بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما.
اللهم أرنا الحق حقا ووفقنا إلى اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وأعنا على اجتنابه.
آمين.
اعلم وتحقق أيها المقصور على درك العلوم حرصه وإرادته الممدود نحو أسرار الحقائق العقلية همته، المصروف، عن زخارف الدنيا ونيل لذاتها الحقيرة سعيه وكده، الموقوف على درك السعادة بالعلم والعبادة جده وجهده، بعد حمد الله الذي يقدم على كل أمر ذي بال حمده، والصلاة على النبي محمد ﷺ رسوله وعبده.
إن الباعث على تحرير هذا الكتاب الملقب بمعيار العلم غرضان مهمان: أحدهما تفهيم طرق الفكر والنظر، وتنوير مسالك الأقيسة والعبر؛ فإن العلوم النظرية لما لم تكن بالفطرة والغريزة مبذولة وموهوبة كانت لا محالة مستحصلة مطلوبة، وليس كل طالب يحسن الطلب، ويهتدي إلى طريق المطلب، ولا كل سالك يهتدي إلى الإستكمال، ويأمن الإغترار بالوقوف دون ذروة الكمال ولا كل ظان الوصول إلى شاكلة الصواب آمن من الإنخداع بلا مع السراب.
فلما كثر في المعقولات مزلة الأقدام، ومثارات الضلال، ولم تنفك مرآة العقل عما يكدرها من تخليطات الأوهام وتلبيسات الخيال، رتبنا هذا الكتاب معيارا للنظر والإعتبار، وميزانا للبحث والإفتكار، وصيقلا للذهن، ومشحذا لقوة الفكر والعقل، فيكون بالنسبة إلى أدلة العقول كالعروض بالنسبة إلى الشعر،
1 / 59
والنحو بالإضافة إلى الإعراب.
إذ كما لا يعرف منزحف الشعر عن موزونه إلا بميزان العروض ولا يميز صواب الإعراب عن خطئه إلا بمحك النحو، كذلك لا يفرق بين فاسد الدليل وقويمه وصحيحه وسقيمه إلا بهذا الكتاب. فكل نظر لا يتزن بهذا الميزان ولا يعيار بهذا المعيار فاعلم أنه فاسد العيار غير مأمون الغوائل والأغوار.
والباعث الثاني الإطلاع على ما أودعناه كتاب تهافت الفلاسفة، فإنا ناظرناهم بلغتهم وخاطبناهم على حكم اصطلاحاتهم التي تواطأوا عليها في المنطق وفي هذا الكتاب تنكشف معاني تلك الإصطلاحات؛ فهذا اخص الباعثين والأول أعمهما وأهمهما. أما كونه أهم فلا يخفى عليك وجهه، وأما كونه أعم فمن حيث يشمل جدواه جميع العلوم النظرية: العقلية منها والفقهية، فإنا سنعرفك أن النظر في الفقهيات لا يباين النظر في العقليات، في ترتيبه وشروطه وعياره، بل في مآخذ المقدمات فقط. ولما كانت الهمم في عصرنا مائلة من العلوم إلى الفقه بل مقصورة عليه حتى حدانا ذلك إلى أن صنفنا في طرق المناظرة فيها مأخذ الخلاف أولا، ولباب النظر ثانيا، وتحصين المآخذ ثالثا، وكتاب المبادي والغايات رابعا، وهو الغاية القصوى في البحث الجاري على منهاج النظر العقلي في ترتيبه وشروطه، وأن فارقه في مقدماته
1 / 60
رغبنا ذلك أيضا في أن نورد في منهاج الكلام في هذا الكتاب أمثلة فقهية فتشمل فائدته وتعم سائر الأصناف جدواء وعائدته.
ولعل الناظر بالعين العوراء نظر الطعن والإزراءِ، ينكر انحرافنا عن العادات في تفهيم العقليات القطعية، بالأمثلة الفقهية الظنية فليكف عن غلوائه في طعنه وإزرائه، وليشهد على نفسه بالجهل بصناعة التمثيل وفائدتها، فإنها لم توضع إلا لتفهيم الأمر الخفي بما هو الأعرف عند المخاطب المسترشد، ليقيس مجهوله إلى ما هو معلوم عنده فيستقر المجهول في نفسه.
