Mecca and Medina in the Pre-Islamic Period and the Era of the Prophet Muhammad (PBUH)
مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول صلى الله عليه وسلم
ناشر
دار الفكر العربي
اصناف
مقدمة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم الكتاب
يتناول هذا الكتاب فترة من أهم فترات تاريخ العرب والإسلام، بل هي -في نظرنا- أهم فترات هذا التاريخ، إذ تمثل القاعدة التي تقوم عليها دراسة التاريخ الإسلامي، وبدون دراستها دراسة علمية صحيحة لا يمكن الإلمام بأحداث التاريخ الإسلامي، وفهم تطوراته في الداخل والخارج فهمًا صحيحًا.
وأحسب أن أحدًا لا يستطيع أن يزعم وصف عصر النبي ﷺ وتصوير البيئة التي نشأ فيها وقامت فيها النهضة العربية -أمر ليس له من الخطورة العظيمة في تاريخ العرب والإٍسلام ما يستحق الاهتمام الكبير: فبيئة ظهر فيها النبي ﷺ وقام فيها برسالته، وتوطدت فيها الديانة الإسلامية، بما فيها من قواعد ونظم كان لها أعظم الأثر في حياة العالم. وبيئة قامت فيها النهضة العربية؛ واندفع منها العرب إلى العالم المتمدن، فاستطاعوا أن يقوضوا سلطان أكبر إمبراطوريتين كانتا تتحكمان في عالم يومئذ، وتسيطران على مقدراته. وبيئة خرج منها عباقرة القواد ونوابغ الساسة والإداريين والحكام والقضاة؛ هذه البيئة جديرة بأن تفرد لها البحوث وتخصص لدراستها المتخصصون.
ومع الأهمية العظيمة لهذه الفترة -كقاعدة لدراسة التاريخ الإسلامي- فإنها لم تحظ بالعناية الكافية من المؤرخين القدماء والمحدثين على السواء، وظلت تدرس عل هامش الدراسات الإسلامية.
فالذين كتبوا السيرة النبوية قديمًا لم يهتموا إلا بذكر ما له علاقة بالنبي ﷺ نفسه-: من نسب وأسرة وقبيلة، وولادة وكفالة، وأسفار وزواج قبل البعثة. وقلما تطرقوا إلى ذكر شيء مما كان عليه عصره وبيئته من حالات اجتماعية واقتصادية وسياسية ودينية، يستطيع المرء أن يقف منها على صورة وافية لما كانت عليه الحياة في عصر النبي ﷺ وما كانت عليه الأحوال في مدينة مكة التي ولد فيها وقضى أكثر سني بعثته، والتي
1 / 3
كانت بدايتها مركز النواة من النهضة العربية التي أخذت تباشيرها تظهر في أواخر العصر الجاهلي، ثم توَّجها ظهور الإسلام. ومدينة يثرب التي هاجر إليها، وأقام فيها دولة وحَّدت العرب وقادت نهضتهم الكبرى. والتي كانت بذاتها مستعدة لتلقي هذا الحدث الخطير، ثم النهوض بذلك العبء الجليل.
والنتف القليلة التي وردت في هذه الكتب القديمة عما كانت عليه الحالة قبل الإسلام، إنما كانت استطرادية من ناحية، وقد غلبت عليها مسحة التعميم والإطلاق من ناحية أخرى. كما أنه لا يخلو كثير منها من طابع الصنعة والوضع والتلفيق. وحتى أقدم هذه الكتب وأكثرها جدية وأمانة. وأشدها رغبة في التحفظ والتحوط، من أمثال سيرة ابن هشام، وهي أقدم ما حفظ لنا الزمن مما كتب في سيرة النبي ﷺ وتاريخ الطبري وهو مثل ابن شهام قدمًا وجدية وأمانة، وطبقات ابن سعد وهي كذلك من كتب السيرة القديمة المعتبرة، نجد في كثير مما روته من الروايات وسردته من الأخبار -ولاسيما فيما يتعلق بالفترة التي سبقت الإسلام- ذلك الطابع ظاهرًا من الصنعة والوضع والتلفيق، قد دونوها كما وصلت إليهم، أو نقلوها عمن سبقهم، منها ما أشاروا هم إليه، ومنها ما لم يشيروا إليه، ولكنه لا يخفي على نظر الباحث المدقق.
