عقیدہ سے انقلاب تک (3): انصاف
من العقيدة إلى الثورة (٣): العدل
اصناف
الباب الثالث
الفصل السابع
أولا: مقدمة من التوحيد إلى العدل
ثانيا: أفعال الشعور الداخلية
ثالثا: أفعال الشعور الخارجية
رابعا: أفعال الشعور في الطبيعة
خامسا: أفعال الوعي الفردي والاجتماعي
الفصل الثامن
أولا: مقدمة، اسم المشكلة ومكانها في العلم
ثانيا: تعريف الحسن والقبح
نامعلوم صفحہ
ثالثا: صفات الأفعال
رابعا: العقل والنقل
خامسا: الواجبات العقلية
سادسا: تنزيه الله عن فعل القبائح
سابعا: الصلاح والأصلح، الغائية والعلية
ثامنا: اللطف والألطاف
تاسعا: العوض عن الآلام
عاشرا: خاتمة، أين الإنسان؟
الباب الثالث
الفصل السابع
نامعلوم صفحہ
أولا: مقدمة من التوحيد إلى العدل
ثانيا: أفعال الشعور الداخلية
ثالثا: أفعال الشعور الخارجية
رابعا: أفعال الشعور في الطبيعة
خامسا: أفعال الوعي الفردي والاجتماعي
الفصل الثامن
أولا: مقدمة، اسم المشكلة ومكانها في العلم
ثانيا: تعريف الحسن والقبح
ثالثا: صفات الأفعال
رابعا: العقل والنقل
نامعلوم صفحہ
خامسا: الواجبات العقلية
سادسا: تنزيه الله عن فعل القبائح
سابعا: الصلاح والأصلح، الغائية والعلية
ثامنا: اللطف والألطاف
تاسعا: العوض عن الآلام
عاشرا: خاتمة، أين الإنسان؟
من العقيدة إلى الثورة (3)
من العقيدة إلى الثورة (3)
العدل
تأليف
نامعلوم صفحہ
حسن حنفي
الباب الثالث
الإنسان المتعين
الفصل السابع
خلق الأفعال
أولا: مقدمة من التوحيد إلى العدل
إذا كانت نظرية الذات والصفات هي لب التوحيد، فإن نظرية الأفعال هي لب العدل. وتشمل نظرية الأفعال موضوعين: الأول: خلق الأفعال أو حرية الاختيار، وهو الموضوع الشائع باسم الجبر والاختيار، وهو الموضوع الغالب. والثاني: العقل والنقل أو الحسن والقبح العقليان، وهو الأقل وكأنه أحد الموضوعات الجزئية الفرعية. وأحيانا ينضم الموضوعان معا في موضوع واحد دون بناء نظري له، وتعطى مسائل متفرقة في العدل يختفي فيها الحسن والقبح.
1
ولكن الشائع هو أنه في باب حرية الأفعال وارتباطها بالإرادة يظهر باب التعديل والتجوير أو الحسن والقبح العقليان مرتبطا بالقدرة. وبالتالي ينقسم العدل إلى موضوعين: حرية الأفعال، والحسن والقبيح.
2 (1) التذبذب بين التوحيد والعدل
نامعلوم صفحہ
يدخل موضوع خلق الأفعال عند القدماء في نظرية الذات والصفات والأفعال، أي في التوحيد (الأشاعرة)، في حين أنها حاولت الانفصال في أصل ثان هو العدل (المعتزلة) حفاظا على استقلال الموضوع وإثباتا لحرية الأفعال. وظل الموضوع عند القدماء متأرجحا بين التوحيد مرة وبين العدل مرة أخرى، مرة لإثبات حق الله ومرة لإثبات حق الإنسان، وكأن أفعال الإنسان وحريته واستقلاله يتنازعهما حقان، كلاهما شرعي؛ حق الله باعتباره خالقا وحق الإنسان باعتباره مسئولا. والدفاع عن حق الله دون حق الإنسان ليس موقفا إنسانيا شرعيا بل يكشف عن اغتراب الإنسان وعجزه عن الدفاع عن حقوقه ومزايدته على حق غيره، في حين أن الدفاع عن حق الإنسان دون حق الله أقرب إلى موقف الإنسان الشرعي دون مزايدة في الدفاع عن حق غيره، خاصة وأن حق الإنسان أولى بالدفاع؛ لأنه الحق المهضوم، في حين أن حق الله قائم بلا منازع، والله أقدر على الدفاع عن حقه. فإذا كان الاغتراب الإنساني النظري قد ظهر في الذات والصفات فإن الاغتراب العملي يظهر في خلق الأفعال وفي الحسن والقبح العقليين وإن كان بصورة أقل؛ نظرا لبروز الإنسان من كنف الله وظهور العدل من بطن التوحيد. فبالرغم من أن خلق الأفعال داخلة عند القدماء في نظرية الذات والصفات والأفعال (الأشاعرة) إلا أنها أدخل في العدل، أي في أفعال الإنسان (المعتزلة) لتعلقها بحرية الأفعال وبالحسن والقبح العقليين.
3
ومن ثم كان الإنسان أظهر في الأفعال منه في الذات والصفات. وهنا يبدو التذبذب بين النظر إلى الأفعال كاستمرار لنظرية الذات والصفات، أي كحديث عن الله أم كحديث صريح عن حرية الأفعال والحسن والقبح والصلاح والأصلح، أي كحديث عن الإنسان. والحقيقة أن هناك اختفاء تدريجيا لله، وظهورا تدريجيا للإنسان من الذات إلى الصفات إلى الأفعال. فأوصاف الذات أقرب إلى الله، والصفات ما بين الإنسان والله، والأسماء أقرب إلى الإنسان كتعبير نهائي عن عواطف التعظيم والإجلال، وكأن القضية أصبحت اثنين اثنين: اثنين لله؛ الذات والصفات، واثنين للإنسان؛ خلق الأفعال، والحسن والقبح العقليين. وهما الأصلان الأولان من أصول المعتزلة، التوحيد والعدل. يشمل التوحيد الذات والصفات، والعدل خلق الأفعال والحسن والقبح العقليين.
وقد بدأ التوحيد أولا ممثلا في نظرية الذات والصفات والأفعال متضمنا العدل قبل أن يتحول العدل إلى أصل مستقل على يد المعتزلة. ففي العقائد المتقدمة لا يظهر أحيانا موضوع خلق الأفعال، سواء أفعال الشعور الداخلية أو الخارجية، أو أفعال الشعور في الطبيعة. وتختفي كلية مسائل الحسن والقبح وكأن أصل العدل كان متضمنا في أصل التوحيد في الوعي الحضاري الأول فلم يكن له الأهمية نفسها التي كانت لقضايا التشبيه والتنزيه.
4
وأحيانا يدخل خلق الأفعال وأصل العدل كله في باب أفعال الله، ولكن في موضوع الحسن والقبح الذي يبتلع خلق الأفعال.
5
وفي العقائد المتقدمة يظهر الرضا بالقضاء والقدر مع الإيمان بالله والملائكة والكتب والرسل والبعث، كما تظهر موضوعات الكسب والإيمان متداخلة مع الأفعال.
6
كما تظهر متناثرة في إحصاء عقائد أهل السنة ورفض المعتزلة لاتهامهم بإثبات قدرة العبد على خلق الشر كالمجوس، وأن الله يشاء ما لا يكون ويكون ما لا يشاء، وأنهم قادرون على الأعمال.
نامعلوم صفحہ
7
وتظهر أفعال الشعور الداخلية في الإرادة،
8
وأفعال الشعور الخارجية في أعمال العباد والاستطاعة. وتضم إليها مسائل العدل والتجوير.
9
وفي النهاية تذكر الروايات في القدر.
10
وأحيانا يسمى الموضوع كله القدر.
11
وتدخل مسألة خلق الأفعال تحت موضوع القدر؛ لأنه كان من أوائل الموضوعات التي أثيرت في ذهن الجماعة إثباتا أو نفيا. وسواء ظهر نفي القدر أولا، ثم إثباته كرد فعل على الأول أو ظهر إثبات القدر أولا ثم جاء نفيه كرد فعل، فالحقيقة أن الإثبات والنفي كل على حدة يشكل رد فعل على الآخر بصرف النظر عن أولوية الظهور في الزمان.
نامعلوم صفحہ
12
وفي خلق الأفعال قد يثبت الخلق العام للطبيعة وللأفعال معا ويتم نقل قدم العالم من نظرية الوجود إلى نظرية الأفعال.