فإن كان الخطاب مع نجار لا يحسن إلا النجر وكيفية استعمال آلاته، وجب على مرشده ألا يضرب له المثل إلا من صناعة النجارة، ليكون ذلك أسبق إلى فهمه وأقرب إلى مناسبة عقله وكما لا يحسن إرشاد المتعلم إلا بلغته لا يحسن إيصال المعقول إلى فهمه إلا بأمثلة هي أثبت في معرفته؛ فقد عرفناك غاية هذا الكتاب وغرضه تعريفا مجملا فلنزد له شرحا وإيضاحا لشدة حاجة النظار إلى هذا الكتاب.
لعلك تقول أيها المنخدع بما عندك من العلوم الذهنية المستهتر بما يسوق إليه البراهين العقلية، ما هذا التفخيم والتعظيم وأي حاجة بالعاقل إلى معيار وميزان، فالعقل هو القسطاس المستقيم والمعيار القويم، فلا يحتاج العاقل بعد كمال عقله إلى تسديد وتقويم، فلتتئد ولتتثبت فيما تستخف به من غوائل الطرق العقلية، ولتتحقق قبل كل شيء أن فيك
1 / 61
حاكما حسيا وحاكما وهميا وحاكما عقليا، والمصيب من هؤلاء الحكام هو الحاكم العقلي، والنفس في أول الفطرة أشد إذعانا وإنقيادا للقبول من الحاكم الحسي والوهمي، لأنهما سبقا في أول الفطرة إلى النفس وفاتحاها بالإحتكام عليها، فألفت احتكامهما وأنست بهما قبل أن أدركها الحاكم العقلي، فاشتد عليها الفطام عن مألوفها والإنقياد لما هو كالغريب من مناسبة جبلتها، فلا تزال تخالف حاكم العقل وتكذبه وتوافق حاكم الحس والوهم وتصدقهما إلى أن تضبط بالحيلة التي سنشرحها في الكتاب.
وإن أردت أن تعرف مصداق ما تقوله في تخرص هذين الحاكمين واختلالهما، فانظر إلى حاكم الحس كيف يحكم إذا نظرت إلى الشمس عليها بأنها في عرض مجر، وفي الكواكب بأنها كالدانير المنثورة على بساط أزرق، وفي الظل الواقع على الأرض للأشخاص المنتصبة بأنه واقف بل على شكل الصبي في مبدأ نشئه بأنه واقف، وكيف عرف العقل ببراهين لم يقدر الحس على المنازعة فيها، إن قرص الشمس أكبر من كرة الأرض بأضعاف مضاعفة، وكذلك الكواكب، وكيف هدانا إلى أن الظل الذي نراه واقفا هو متحرك على الدوام لا يفتر، وأن طول الصبي في مدة النشء غير واقف بل هو في النمو على الدوام والإستمرار، ومترق إلى الزيادة ترقيا خفي التدريج يكل الحس عن دركه ويشهد العقل به.
1 / 62
وأغاليط الحس من هذا الجنس تكثر فلا تطمع في استقصائها، واقنع بهذه النبذة اليسيرة من أنبائه لتطلع به على أغوائه. وأما الحاكم الوهمي فلا تغفل عن تكذيبه بموجود لا إشارة إلى جهته. وأما الحاكم الوهمي فلا تغفل عن تكذيبه بموجود لا إشارة إلى جهته، وإنكاره شيئا لا يناسب أجسام العالم بانفصال واتصال، ولا يوصف بأنه داخل العالم ولا خارجه. ولولا كفاية العقل شر الوهم في تضليله هذا لرسخ في نفوس العلماء من الإعتقادات الفاسدة في خالق الأرض والسماءن مارسخ في قلوب العوام والأغبياء.
ولا نفتقر إلى هذا الأبعاد في تمثيل تضليله وتخييله، فإنه يكذب فيما هو أقرب إلى المحسوسات مما ذكرناه، لأنك إن عرضت عليه جسما واحدا فيه حركة وطعم ولون ورائحة واقترحت عليه أن يصدق بوجود ذلك في محل واحد على سبيل الإجتماع، كاع عن قبوله وتخيل أن بعض ذلك مضام للبعض ومجاور له. وقدر التصاق كل واحد بالآخر في مثال ستر رقيق ينطبق على ستر آخر، ولم يمكن في جبلته أن يفهم تعدده المكان، فإن الوهم إنما يأخذ من الحس، والحس في غاية الأمر يدرك التعدد والتباين بتباين المكان أو الزمان؛ فإذا رفعا جميعا عسر عليه التصديق بأعداد متغايرة بالصفة والحقيقة حالة فيما هو في حيز واحد.
