ويزيد الأمر تحرجا أن جماعة من الأمريكيين الأغنياء قد أقبلوا يستشفون، وهم الآن يسعون إلى الطبيب. أفتراه يقرهم على أنهم مرضى، أم تراه يزعم لهم أنهم أصحاء؟ وقلوب القوم واجبة ووجوههم واجمة، ونفوسهم في قلق لا يطاق، وهم ينتظرون أنباء الفحص الطبي. وهذه امرأة الرئيس عجوز فانية قد ذهبت إلى الكنيسة تتوسل إلى الله في أن يحفظ الفندق والكازينو ويحميها من الخسران. وهذه الممرضة مقبلة فتتعلق بها أيضا أبصار القوم وقلوبهم ونفوسهم؛ لأنها تحمل إليهم رأي الطبيب في هؤلاء المرضى الأمريكيين.
يا له من رأي! هذه الوجوه تشرق، وهذه الثغور تبتسم، وهذه الألسنة تنطلق، وهذه العجوز تحمد الله؛ فقد استجاب دعاءها وحمى الفندق والكازينو من الخسران ... فقد قرر الطبيب أن هؤلاء الأمريكيين مرضى حقا، وأنهم يحتاجون إلى علاج دقيق طويل.
فوز الطب
للكاتب الفرنسي جول رومان
أظن أن المثقفين المصريين لم ينسوا بعد هذا الكاتب الفرنسي العظيم الذي زارنا في مثل هذه الأيام من الشتاء الماضي، وألقى في الإسكندرية والقاهرة محاضرات قيمة أثارت كثيرا من التفكير وشيئا من الحديث، والذي سبقته إلينا كتبه الكثيرة المتنوعة التي يمس بعضها القصص ويمس بعضها التمثيل ويمس بعضها البحث عن حل بعض المشكلات الاجتماعية والسياسية منذ شبت الحرب، سواء من هذه المشكلات ما يتصل بأوروبا وأمريكا، وما يتصل بأوروبا وحدها، أو ما يتصل بالحياة الفرنسية وما ثار فيها من الأزمات بعد الحرب الكبرى. وكل هذه الكتب التي سبقت إلينا مسيو جول رومان، أو وصلت إلينا بعد ارتحاله عنا، قيمة ممتعة إلى أقصى حدود الإمتاع. ليست من هذه الكتب التي تقرأ لإنفاق الوقت أو الترفيه على النفس، وإنما هي من هذه الكتب النادرة التي تجمع لقارئها بين الراحة واللذة والمتاع والانتفاع في وقت واحد.
وتمثيل جول رومان خصب ممتاز حقا، فهو مريح وهو مضحك، وهو في الوقت نفسه درس لمسألة من أهم المسائل التي تشغل الناس في وقت من الأوقات، أو نقد للون من ألوان الحياة قلما يحفل به الناس على حين أنه جدير بالعناية خليق بالبحث والتفكير. وقد يقصد جول رومان في قصته إلى أن يلقي إليك رأيا من آرائه أو يدعوك إلى مذهب من مذاهبه أو يحملك على نحو من أنحاء التفكير. وقد يقصد إلى أن يثير في نفسك الخواطر ويوجه عنايتك إلى المسألة التي تشغله دون أن يلقي برأي معين أو مذهب خاص، وإنما يكفيه أن يخلق في نفسك العناية ويثير فيها الاهتمام، وهو موفق من ذلك إلى كل ما يريد أحسن توفيق. وإذا اتصل الحديث بينك وبيني في القصص التمثيلي، فإني أرجو أن أتحدث إليك عن غير قصة من قصص جول رومان التمثيلية، فهي كلها خليقة بالحديث والتحليل.