هذا بالإضافة إلى أن كثيرًا مما ورد من روايات وأخبار عن حالة العرب في الجاهلية، يقف منها الباحث موقف التحفظ الشديد؛ إذ يلمس فيها القصد ظاهرًا في التقليل من شأن العصر الذي سبق البعثة النبوية؛ من حيث الحضارة المادية والأدبية والمدارك العقلية. والحقيقة أن المسلمين الأولين أخذوا بالنهضة الإسلامية وفتنوا بما جاء به الإسلام من مُثل، وما حققه للعرب من وحدة وحضارة، فضربوا صفحًا عن كل ما سبقه، وكأنهم حين تخلصوا من الوثنية وعفوا عن آثارها ألحقوا بها كل ما كان من نظم الحياة وشئونها قبل الإسلام، وكأنما الأمة العربية -عندهم- ولدت بظهور الإسلام ميلادًا جديدًا.
وإلى جانب كتب السيرة توجد بعض الكتب والرسائل، وبعض الفصول والبحوث في الكتب العربية الأدبية والتاريخية والفنية عن حياة العرب قبل الإسلام وعاداتهم وتقاليدهم. غير أن هذه كلها قد كتبت بأسلوب عام مطلق، لم يتناول البيئة العربية التي نشأ فيها النبي ﷺ وقامت فيها رسالته بصورة خاصة من ناحية، وأن ما
1 / 4
ورد فيها من روايات جاءت متفرقة غير مرتبة، وقد اختلط فيها الغث بالسمين، والباطل بالصحيح؛ بحيث لا يسع الباحث إلا أن يقرأها بتحفظ شديد، وإلا أن يتردد كثيرًا في أخذها كحقائق تاريخية؛ أو حتى كروايات موثوق بها، من ناحية أخرى؛ وذلك لأن هذه الروايات ظلت محفوظة في الصدور تتداولها الألسن، ولم تدون إلا في وقت متأخر، كانت الأهواء قد لعبت فيها دورًا كبيرًا؛ بما أصاب الوحدة الإسلامية من تفكك، بظهور الفرق والأحزاب السياسية. وقد استند أصحاب هذه الكتب والرسائل والبحوث إلى هذه الروايات وأخذوها كحقائق تاريخية بنوا عليها أبحاثهم وتقريراتهم دون تمحيص على الأغلب.
وما وصل إلينا من الشعر المنسوب إلى الجاهليين -بغض النظر عن صحة نسبته إليهم أو عدم صحتها- لا يمكن أن نجد فيه مرآة صادقة للحياة العربية قبل الإسلام؛ وذلك لأن هذا الشعر إنما عَني بحياة البادية ولم يمس حياة الحضر إلا مسًّا رفيقًا هينًا، فوق أنه نحا نحوَ تمثيل الجانب المثالي في الخلق العربي من شجاعة وكرم ومروءة، وذلك لما طبعت عليه حياة الفخر والمباهاة من تمدح وتزيد، كما سلك جانب التطرف حين عدد المثالب والمذام. هذا إلى خلوه تقريبًا من تصوير الحياة العامة واقتصاره على الجانب الوجداني من حياة الأفراد.
والمؤرخون المحدثون الذين تناولوا كِتابة السيرة النبوية أو تاريخ الصدر الأول للإسلام، وتطرقوا إلى وصف مظاهر الحياة العربية في الجاهلية؛ لم يصوروا ذلك العصر وتلك البيئة تصويرًا يمكن أن يقال إن فيه غناء؛ على الرغم مما امتازت به بعض كتبهم من سلامة المنهج وقوة البحث؛ وذلك لأن بعضهم تناول موضوعًا واسعًا، وبعضهم قصد إلى معالجة جانب خاص أو تناول تاريخ الرسالة النبوية وحدها دون العناية بالحياة العربية قبلها، مع أن دراسة تاريخ الرسالة النبوية لا يمكن أن يكون واضحًا ومفهومًا إلا بدراسة العصر نفسه. ولم يتناول أحد -بصورة علمية منهجية- دراسة تاريخ المدينتين الحجازيتين -مكة والمدينة- في بحث متخصص، على اعتبار أنهما حاضرتا الحجاز، وقاعدة البيئة العربية التي قامت فيها النهضة في الجاهلية والإسلام.