فهذا وأمثاله من أغاليط الوهم يخرج عن حد الإحصاء والحصر، والله تعالى هوالمشكور على ما وهب من العقل الهادي من الضلالة، المنجي عن ظلمات الجهالة، المخلص بضياء البرهان، عن ظلمات وساوس الشيطان.
فإن أردت مزيد إستظهار في الإحاطة بخيانة هذين الحاكمين، فدونك وإستقراء ما ورد في الشرع من نسبة هذه التمويهات إلى الشيطان وتسميتها وسواسا
1 / 63
وإحالتها عليه، وتسمية ضياء العقل هداية ونورا ونسبته إلى الله تعالى وملائكته في قوله (الله نُورُ السَمَواتِ وَالأَرض) ولما كان مظنة الوهم والخيال الماغ وهما منبعا الوسواس، قال أبو بكر رحمة الله عليه لمن كان يقيم الحد على بعض الجناة: اضرب الرأس فإن الشيطان في الرأس، ولما كانت الوساوس الخيالية والوهمية ملتصقة بالقوة المفكرة التصاقا يقل من يستقل بالخلاص منها حتى كان ذلك كامتزاج الدم بلحومنا وأعضائنا، قال ﷺ: ﴿إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم﴾ وإذا لاحظت بعين العقل هذه الأسرار التي نبهتك عليها استيقنت شدة حاجتك إلى تدبير حيلة في الخلاص عن ضلال هذين الحاكمين.
فإن قلت: فما الحيلة في الإحتياط مع ما وصفتمونه من شدة الرباط بهذه المغويات؛ فتأمل لطف حيل العقل فيه فإنه استدرج الحس والوهم إلى أمور يساعدانه على دركها من المشاهدات الموافقة للموهوم والمعقول، وأخذ منها مقدمات يساعده الوهم عليها ورتبها ترتيبا لا ينازع فيه، واستنتج منها بالضرورة نتيجة لم يسع الوهم التكذيب بها، إذ كانت مأخوذة من الأمور التي لا يتخلف الوهم والعقل عن القضاء بها، وهي العلوم التي لم يختلف فيها الناس من الضروريات والحسيات وأستسلمها من الحس والوهم وارتهنها منهما، فصدقا بأن النتيجة اللازمة منها صادقة حقيقة، ثم نقلها العقل بعينها على ترتيبها إلى ما ينازع الوهم فيه وأخرى منها نتائج.
فلما كذب الوهم بها وامتنع عن قبولها هان على العقل مؤونته، فإن المقدمات التي وضعها كان الوهم يصدق بها على الترتيب الذي رتبه لانتاج النتيجة، فكأن الوهم قد سلم لزوم النتيجة منها فتحقق الناظر أن آباء الوهم عن قبول النتيجة بعد
1 / 64
التصديق بالمقدمات، والتصديق بصحة الترتيب المنتج لقصور في طباعه وجبلته عن درك هذه النتيجة، لا لكون هذه النتيجة كاذبة لأن ترتيب المقدمات منقول من موضع ساعد الوهم على التصديق بها، فإذن غرضنا في هذا الكتاب أن نأخذ من المحسوسات والضروريات الجبلية معيارا للنظر، حتى إذا نقلناه إلى الغوامض لم نشك في صدق ما يلزم منها. ولعلك الآن تقول: فإن تم للنظار ما ذكرتموه فلم اختلفوا في المعقولات، وهلا اتفقوا عليها اتفاقهم على النظريات الهندسية والحسابية التي يساعد الوهم العقل فيها؟ فجوابك من وجهين: أحدهما أن ما ذكرناه أحد مثارات الضلال لا كلها، ووراء ذلك في النظر في العقليات عقبات مخطرة يعز في العقلاء من يتخطاها فيسلم منها.
وإذا أحطت بمجامع شروط البرهان المنتج لليقين، لم تستبعد أن تقصر قوة أكثر البشر عن درك حقائق المعقولات الخفية.
الثاني: ان القضايا الوهمية لما انقسمت إل ما يصدق وإلى ما يكذب وكانت الكاذبة منها شديدة الشبه بالصادقة، اعترض فيها قضايا إعتاض على النفس تمييزها عن الكاذبة، ولم يقو عليها إلا من أيده الله بتوفيقه وأكرمه بسلوك منهاج الحق بطريقه، فانقسمت العقليات إلى ما هان دركها على الأكثر، وإلى ما استعصى على عقول الجماهير إلا على الشذاذ من أولياء الله تعالى المؤيدين بنور الحق الذين لا تسمح الإعصار الطويلة بوجود الآحاد منهم، فضلا عن العدد الكثير الجم.