13
أحيانا لا يظهر خلق الأفعال كموضوع مستقل سواء داخل العدل أو خارجه، بل يتحول إلى جزء من التوحيد في نظرية الأفعال ويصبح التوحيد شاملا لموضوعات ثلاثة، الذات والصفات والأفعال، بعد أن كان شاملا لموضوعين اثنين فقط: الذات والصفات. وقد حدث هذا الاحتواء؛ احتواء التوحيد لخلق الأفعال في علم الكلام المتأخر بعد القضاء على التيار النظري وسيادة التيار التقليدي؛ فانزوى موضوع خلق الأفعال حتى احتواه التوحيد في النهاية. وأصبح المبدأ والأساس هو أن الله خالق لأفعال العباد وأن الفرع الدخيل هو أن الإنسان خالق أفعاله وأنه يناهض الخلق الأول ويعارضه ويرغب في الحصول على ما ليس من حقه بعد أن كان الموقف في علم الكلام المبكر أن خلق الإنسان لأفعاله هو المبدأ والأساس ثم منازعة المؤله للإنسان في أخص خصائصه، وسلبه إياه على يد السلطة السياسية القائمة ولصالحها. ومن ثم غابت حرية الإنسان تحت وطأة إلهيات السلطة.
14
وأحيانا أخرى لا يظهر الموضوع بتاتا ولا يذكر عنه شيء؛ لأنه فقد أهميته؛ فقد ضاع إحساس العصر المتأخر بالفعل الحر، فغاب الموضوع في مصنفات أهله. ويسقط موضوع خلق الأفعال بتاتا في العقائد المتأخرة، ويخلو المكان للإلهيات. ففي العقائد المتأخرة يضم التوحيد كل شيء، وتصبح أفعال العباد جزءا من التوحيد بما أن الله خالق كل شيء، ومريد لجميع الكائنات.
15
يختفي باب العدل من العقائد المتأخرة تحت وطأة التوحيد والنبوة أي الإلهيات والسمعيات، ويعم رفض الأسباب العادية وإثبات القضاء والقدر نظرا لإثبات سبق القدرة والإرادة والعلم؛ حيث لا يفتقر الله إلى أحد سواه، ويكون كل ما عداه مفتقرا إليه في شرح العقائد المتأخرة لقول «لا إله إلا الله».
16
وفي بعض الموسوعات المتأخرة تظهر بعض موضوعات العدل بعد التوحيد، مركزة كلها في معنى القضاء والقدر، وهي العقيدة التي استمرت في وجدان الأمة حتى جيلنا هذا.
نامعلوم صفحہ
17
وفي العقائد المتأخرة يضمر العدل أمام التوحيد، والنبوة أمام الإلهيات والسمعيات، ولا يظهر إلا في نظرية الجواز. ولا يظهر في الأفعال، ويسقط موضوع الحسن والقبح.
18
ثم يظهر موضوع التنزه عن الغرض ضمن أفعال العقائد كلها تحت شعار التوحيد، ويظهر استغناؤه ونفي الغرض في أفعاله ونفي الوجوب عليه، وهي موضوعات الحسن والقبح، ثم افتقار الغير إليه في وجوب الوحدانية من أوصاف الذات والعلم والقدرة والحياة والإرادة من صفات الذات من أجل إثبات عموم الإرادة وشمول القدرة على الإنسان والطبيعة معا. وقد تدخل مسائل العدل دون أن يذكر الاصطلاح في نظرية الجواز مع الرؤية ومع الحسن والقبح العقليين أولا، ثم مع كون الحادثات كلها مرادة لله ثانيا، كما كان الحال أولا. ثم يظهر باب آخر يحتوي على أركان أربعة تتناول موضوع خلق الأفعال.
19
فكأن الحسن والقبح العقليين يبدآن العدل وينهيانه. وعندها تصبح العقائد كلها داخلة في نظرية الوجوب والاستحالة، أربعون عقيدة، عشرون للواجب وعشرون للاستحالة تظهر مسائل العدل في العقيدة الواحدة والأربعين.
20
وفي بعض العقائد المتأخرة تضم مسائل العدل كلها في عقيدة واحدة من خمسين عقيدة، وهي عقيدة، فيما يجوز على الله.
21
والحقيقة أن وضع موضوع خلق الأفعال أي حرية الأفعال وعقله وبالتالي مسئوليته في أحكام الجواز يكشف عن ضياعها كلية وإخراجهما عن الوجوب؛ فالحرية والعقل محتملان وليسا ضروريين، وهما في الحقيقة يدخلان في الوجوب. فحرية الإنسان وعقله واجبان، أو في الاستحالة أي استحالة إلغاء الحرية والقضاء على العقل. وبالتالي تنقسم أحكام العقل إلى اثنين فقط، هما الوجوب والاستحالة وإخراج موضوعات الجواز، سواء الرؤية أو الأفعال بقسميها، الحرية والعقل. أما إذا كان الممكن في النهاية ليس حكما عقليا بل عملية إيجاد، وتحقيق للمشروع الإنساني، أي عملية تحرر، عملية وجودية، صيرورة عملية، قد يكون الإنسان حرا وقد لا يكون، قد يكون عاقلا وقد لا يكون، فإن وضع خلق الأفعال في الجواز يكون ممكنا بهذا المعنى كوصف لأفعال الإنسان وحريته وليس كدفاع عن الله وحقه المطلق في العلم والإرادة والقدرة. (2) موضوعات خلق الأفعال
نامعلوم صفحہ
خلق الأفعال إذن أحد مسائل العدل، ولكنه لا يبدو مستقلا متميزا عن باقي المسائل في العدل والتي تضم موضوع الحسن والقبح العقليين. بل إن بعض المسائل تظل متداخلة بين الموضوعين، يصعب معها استقرارها في أي منها مثل مسائل التوفيق والخذلان والهداية والضلال والعون والتيسير والعصمة والطبع والختم، والاستثناء في الإيمان، والآجال، والأرزاق، والأسعار التي هي حلقة الاتصال بين الموضوعين، بين حرية الإنسان ومصلحته. يشمل العدل إذن خلق الأفعال وما يتعلق بها من جبر وكسب واختيار واستطاعة وتولد، ثم الإيمان وما يتعلق به من هداية وتوفيق وعون ولطف أو طبع أو ختم أو خذلان، ثم الآجال والأرزاق والأسعار، ثم الحسن والقبح والأصلح ثم التكليف وما يتعلق به من أمر ونهي، ثم بعض الأبحاث الطبيعية الناتجة عن فعل الإنسان في الطبيعة، وأخيرا الوعد والوعيد وعذاب الأطفال والبهائم والعوض. وكلها تدخل في موضوعات منفصلة بالرغم من اجتماعها معا في خلق الأفعال، والتعديل والتجوير، والوعد والوعيد، والإيمان والعمل. وقد يدخل فيها موضوع النبوة كما هو الحال في العقائد المتأخرة عندما ألحقت النبوات بالسمعيات. بل قد تظهر أفعال الشعور الداخلية ومسائل الكسب والاستطاعة ضمن التوحيد في مساق الإرادة.
22
ثم تظهر من جديد مع ثلاث مسائل كفروع لعلم التوحيد وهي الخلق والإرادة والشفاعة والرؤية.
23
وفي هذه المسألة تظهر أساسا أفعال الشعور الداخلية وكأن أصل العدل قد انبثق من أصل التوحيد، وأنه ما زال في مراحله الأولى حيث يتداخل العدل مع التوحيد محاولا التحرر منه، ويتداخل التوحيد في العدل محاولا إعادة له. وكما تداخلت أوصاف الذات وصفاتها وأسماؤها تتداخل أيضا الذات، أوصافا، وصفات، وأسماء مع الأفعال. ويظهر العدل كأحد أوصاف الذات مرة سلبا في إحالة الحجر عليه ومرة إيجابا في أنه صانع الحوادث كلها ضد الدهرية والثانوية والمجوس والفلكية والطبائعية والمعتزلة.
24
وقد تظهر مسائل خلق الأفعال مباشرة بعد حدث العالم لإثبات شمول القدرة أو الإرادة حتى قبل أن تظهر مسائل الذات والصفات.
25
وبعد مسائل الذات والصفات كلها تظهر مسائل الحسن والقبح مستقلين أولا في فرعين، الحسن والقبح، ثم إبطال الغرض والعلة والقول بالصلاح والأصلح ثانيا.
26
نامعلوم صفحہ
كما تظهر بعد مسائل أفعال الشعور الداخلية مثل التوفيق والخذلان، والشرح والختم والطبع والأصل والرزق مختلطة ببعض الأسماء مثل الشكر. ولأول مرة تظهر مسألة العدل مستقلة بعد الذات والصفات والأسماء، وتشمل خلق الأفعال وموضوعات أخرى مثل الهداية والضلال والآجال والأرزاق وهي أدخل في موضوعات الصلاح والأصلح. بل إن موضوع خلق الأفعال لا يأخذ إلا الثلث ويأخذ موضوع الصلاح والأصلح الثلثين.