وقد كتب كثير من المستشرقين عن ذلك العصر في سياق ما كتبوا عن حياة النبي ﷺ وظهور الإسلام. غير أن للمستشرقين طرائق في البحث والاستنباط قد تجعل
1 / 5
الكثيرين منهم يتحكمون تحكمًا في الآراء والنتائج، ويقعون في أوهام وأغلاط خطيرة، إما بسبب تعظيم خبر أو رواية قد لا تكون صحيحة في أصلها، أو تكون قد فهمت على غير وجهها الصحيح، أو رجحت دون مبرر صحيح للترجيح. وإما بسبب عدم القدرة على فهم روح اللغة العربية وأسرارها البلاغية. كما أن بعضهم في كثير من الأحيان يفترضون افتراضات تجعلهم يقيسون مع الفارق، ويسوغون ما لا يمكن تسويغه،؛ بسب عدم قدرتهم على فهم البيئة العربية فهمًا صحيحًا. فوق أنهم استندوا أصلًا إلى المصادر العربية القديمة وفيها من المآخذ ما أشرنا إليه، ولم تكن لهم القدرة اللغوية على تمحيص ما بها تمحيصًا صحيحًا. كما أن بعضهم قد كتب في تاريخ الإسلام لغرض معين، فكتب ما كتب بدافع الهوى، وأحيانًا بدافع الحقد. فلجئوا إلى كل شاردة من الروايات مهما كانت ضعيفة أو تافهة في سبيل تثبيت نظرية خاصة يريدون الإدلاء بها؛ فتورطوا في بحوثهم، وخرجوا بها عن جادة العلم والبحث والأمانة.
لكل ما سبق كان أمرًا ضروريًّا أن يقوم أحد الباحثين بدراسة علمية لهذه الفترة، وبخاصة تاريخ المدينتين الحجازيتين -مكة والمدينة- في العصر الجاهلي وعهد الرسول ﷺ حتى تسد هذه الثغرة الظاهرة في الدراسات العربية والإسلامية.
وإذا كنا نريد أن ندرس الحياة الجاهلية دراسة موثقة صحيحة؛ فعلينا أن ندرسها في نص لا سبيل إلى الشك في صحته، على أن يكون مرآة صادقة لهذا العصر، وليس هناك مصدر ثابت لا سبيل إلى الشك فيه غير القرآن الكريم، فضلًا عن أنه أصدق مرآة للعصر الجاهلي ولحياة الرسول ﷺ والدعوة الإسلامية نفسها.
وحين نقول: إن القرآن مرآة الحياة الجاهلية فإنما ذلك لأنه ليس من اليسير أن نفهم أن القرآن نزل ليتلى على ناس لا يفهمونه ولا يقفون على أسراره ودقائقه؛ فإن الذين تليت عليهم آياته أعجبوا به أشد الإعجاب، ولا يكون ذلك إلا أن تكون بينهم وبينه صلة، هي هذه الصلة بين الأثر الفني البديع وبين الذين يعجبون به حين يسمعونه أو ينظرون إليه. كذلك فإن العرب قد آمن بعضهم بالقرآن وناهضه بعضهم الآخر، وجادل النبي ﷺ فيه وقاومه، ولا يكون ذلك إلا لأن الناس فهموا القرآن ووقفوا على أسراره، وإلا لما آمن به مَن آمن وجادل فيه وناهضه من جادل وقاوم، وليس من الممكن أن نصدق أن القرآن كان جديدًا كله على العرب، وإلا لما فهموه ولا وعوه، ولا آمن به بعضهم وناهضه وجادل فيه آخرون. إنما كان القرآن جديدًا حقًّا في أسلوبه، وفيما يدعو إليه، وفيما شرع للناس من دين وقانون.
1 / 6
وقد عرض القرآن للحياة العربية من جوانبها المختلفة: الدينية والعقلية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.
فأما من الناحية الدينية، فقد رد القرآن على الوثنيين، ورد على اليهود، ورد على النصارى، وعلى الصابئة، والمجوس. وهو لم يرد على يهود فلسطين، ولا نصارى الروم، ولا مجوس الفرس، ولا صابئة الجزيرة وحدهم، وإنما رد على فرق من عرب الجزيرة العربية كانت تمثلهم وتدين بهذه الديانات والنحل كلها؛ فهو يبطل منها ما يبطل، ويؤيد منها ما يؤيد، وهو يلقى من المعارضة والتأييد بمقدار ما لهذه النحل والديانات من سلطان على نفوس الناس، وبمقدار ما لأصحابها من قيمة وخطر في الحياة السياسية والاجتماعية في بلاد العرب. ولا نجد هذا واضحًا في مصدر من مصادر البحث يمكن أن نرجع إليه غير القرآن الكريم. فالقرآن إذن أصدق تمثيلًا لحياة العرب الدينية من كل مصدر آخر، وهو إذ يصور لنا هذا الجانب من حياتهم إنما يصورهم أصحاب دين يجادلون عنه ويقاتلون في سبيله.