1 / 65
ولعلك الآن تحسب نفسك واحدا من غمار الناس فتتلو على نفسك سورة اليأس، وتزعم أني متى أكون واحد الدهر، فريد العصر، مؤيدا بنور الحق متخلصا عن نزغات الشيطان مستوليا على وصفته من شروط البرهان؛ فالركون إلى الدعة أولى بي والقناعة بالإعتقاد الموروث من الآباء أسلم لي من أن أركب متن الخطر ولست أثق بنيل قاصية الوطر، فيقال في مثالك، إن خطر هذا ببالك: ما أنت إلا كإنسان لاحظ رتبة سلطان الزمان وما ساعده من الشوكة والعدة والنجدة والثروة والأشياع والأتباع، والأمر المتبع المطاع، واستبعد أن ينال رتبته أو يقارب درجته، والأمر المتبع المطاع، واستبعد أن ينال رتبته أو يقارب درجته، ولكن اقتدر أن ينال رتبة الوزارة أو رتبة الرئاسة أو منزلة أخرى دونها فقال: الصواب لي بعد العجز عن الغاية القصوى، والذروة العليا التي هي درجة سلطان الدنيا أن أقنع بصناعة الكنس التي هي صناعة آبائي، فالكناس ليس يعجز عن خبز يتناوله وثوب يستره إقتداء بقول الشاعر:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
وهذا الخسيس القاصر النظر، لو أنعم الفكر وتأمل واعتبر علم أن بين درجة الكناس والسلطان منازل فلا كل من يعجز عن الدرجات العلي ينبغي أن يقنع بالدركات السفلى، بل إذا انتهض مترقيا عن رتبة الخساسة، فما يترقى إليه بالإضافة إلى ما يترقى عنه رياسة - فهكذا ينبغي أن تعتقد درجات السعادة بين العلماء، فما منا إلا له مقام معلوم لا يتعداه، وطور محدود لا يتخطاه، ولكن ينبغي أن يشوف إلى أقصى
1 / 66
مرقاه، وأن يخرج من القوة إلى الفعل كل ما تحتمله قواه. فإن قلت: إني فهمت الآن شدة الحاجة إلى هذا الكتاب بما أوضحته من التحقيق، ثم اشتدت رغبتي بما أوردته من التشويق، واتضح لي غايته وثمرته فأوضح لي مضمونه.
فاعلم أن مضمونه تعليم كيفية الإنتقال من الصور الحاصلة في ذهنك إلى الأمور الغائبة عنك. فإن هذا الإنتقال له هيئة وترتيب إذا روعيت أفضت إلى المطلوب، وإن أهملت قصرت عن المطلوب، والصواب من هيئته وترتيبه شديد الشبه بما ليس بصواب. فمضمون هذا العلم على سبيل الإجمال هذا، وأما على سبيل التفصيل فهو أن المطلوب هو العلم، والعلم ينقسم إلى العلم بذوات الأشياء، كعلمك بالإنسان والشجر والسماء وغير ذلك. ويسمى هذا العلم تصورا، وغلى العلم بنسبة هذه الذوات المتصورة بعضها إلى بعض إما بالسلب أو بالإيجاب، كقولك الإنسان حيوان والإنسان ليس بحجر، فإنك تفهم الإنسان والحجر فهما تصوريا لذاتهما، ثم تحكم بأن أحدهما مسلوب عن الآخر أو ثابت له، ويسمى هذا تصديقا لأنه يتطرق إليه التصديق والتكذيب.