27
وتظهر مسائل أفعال الشعور الداخلية في صفة الإرادة وأنها تعم سائر المحدثات ومتعلقة بجميع الكائنات. ثم تظهر الأفعال الخارجية في نظرية الكسب في باب خاص وهو القدر ثم في باب خاص آخر من الاستطاعة لإثبات الفعل وإنكار التوليد، أي إنكار تقدم الاستطاعة على الفعل وبقائها بعد الفعل، ثم ظهور مسألة الحسن والقبح في باب العدل والتجوير.
28
ويظهر باب خلق الأعمال مضافا إليه باب آخر في الاستطاعة وحكمها منفصلين عن باب التعديل والتجوير.
29
وعندما تعرض العقائد في مسائل متفرقة دون بناء نظري يظهر العدل أولا في خلق الأفعال ثم في الحسن والقبح.
30
وقد لا يذكر مبحث الأفعال وتذكر بدله مباحث الجبر والقدر، ثم تبدأ المسائل الأولى في خلق الأفعال والمسائل الثانية في الحسن والقبح.
31
نامعلوم صفحہ
وفي العقائد المتأخرة يأتي العدل بعد التوحيد دون فصل بينهما كما كان الحال في بداية علم أصول الدين. وتظهر مسائل خلق الأفعال والاستطاعة والتوليد ثم الآجال والأرزاق والأصلح.
32
وفي بعض العقائد المتأخرة يختفي مبحث العدل كلية وينتهي بالرضا بالقضاء والقدر.
33
ويظهر العدل كملحق للتوحيد كما كان في البداية.
34
يختفي العدل كلية وتنحصر العقائد في الإلهيات والسمعيات أي في التوحيد والنبوة.
35
وفي بعض الحركات الإصلاحية الحديثة يتحول التوحيد من النظر إلى العمل وبالتالي تختفي مسائل خلق الأفعال لأنها تكون مناط التوحيد.
36
نامعلوم صفحہ
ولكن تظل مسألة الإيمان بالقضاء والقدر موضع الدفاع،
37
وكأن حل مسألة التوحيد كامن في العدل، وهو اللقاء الصحيح العضوي بين الأصلين. ويظل الإشكال في أفعال الشعور الداخلية، هل هي أدخل في خلق الأفعال أم في الحسن والقبح العقليين، أم أنه يصعب التفرقة بينهما لأنها تدخل في أصل واحد وهو العدل أولا لأنها حلقة اتصال بين خلق الأفعال والحسن والقبح العقليين؟
38
ففي العقائد المتقدمة يصعب الفصل بين حرية الأفعال والتعديل والتجوير، ومع ذلك يدخل التوفيق والضلال والهدى في خلق الأفعال أكثر من دخوله في العدل.
39
وفي العقائد المتأخرة يظهر مستوى الإرادة لأفعال الشعور الداخلية، ثم ينفي الحسن والقبح والواجبات العقلية ويصبح التوحيد هو الموضوع الأساسي في العدل.
40
وقد تظهر كثير من مسائل العدل في إثبات الخلق ورفض استقلال الطبيعة، وكذلك في مساق ذكر صفتي القدرة والإرادة وشمولهما، ولا يظهر في الجواز إلا الصلاح والأصلح.
41
نامعلوم صفحہ
ويظل التذبذب قائما بين وضعها في خلق الأفعال وبالتالي تكون أقرب إلى حرية الإنسان وبين الحسن والقبح العقليين، فهي إذن أقرب إلى تنزيه الله عن فعل البشر. يدخل الموضوع عند الأشاعرة في الجبر والقدرة والاستطاعة، أي في التوحيد، ويدخل عند المعتزلة في الحسن والقبح، أي في العدل، نظرا لإنكار الأشاعرة الحسن والقبح العقليين، وبالتالي العدل كله كأصل مستقل. والحقيقة أن أفعال الشعور الداخلية أقرب إلى الحسن والقبح وتنزيه الله عن القبائح وباقي مسائل العدل مثل الصلاح واللطف. فمسألة التوفيق والخذلان والهداية والضلال والعون والتيسير والعصمة والطبع والختم كلها أفعال شعور داخلية، تجتمع فيها حرية الأفعال والحسن والقبح والصلاح واللطف. ولما كان الصلاح واللطف تعبيرا عن إرادة الله في الواجبات الإلهية، فإنها تكون أقرب إلى حرية الأفعال التي موضوعها تقابل الإرادتين الإلهية والإنسانية وفي الوقت نفسه رعاية الصلاح والإصلاح وإدراك الإنسان وإرادته الحرة. أما مسألة الاستثناء في الإيمان ومسائل الآجال والأرزاق والأسعار، فإنها أيضا بين خلق الأفعال وبين الحسن والقبح العقليين ورعاية الأصلح. وقد تدخل أفعال الشعور الداخلية في موضوع النظر والعمل، أي الأسماء والأحكام نظرا لأنه يتعرض للجانب النظري في العمل وهو الإيمان. ولكن الإيمان هنا ليس في علاقته بالعمل، بل في علاقته كفعل للإيمان وبخلق الأفعال بين الإرادة الإلهية والإرادة الإنسانية. ولما كان موضوع النظر والعمل من السمعيات، فإن البعض قد آثر اعتبار أفعال الشعور الداخلية أمورا زائدة لا تدخل ضمن العقليات، أي التوحيد والعدل، وأقرب إلى السمعيات وعلى أكثر تقدير نقطة انتقال من العقليات إلى السمعيات، حيث تندر فيها العقليات إلى أقل درجة وتكثر فيها السمعيات إلى أقصى درجة.
42 (3) بناء الموضوع
الموضوع هو خلق الأفعال. وهي التسمية القديمة التي تتسق مع نظرية الأفعال دفاعا عن إرادة الله المطلقة ضد إرادة الإنسان وحرية اختياره كوليد جديد يوأد في المهد (الأشاعرة). ولكن التسمية قد تعني أيضا خلق الأفعال من جانب الإنسان (المعتزلة) تأكيدا على حرية الإرادة. وقد استعمل المحدثون منا من مؤلفي الكتب المقررة تسمية الجبر والاختيار إما تحت أثر الغرب أو خضوعا للفكر الشائع. وهي تسمية تظهر الصراع بين وجهتي النظر واعتبار أن الكسب هو الحل الوسط بين الحلين المتعارضين ويجعلونه أقرب إلى الاختيار منه إلى الجبر لو كان المؤلف عاقلا أو إلى الجبر منه إلى الاختيار لو كان المؤلف تقليديا ناقلا.
والتعبير القديم «خلق الأفعال» تعبير محايد، لا يوحي بنقل القدماء ولا بتحديث المعاصرين، ولكن الخلاف في التفسير حول خلق من؟ يجعله البعض من جانب المؤله مثل كل شيء، ويجعله البعض الآخر من جانب الإنسان. وفي هذه الحالة يكون الإنسان صاحب أفعاله. أما تعبير «الجبر والاختيار» فهو مقابلة حديثة تضم لفظا قديما هو الجبر ولفظا حديثا هو الاختيار. ولكن الاختيار لا يعبر عن خلق الأفعال خاصة إذا تم بالطبع. كما أنه يوحي بفعل خارجي محض كأن الفعل يتم عن طريق مقارنة عقلية بين الدوافع وحسابات رياضية بينها ثم اختيار أحدها وكأن الحياة لا تختار بنفسها حسب الدافع الأقوى. ولما كانت «الحرية» لفظا معاصرا يعبر عن وجدان الأمة كما يعبر عن مضمون المشكلة القديمة، خلق الأفعال، أصبح الإنسان خالقا للأفعال يعني أن الإنسان حر. لم يصبح الموضوع «مشكلة الحرية» لأن الحرية ليست مشكلة بل هي أمر واقع وتجربة يشهد بها الوجدان وصريح العقل؛ حينئذ يصبح موضوع خلق الأفعال إثباتا للإنسان الحر. وعنوان خلق الأفعال مثير للذهن مثل حرية الأفعال. فالخلق يوحي بالإبداع والجدة والمسئولية، مثل الحرية تماما، بل إنه أكثر ميتافيزيقية نظرا لارتباط الحرية بأبعادها السياسية والاجتماعية. وهو لفظ أكثر أصالة مرتبط بالتراث وليس شائعا في ثقافتنا المعاصرة الناقلة عن الغرب. واستعمال لفظ الخلق بمعنى الحرية استرداد للمفهوم من الله إلى الإنسان واستعادة للحقوق الضائعة. كان يمكن إطلاق تعبير «الإنسان الفاعل» بعد «الإنسان الكامل» وقبل «الإنسان العاقل» إبقاء على وحدة التعبير وتجانسه، خاصة وأن الفعل لفظ قديم. ولكن خوفا من إمكان اللبس بين «الإنسان الفاعل» الذي يمارس حريته بطبعه «والإنسان العامل» الذي يحقق النظر في العمل وهو أحد موضوعات السمعيات،
43
بقي «خلق الأفعال» أنسب التسميات لأنه بالرغم من قدمه إلا أنه ليس به عيوب القديم.
