسان والزمان وحركة التاريخ. والحقيقة أن الزمان قد أعطي للإنسان ليفعل فيه، كما أعطي له التاريخ ميدانا للعمل؛ فلا نهاية بلا بداية، ولا خاتمة بلا مشروع. الإنسان حياته، وحياته تاريخه، وتاريخه سلوكه، وسلوكه تحقيق لغاية، وغايته رسالته، ورسالته مصيره.
وطبقا لهذا التاريخ المعبر عنه بالصورة الفنية تئول الوقائع الحالية حسب الفكر المسبق على ما هو معروف في تاريخ الأديان باسم تنميط الوقائع؛ فأسئلة الفرق الكلامية كلها لا تخرج عن الأسئلة الأولى التي سألها إبليس، ويكون التاريخ حينئذ عودا على بدء، ومعيدا لنفسه.
36
والحقيقة أنه إذا كان هذا الوصف يعني الانحدار والسقوط والتشتت والتفرق، أي إذا كان وصفا سلبيا، كان جحدا للواقع، وإيقافا لحركة التاريخ، وإلغاء لعمل الفكر البشري، وقضاء على الحضارة. أما إذا كان هذا الوصف يشير إلى حركة إيجابية تظهر فيها أنماط الفكر في كل زمان ومكان، ودون حركة دورية، ودون إدانة للتاريخ، كان وصفا واقعيا يثبت الحركة والزمان والتاريخ. فالتقابل بين العقل والهوى، بين الموضوعية والذاتية، بين الخارج والداخل، بين الأمر والتلقائية، بين التسليم والرفض، تقابل يعبر عن الموقف الإنساني العام في كل زمان ومكان بإضافة بعض النضج في التجربة البشرية أثر تراكم التجارب والاستفادة منها، ثم تتحول البداية الزمانية الافتراضية الأولى في الصورة الفنية في أول العالم إلى بداية زمنية فعلية ساعة ظهور الوحي وإعلان النبوة. ويبدو التفسير النمطي للوقائع أيضا؛ فكل ما وقع من حوادث التاريخ وقعت أنماطه في الجيل الأول. ويصعب تغيير التاريخ دون نمط؛ ولذلك يكون تطور التاريخ في بنائه، ويكون ماضيه في حاضره، وحاضره ماضيه. يتم تفسير الحاضر بالماضي، والماضي بالحاضر؛ فالشعور الإنساني واحد، والموقف من الحياة واحد؛ فلا تاريخ بلا شعور، ولا شعور بلا تاريخ.
37
نامعلوم صفحہ