مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول
للإمام الشريف أبي عبد الله محمد بن أحمد الحسني التلمساني ت: ٧٧١ هـ
دراسة وتحقيق/
محمد علي فركوس
نامعلوم صفحہ
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
قال الشيخ الفقيه والإمام العالم الفذ، العلامة العلم فارس المعقول والمنقول وصاحب الفروع والأصول: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن علي الشريف الحسني التلمساني.
الحمد لله الذي خلق الخلق ليبرهنوا عليه، وبعث فيهم رسلًا منهم يهدونهم إليه صلى الله عليهم عمومًا، وعلى محمد وآله خصوصًا صلاة نجدها بين يديه.
أما بعد:
فإن العلم أجمل السجايا الإنسانية، وأجزل العطايا الربانية، لا سيما
1 / 295
علم الشريعة، إذ هو في سماء المعلوات أسطع بدرًا، وأهله من بين أولي الدرجات أرفع قدرًا، بجنة رعايته يتحصن يوم الفزع الأكبر من العذاب الأليم، وبنور هدايته يستضاء في ظلم الحشر إلى جنات النعيم، فلقد فاز بالسعادة من أحيى به رسمًا داثرًا، وحاز مع المسلمين فيه قسمًا وافرًا.
ولما كان مدوخ ملوك العرب والعجم، ومصرف يده الكريمة في معلومات السيف والقلم، جامع كلمة الإسلام بعد شتاتها، وقامع الفجرة الظلام عن افتياتها، حتى امتدت على الرعية طنب أمانه، فلبسوا من جميل ظلها، بردًا سابغًا، فهم في حجر كفالتها هاجعون، وسحت عليهم سحب إحسانه فوردوا من جزيل فضلها وردًا سائغًا فهم بوثيق كفايتها وادعون، قد صرف عنهم ما يرهبون، وساق إليهم ما يرغبون، مولى الأنام، الخليفة الإمام أمير المؤمنين، المتوكل على رب العالمين: أبو عنان أبقاه الله تعالى وسوانح الأقدار قاضية بإصعاده،
1 / 296
وسوارح الأعصار ماضية في إسعاده، قد جاز بذهنه الثاقب الراجح في تحسين الدلائل مهما صعبا، وحاز برأيه الصائب الناجح في تحصيل المسائل موردًا عذبًا، حتى صار يفصل في مضيق المناظرات بين أربابها، ويجلو دجى المشكلات ويلي كشف حجابها، فأردت أن أضرب بهذا المختصر في اكتساب القربة إليه قدحًا معلي وسهما، وأجمع فيه من بديع الحقائق ورفيع الدقائق نكتا وعلمًا، وفضله - أيده الله - يقضي بحسن القبول، ويقتضي لمؤلفه غاية المأمول.
وها أنا أشرع فيه بحول الله تعالى، وهو المستعان، وعليه التكلان.
اعلم أن ما يتمسك به المستدل على حكم من الأحكام في المسائل الفقهية منحصر في جنسين: دليل بنفسه، ومتضمن للدليل.
الجنس الأول: الدليل بنفسه، وهو يتنوع نوعين: أصل بنفسه، ولازم عن أصل.
1 / 297
النوع الأول: الأصل بنفسه، وهو صنفان: أصل نقلي، وأصل عقلي.
الصنف الأول: هو الأصل النقلي.
اعلم أن الأصل النقلي يشترط فيه أن يكون صحيح السند إلى الشارع صلوات الله عليه، متضح الدلالة على الحكم المطلوب، مستمر الأحكام راجحًا على كل ما يعارضه، فهذه أربعة شروط ينبغي أن نعقد في كل شرط بابًا.
1 / 298
الباب الأول في السند
اعلم أن الأصل النقلي إما أن ينقل تواترًا وإما أن ينقل آحادًا.
والمتواتر: ﴿خبر جماعة يستحيل اتفاقهم على الكذب﴾.
وخبر الآحاد: ﴿ما لا يبلغ حد التواتر﴾.
1 / 299
فينبغي أن نعقد في كل قسم من هذين القسمين فصلًا.
1 / 300
الفصل الأول: في التواتر
اعلم أن الأصل المستدل به: إما من الكتاب وإما من السنة.
فأما الكتاب فلابد من كونه متواترًا، فإن لم يكن متواترًا لم يكن قرآنا. فالاعتراض على من احتج بدليل يزعم أنه من القرآن ولم يكن متواترًا بإبطال كونه متواترًا.