44
أما «الإنسان الحر» فهو تعبير خطابي خارج عن منطق البرهان.
ويمكن تحديد بناء الموضوع تاريخيا أو نظريا أو وصفيا. فمن الناحية التاريخية بدأت النظريات حول الأفعال أولا بالجبر ثم حدث رد الفعل ثانيا بإثبات الاختيار وأن الإنسان خالق أفعاله. وأخيرا جاءت نظرية الكسب كمحاولة للتوفيق بين الجبر والاختيار.
45
نامعلوم صفحہ
هذا هو الجدل التاريخي السائد في معظم موضوعات علم الكلام من الفعل إلى رد الفعل ثم إلى المركب من الفعل ورد الفعل. حدث هذا في التوحيد، في التشبيه ثم التنزيه ثم إثبات الصفات بلا كيف. ولكن من الناحية النظرية الخالصة بدءا من النظريات غير المؤسسة إلى النظرية المؤسسة يبدأ الجبر باعتباره أقل النظريات الثلاث تأسيسا ثم يتلوه الكسب باعتباره أيضا أقل النظريات الثلاث تأسيسا، ثم يأتي في النهاية خلق الأفعال باعتباره أكثر النظريات تأسيسا. ويرتب القدماء المذاهب طبقا لرأيهم الخاص ابتداء من الكسب ثم الجبر ثم خلق الأفعال بما يدل على أن الجبر أقرب إلى الكسب وأن خلق الأفعال أبعد منه.
46
ولكن من الناحية الوصفية الصرفة تبدأ نظرية الجبر التي يسهل رفضها بتحليل تجارب الإنسان الحية للفعل. تتلوها نظرية الكسب التي تظل في إطار الجبر وتنشأ بدافعها الأول وهو الدفاع عن حق الله والاعتراف بحق الإنسان، ولكن من أجل الدفاع عن حق الله. وأخيرا يأتي خلق الأفعال باعتباره أقرب النظريات إلى التجارب البشرية، بداهتها وصراحتها وطبقا لمقتضيات العقل والمسئولية. وهذا الوصف يجعل طرفي النقيض أولا وثالثا، والتوسط ثانيا، وهو معارض للجدل التاريخي الذي يبدأ بالجبر ثم بخلق الأفعال ثم بالكسب. ثم تظهر هذه النظريات الثلاث في أفعال الشعور الداخلية ثم الهداية والضلال، والتوفيق والخذلان، والإيمان والكفر، ثم في أفعال الشعور العامة كالحركة والسكون والقيام والقعود، أي في الحركات والسكنات الإرادية التي تشارك فيها الأعضاء وهي أفعال الجوارح التي عناها القدماء في تحليلهم للأفعال والتي منها خرجت النظريات الثلاث، ثم في أفعال الشعور الخارجية في الطبيعة التي تظهر فيها قضية التوليد واعتباره نتيجة ثانية للأفعال في الخارج وليس إلى الداخل، استمرارا للأفعال في الطبيعة سواء في الحركة أو السكون أو الاعتماد والأكوان أو التأليف والتحليل أو في آثار الأفعال المعنوية كالسنن والتقاليد وأثرها في الأجيال التالية وهو ما لم يفصل فيه القدماء لتركيزهم على أفعال الشعور في الطبيعة وحدها. وهذا الترتيب يبدأ من الداخل إلى الخارج، واصفا أفعال الشعور من العمق إلى السطح، ومن الباطن إلى الظاهر؛ ومن ثم يكون بناء الموضوع رباعيا: أفعال الشعور الداخلية، أفعال الشعور الخارجية، أفعال الشعور في الطبيعة، أفعال الوعي الفردي والاجتماعي.
ثانيا: أفعال الشعور الداخلية
الأفعال نوعان: أفعال الشعور وأفعال البدن، الأفعال الداخلية والأفعال الخارجية. وقد سمى القدماء أفعال الشعور أفعال القلب، وأفعال البدن أفعال الجوارح. والقلب ليس آلة عضوية، بل يشير إلى حياة الشعور الداخلية، وهي أفعال لا محل لها، على عكس الجوارح التي في محل سواء في الآلة، اليد أو الرجل أو الرأس، أو في محل الفعل. وبالتالي ارتبطت أفعال الجوارح بالاعتمادات والأكوان والمماسات والحركات والسكنات وكل ما يتعلق بتوليد الأفعال.
1 (1) هل أفعال الشعور الداخلية أفعال جبرية؟
وأفعال الشعور أفعال مثل أفعال الجوارح، تنطبق عليها مقولات خلق الأفعال مثل الحركة والجبر.
2
وأول إيهام بالجبر إنما يأتي من إثبات الصفات والأسماء، خاصة صفات الفعل وأسماء الفعل المؤثرة في العالم مثل الإرادة والمشيئة والأمر والقدرة والخلق والإذن والتكليف والعلم والسخط والغضب. وما دام الأمر وضع على هذا النحو فمن الطبيعي ألا تكون هناك حرية أفعال على الإطلاق، سواء أفعال الشعور الداخلية أو أفعال الشعور الخارجية. ومن الطبيعي أن يحدث ذلك ما دامت هناك صفات مطلقة لا يقوى الإنسان أمامها شيئا، وما دام الإنسان قد وضع في مقابل الله من أجل معرفة أيهما أقدر! وكأن الحرية تتمثل في علاقة فعل الإنسان وإرادة الله وقدرته وعلمه، وليس بعلاقة فعل الإنسان في العالم، وتحقق إرادته في موقف. وقد نشأ الطرف الآخر متعاليا؛ نظرا لاغتراب الإنسان عن عالمه وإسقاطه العالم من الحساب وإيجاده بديلا آخر خارج العالم، فترك العالم إلى الله كما يترك الدنيا إلى الآخرة، يعيش خارج الدنيا، ويعيش في الآخرة قبل الأوان، يضع الدنيا آخر الزمان، ويحضر الآخرة أول الزمان، ويعيش مع الله قبل تحقيق الرسالة، وهو لم يفعل بعد ولم يستحق شيئا. يأخذ النتيجة بلا مقدمات، ويحصل على الثمرة بلا جهد، فتأتي غير ناضجة، مرة المذاق. إن إثبات صفات وأفعال زائدة على الذات يعطي للذات فاعلية مطلقة في العالم، تبدو لها من خلال الصفات والأفعال في مسار الطبيعة والفعل الإنساني. ومن ثم لا يكون الفعل الإنساني حرا لأنه خاضع إلى حرية أكبر تتدخل في مساره وفي مسار الطبيعة على حد سواء.
3
نامعلوم صفحہ
وإثبات قدم الصفات يقضي أيضا على خلق الأفعال لأنه لا يمكن أن يخرج فعل حر حادث من إرادة مطلقة قديمة.
4
قدم الصفات يستلزم قدم الأفعال مما يؤدي إلى نفي الحرية والاختيار، سواء كان ذلك في العلم أو القدرة أو الإرادة، وهي الصفات الثلاث الأكثر تدميرا لحرية الأفعال على عكس الحياة والسمع والبصر والكلام لما كان السمع والبصر تعبيرا عن العلم ووسائل له، والحياة شرطهما، والكلام إعلان عنهما. والحياة لا تشعر بها، والكلام شخصناه في القرآن ومنعناه عن أنفسنا فجعلنا الله متكلما وأنفسنا بكما. وتتعلق الصفات الانفعالية أيضا بالإرادة القديمة وبالتالي فإن أفعال الإرادة من رضا وغضب وسخط ... إلخ هي أيضا أفعال قديمة. إن إثبات قدم الإرادة يؤدي إلى نفي الحرية الإنسانية، كما أن نفي قدمها يؤدي بالضرورة إلى إثبات الحرية الإنسانية. ومعظم الحجج التي تقدم لإثبات قدم الإرادة إنما تكشف في الحقيقة عن الرغبة في تأكيد عواطف التأليه ووضعها على مستوى الكمال والإطلاق. وإذا كانت صفة واحدة قديمة مثل العلم فلا بد أن تكون باقي الصفات كذلك؛ لأن خلق الإرادة يوجب حدوث العلم وتغيره، وكأن النسق الذهني لصفات الله له الأولوية على حرية أفعال الإنسان.
5 (1-1) إثبات صفات العلم والقدرة والإرادة
وأهم الصفات التي يتذرع بها لإثبات الجبر هي صفات العلم والقدرة والإرادة مع الشيئية. والجبر نتيجة لإثبات صفتي العلم والقدرة، خاصة لما كانتا هما الصفتان الشاملتان، وإلا فجاز انقلاب علمه جهلا وقدرته عجزا ، وكأن فعل الإنسان الحر مجهول من الله ومعجز له! ينشأ الجبر في الأفعال من تصور علم الله المسبق بكل ما يحدث في الكون نتيجة لإثبات صفة العلم وقدمها وشمولها؛ لذلك كان نفي الصفات وإثبات حدوثها إثباتا لحرية الأفعال.