والقرآن لا يمثل الحياة الدينية وحدها؛ وإنما يمثل حياة عقلية قوية عند العرب، فهو يمثلهم ذوي قدرة على الجدل والخصام، ويشهد لهم في هذا بقوة الجدل والقدرة على الخصام والشدة في المحاورة، وهم لم يكونوا يجادلون في أمور بسيطة هينة من أمر الدين، وإنما كانوا يجادلون في مسائل عويصة معضلة أنفق الفلاسفة وينفقون فيها حياتهم دون أن يوفقوا لحلها: كانوا يجادلون في الخلق، والبعث والحساب، وفي إمكان اتصال الله تعالى بالناس، وفي الوحي والمعجزة وما إلى ذلك. والقرآن يصورهم أذكياء علماء، ولا يصفهم جهلاء ولا أغبياء، ولا يصفهم بالغلظة والخشونة كما يصفهم الواصفون.
ولا نقول هذا على العرب على الإطلاق، وإنما كان العرب كغيرهم من الأمم القديمة، منقسمين إلى طبقتين: طبقة المستنيرين الذين يمتازون بالجاه والمال والذكاء والعلم. وطبقة الذين لا يكادون يملكون حظًّا من هذا كله؛ وإنما كانوا تبعًا لسادتهم يسيرون حيث ساروا. وكذلك مثل القرآن العرب؛ فتحدث عن كبرائهم وما هم عليه من نعمة وما هم عليه من معرفة، كما تحدث عن جهالهم، وصور جفاء أعرابهم وغلظة أكبادهم وموت العاطفة عندهم.
1 / 7
والقرآن لا يمثل العرب أمة مدنية مستنيرة فحسب؛ بل ويمثلها أمة غير معتزلة لغيرها من الأمم، فهي ليست قابعة في صحاريها لا تعرف العالم ولا يعرفها العالم، وإنما كانت على صلة وثيقة بجيرانها من الأمم الأخرى، تشارك في نشاط العالم السياسي، وتهتم بسياسات الأمم الكبرى في ذلك الوقت من فرس وروم وأحباش، ولها مع هذه الأمم نشاط اقتصادي كبير؛ تحمل التجارة العالمية عبر صحرائها بين الشرق والغرب في رحلتي الشتاء والصيف. بل ويصورها القرآن عارفة بالبحر تتخذه طريقًا وتحصل منه على منافع كثيرة من الصيد والغوص، واحتفاء القرآن بالبحر وما يجري عليه من منشآت في البحر كالأعلام، ومَنُّهُ على العرب بالنعم التي يحصلون عليها من البحر كبير، يقطع بأن عرب الجزيرة العربية لم يكونوا يجهلون البحر، بل ولهم فيه نشاط ملحوظ وفائدة منه عظيمة.
فالعرب إذن لم يكونوا على غير دين، ولم يكونوا جهالًا ولا غلاظًا، ولم يكونوا في عزلة سياسية أو اقتصادية بالقياس إلى غيرهم من الأمم.
وكما عرض القرآن لحياة العرب الاقتصادية الخارجية، كذلك عرَض لحياتهم الداخلية. وقسمهم في هذه الناحية كذلك إلى: أغنياء مستأثرين بالثروة مسرفين في الربا، وفقراء معدمين ليس لهم من المال ما يقاومون به هؤلاء الأغنياء المرابين. وكما وقف القرآن يأخذ بيد الجهال ينير عقولهم ويرفع من كرامتهم، كذلك أخذ جانب الفقراء المستضعفين في صراحة وقوة وناضل عنهم وعن حقوقهم، وحارب المسرفين في ظلمهم. وسلك في ذلك مسالك مختلفة: من القوة والعنف حين حرم الربا وحمل على المرابين وأنذرهم بالحرب من الله ورسوله. ومن اللين والرفق حين أمر بالبر وحبب في الصداقة. ومن المزاوجة بين اللين والشدة حين فرض الزكاة وجعل للفقراء حقًّا في مال الأغنياء. كما أن القرآن عرض لتنظيم المعاملات ليحفظ الحقوق وليقيم العدالة بين المتعاملين.
وبالجملة فقد عرض القرآن لكل الحياة العربية من كافة نواحيها، لذلك كان مرآة صادقة للحياة العربية في الجاهلية.١.
_________
١ انظر طه حسين: في الأدب الجاهلي "القرآن مرآة الحياة الجاهلية" ص ٧٠-٨٠ طبع المعارف.
1 / 8
وإذا كان القرآن مرآة للحياة الجاهلية، فهو مرآة أشد صفاء لحياة النبي ﷺ وأطوار الرسالة الإسلامية والأحداث التي مرت بها، ولا يمكن أن يكون كتاب أوفى من القرآن وأوضح في تصويره في هذه الفترة.
