غير أن نساء القرية ما زلن حتى اليوم يشددن على أولادهن ألا يتوغلوا في البربيصة إذا ما ذهبوا لنزهة أو للعب، ويضرعن إلى شبابهن ورجالهن أن يجتنبوا المرور ليلا في تلك البقعة الملعونة. ومن يدري، لعل بعض الجن ما يزالون يحنون إلى هذا الوطن فيعودوا أو يعود منهم واحد إليه ساعة التخلي، أليس أن الأب يعقوب شاهد من زمن غير بعيد في محل من هنالك جنية ملتهبة الرأس تقيم في جب من السنديان فهزأت منه، وكادت تخرجه عن رصانته لولا أنه استعان عليها بالصليب؟
والجبل في مقابل البربيصة ينبثق من الضفة الثانية على شكل حائط جبار، كأن أيدي الجن قد رفعته من حجر واحد، وحفرت في وسطه مغارة توصل إليها طريق ضيقة منحوتة في الصخر يكاد لا يحسن سلوكها إلا من يقلد الجن مشيا وخفة.
في تلك المغارة المتسربة بعيدا تحت الأرض من ناحية الشرق كان يجلس الشاعر، يرتل قصائده ويسبح بعد أن تستحم نفسه بالجمال المتدفق من روعة الأساطير ومن رهبة المكان.
وفيما هو يردد يوما قصيدة له تتغنى بنور لا يغيب، أجمل وأروع وأبقى من جميع أنوار لبنان في إصباحه وعشاياه، إذا في مدخل النفق من المغارة شخص تقوم جثته على ساقين قصيرتين من فوقهما بطن ضخم يكاد أن يكون مستقلا بذاته منفصلا عن الجسم، وتتصل بمنكبيه ذراعان قصيرتان في طرف كل واحدة منهما يد سميكة مجزوءة الأنامل تستريحان على سطح البطن، وتحمل هذه الجثة الشوهاء رأسا كبيرا أقفرت ناصيته من الشعر، فظهرت الصلعة حمراء كأن نارا قد لوحتها، له عينان يقدح منهما لمعان أسود، وتسترسل من تحت الخدين الناتئين لحية اختلط أسودها بأبيض وسخ، قال القادم: أنا الشيطان.
فتذكر الشاعر الأب يعقوب، ثم فكر أن يصمد لهذا اللعين: وأنا إنسان من هذه المحلة أحب الجمال وأحب ... - لا تتعب نفسك! أنا أعرفك جيدا وأعرف أباك وجدك وجد جدك، قوم طيبون، ولكنكم فقراء، لم يخلف لك أهلك غير اسم عريض، ولكنك تفضل آباءك في أشياء كثيرة.
وانفرجت شفتا الشيطان عن ابتسامة ساخرة: - أنا مسرور منك، لقد رأيتك من زمن تحت، في منعطف الوادي عند الجسر مع صبية حسناء، ما أجملها! ما أجملها! أي وحقي، أنا مسرور منك، ورأيتك مرة في ليلة قمراء على سطح يشرف على البحر، لقد كنت قبالتكم في الماء، وكنت أنت ترقص في لباس أسود أكيس ما صنع الإنكليز، إنك تحب النساء وتحب الترف، فأنا مسرور منك، ولقد فكرت أن أعينك على أمرك شرط ... - شرط ماذا؟ - شرط شيء بسيط، شرط أن تساعدني أنت، سمعتك منذ هنيهة تتغنى بنور لا يغيب، أروع وأبقى من أي نور، وإنك لتحس خصله تشع في أعماق كيانك، فأنت من أجل ذلك إنسان، والذين يشعرون بتألق هذا النور يرتفعون ويرتفعون إلى أبعد من هذه النجوم ... فاسمح أن أمد يدي إلى قلبك، وأن أتلمس خصلة واحدة منه، وأنا أعطيك بعدئذ ما تشاء، إن بوسعي أن أعطيك ما تشاء ... لقد كنت أعرف هذا النور، بل كنت أنا نورا ثم أضعته، وأنا منذ ذلك الحين أفتش وأفتش فلا أراه، يمر أمامي فلا أراه، وأحس أنه في قلبك، في قلب الإنسان الحق، ولا أراه. - مع أن كثيرا من الناس، بل أمما منهم تجندوا لك ووهبوك أنفسهم. - نعم، ولكنهم ما كانوا يتجندون لي ولا يدخلون في عداد جيوشي إلا لأن ليس عندهم شيء من هذا النور، فهم أعرق في الشيطنة مني، لا لذة لهم إلا في أن يعذب بعضهم بعضا، أفلا تسمع بما يحدث اليوم في أوروبا والشرق البعيد؟ أنا مرتاح، مرتاح جدا، فهؤلاء الأقوام قد فقدوا النور، وها هم يتخيلون في سبيل التنكيل بعضهم بالبعض الآخر ما لم يخطر لي ببال بعد أن مرغوا إنسانيتهم في الوحول؛ لذلك تراني مغتبطا، ولكن لذتي هذه إنما هي لذة سلبية لا تروي عطشي، فإذا رضيت أنت أن أمد يدي إلى قرارتك وأنتزع منها خصلة واحدة من ذلك النور، أغدقت إليك النعم. - إذن فأنت تقترح أن تعطيني ماذا؟ - ما تشاء من النساء، ملكات، وأميرات، وقرويات، انظر ...
ونظر الشاعر إلى الطريق المؤدية إلى المغارة فإذا هي مفروشة بالحرير الأبيض، فوق أكداس من سجاد بخاري وتبريز وأصفهان، وإذا رتل من الصبايا بينهن كل النساء اللواتي أحبهن، وقد ظهرن بروعة لم يعرفها لهن من قبل، يغنين بألحان ما خطرت على قلب «فغنر» ولا مرت ببال «ليست» ولا رفت على ظن «رافل». ولكنه تذكر وجه امرأة كانت تنسجم نفسها مع نفسه حين كان يرتل لها شعره، أو حين كانت تنظر وإياه في لوحة من لوحات الفن، أو حين كانت تقف بصحبته أمام عيون لبنان وجباله وغاباته، أو حين كانت تسمع معه أنغام روائع الموسيقى النابضة بالحياة، فإذا هما يحسان نعيما لا يماثله نعيم مما يشترك فيه التراب والشكل. ولم ير لهذه الحبيبة وجها في رتل صبايا الشيطان الصاعدات، فعرف أنهن لن يستطعن أن يعطينه شيئا من تلك الغبطة التي كان يشعر بها مع حبيبته، وأنهن لن يقوين على منحه غير ما يقوى على منحه الشكل والتراب، وأنهن لن يتصلن بروحه، فأشاح بوجهه وقال: وغير هذا يا شيطان؟
فانهارت الرؤيا واندفعت من السفح نحو الوادي حيث موطن الجن القديم حجارة تركت في الهواء رائحة كبريت وغمامات دخان.