6
والحقيقة أن شمول العلم الإلهي حق وإلا كان الإنسان جاهلا، وأسبقيته دليل على وجود العلم القبلي وهو أحد مقولات العلم الإنساني. وأن إثبات الفعل الحر لا يعني إثبات الجهل في العلم، بل يعني إثبات العلم التجريبي المتغير تحقيقا للعلم في التجربة وقياسه عليها. علم الله في أحد جوانبه، خاصة فيما يتعلق بالشرائع والتكاليف، علم تجريبي معدل بعدي وهو ما أثبته أيضا علم أصول الفقه. إن أسبقية العلم لا تعني نفي حرية أفعال الشعور، فالعلم النظري شيء والواقع العملي شيء آخر. وإن من الحكمة التضحية بفعالية العلم ووقوعه من الله عن التضحية بحرية الأفعال الاختيارية من الإنسان. فالأولى لن تنال من الله في شيء، في حين أن الثانية تمنع الإنسان من التكليف. العلم حق نظري، ولكن حرية الأفعال حق عملي.
وينشأ الإيهام بالجبر من جعل الله قادرا على كل ممكن ومن ثم يكون الجبر نتيجة لنظرية الجائز والممكن والمستحيل. والحقيقة أن هناك فرقا بين الجواز العقلي والإمكان الفعلي. إذ إن الفعل لا يقدر على كل شيء ممكن في العقل. إن الجواز العقلي ليس مطلقا فإمكانيات العقل ليست افتراضا عشوائيا بل إمكانيات قصدية محكومة بإمكانية التحقق، وإلا كانت نظريات مجردة لا واقع لها ولا تتحول إلى واقع. وبالتالي فإن قلب المستحيل واجبا والواجب مستحيلا افتراض خاطئ؛ لأن أحكام العقل ليست عشوائية، بل هي إرادية قصدية حكيمة.
7
ولكن الصفة الغالبة في تحليل ذرائع الجبر هي صفة الإرادة. الإرادة شاملة، مطلقة وواحدة لا يند عنها شيء؛ وبالتالي انضوت جميع الأفعال الإنسانية تحتها. وتظهر في البسملات الإرادة الشاملة، وتثبت على حساب الحرية الإنسانية، كما تعقد لها أبواب خاصة في نهاية الصفات وكأن المقدمات هي النتائج، وكأن الأحكام المسبقة هو المطلوب إثباته.
نامعلوم صفحہ
8
والإرادة شاملة في الحال وفي المآل ، العبرة بالنهاية وليست بالبداية، والمحك هو المصير وليس فعلا واحدا. الإرادة هي المشيئة والاختيار والرضا والمحبة ... إلخ، وهي صفات أخرى دائمة لا تتغير بتغير الأفعال. والحقيقة أن هذا يدل على الظلم لأن أفعال العباد متغيرة وليس لها ثابت بدليل التوبة والأفعال المتجمدة؛ لذلك كانت العبرة فيها بالأفعال الختامية، بالتجارب وحصيلتها النهائية، أي بتجربة العمر كله ورصيد الإنسان النهائي. وإذا كانت الإرادة مطلقة وإلا وقع فيها النقص من وهن وضعف وتقصير عند بلوغ المراد فكأن حرية أفعال العباد تنال من إرادة الله المطلقة وشمولها وتصيبها بالسهو والغفلة أو الضعف والوهن والعجز والتقصير، وهو تصور غير كامل للإرادة الإلهية، وكأن إرادة الإنسان أقوى من إرادة الله والمسير لها والمسبب لأحداثها،
9
وجعل القضية من الغالب ومن المغلوب في تحقيق مراد الإنسان أم الله. ليست القضية معركة بين الله والإنسان؛ من الغالب فيها ومن الذي يتم مراده دون الآخر؟ فليس شرفا لله أن يدخل في معركة مع الإنسان، كما أن علاقة الإنسان بالله ليست علاقة الخصم أو الند. إن دليل الممانعة جائز لأن المراد بين إلهين متكافئين على نفس المستوى؛ إما أن يكون بين الإنسان والله فتلك علاقة غير متكافئة على الإطلاق، ومن الطبيعي إذا ما صارع الأسد فأرا أو فيل نملة أن تكون الغلبة للأسد أو الفيل، أليست القضية أيضا إرهابا لفعل الإنسان باتهام الحرية بأنها تجهيل لله وتعجيز له؟ فالمتكلم أين يقف؟ وفي صف من؟ دفاعا عن سلطة الله المطلقة أم دفاعا عن حرية الإنسان؟ دفاعا عن القوي أم دفاعا عن الضعيف؟ تأييدا للقاهر أم تأييدا للمقهور؟ دفاعا عمن ليس في حاجة إلى دفاع أم دفاعا عمن هو في حاجة إلى دفاع؟ تأكيدا على من لا تحتاج إرادته إلى إثبات أم إثباتا لمن تحف بإرادته المخاطر؟ نصرة للقادر أم نصرة للعاجز؟ وكون الإرادة واحدة محيطة بجميع المرادات على وفق علمه بها، فما علم منه كونه أراد كونه خيرا كان أو شرا، وما علم أنه لا يكون أراد ألا يكون، ولا يحدث في العالم شيء لا يريده الله، ولا ينتفي ما يريد الله، لا يعني كل ذلك نفيا لحرية أفعال الإنسان إنما هو إرهاب، إرهاب الإنسان بالوحدانية القاهرة وبالإرادة الشاملة لسلب الإنسان حرية الاختيار وقدرته على السلوك المتعدد المتغير طبقا للظروف.
10
ولا معنى لكون إرادة الله إرادة عامة وشاملة لا يؤثر فيها ترتيب الأفعال أو الاختصاص. وأن ترتيب الأفعال واختصاصها بوقت دون وقت، ومكان دون مكان، وزمان دون زمان لا يدل على إرادة خارجية بل على حكمة في الطبيعة وعلى عقل إنساني مدبر وعلى خطة عقلية سليمة. وأن إثبات الإرادة على أنها اختيار أحد الاحتمالات من القدرة المطلقة لهو إسقاط من شعور الإنسان بذاته على التأليه المشخص، سقوط موضوع الاختيار على الله. وتصور الإرادة على أنها تخصيص للقدرة لهو تصور علاقة بين العام والخاص في التأليه المشخص، وهو العالم الشامل المطلق الذي لا اختصاص فيه. وتصور أن إرادة الإنسان تخصيص لإرادة لهو وضع الإرادتين معا؛ إرادة الله وإرادة الإنسان كطرفين متكافئين في علاقة متكافئة، وهو وإن كان شرفا للإنسان أن يكون طرفا لله، فإنه قد لا يكون كذلك بالنسبة إلى الله؛ وبالتالي ينتهي العدل إلى انتقاص للتوحيد. وقد ينشأ الجبر من أن إرادة الله المطلقة قد لا تعرف اختصاصا بالخير دون الشر، أو تفصيلا بين عام وخاص، وإيثارا للعام وترك الخاص لأفعال العباد نظرا لشمولها وعمومها وإطلاقها، وبالتالي تكون كالإرادة القاهرة، كالتيار الجارف الذي لا تقف أمامه إرادة أخرى. وإن عرفت الاختصاص فإنها تكون مشابهة للإرادة الإنسانية، وكأن إرادة الله تتحد بالنسبة لإرادة الإنسان، وبالتالي تكون إرادة الإنسان هي المحدد لإرادة الله عن طريق القلب.
11
والإرادة والمشيئة شيء واحد. فمن صفات الكمال نفاذ المشيئة. ونفاذ المشيئة يؤيد بإجماع السلف على قول «ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن!» والحقيقة أن نفاذ المشيئة للملك السلطان معارض أيضا بالثورة عليه وقلبه وعزله ومحاكمته وقتله. كما أن إجماع الأمة أقرب إلى إجماع في لحظة معينة، لحظة تسليم للسلطان، لحظة استسلام دون مقاومة، لحظة انكسار تاريخي وليس كل اللحظات. وهو أقرب إلى المثل الشعبي والقول المأثور، ولكنه ليس المثل الشعبي الوحيد. هناك أقوال مأثورة وأمثال شعبية تدعو إلى خلق الأفعال وإلى تحرر الإنسان وثورته على الظلم والطغيان. وما الهدف من إثبات عجز البشر وتأكيد عدم قدرتهم على الحركة، والقضاء على زمام المبادرة من أيديهم؟ لا مصلحة في ذلك إلا للسلطان. لذلك اعتمد على السلطة الدينية لتقرر له ما يريد ولتثبت له البناء النفسي الموروث للأمة منذ ألف عام أو يزيد. ليس المهم الحديث عن حق الله بل عن واقع البشر.
