ولا بد من أن تنظم وترتب وتتخذ لها الفهارس والأثبات، ولست أنسى محاضرة ألقتها علينا في دار المحفوظات فتاة بلجيكية هي القائمة بالقسم العلمي من إدارة هذه النماذج، ولست أنسى مناقشة كانت بينها وبين عالم فرنسي في نظام «الفيش» الذي يجب أن يتخذ لهذه النماذج. لا أنسى هذه الفتاة ، ولا أنسى محاضرتها ولا مناقشتها، وأتمنى على الله أن أجد بين فتياتنا، بل بين كهولنا، من يستطيع أن يقوم في دار المحفوظات المصرية أو في دار الكتب المصرية مقام هذه الفتاة البلجيكية.
تفرقنا بعد الظهر فاخترت الذهاب إلى «واترلو»، ولكن لا أستطيع أن أذكر لك من أمرها شيئا. فقد تغيرت فيها المعالم، ومحيت فيها آثار هذا اليوم العظيم الذي اندك فيه عرش نابليون، وكل ما هو قائم فيها الآن صناعي متكلف إلا القليل.
ولكني لاحظت شيئا له قيمته في هذه الأيام، وهو أن الذين ذهبوا إلى واترلو كانوا جميعا من الإنجليز، ولم يكن منهم فرنسي واحد إلا زوجي. أما الفرنسيون فتفرقوا إلى الجهات الأخرى حول بروكسل.
ثم اجتمعنا يوم الأحد في الجلسة الأخيرة للمؤتمر فاتخذت قرارات مختلفة، أهمها هذا القرار الذي أتمنى ألا تهمله مصر، وهو تأليف جمعية تاريخية دولية دائمة تشترك فيها الأمم على اختلافها إلا ألمانيا طبعا. اتخذ هذا القرار وظل مجلس إدارة المؤتمر باقيا بعد انحلال المؤتمر لوضع نظام هذه الجمعية. فهل تتصل بها مصر؟ وهل تقوم بما عليها، وبما لها من الحق في خدمة التاريخ ونشر التاريخ؟
الكلمة في ذلك إلى وزارة المعارف.
باريس في 10 مايو سنة 1923
القسم الثالث: خواطر سائح
(1) في الطريق
كانت السفينة تجري في بحر هادئ مطمئن، وكانت نفوس السفر هادئة مطمئنة أيضا، وكان قد شمل السفينة ومن فيها شيء من الدعة والأمن لا يكاد يوصف، كأنما اشترك في تكوينه هدوء البحر وجماله، وصفو السماء وإشراقها، ونزوع المسافرين جميعا إلى هذا الأمل الذي كانوا يترقبونه منذ حين، والذي هم مشرفون عليه الآن، وهو الراحة بعد تعب والهدوء بعد اضطراب، وكنت أشد الناس اطمئنانا وأكثرهم دعة وأعظمهم اغتباطا بالحياة، أفكر فيما تركت من ألم، وأتمثل ما أستقبل من لذة، وأعبث من حين إلى حين مع هذين الطفلين المبتسمين اللذين لا يعرفان من الحياة إلا صفوا وابتهاجا.
كنت أقص على ابنتي ألوانا من أحاديث «هوميروس» في «الأودسا» فأجد منها ابتهاجا للقصص واستعذابا للحديث، فأمضي في القصص والحديث ، وتغرق هي في اللذة والابتهاج، ثم تسألني أحق هذا الحديث أم أنت تمزح؟ فلا أجد لهذا السؤال جوابا. لست أمزح وإنما أقص شيئا قرأته وابتهجت له، وقرأته الأجيال من قبلي وابتهجت له، وسمعته أجيال قبل هذه الأجيال فابتهجت له وآمنت به واتخذته يقينا، بل اتخذته دينا. وهل كان يخطر لأحد من أولئك اليونان الذين كانوا يستمعون لأقاصيص الأودسا وأعاجيبها أن يسأل المنشد: أحق هذا الحديث أم أنت تمزح؟ كلا! لقد كان هؤلاء الناس يؤمنون بأعاجيب الأودسا وأساطيرها كما تؤمن أنت وأنا بالبخار والكهرباء، وكانوا يتخذون من أحاديث الأودسا وأعاجيبها مقاييس للخير والشر ونماذج ينظمون عليها حياتهم الخاصة والعامة كما نبحث نحن عن هذه المقاييس والنماذج في علم الأخلاق والاجتماع الآن.
نامعلوم صفحہ