والحوار بين الرجلين طريف ممتع حقا، فهو يصور حزن الشيخ على شبابه وخوفه من أن تعلم ابنته، وخوفه أيضا من أن يقتدي صهره به وبأبيه فيخون ابنته، ويحيا حياتين. وصهره متأثر بهذا لا يبديه، ولكننا نحس ذلك منه، فهو ضيق بحياته من المصنع إلى البيت ومن البيت إلى المصنع. ولكن ماذا؟ هذان زائران قد أقبلا ولا يكادان يدخلان حتى يبهت جان ويكاد يفقد رشده؛ لأنه يرى صاحبته روبرت التي فارقها في الفصل الأول. كان قد نسيها نسيانا تاما، وقدر أن أمواج الحياة قد ذهبت بها غير مذهب، ورمتها إلى هذه المواطن التي تذهب فيها أمثالها من فتيات المجون، ولكنه ينظر فإذا هي أمامه قد اقترنت بهذا الرجل الغني، وأصبحت سيدة لها مكانتها الاجتماعية العليا، وهي محتفظة بجمالها وحزمها ورشاقتها، وهو مضطرب النفس مستعد أشد الاستعداد ليتأثر بما يطرأ عليه من الطوارئ. وهو لا يملك نفسه إلا بعد جهد، وقد أخذ الرجال يتحدثون في الصناعة والمال، وخلا الشيخ إلى الزائر ليتم حديثهما في هدوء. واحتال جان واحتالت معه الظروف، حتى صرف امرأته إلى بعض العمل وخلا إلى صاحبته، فتذاكرا ثم تحدثا، ثم طال الحديث، ثم انتهى بعد الحوار والمقاومة إلى استئناف الحب وإلى الاتفاق على اللقاء إذا كان الغد.
ثم لا يمضي أسبوع واحد حتى يكون الحب قد خطا خطوات بعيدة، فذهب بعقل العاشقين جميعا ودفعهما إلى شيء يشبه الجنون أو هو الجنون، فقد أزمعا أن يفرا بحبهما وأن يتركا زوجيهما وأن يقضيا أياما في مدينة ديب حيث ابتدأ حبهما، حبهما القديم، ثم يكون الرحيل بعد ذلك إلى إيطاليا.
ويرفع الستار لنا عنهما في غرفة من غرف الفندق في ديب قد قضيا فيها الليل وهما يستقبلان النهار. ولست أعرف فصلا أبدع ولا أقوم من هذا الفصل في سذاجته ودقته وصدق ملاحظته وتأثيره المؤلم في النفوس. فهذه سكرات الحب تنجلي عنهما قليلا قليلا وتنجلي في أيسر الأشياء وأبعدها عن التكلف. لقد قضيا أعواما طوالا لا يلتقيان، فتغير كل واحد منهما واكتسبا عادات وأخلاقا لا يعرفها صاحبه، وتغير كل واحد منهما في شكله وفي تكوين جسمه، فالأعوام لا تمضي عبثا واللقاء يخدعنا أحيانا، ولكن الحياة القريبة والاختلاط المداخل يكشفان لنا ما يخفيه التكلف من آثار الحياة في الأخلاق والأجسام جميعا.
وهما يستكشفان ما بينهما من الفروق قليلا قليلا، وقد استكشفا بعضها أثناء الليل، وقد أخذ النهار يكشف لهما عما بقي منها. هذه العادات التي اكتسبها جان من عمله في المصنع، والتي تحمله على أن يحسب ويدقق في الحساب ويقيد كل ما يتفق، وهذه العادات التي اكتسبها من حياة البيت فإذا هو يحب النظام ويكلف به ويريد أن يكون لكل شيء موضعه ووقته، وهذه المعلومات التي اكتسبتها روبرت وكانت تجهلها، وهذه البلاد التي رأتها روبرت وكانت تتوق إلى رؤيتها. وانظر إليه يريد أن يحمل صاحبته بين ذراعيه، فيبلغ من ذلك ما يريد، ولكن التعب يظهر عليه وإن حاول إخفاءه، وهي تلفته إلى أن وزنها قد زاد مع تقدم السن. ثم انظر إليه وهو يطلب إليها مثل ما كان يطلب إلى زوجه من إصلاح أزراره. ثم انظر إليه وقد جلس وأخذ ينظر في صحيفة ثم يتجه إلى صاحبته فيناديها باسم زوجه لينبئها بأن الوزارة قد استقالت.