12
ليست المشيئة إرادة مشخصة لكائن مشخص، بل هي قوانين الطبيعة وقوانين التاريخ، أي أنها هي مسار الكون بعد أن يتحقق، والزمان بعد أن يصبح حوادث ووقائع وتاريخا. (1-2) إثبات الأسماء
نامعلوم صفحہ
ويتخذ الإيهام بالجبر الأسماء أيضا ذريعة، ويعتمد عليها للإيحاء بالجبر خاصة وأنها كلها أسماء متعالية تعطي الأولوية المطلقة للفعل الإلهي، مع أنها مجموعة القيم الإنسانية النظرية والعملية ومقاييس للحكم.
13
وأكثر الأسماء شيوعا للإيهام بالجبر هو الخالق. فالله خالق كل شيء في الكون بما في ذلك أفعال الإنسان. ومن هنا يأتي اسم «خلق الأفعال» بمعنى أن الله هو الخالق لأفعال الإنسان. فإذا كان الفعل يتم بالقدرة والداعي، أي بالطاقة والباعث، فإنهما يأتيان من الإنسان. فلا يعني كون الإنسان مخلوقا أنهما أيضا مخلوقان. خلق الله الإنسان، ولكن قدراته ودواعيه من نفسه كما أن الله خلق الطبيعة ولكن قوانينها وحركتها من ذاتها. هناك فرق بين الخلق المادي التكويني للشيء وخلق الفعل الحر من الخلق الأول. فليس الإنسان خالقا لبدنه ولا لقواه ولا لموقفه الاجتماعي ومع ذلك فهو خالق لفعله، مسئول عن نشاطه.
14
قد يكون الهدف من الخلط بين الاثنين هو القضاء على استقلال الإنسان، وإيهام له بالتبعية، وأن وجوده قائم على أساس من خارجه في حياته ورزقه وأفعاله، فتنتفي المسئولية ويقضى على المعارضة، وإعطاء الأولوية المطلقة للعلة الأولى، أي السلطة على العلل الثانية أي المعارضة. إن كون الله خالق الكون هو حق طبيعي له، ولكن ذلك لا يعني أنه خالق للأفعال كحق معنوي، وكونه خالق الإنسان الحر لا يعني أنه خالق الفعل الحر. هناك حرية داخل الكون، في الطبيعة، وفي نطاق الأفعال، في الإنسان، هناك قوانين مستقلة، كمون وطفرة وظهور. إن كون الله خالق الكون والإنسان لا يمنع الإنسان من أن يكون خالقا حرا، مؤثرا في الكون ومغيرا للنظم الاجتماعية والسياسية. بل إن ضرورة أفعال الإنسان الحرة هي إكمال لأفعال الخلق وإعادة لنظامه الطبيعي. إن الاستنباط العقلي لا يحكم على التجارب الحسية، والاستدلال الصوري لا يقضي على الواقع المشاهد. فكون الله خالق كل شيء لا ينتج منه استدلالا أنه بالتالي خلق الأفعال، وبالتالي فالإنسان ليس خالق أفعاله، وبالتالي فهو ليس حرا مسئولا، وبالتالي في حاجة إلى وحي وإرادة مطلقة فتأتي السلطة السياسية المطلقة وتقوم بالدور! إن الجبر إنكار لحرية الإنسان ولتجدد أفعاله، بل وإنكار للتغير والقرار الحر والصراع والتاريخ. إذا كان كل شيء محددا من قبل، فإنه لا فعل ولا تغير ولا تاريخ، وتكون حياة الإنسان وصراعاته وهما في وهم وخداعا في خداع. إن الابتهال والدعاء والسؤال لله لا تعني أن الإنسان ليس خالقا لأفعال الشعور الداخلية، بل هي أقرب إلى تقوية الذات وتحمية الشعور وعقد العزم وإلا وقعنا في فلسفة السؤال وفي موقف الشحاذة.
15
ولما كان خلق أفعال الشعور أسهل من خلق الأجسام فإنه ليس من كمال الله أن يكون قادرا على خلق الأضعف. وما دام الاستنباط واردا فإن كان الله قادرا على خلق الأجسام فإنه طبقا لقياس الأولى يكون قادرا على خلق الأفعال ويكون إثبات خلق الله للأفعال تحصيل حاصل بالنسبة للتوحيد، ويقضي على حرية الأفعال وعلى خلق الإنسان لأفعاله بالنسبة للعدل. ويكون الهدف هو توجيه التوحيد لتقويض العدل كأسس نظري عقائدي لتصدى السلطة للقضاء على المعارضة. صحيح أن حرية الأفعال تتحقق في موقف وفي مجموع من الإرادات الخارجية، تقابلها العقبات، وتتحداها القوى، ومع ذلك تظل أفعالا حرة للشعور، ثابتة وباقية، وما الإرادة الخارجية المطلقة الشاملة إلا اختصار لمجموع الإرادات المقابلة، والعقبات المواجهة، ومكونات الموقف الاجتماعي الذي تتخلق فيه أفعال الإنسان. أفعال الشعور الداخلية أفعال حرة حتى يمكن الحكم عليها وعلى مسئولية الإنسان عنها. والخطأ في تصور الإرادة العامة المطلقة والشاملة اعتبارها مشخصة لمريد مشخص وليس إحالة مختصرة إلى «الموقف الحياتي» الذي يتم منه خلق الإنسان لأفعاله. كما أنها تشير إلى أنه لا يوجد شيء لا يمكن تطويعه أو يند عن الإرادة حتى يدرك الإنسان العالم خاضعا للفعل وإمكانيات التغيير.
وقد ينشأ الإيهام بالجبر من تصور الله ملكا والإنسان مملوكا، ومن الطبيعي أن يكون من حق الملك التصرف في مماليكه! وهذا تصور مهين لله وللإنسان على السواء؛ فالله ليس ملكا فقط، بل هو عادل حكيم، ومن سمات الملك العدل والحكمة. وهما يقتضيان أن يكون الإنسان خالقا لأفعاله حتى تصح المسئولية ويقع الاستحقاق، الثواب والعقاب. وهل المتكلم مدافع عن حق المالك أم عن حق المملوك؟ هل هو مدافع عن حق الحاكم أم عن حق المحكوم؟ لذلك سهل على المتكلم في الدنيا أن ينصب نفسه مدافعا عن حق الملوك والأمراء والسلاطين مبررا لأفعال الحكام والخلفاء والرؤساء ما داموا أصحاب سلطة، وما داموا أولى الأمر؛ مما جعل البعض الآخر يدافع عن حقوق المحكومين والمظلومين والمضطهدين ويأخذون صف الشعوب المغلوبة على أمرها. يمثل تراث السلطة الإرادة المطلقة، ويمثل تراث المعارضة خلق الإنسان لأفعاله. ودخلت معارك التفسير والمذاهب والعقائد في أتون الصراعات الاجتماعية والسياسية.
16
ومن الأسماء التي توهم بالجبر أن الله كامل، وأن تصور أي فعل حر مستقل عنه هو نيل من كماله وكأن الكمال لا يثبت إلا على حساب حرية أفعال العباد. وهو قريب من تصور الله كملك والعالم كله كملك له. وكأن الكمال الإلهي لا يثبت إلا بنقص الإنسان وخراب العالم.
نامعلوم صفحہ
17
وما أسهل الانتقال من الله الملك إلى السلطان الملك ما دامت عقائد الناس قد انغرس فيها الملك وأصبح الملك تكوينا نفسيا لهم وبناء شعوريا يوجههم، وثقافة يومية تغذيهم. وقد تكون الصورة ليس فقط المالك أو الكامل بل السيد، بالرغم من أن السيد ليس من الأسماء. فالسيد إذن أراد أن يظهر على الحاضرين عصيان عبده يأمره بالشيء ولا يريده منه. وكأن الله محتال، وكأن الله خادع للعبد، موقع له في شر أعماله، يأمره بالشيء ولا يريده منه. فالشيء لا يكون مرادا ويؤمر به! والفعل لا يكون قصدا ثم يأتي مخالفا للقصد، وإلا انفصل النظر عن العمل. وإذا اختلفت الأفعال فإنما يرجع ذلك لاختلاف الأحكام وسلم القيم.