ونظر الشيطان كئيبا إلى وجه الشاعر فإذا عليه مسحة من جمال وتباشير من فرح عميق، فقال: وما رأيك بأن أقطعك ما تشاء من الأرض وأشيد لك القصور في مغارب الأرض ومشارقها، فلا تغيب الشمس عن ممتلكاتك، وأعمر خزائنك بالمال فتعطي وتنفق وتقتني ما تشاء من سيارات وطائرات، وتأمر ما بدا لك من خدم وحشم، وتملأ مقاصيرك وجنائنك بآثار الفن؟
قال الشاعر: وما شأني وجميع ذلك وأنا يشبعني رغيف ويروي عطشي قدح ماء بارد؟ لقد عرفت الأغنياء فما رأيت أن الثروة تزيد في قيمهم الإنسانية شيئا، بل وجدت الذهب والماس يشغلانهم عن الغايات البشرية ويحولان بينهم وبين المعرفة والجمال، ويثيران أحقاد المحرومين، الذهب! لقد صرف الذهب الإنسان عن الإنسان وجنده ضد أخيه وسخر عقله، هذا العاقل الذي تشاركه - أيها الشيطان - فيه، والذي إذا نظر إليه على ضوء النور العميق ظن أنه من صنعك لا من صنع الله، هذا العقل ابتدع الجنسيات والقوميات واخترع الآلة، ووضعها سلاحا رهيبا في خدمة الشر. - دع عنك المزاح وعد إلى رشدك، واغتنم فرصة لن تسنح لك مرة أخرى، فأنا لن أقف نفسي على رعايتك طول العمر. - إنك تريد مني قبسا من هذا النور العميق، وأنت تعرف أن ما من أحد يستطيع أن يعطيكه، والذين أخذوا بحبائلك من إخواني البشر وقبلوا المقايضة فقدوا النور، لكنهم لم يقدروا أن يعطوك منه أي شعاع ضئيل، فأنت إذا كنت تستطيع أن تعطي فليس بوسعك أن تتلقى الخير والنعمة. - إلى أي شيء تراك تطمح؟ إن هذا العقل الذي تثور عليه والذي تفضلت بأن جعلتني فيه مشاركا للإنسان هو الذي شاد هذه المدينة الغربية الرائعة التي تتملق كبرياء البشر. - إن الإنسان ما زال كلما انساق بسبب ضعفه لغوايتك يفقد النور ولا يبقى له دليل غير هذا العقل الذي تشاركه أنت فيه، ويفقد إنسانيته، أي: نزوعه بحب دائم وإلحاح مستمر إلى الحرية. ومن هنا هذه المدنيات الشوهاء القائمة على الحديد وعلى الشكل، ومن هنا هذه الأنانية التي حلت محل الحب في قلبه، ومن هنا أن كبار الفلاسفة قد ماتوا فعلا، ومن هنا أن سلالة المصورين العظام والموسيقيين العظام والشعراء العظام قد انقطعت، وحل محلهم مدارس في الرمزية والتأثرية هي من ألاعيبك أنت، وفي التصوير المكعب وهي من أحاجيك. - وما حيلتك أنت - أيها الأبله - في جميع ذلك؟ ألا تشعر أن التيار يمر فوقك صاخبا مندفعا، وأن لا حيلة لك بوقفه؟ - ومن هنا أيضا - أيها الشيطان - أن هذه المدنيات القائمة على عقلك وعقول الناس إن هي إلا مدنيات جافة جوفاء لا زاوية فيها للروح وللحب المتصلين بينبوع النور الأزلي، ومن هنا أيضا أن وجود الآلة ولمعانها وكمالها وقدرتها على رفع الحجر شامخا عاليا في وجه السماء وارتفاعها هي إلى أعلى مراتب الجو وتحدرها إلى أبعد الأعماق، لم يخفف من الألم الذي ما يزال إخواني البشر يتخبطون في ديجوره. - فتعال إذن وسر في موكب الناس، واستعن بالأنانية لإبعاد الألم عنك. - كلا، إن ذلك لن يفيدني شيئا، فالنور الذي يتألق في أعماقي وتموت أنت حسرة عليه، لو أنك تموت، يجعلني أحس أن قلبي مسرح للإنسانية جمعاء. إن كل جرح في جنب كل جندي جرحي أنا، وكل يد تمتد مستعطية يدي، وكل بؤس بؤسي، وكل حرمان حرماني، وكل ثكل ثكلي، وكل يتم يتمي، وكل بكاء بكائي، وكل جوع جوعي، وكل جهل جهلي. فأنا شريك الإنسانية بآلامها، ولن يهدأ لي بال ولن يستقر لي قرار ولن أطمئن إلى نعمة حتى تهتدي إلى طريق الحق، إلى طريق الخير.
نامعلوم صفحہ