ومثاله: احتجاج أصحاب الشافعي على أن خمس رضعات هي التي توجب الحرمة، فإن كانت أقل فلا حرمة بما في صحيح مسلم عن
1 / 301
عائشة ﵂ قالت: ﴿كان فيما أنزل من القرأن عشر رضعات معلومات يحرمن﴾ فنسخن بخمس رضعات، فتوفي رسول الله ﷺ وهن
1 / 302
مما يقرأ من القرآن.
فيقول أصحابنا: هذا باطل، لأنه لو كان قرآنا لكان متواترًا، وليس بمتواتر، فليس بقرأن.
والجواب عندهم: إن التواتر شرط في التلاوة لا شرط في الحكم، وقصد المستدل بهذا إثبات حكم الخمس لا إثبات تلاوتها، فهذا جواب الشافعية عن هذا الاعتراض.
ومن ذلك استدلال الحنفية على أن المكفر إذا حنث بالله فصيام ثلاثة أيام من شرطه أن تكون متتابعة، فإن فرقها لم تجزه لقراءة ابن
1 / 303
مسعود: فصيام ثلاثة أيام متتابعات.
فيقول أصحابنا: هذه الزيادة ليست من القرآن، فإنها غير متواترة، ومن شرط القرآن أن يكون متوترًا.
1 / 304
وكذلك احتجت الحنفيةعلى أن الفيئة في الإيلاء إنما محلها الأربعة الأشهر لا بعدها بقراءة أبي بن كعب، فإن فاءوا فيهن فإن الله غفور رحيم، وأصحابنا يقولون: إنما الفيئة بعد تمام الأربعة الأشهر.
ويعترضون على الحنفية بأن تلك الزيادة التي في قراءة أبي بن كعب
1 / 305
ليست من القرآن، لأنها لم تتواتر، ومن شرط القرآن أن يكون متواترًا.
والجواب عندهم: أن هذه الزيادة إما أن تكون قرآنا أو خبرا، لأنه إن لم تكن واحدًا منها حرم على القاريء أن يقرأ بها لما في ذلك من التلبيس.
وإذا كانت إما قرآنا وإما خبرا وجب العمل به، والتواتر ليس بشرط في وجوب العمل بل في التلاوة كما تقدم.
وأما السنة: فإنه لا يشترط في الخبر المستدل به أن يكون متواترًا عند المحققين من الأصوليين، اللهم إلا أن يكون ذلك رافعًا لمقتضى القرآن بالقطع فإنه يجب حينئذ أن يكون الخبر متواترًا.
1 / 306
ومثال ذلك: ما يحتج به جمهور الأئمة، والرواية المعمول بها عن مالك عندنا في المسح على الخفين من الأخبار الواردة في ذلك عن
1 / 307
الصحابة قولا وفعلا، حتى نقل ذلك أصحاب المقالات عن سبعين من أصحاب رسول الله ﷺ.
فيقول المخالف: هذه لكها أخبار آحاد فلا ترفع ما اقتضاه القرآن من اعتبار الرجلين في قوله تعالى: وأرجلكم.
والجواب عندهم: أن تلك الأخبار وإن لم يتواتر كل واحد منها بانفراده، فما تضمنه جميعا من جواز المسح على الخفين متواتر، وهذا هو المسمي بالتواتر المعنوي، كشجاعة علي وجود
1 / 308
حاتم إذ لم ينقل إلينا عن علي ﵁ أو عن حاتم قضية معينة متواترة تقتضي الشجاعة أو السخاء.
وإنما نقلت وقائع متعددة كل واحد منها بخبر الواحد لكن
1 / 309
تضمن جميعا معنى واحد مشتركًا بينها، وهو الشجاعة أو السخاء.
أو التواتر اللفظي فكالقرآن.
1 / 310
الفصل الثاني في الآحاد
اعلم أن الأخبار الآحادية يتعلق الاعتراض على سندها بجعتين:
جهة إجمالية.
جهة تفصيلية.
القول في الجهة الإجمالية:
اعلم أن الأصوليين قد اختلفوا في قبول أخبار الآحاد جملة، فإذا استدل المستدل على حكم من الأحكام بخبر الآحاد، فإن للمعترض أن يمنع قبول أخبار الآحاد.
والجواب عن ذلك: ما ثبت في أصول الفقه.
1 / 311
ومن ذلك: ما يعترض به في رد خبر معين، كما إذا احتج أصحابنا على اشتراط الولي في النكاح بقوله ﷺ: «لا نكاح إلا بولي»، وعلى أن من مس ذكره انتقض وضوءه بقوله ﷺ: «من مس ذكره
1 / 312
فليتوضأ»، وعلى أن النبيذ حرام، بقوله ﷺ" «كل مسكر حرام».
فيقول الحنفي - وهو المخالف في هذه المسائل الثلاث -: هذه
1 / 313