18
والقول بالإلجاء هو أقرب إلى الجبر منه إلى الاختيار. وهو في حقيقة الأمر حاجة جدلية للرد على الجبر في أنه إذا كان مريدا لكل الأفعال، فالأولى أن يريد الطاعات وأن يلجئ العباد إليها بدلا من أن يلجئهم إلى المعاصي ويعذبهم، وتنزيها لله عن الشر وفعل القبائح. فهي حجة جدلية صرفة وليست شهادة واقعية لإثبات أن الله لا يتدخل في إيمان العباد أو كفرهم وإلا لجعلهم جميعا مؤمنين. ونحن لا نتحدث إلا عن الأفعال في الدنيا وليس عن الأفعال في الآخرة التي لا نعلم عنها شيئا والتي لم نشاهدها ولم نعشها ولم نعرفها إلا بقياس الغائب على الشاهد. خلق الإيمان بالالجاء هو أيضا جبر وليس فعلا اختياريا. وإذا كان الهدف هو إثبات قدرة الله دون قدرة الإنسان فالأولى إثباتها مباشرة دون ما حاجة إلى الإلجاء. ولماذا اللف والدوران عن طريق الإنسان؟ وهل الله يتخذ الإنسان ذريعة أو خديعة؟
19 (1-3) حجج الجبر
ويعتمد الإيهام بالجبر على عديد من الحجج النقلية أكثر من اعتماده الحلول المتوسطة بين الجبر والاختيار وأكثر من اعتماد التجربة الواقعية لخلق الإنسان لأفعاله، وذلك لأن الجبر نظرية السلطة تستعملها لفرض نفسها وقبول الناس لها؛ ومن ثم تستعمل السلطة السياسية حجج السلطة الدينية حتى يكون الموضوع والمنهج من النوع نفسه. ولأنه يصعب الدفاع عن الجبر عقلا فإنه لا سبيل إلا الدفاع عنه نقلا. وحجة النقل باعتباره سلطة هي في الحقيقة اختيار لنقل أو إسقاط من الأهواء والمصالح على النقل وابتسار ما يتفق معها منه؛ ومن ثم لا يوجد نقل إلا ومعه نقل مضاد لأهواء ومصالح متعارضة. ويكون الخلاف في التفسير هو في حقيقة الأمر تعارضا بين المصالح. ولما كان في كل مجتمع سلطة ومعارضة، قاهر ومقهور، أغنياء وفقراء، علية ودهماء، أقلية مسيطرة وأغلبية مقهورة؛ ظهر النقل نقلين. كل فريق يبتسر من النقل ما يتفق معه في مجتمعه، النقل فيه حجة وسلطة وهو مصدر للشرعية والطاعة. وما أسهل اتهام كل فريق بسوء التأويل أو سوء الفهم للآيات واستعداء النصوص على المواقف الفكرية التي تعبر عن المواقف السياسية أي استعداء السلطة على الخصوم وخاصة أن السلطة السياسة هي الحارس للسلطة الدينية وأن سلطة الحاكم هي الحارس لسلطة الكتاب والمستمدة منه. والنصوص متشابهة خاصة فيما يتعلق بالمتشابهات تعبيرا عن هذا الموقف الاجتماعي المزدوج وإعطاء كل فريق حقه في النضال السياسي والاحتكام إلى السلطة الشرعية. فإذا ما أعطى في بعض النصوص المتشابهة الأولوية للفعل الإلهي على الفعل الإنساني فإنما يكون ذلك تأدبا وتأكيدا للحق النظري الشرعي لله. كما أنه يكون في سياق خاص تدعيما للمعارضة وتشجيعا لها وتقوية لحقها ورفعا لمعنوياتها حتى لا يقع الفعل الإنساني تحت منظور قصير فيصاب باليأس والتشاؤم والإحباط. فلا تخرج الآيات من سياقها، أي من «أسباب النزول». وقد نزلت أمثال هذه النصوص في مجتمع ديني في أول عهد الناس بالرسالة دفعا للإيمان، وتأكيدا للألوهية كعامل نصر فريد ليس له وجود عند الآخر في مرحلة الفتح وليس تدعيما لفريق ضد فريق داخل المجتمع الجديد، وليس نصرة للسلطة على حساب المعارضة بعد قيام الدولة.
20
كما يعتمد الإيهام بالجبر على شبهة لا تثبت الجبر بقدر ما تثبت حرية الإنسان وتعبيره عنها بأعمال العقل وقدرته على الفرض. وهي شبهة مستمدة من قصص وليس من حكم، وهي قصة إبليس في صراعه مع الله. فالعلم السابق بوقوع الحوادث لا يمنع من اختراق الحرية الإنسانية لهذا العلم وإيقاع الحوادث على نحو غيره إثباتا لحرية العقل، وإعلانا على أن العلم الإلهي المسبق ليس جبرا للأفعال أثناء تحققها، وعلى الفرق بين الحق النظري والأداء العملي. كما تشير القصة إلى أن الإنسان سيد الكون، وله تخضع كل المخلوقات لأنه هو الفاعل الحر، وغيره من الكائنات الطبيعية أو الإلهية لا حرية لها، بل يمتثل ويطيع دون اختيار آخر أو بديل، لا فرق في ذلك بين الأرض والسماء وكل الموجودات الطبيعية وبين الملائكة والجن والشياطين. كما تدل القصة على أن لكل فعل حكما، وأن كل حكم يتضمن جزاء، وأن إنكار سيادة إنسان على الكون حكم يتطلب جزاء. وتشير أخيرا إلى أن الإنسان بين عالمين، الإقدام والإحجام، التقدم والنكوص، الرفعة والذل، والحرية هي التي توجه الإنسان إلى هذين العالمين. الإنسان هو المتحدي، وحريته تظهر في المقاومة، مقاومة الإغراء، والنظر إلى ما هو أبعد، والتضحية، وعدم الاستسلام. القدرة واحدة، والإرادة واحدة سواء على الكفر أو على الإيمان. والمحك هو الاختيار القائم على العقل والرؤية والقصد.
21
وتكون الحرية داخلية صرفة، غير مرئية، حرية الإيمان وعدم الإيمان. وهذا لا يتأتى إلا من الوعي الخالص المستقل عن شوائبه المادية عن مصلحة، وغاية قصيرة، وصغائر. أفعال الشعور الداخلية إذن أفعال حرة بقدر ما هي مرتبطة بغايات الإنسان وأهدافه واتجاهاته. للإنسان السيطرة عليها بالعلم والإرادة والقدرة والحياة. قد لا تبدو فيها حرية الأفعال ظاهرة ولكنها أفعال حرة بتحليل التجارب الشعورية واستبطان أفعال الشعور. ولماذا يثبت قياس الغائب على الشاهد في الصفات وينفى في الأفعال؟ وإذا كان هذا المقياس أساس الفكر الديني كله بصرف النظر عن موضوعاته، التوحيد أم العدل، فلماذا يستعمل في التوحيد دون العدل؟ لماذا لا يكون الشاهد هو إثبات خلق الأفعال وبالتالي قياس الغائب عليها قلبا؟ ألا تثبت التجربة أن الإنسان صاحب أفعاله؟ ولماذا ابتسار التجربة الإنسانية وأخذ ما اتفق منها مع الموقف الديني السياسي المسبق الذي يعطي الأولوية للفعل الخارجي، لله أم للسلطان على الفعل الإنساني؟ إن التجارب المضادة لحرية الإنسان وخلقه لأفعاله لا تثبت الجبر، بل تبين إمكانات القدرة البشرية وحدودها وموانعها وعقباتها من أجل إظهارها وشحذها وإعادة النظر في طرق ممارستها، فهي معها لا ضدها، وجزء منها لا خارجا عنها.
