ولم أكد أمضي في هذا الكتاب حتى أحسست كأن بيني وبين الحقائق سترا صفيقا، وكأن هذا الستر أخذ يرتفع شيئا فشيئا، ويظهر لي من ورائه عالم بديع غريب خلاب، وأخذت نفسي تمتلئ شوقا إلى هذا العالم وهياما به. أنفقت في قراءة هذا الكتاب أياما ثلاثة، فلما فرغت منها أنكرت نفسي وأنكرت ما حولي من الأشياء ومن حولي من الناس. ولقيني دروكلكسيس فلم يظهر عجبا ولا إنكارا.
وإذا كنت لا أزال حيا إلى الآن، وإذا كنت قد استطعت أن أنشر في الناس كتبا أعجبتهم، وأكتب لنفسي كتبا قرءوها، وإذا كان صوتي قد وصل إلى أقصى أطراف الأرض، وتنافس الملوك في عشرتي والاستئثار بي، أنا مدين بهذا كله لدروكلكسيس بن كراباك؛ ذلك أني خرجت من قراءة ذلك الكتاب مفتونا، أريد أن أعلن إلى الناس إيماني بهذا الدين الجديد، وأناضل عنه بما أملك من قوة. ولكنه حال بيني وبين ذلك، وكان يقول لي في هدوء: احذر أن يصيبك ما أصاب الحلاج فلا تنتفع بحياتك، ولا تنفع بها الناس، والحياة أغلى وأنفس من أن تبذل في غير نفع، فاكتم ما أنت فيه وأنفق حياتك في التسبيح والتقديس، وانفع الناس ما استطعت إلى نفعهم سبيلا.
من ذلك الوقت آثرت العزلة، وعشت هذه المعيشة التي كان الناس يعجبون من أمرها.
وفي الحق أن حياة ديكارت كانت غريبة، فقد كان ينفقها في موقد له لا يخرج منه إلا مضطرا، وكان يقسم وقته أربعة أقسام؛ أحدها لما يحتاج إليه جسمه من العناية المادية، وكان يقتصد في هذه العناية اقتصادا شديدا، لا يأخذ من الأكل والشرب والنوم إلا بما يمسك عليه الحياة، والثاني ينفقه في الكتابة والتأليف فيما ينفع الناس في هذه الحياة العاجلة، والثالث في التفكير الفلسفي والإشراقي، والرابع في التسبيح والتقديس وتلاوة صيغة معينة أخذها عن شيخه دروكلكسيس بن كراباك. وكان لترديده إياها تأثير عظيم في حياته العملية والعقلية، قال ديكارت:
بينا أنا في موقدي ذات يوم أردد ما تعودت ترديده من صيغ التسبيح والتقديس، إذ أخذتني غفوة، فرأيت فيما يرى النائم كأن سقف البيت قد انشق، وكأن طائرا قد هوى إلى الموقد، له شكل الهدهد، ولكنه أكبر منه حجما وأعرض منه جناحا، وكأن هذا الطائر قد وقف قبالة الموقد محدقا في، منصتا لما أقول، وكأنه قد أنكر صمتي ونومي، فقال في لغة لاتينية تبينتها في وضوح وجلاء: عجبا لهذا الصامت النائم والفلك يدور، وشيخه في خطر. فاستيقظت لهذا الصوت في شيء من الانزعاج، ونظرت فلم أر شيئا، ولكني أشفقت على دروكلكسيس وأردت أن أراه، فسعيت إليه من فوري ولم أكد أسأل عنه حتى حدثت أنه مريض، وأن الطبيب يخشى عليه. فأدخلت عليه، فإذا هو في سريره شاحب ضعيف يتردد نفسه قويا في صدر فارغ، فجثوت عند سريره، وأخذت أدعوه في رفق، وكأنه كان نائما فانتبه وقال: هأنذا قد أقبلت، لقد أرسلت أدعوك وكنت أخشى أن أفارق هذه الحياة قبل أن أراك، فهل جاءك رسولي؟ قلت: من رسولك؟ قال: بريبيش، قلت: هذا اسم لم أسمعه من قبل! قال: ولكنك رأيت مسماه منذ حين، هو طائر يشبه الهدهد ويتكلم لاتينية سيسرون، فاحفظ اسمه فسينفعك، وادعه كلما احتجت إلى شيء شاق، ومره بما شئت فستجد منه طاعة وإخلاصا ونصحا، واعلم أنه موكل بزعماء المتصوفة منذ كانوا، يقدمهم ويقضي حاجاتهم، لا يجد في ذلك مشقة ولا عسرا، وهو فوق العلة، وفوق الموت حتى تنقرض طائفة المتصوفة ويموت بعد آخرهم بقليل. خدم متصوفة الهند قبل المسيح بآلاف السنين، وأشرف على بناء الأهرام، وأملى ما كتب فيها من طلاسم، وأعان فيثاغورس، ورافق أفلاطون في سياحته، ولزم الحلاج وابن الفارض ومحيي الدين بن العربي، وسيلزمك منذ غد، وسيعينك على سياحات لا بد من أن تسيحها في الأرض، فأنت مضطر إلى زيارة البيئات الصوفية في بغداد والقاهرة وتلمسان وفارس، على أني مؤد إليك أمانة يتناقلها زعماء الصوفية ويتوارثونها وهي لهم نافعة، فخذها فأنت زعيم الصوفية بعدي.