1 / 67
فالبحث النظري بالطالب إما أن يتجه إلى تصو أو إلى تصديق، والموصل إلى التصور يسمى قولا شارحا فمنه حد ومنه رسم، والموصل إلى التصديق يسمى حجة فمنه قياس ومنه استقراء وغيره. ومضمون هذا الكتاب تعريف مبادىء القول الشارح لما أريد تصوره حدا كان أو رسما، وتعريف مبادىء الحجة الموصلة إلى التصديق قياسا كانت أوغيره مع لا تنبيه على شروط صحتها ومثار الغلط فيهما. فإن قلت: كيف يجهل الإنسان العلم التصوري حتى يفتقر إلى الحد؟ قلنا بأن يسمع الإنسان إسما لا يفهم معناه كمن قال: ما الخلاء وما الملاء وما الملك وما الشيطان وما العقار؟ فتقول: العقار هو الخمر، فإن لم يفهمه باسمه المعروف أفهمه بحده. وقيل: إن الخمر شراب معتصر من العنب مسكر، فيحصل له علم تصوري بذات الخمر. وأما العلم التصديقي فبأن يجهل الإنسان مثلا أن للعالم صانعا، فيقول: هل للعالم صانع؟ فتقول: نعم للعالم صانع. وتعرفه صدق ذلك بالحجة والبرهان على ما سنوضحه، فهذا مضمون الكتاب.
1 / 68
وإن أردت أن تعلم فهرست الأبواب.
فاعلم أنا قسمنا القول في مدارك العلوم إلى كتب أربعة: كتاب مقدمات القياس، وكتاب القياس، وكتاب الحد، وكتاب أقسام الوجود وأحكامه.
1 / 69
الكتاب الأول في مقدمات القياس، ولنذكر مقدمة يعرف بها وجه إنقسام النظر في القياس إلى أدنى وإلى أقصى فنقول: المطلب الأقصى في هذا القسم هو البرهان المحصل للعلم اليقيني والبرهان نوع من القياس إذ القياس إسم عام، والبرهان إسم خاص لنوع منه، والقياس لا ينتظم إلا بمقدمتين، وكل مقمدة لا تنتظم إلا بمخبر عنه يسمى موضوعا وخبر يسمى محمولا، وكل موضوع أو محمول يذكر في قضية فهو لفظ نيدل لا محالة على معنى، فالقياس مركب، وكل ناظر في شيء مركب، فطريقه أن يحلل المركب إلى المفردات ويبتدىء بالنظر في الآحاد، ثم في المركب، فلزم من النظر في القياس النظر فيما ينحل إليه القياس من المقدماتنومن النظر في المقدمات النظر في المحمولن والموضوع اللذين منهما تتألف المقدمات، ومن النظر في المحمول والموضوع النظر في الألفاظ والمعاني المفردة التي بها يتم المحمول والموضوع،
1 / 70
ولزم من النظر في المقدمات النظر في شروطها؛ فإن كل مركب من مادة وصورة يجب النظر في مادته وصورته. وما هذا إلا كمن يريد بناء بيت فحقه أن يهتم بإفراز المواد التي منها يتركب كاللبن والطين والخشب، ثم يشتغل بالتنصوير وكيفية التنضيد والتركيب؛ فكذلك النظر في القياس، فهذا بيان الحاجة إلى هذه الأقسام، ولنأخذ بعده في المقصود.
1 / 71
الفن الأول: من كتاب مقدمات في دلالة الألفاظ وبيان وجوه دلالتهاونسبتها إلى المعاني وبيانه بسبعة تقسيمات: القسمة الأولى: أن نقول: الألفاظ تدل على المعاني من ثلاثة أوجه متباينة: الوجه الأول الدلالة من حيث المطابقة كالإسم الموضوع بإزاء الشي، وذلك كدلالة لفظ الحائط على الحائط.
والآخر أن تكون بطريق التضمن وذلك كدلالة لفظ البيت على الحائط ودلالة لفظ الإنسان على الحيوان، وكذلك دلالة كل وصف أخص على الوصف الأعم الجوهري.
الثالث: الدلالة بطريق الإلتزام والإستتباع كدلالة لفظ السقف على الحائط؛ فإنه مستتبع له إستتباع الرفيق اللازم الخارج عن ذاته، ودلالة الإنسان على قابل صنعة الخياطة وتعلمها، والمعتبر في التعريفات دلالة المطابقة والتضمن. فأما دلالة الإلتزام فلا لأنها ما وضعها واضع اللغة بخلافهما، لأن المدلول فيها غير محدود ولا محصور، إذ لوازم الأشياء ولوازم لوازمها لا تنضبط ولا تنحصر فيؤدي إلى أن يكون اللفظ دليلا على مالا يتناهى من المعاني وهو محال.