أما اليوم فإني أريد أن أحدثك عن هذه القصة التي داعب فيها الأطباء منذ أعوام فأضحك بها الفرنسيين بل الأوروبيين وما زال يضحكهم إلى الآن، واضطر بها الفرنسيين إلى أن يذكروا موليير وإن لم ينسوه، وهل من سبيل إلى نسيان موليير؟! ولكن كاتبنا العظيم على كل حال قد اضطر الفرنسيين وغير الفرنسيين إلى أن يذكروا موليير كلما قرءوا هذه القصة وأمثالها من قصصه. فالصلة قريبة جدا بينه وبين أرستوفان الفرنسيين.
وأظنك لم تنس بعد تلك القصة التي حدثتك عنها في الأسبوع الماضي «مدرسة المشعوذين»، فظهورها كان نتيجة لظهور هذه القصة التي أتحدث عنها اليوم كما قلت، وهي إلى أن تكون ردا على جول رومان أقرب منها إلى أي شيء آخر. وأنت تذكر من غير شك أن تلك القصة كانت تصور تعلق الأصحاء بالمرض، وإلحاحهم في أن يكونوا مرضى، ومحاولتهم إكراه الأطباء على أن يعترفوا لهم بالمرض ويعالجوهم ليستنقذوهم منه وإن لم يكونوا منه في قليل ولا كثير، ومقاومة الأطباء لهذا الوهم المطبوع أو المصنوع إيثارا للطب ورفعا له عن أن ينحط إلى الشعوذة والخداع.
فهذه القصة التي أتحدث عنها اليوم تصور عكس هذا الرأي؛ تصور الطبيب الذي يريد أن يكره الناس على أن يكونوا مرضى، وأن يقنعهم بأن صحتهم وهم من الأوهام، وغرور يخدعون به أنفسهم، وجهل يدفعون إليه دفعا ويتورطون فيه لأنهم غافلون عن أصول الطب، فهم يجهلون مكان هذه العلل الفتاكة التي تكمن لهم في الطعام الذي يأكلونه وفي الماء الذي يشربونه وفي الهواء الذي يتنفسونه، وفي كل شيء يمسهم من قريب أو من بعيد. والناس يقاومون هذا الطبيب كما كان ذلك الطبيب يقاوم أولئك الناس في قصة الأسبوع الماضي، ولكن طبيب جول رومان يقهر الناس قهرا ويخضعهم لسلطان الطب إخضاعا.
وهو يمضي في هذا الجهاد لإعلاء كلمة الطب متكلفا منصفا مشعوذا أول الأمر، ولكنه لا يلبث أن يقنع نفسه، أو يخيل إلينا أنه قد أقنع نفسه، بأنه مجاهد صادق مخلص في جهاده، لا يبتغي إلا حماية الطب ورفع شأنه وبسط سلطانه على الناس. والغريب من أمره، أو من أمر جول رومان، أنه يحملك على أن تساير الطبيب، وعلى أن تتأثر بحاله النفسية الخاصة، فالطبيب في أول القصة غير مقتنع، بل هو متكلف متصنع يظهر من أمره أنه يعبث بالطب ويعبث بالناس، وأنت كذلك تشعر بهذا الشعور شعورا واضحا، وتمقت هذا الطبيب وتضحك منه وتعرف فيه الشعوذة وتنكره لذلك وتسخر منه. ولكن امض معه في القصة فسيتغير رأيك فيه شيئا فشيئا؛ لأن رأيه في نفسه أو موقفه من نفسه سيتغير شيئا فشيئا. وليس في هذا شيء من الغرابة، فأنت ممثل في القصة نفسها، يمثلك هذا الطبيب النزيه في الطب الذي لا يفرض المرض على الناس فرضا ولا يكلفهم من العلاج والعناية بأنفسهم ما لا يحبون، والذي يكره الشعوذة أشد الكره ويسخر منها أشد السخر، ولكنه مع ذلك ينتهي إلى أن يقف منها موقفا مريبا، وإلى أن يتأثر بها إلى حد ما، ثم إلى أن يخضع لها خضوعا ويذعن لها إذعانا.
نامعلوم صفحہ