وقد كذب كل منهما على صاحبه، فزعم أنه ترك لزوجه النبأ بأنه مسافر إلى غير رجعة، وهما يخدعان أنفسهما يريد كل منهما أن يثبت لنفسه ولصاحبه أنه قد استأنف الحب واسترد الشباب وانصرف في سبيل ذلك عن كل ما ألف وعن كل من ألف. وهذه روبرت تنصرف عن صاحبها لحظة، وإذا الباب يطرق، وإذا داخل يدخل، فيا لها من مصادفة! إنه روجيه صديق جان الذي رأيناه في الفصل الأول يتحدث عن مستقبله في التمثيل وفي المجمع اللغوي، وهو الآن يتحدث إلى صاحبه عن حياته التي يحياها، فهو مقيم في هذه المدينة يعمل في التجارة ويفيد منها ربحا عظيما، وقد انصرف عن الأدب ولم ينتج فيه شيئا، وقد تبين أنه لم يكن قد خلق للأدب وإنما خلق للتجارة وللتجارة وحدها. وتقبل روبرت فإذا رآها روجيه ضاق بلقائها؛ لأنه يعلم أن صاحبه قد خرج عن المألوف وأقدم على إثم خطير. وقد كان دعا صاحبه إلى أن يتناول الغداء معه ومع امرأته، فلما عرف من أمره ما عرف ندم على ما قدم من الدعوة. ولا يكاد يخلو إلى صاحبه حتى يعتذر لأنه لا يستطيع أن يقدم إلى امرأته خليلة لصاحبه.
وهنا يظهر الخلاف العنيف بين هذين الرجلين: أحدهما قد أذعن للحياة وخضع لقوانينها راضيا قانعا لا ثائرا ولا ساخطا، والآخر قد أذعن ثم ثار ورضي ثم سخط. وهما يختصمان في ذلك والهوة لا تزداد بينهما إلا اتساعا، ثم يفترقان على أن يلتقيا إن أذنت بذلك الظروف. وتقبل روبرت تتكلف الرضى والحب، ويتكلف لها صاحبها مثل ذلك، ولكنهما لا يستطيعان البقاء في هذه المدينة؛ فهما ينكران جوها المظلم وما ينهمر فيها من المطر، وهما يريدان أن يبحثا عن القطار الذي يرحلان به عن هذه المدينة، ولكن إلام ينتهيان من هذا البحث؟ إلى القطار الذي يعود بهما إلى باريس. فأما الرحلة الطويلة إلى إيطاليا وإلى غير إيطاليا، فقد كانت حلما لذيذا ولكنه ذهب مع الليل. وهما يعترفان بهذه الحقيقة محزونين أشد الحزن، ولكنهما مذعنان أشد الإذعان. وهما يعترفان بأنهما لم يتركا الأنباء بفرارهما، وإنما كتب كل منهما كتابا، ثم لم يستطع أن يتركه فحفظه معه، ثم هي تعترف بأنها خرجت منذ حين فأبرقت إلى زوجها بأنها عائدة في أول قطار بعد أن زارت صديقة لها في ديب. أما هو فقد يستطيع أن يتأخر يوما وأن يزعم لامرأته أنه أقبل لبعض أعمال الصناعة والتجارة، ثم هما يتعانقان، ثم هما يفترقان وقد ودع كل منهما في صاحبه شبابه الذي لا سبيل إلى أن يعود.
سميراميس
للكاتب الفرنسي بول فاليري
ولعل الوصف الصحيح لهذا الأثر هو ما ذهب إليه بول فاليري نفسه حين وصفه بأنه تمثيل غنائي. فليس هذا الأثر قصة تمثيلية بالمعنى الدقيق المعروف لهذه الكلمة، بل ليس هو تمثيلا غنائيا إذا أطلقت هاتين الكلمتين على معناهما المألوف، وإنما هو فن جديد تصوره بول فاليري منذ حين وحاول تحقيقه مرتين؛ إحداهما منذ أعوام حين قدم إلى الأوبرا في باريس قصته المعروفة ب «آنفيون»
Amphyon ، والأخرى في هذا العام حين قدم إلى الأوبرا هذه الصورة الجميلة التي تخيلها لأسطورة سميراميس.
نامعلوم صفحہ