نامعلوم صفحہ
22 (1-4) خطورة الجبر
إن الإيهام بالجبر لو نجح أن يتحول إلى عقيدة ليؤدي لا محالة إلى ضياع حرية الأفعال ، وبالتالي القضاء كلية على الإنسان وعلى أحد مظاهر وجوده. كما يؤدي إلى تدمير العالم كلية وهدم قوانينه الثابتة. وكيف يعيش الإنسان بلا إرادة وفي عالم لا يحكمه قانون، وكل شيء فيه خاضع لإرادة مطلقة ومشخصة لا يقوى أمامها شيء سواء قانون الاستحقاق أو قانون الطبيعة؟ كما يجعل الجبر الله مسئولا عن الشرور في العالم، وهو تناقض مع طبيعة الله الخيرة؛ إذ إنه يضيف القبائح إلى الله ويجعله مثل الشيطان مصدرا للشرور، وبالتالي يحال موضوع خلق الأفعال إلى موضوع تنزيه الله عن القبائح أي إلى الحسن والقبح العقليين وما يتعلق بهما من صلاح وأصلح وغائية وقصد. والأخطر من ذلك كله هو تحول الجبر الميتافيزيقي العام إلى عقيدة القضاء والقدرة الخاصة وأثرها في سلوك الأفراد والجماعات، وجعل الناس راضين بهما ومنعهم من القدرة على الحركة والتغير والثورة. ثم ترسخ العقيدة في وجدان الأمة وبالتالي تستمر مرحلة التخلف بكل مظاهره من طغيان داخلي وقهر خارجي وتبعية وانحياز وضياع لاستقلال الأمة وحريتها. ثم توجد أنظمة تسلطية تقوم بالدور نفسه وتتحد مصالحها مع السلطة الدينية فيصبح الجبر الدعامة النظرية للنظم القائمة وتستأصل المعارضة التي تروج لخلق الإنسان لأفعاله باعتبارها ضد الإرادة الإلهية وهي في الحقيقة ضد إرادة السلطان. وما أسهل أن يدافع الإنسان عن الله وحقه المطلق الثابت، ولكن ما أصعب الدفاع عن الإنسان وحقه المهضوم الضائع وعن حقوق الشعوب! ما أسهل الدفاع عن حرية أفعال الله التي لا نزاع فيها! وما أصعب الدفاع عن حرية أفعال الإنسان التي تنكرها كل النظم السياسية ويسقط دفاعا عنها المناضلون والشهداء! جبر الأفعال مزايدة على الله تكشف عن مناقصة في الإنسان. تأخذ بالطريق السهل وتترك الطريق الصعب، تدخل في معركة مكسوبة سلفا اعتمادا على سلطة الدولة وتترك المعركة القائمة بالفعل اعتمادا على حق الشعوب وعلى قوى المعارضة. إن إثبات قدرة الذات المشخصة وإثبات عظمتها بالنسبة لقدرة الإنسان هو إثبات الفيل للنملة أنه قادر على ما هي قادرة عليه. وذلك يقوم على الإيحاء بأن الفيل ليس فيلا بل مجرد وهم والنملة قادرة على الفعل ولا يمنعها الفيل من شيء. والحقيقة أن كل شيء لا يقاس بشيء آخر نسبة بل يقاس في ذاته. فالنملة في عالمها قادرة على السعي والدفاع وجلب الرزق والعمل المشترك. إن النملة قادرة كما تقص الحكايات الشعبية على قهر الفيل؛ فالقدرة الجسمية أحط أنواع القدرة إذا ما قيست بقدرات العقل والحيلة والذكاء. وقد تمكث النملة في أذن الفيل حتى يهج ويقع. وبالتالي ينتهي الجبر إلى عكس ما كان يرمي إليه وهو الدفاع عن التوحيد. فلا هو دافع عن التوحيد نظرا لإثباته أن الفيل أقدر على النملة، ولا هو حافظ على العدل أي على قدرة النملة على العيش والكسب والجد والجهد والدفاع.
الجبر مجرد مزايدة من العاجز عن الفعل وإسناد كل فعل إلى الله. وهو يكشف عن اغتراب الإنسان في العالم وأنه يسقط العالم من الحساب كميدان للفعل. وهو نفاق يحيل العجز قوة، وتعويض بجد في الغير هروبا من الذات، وهو في نهاية الأمر فكر سلطة بغيته تأييد السلطان ضد حقوق الشعوب وأصحاب الحقوق. (2) هل أفعال الشعور الداخلية أفعال جبرية حرة؟
وقد يخفف الجبر قليلا وتقترب أفعال الشعور الداخلية من الأفعال الحرة، وذلك بالتقليل من أسباب الجبر وبواعثه وفي مقدمتها العلم الإلهي المسبق عن طريق التمييز بين العلم الشامل والعلم التفصيلي. فالله يعلم كل المرادات على الجملة لا على التفصيل حيث تتفصل الوقائع وتتحقق كوقائع جزئية متفردة. ففي الجزئيات هناك مكان لحرية الأفعال وليس في الكليات. وعيب هذا الحل أنه يجعل العلم الإلهي منقوصا، ويجوز الجهل على الله، وهو ما ينكره المتكلمون على الفلاسفة واتهامهم لهم من إنكار لعلم الله بالجزئيات. كما أنه يجعل إرادة الله منقوصة بإخراج أفعال البشر من شمولها؛ ومن ثم لا مكان لنقد حرية أفعال العباد. ثم إن الإنسان يبدو حرا ولكن متخفيا متلصصا من تحت الإرادة أو من وراء العلم الإلهي وليس كحق من حقوقه؛ ومن ثم ينتهي هذا الحل بإقلاله من التوحيد والنيل منه وبعدم الوصول إلى العدل كحق إنساني.
23
ويمكن فهم نظرية الكسب أيضا على هذا النحو ولكن على مستوى الإرادة وليس على مستوى العلم؛ إذ يمكن الجمع بين الإرادتين على طريقة الجملة والتفصيل. الله مريد على الجملة والإنسان مريد على التفصيل، ولا تعارض بإخراج تفصيلاتها منها. كما أنه لا ينفي جبرية الأفعال لأن التفصيل ما زال في إطار الجملة أو يثبت حرية الأفعال؛ وبالتالي لا يمكن نقدها. كما أنه يقع في تصور كمي لعلاقة الجملة بالتفصيل وكأن القسمة قد أعطت الله أكثر مما أعطت الإنسان إرضاء لله والإنسان معا مع الاحتفاظ بنسبة الشرف، فالأكثر شرفا يحصل على نصيب أكبر من الأقل شرفا. ويبدو الإنسان أيضا متلصصا بإرادة من تحت الإرادة الإلهية أو من ورائها. وكيف لا يقع جزء من العلم الإلهي أو الإرادة الإلهية؟ وهل الأجزاء والتفصيلات إلا تعينات للكليات والعموميات؟ ألا يطعن غياب الجزء في شرعية الكل؟ ألا يكون الجزء أحيانا أقوى من الكل لأن الكل لا يبدو إلا في الأجزاء؟ فلا التوحيد قد تم الإبقاء عليه، ولا العدل قد تم الوصول إليه.
24
والتفرقة بين الإرادة والرضا أحد الحلول المتوسطة؛ فقد أراد الله ضلال من ضل وشاء كفر من كفر، ولكنه لا يرضى لعباده الكفر، فما أثبته الله غير ما نفاه ضرورة؛ أثبت الإرادة لكونه والمشيئة لوجوده ونفى الرضى به، وهما معنيان متغايران بنص القرآن وحكم اللغة. والسؤال الآن: هل التفرقة بين الرضا وبين الإرادة ممكنة؟ هل يجوز أن يرضى الله عن فعل لا يريده، أو يريد فعلا لا يرضى عنه؟ إن ذلك تخيل القسمة في الإرادة الإلهية قياسا على الإرادة الإنسانية وتنازع الإنسان بين باعثين. ففي الله هناك تجانس بين الإرادة والرضا؛ فالرضا تعبير عن الإرادة وليس مضادا لها، هذا التباين بين الإرادة والرضا يوقع في تصور منقوص للإرادة باستثناء الرضا منها، كما أنه يجعل الرضا فوق الإرادة مع أنه أحد مظاهرها. فإذا ما أراد الله الكفر ولكنه لا يرضاه فإن ذلك ينقل موضوع خلق الأفعال إلى موضوع الحسن والقبح العقليين وتظل الحاجة ماسة إلى تنزيه الله عن الشرور والقبائح. وإلا فكيف يمكن حل مشكلة ثم الوقوع في مشكلة أعظم؟
25
والعجيب في محاولات التوفيق جعل الأفعال الحسنة من الله والأفعال القبيحة من الإنسان! وكأن الله له الخير والإنسان له الشر «وتلك قسمة ضيزى». وهي نظرة ثنائية تجعل الفعل له فاعلان، فاعل للخير وفاعل للشر، تعطي الأول لله والثاني للإنسان، تجعل الله مسئولا عن نصف أفعال الإنسان والإنسان مسئولا عن نصف أفعال الله؛ فلا هي أعطت كل شيء لله حفاظا على التوحيد، ولا هي أعطت كل شيء للإنسان حفاظا على العدل؛ فضاع التوحيد والعدل معا. كما أنها تضع الإنسان على نفس المستوى مع الله في مسئولية كليهما عن الأفعال، وكأن الإنسان على نفس المستوى مع الله في مسئولية كليهما عن الأفعال، وكأن الإنسان شريك لله والله شريك للإنسان، وكأنهما قرينان، إما إقلالا لله نزولا حتى الإنسان أو إعلاء للإنسان صعودا حتى الله. وهي نظرة تقوم على التطهر، وتجعل أفضل قسم في الإنسان هو الله، وأسوأ قسم فيه هو الإنسان. وهي نظرة بطولية تجعل الإنسان مسئولا عن الشر وحده والله مسئولا عن الخير وحده، اتهاما للذات وتبرئة للغير؛ نظرة سوداوية تجعل الإنسان مسئولا عن القبح وكأنه لا يفعل إلا القبيح، تقوم على تعذيب الذات والتضحية في سبيل الغير، كما تقتضي بذلك علاقة الحبيب بالحبيب. ولكن النظرة الأكثر بطولية تجعل الإنسان مسئولا عن كل شيء، عن الخير والشر، والحسن والقبح، أما من حيث الله، والله لا يحتاج إلى إثبات بطولة، أو من حيث الإنسان، فالإنسان موجود من أجل البطولة في الاستخلاف.
نامعلوم صفحہ