1 / 72
القسمة الثانية: للفظ بالنسبة إلى عموم المعنى وخصوصه، واللفظ ينقسم إلى جزئي وكلي، والجزئي ما يمنع نفس تصور معناه عن وقوع الشركة في مفهومه، كقولك زيد وهذا الشجر وهذا الفرس، فإن المتصور من لفظ زيد شخص معين لا يشاركه غيره في كونه مفهوما من لفظ زيد. والكلي هو الذي لا يمنع نفس تصور معناه عن وقوع الشركة فيه، فإن امتنع امتنع بسبب خارج عن نفس مفهومه ومقتضى لفظه، كقولك الإنسان والفرس والشجر وهي أسماء الأجناس والأنواع والمعاني الكلية العامة، وهو جار في لغة العرب في كل إسم أدخل عليه الألف واللام لا في معرض الحوالة على معلوم معين سابق، كالرجل فهو إسم جنس، فإنك قد تطلق وتريد به رجلا معينا عرفه المخاطب من قبل، فتقول: أقبل الرجل فتكون الألف واللام فيه للتعريف أي الرجل الذي جاءني من قبل. فإذا لم تكن مثل هذه القرينة، كان إسم الرجل إسما كليا يشترك في الإندراج تحته كل شخص من أشخاص الرجال.
1 / 73
فإن قلت: فإذا قلنا الشكل الكروي المحيط بإثني عشر برجا فذلك، ولم يكن في الوجود شكل بهذه الصفة غلا واحد فكيف يكون الإسم كليا والمسمى واحد، وقد دخل الألف واللام المقتضى لإستغراق الجن عليه؟ فيقال لك: إن هذا كلي لأنا لسنا نشترط أن يكون الداخل تحته موجودا بالفعل، بل يجوز أن يكون موجودا بالقوة والإمكان، ولو قدر وجوده لكان داخلا فيه لا محالة، وهو قبل الوجود داخل لا كإسم زيد فإنه يمتنع وقوع الشركة فيه بالفعل والقوة جميعا.
فإن قلت: فإذا قلنا الإله الحق هكذا فكيف يكون هذا كليا ويمنع وقوع الشركة فيه بالفعل والقوة جميعا، وكذلك قولنا: الشمس على أصل من لا يجوز وجود شمس أخرى فإنه يتعين الداخل تحته تعين شخص زيد في التصور من لفظ زيد؟ فيقال لك: اللفظ كلي وإمتناع وقوع الشركة فيه ليس لنفس مفهوم اللفظ وموضوعه بل لمعنى خارج عنه، وهو إستحالة وجود إلهين للعالم، ولم نشترط في كون اللفظ كليا إلا أن لا يمنع من وقوع الشركة فيه نفس مفهوم اللفظ وموضوعه، فقد حصل لك من السؤالين وجوابهما أن الكلي ثلاثة أقسام: قسم توجد فيه الشركة بالفعل كقولنا الإنسان إذا كانت الأشخاص منه موجودة، وقسم توجد الشركة فيه بالقوة كقولنا الإنسان إذا اتفق إن لم يبق في الوجود إلا شخص واحد، والكرة المحيطة بإثني عشر برجا إذ ليس في الوجود غلا واحد، وقسم لا شركة فيه لا بالفعل ولا بالقوة كالإله، وهو مع ذلك كلي لأن المنع ليس هو من موضوع لالفظ ومحموله بخلاف لفظ زيد.
1 / 74
فائدة فقهية
قد اختلف الأصوليون في أن الإسم المفرد إذا اتصل به الألف واللام هل يقتضي الإستغراق، وهل ينزل منزلة العموم كقول القائل الدينار أفضل من الدرهم والرجل خير من المرأة، فظن الظانون أنه من حيث كونه اسما فردا لا يقتضي الإستغراق لمجرده، ولكن فهم العموم بقرينة التسعير وقرينة التفضيل للذكر على الأنثى، إنما هو لعلمنا بنقصان الدرهمية عن الدينارية ونقصان الأنوثة عن الذكورة. وأنت إذا تأملت ما ذكرناه في تحقيق معنى الكلي، فهمت زلل هؤلاء بجهلهم أن اللفظ الكي يقتضي الإستغراق بمجرده ولا يحتاج إلى قرينة زائدة فيه. فإن قلت: ومن أين وقع لهم هذا الغلط؟ فستفهم ذلك من القسمة الثالثة.
القسمة الثالثة في بيان رتبة
الألفاظ من مراتب الوجود
إعلم أن المراتب فيما نقصده أربعة واللفظ في الرتبة الثالثة، فإن للشيء وجودا في الأعيان ثم في الأذهان، ثم في الألفاظ ثم في الكتابة.