ثم أخرج من تحت وسادته علبة صغيرة من الذهب، أشبه شيء بعلب النشوق التي يصطنعها الشيوخ في مصر، وقال: احتفظ بها ولا تفتحها إلا حين يطلب ذلك إليك صديقنا بريبيش، واحفظ عني هاتين الصيغتين تستقبل بأولاهما النهار وبآخرهما المساء ما حييت، ثم همس بالصيغتين في أذني على أنهما سر لا يباح إلا لزعيم. وما هي بعد ذلك إلا أن اضطرب جسمه اضطرابا شديدا ثم هدأ وقد فارقته الحياة، وإذا بريبيش قد ظهر في الغرفة، وقال في هدوء: انصرف فقد مضى صاحبك، ودع هذا الجسم لأهله فليس لك به شأن، فخرجت.
وهنا يصف ديكارت حزنه على صاحبه في عبارات مؤثرة حقا، ولكن صحف «السياسة» محدودة، فلأدع حزن ديكارت، ولأتم ما أنا فيه من ذكر حياته الغريبة.
أصبح ديكارت بعد انصرافه من عند صاحبه، فاستقبل النهار بالصيغة التي أداها إليه دروكلكسيس. وما كاد يستقر في موقده حتى جاءه بريبيش، فقال: ما أنت وهذا الموقد، وما أنت والكتابة والتفكير؟ هلم إلى سياحتك. قال ديكارت لبريبيش: ولكني لم أعدد لهذه السياحة شيئا، فدعني أدبر أمري. قال بريبيش: ومتى دبر الصوفية لأنفسهم أمرا! قم فانطلق معي. ومضى في الجو قريبا من الأرض يسايره فيلسوفنا حتى خرجا من المدينة، وإذا جرة ضخمة من الفخار قد نقشت عليها نقوش وتصاوير لم ير مثلها ديكارت. قال بريبيش: امتط هذه الجرة وردد صيغة المساء مرات، ففعل، وإذا الجرة تصعد به في الجو حتى أشفق على نفسه، ولكن الجرة ماضية، ماضية في الجو لا تلوي على شيء، والطائر مواز لها يمضي في رفق ويتلو في إعجاب خطبة من خطب سيسرون التي ألقاها في مجلس الشيوخ الروماني يعنف بها كاتيلينا، وهو يحلل هذه الخطبة ويظهر للفيلسوف ما فيها من آيات البلاغة. ومضيا على هذا النحو ساعات، وإذا بريبيش يقول لصاحبه: انظر إلى الأرض، فينظر فلا يرى إلا أمواجا تلتطم وتصطخب، فيسأل صاحبه: أين نحن؟ فيجيبه: نحن نعبر البحر إلى الإسكندرية.
وانتصف النهار، أحس فيلسوفنا الجوع والظمأ، فيسأل الطائر : من لنا بطعام وشراب؟ قال بريبيش: والعلبة التي أهداها إليك أمس دروكلكسيس أين هي؟ هي معي. إذن فأخرجها وافتحها، فيخرج العلبة ويفتحها فلا يروعه إلا فتاة ظريفة قد خرجت منها مبتسمة محيية مصفقة، وإذا فتيان وفتيات قد أقبلوا إليها من الجو مسرعين، وإذا هي تأمرهم بلغة لا يفهمها ديكارت فيسائل صاحبه ما هذه اللغة؟ فيجيبه: هي اللغة السريانية التي لا بد لك من أن تتعلمها بعد حين. وما هي إلا لحظات حتى وقفت الجرة في الجو لا تتقدم ولا تتأخر، ونصبت أمامها في الجو مائدة فخمة صفت عليها الصحاف والأكواب من الذهب والفضة، وقدمت عليها ألوان من الطعام لا عهد لديكارت بلذتها وحسن مذاقها في الفم وموقعها في المعدة، فأكل الفيلسوف وشرب، ومن حوله الطير تصدح بأنغام لذيذة حلوة، حتى إذا تم له من ذلك ما اشتهى رفعت المائدة، واستخفى كل شيء، وأقبلت الفتاة السريانية مبتسمة قائلة في ظرف وخفة: والآن فأدخلني علبتي، فيفتح لها الفيلسوف العلبة فتستخفي فيها، وتستأنف الجرة سيرها في الجو. ويأخذ بريبيش في قراءة لخطبة التاج التي ألقاها ديموستين على الأتينيين محللا مستنبطا أسرار البلاغة اليونانية، فإذا سأله ديكارت عن حبه اللاتينية واليونانية، قال: أنا موكل بالأدب أحبه وأنفق فيه حياتي، ولست أؤثر أدبا على أدب، وإنما أحيط بالآداب كلها. وأنت تعلم أن الأديب يجب أن يلم من كل شيء بطرف، قال ذلك أدباء العرب وسيقوله في آخر الزمان منهم رجل يقال له الشيخ علام، وإذا كنت قد تلوت عليك خطبة سيسرون وخطبة ديموستين، فذاك لأنك تعرف اللغة اللاتينية واليونانية، وسأتلو عليك غدا قصيدة عربية وضعها رجل يقال له خلف الأحمر، ونسبها إلى شاعر يقال له النابغة الذبياني، وهي قصيدة جيدة لا يشك سامعها في أنها قديمة، وقد استشهد النحاة بشيء كثير منها على قواعد النحو العربي.
قال ديكارت: وأي فائدة في تلاوة هذه القصيدة أو غيرها من الشعر العربي، وأنا أجهل لغة الحلاج، ولا أستطيع أن أقرأ هذا الكتاب القيم كتاب الطواسين إلا في هذه الترجمة اللاتينية التي نشرت في القرن الثالث عشر، والتي أرجح أنها لا تخلو من خطأ.
نامعلوم صفحہ