فالكتابة دالة على اللفظ واللفظ دال على المعنى الذي في النفس، والذي في النفس هو مثال الموجود في الأعيان،
1 / 75
فما لم يكن للشيء ثبوت في نفسه لم يرتسم في النفس مثاله. ومهما ارتسم في النفس مثاله فهو العلم به، إذ لا معنى للعلم إلا مثال يحصل في النفس مطابق لما هو مثال له في الحس وهو المعلوم، وما لم يظهر هذا الأثر في النفس لا ينتظم لفظ يدل به على ذلك الأثر، وما لم ينتظم اللفظ الذي ترتب فيه الأصوات والحروف لا ترتسم كتابة للدلالة عليه. والوجود في الأعيان دالتان بالوضع والإصطلاح.
وعند هذا نقول: من زعم أن الإسم المفرد لا يقتضي الإستغراق ظن انه موضوع بإزاء الموجود في الأعيان فإنها أشخاص معينة إذ الدينار الموجود شخص معين، فإن جمعت أشخاص سميت دنانير، ولم يعرف أن الدينار الشخصي المعين يرتسم منهفي النفس أثر هو مثاله وعلم به وتصور له، وذلك المثال يطابق ذلك الشخص وسائر اشخاص الدنانير الموجودة والممكن وجوها، فتكون الصورة الثابتة في النفس من حيث مطابقتها لكل دينار يفرض صورة كلية لا شخصية؛
1 / 76
فإن اعتقدت أن إسم الدينار دليل على الأثر في النفس لا على المؤثر وذلك الأثر كلي، كان الإسم كليا لا محالة، وما قدمناه من الترتيب يعرفك أن الألفاظ لها دلالات على في النفوس، وما في النفوس مثال لما في الأعيان وسيأتي مزيد للعاني الكلية المرتسمة في النفوس بسبب مشاهدة الأشخاص الجزئية في كتاب أحكام الوجود ولواحقه.
القسمة الرابعة للفظ
قسمته من حيث إفراده وتركيبه
اعلم أن اللفظ ينقسم إلى مفرد ومركب، والمركب ينقسم إلى مركب ناقص وغلى مركب تام، فهي ثلاثة أقسام:
الأول
هو المفرد وهو الذي لا يراد بالجزء منه دلالة على شيء أصلا حين هو جزؤه كقولك عيسى وإنسان، فإن جزئي عيسى وهما " عي وسا " وجزئي إنسان وهما " إن وسان " مايراد بشيء منهما الدلالة على شيء أصلا. فإن قلت: فما قولك في عبد الملك؟ فاعلم أنه أيضا مفرد إذا جعلته إسما علما كقولك زيد، وعند ذلك لا تريد بعبد دلالة على معنى ولا بالملك دلالة على معنى. فكل منهما من حيث هو جزؤه لا يدل على شيء فيكونان كأجزاء
1 / 77
إسم زيد وهما إسمان في الصورة جعلا إسما واحدا كبعلبك ومعد يكرب، فإن اتفق أن يكون المسمة به عبدا للملك تحقيقا فيكون هذا الإسم مطلقا عليه من وجهين: احدهما في تعريف ذاته فيكون الإسم مطلقا عليه من وجهين: أحدهما في تعريف ذاته فيكون الإسم مفرادا، والآخر في تعيف صفته في عبودية الملك فيكون قولك عبد الملك وصفا له فيكون مركبا لا مفردا، فافهم هذه الدقائق فإن مثار الأغاليط في النظريات تنشأ من إهمالها.
والمركب التام هو الذي كل لفظ منه يدل على معنى والمجموع بدل دلالة تامة بحيث يصح السكوت عليه، فيكون من إسمين ويكون من إسم وفعل. والمنطقي يسمى الفعل كلمة والمركب الناقص بخلافه.
فقولك: زيد يمشي والناطق حيوان؛ مركب تام، وقولك: في الدار أو انسان؛ مركب ناقص لأنه مركب من إسم وأداة لا من إسمين ولامن إسم وفعل، فإن مجرد قولك " زيد في " أو " زيد لا " لا يدل على المعنى الذي يراد الدلالة عليه في المحاورة ما لم يقل زيد في الدار أو زيد لا يظلم، فإنه بذلك الإقتران والتتميم يدل دلالة تامة بحيث يصح السكوت عليه.
1 / 78