والمصدر الثاني الذي يجب أن نعتمد عليه بعد القرآن هو الحديث الشريف، فإن أحاديث النبي ﷺ بما فيه من أوامر ونواه، قد تناولت الحياة التي كانت جارية في ذلك الوقت، وعرضت لكل ما كان قائمًا من نظم الحياة الدينية والفكرية والاجتماعية والسايسية والاقتصادية، فأقرت ما رأته صالحًا، وعدلت ما يستقيم بالتعديل، ونهت عما رأته ضارًّا أو فاحشًا من حياة الناس؛ فالحديث الشريف لذلك هو المصدر الذي يلي القرآن في الأهمية، على أن يرجع إليه في كتب الحديث الصحاح، وعلى أن يلم الباحث بما وضع علماء الحديث من قوانين التعديل والجرح لمعرفة أوثق الأحاديث.
وإذا كنا قد أخذنا القرآن والحديث مصدرين أساسيين لبحث هذه الفترة من حياة الأمة العربية، فليس معنى هذا أننا نهمل المصادرالأخرى من شعر وتاريخ وتراجم وأنساب، وكل ما عرض له القدماء من ذكر للحياة العربية. بل نأخذ من كل منها ما يعطي من طاقة؛ لتكون الصورة التي نرسمها واضحة تامة، بشرط ألا يناقض ما نأخذ منها ما له ذكر في المصدرين الأساسيين.
وأحسب أنني حين التزمت بالقيام بهذا البحث -الذي أقدمه للقراء في هذا الكتاب- قد بذلت ما في وسعي من طاقة، وأعطيته ما يتناسب مع أهمية الموضوع من جهد ووقت. وكل أملي أن أكون قد فتحت به بابًا لدراسة هذه الفترة العظيمة الأهمية من حياة العرب والإسلام. وحسبي هذا جزاء مكافئًا، والله وحده هو الذي يتولى الجزاء. ومنه الهدى وهو ولي التوفيق..
القاهرة في أول نوفمبر ١٩٦٥
الدكتور
أحمد إبراهيم الشريف
1 / 9
جغرافية الجزيرة العربية والتشكيل القبلي
شبه جزيرة العرب
*
...
الفصل الأول: شبه جزيرة العرب
هي أكبر شبه جزيرة في العالم، يبلغ متوسط عرضها سَبعمائة ميل، ومنتهى طولها ألف ومائتا ميل، ومساحتها تبلغ حوالي مليون مربع١.
ويطلق العرب عليها -تجاوزًا- اسم جزيرة العرب٢؛ يرون البحار والأنهار تكاد تحيط بها من جميع أقطارها وأطرافها، فالخليج العربي، والبحر العربي، والبحر الأحمر تحدها من الشرق والجنوب والغرب، ويكمل الفرات الحد الشرقي. كما يكمل النيل الحد الغربي؛ ليلتقيا بالحد الشمالي وهو البحر المتوسط. وهذا التحديد الذي يقول به الهمداني يدخل بلاد الشام كلها، والبادية التي بين العراق والشام، وبادية سيناء في جزيرة العرب٣، وهو يتفق مع التحديد الذي قال به "هيرودوت" حيث اعتبر النيل الحد الغربي لقارة آسيا وجعل صحراء مصر الشرقية كما هي معروفة الآن جزءًا من الجزيرة العربية٤، والفارق بين تحديد الهمداني وهيرودوت أن الأول لم يدخل صحراء مصر الشرقية في جزيرة العرب. وبتحديد الهمداني أخذ بعض الجغرافيين المحدثين٥، ويختلف الجغرافيون في الحد الشمالي؛ فمنهم من يجعله صحراء النفود، وبذلك يخرجون بادية الشام من جزيرة العرب، غير أن طبيعة الأرض الجيولوجية تدخل بادية الشام وسيناء فيها، إذ إنها جزء لا يختلف من حيث طبيعته الصحراوية وخواصه عن سائر أنحاء بلاد العرب٦.
_________
١ حافظ وهبة: جزيرة العرب في القرن العشرين ص١.
L.D. Stamp. Asia A Renional adn Economic Geogrophy. P. ١٣٣.
٢ الهمداني: صفة جزيرة العرب ٤٦- ٤٧/ الآلوسي: بلوغ الأرب ١/ ١٨٧. ياقوت: معجم البلدان ١/ ١٠٠.
٣ الهمداني: ٤٧.
٤ هيردوت Herodotas، Book ١١-١٦-١٧
٥ Stamp. of cit. p. ١٣٣
٦ حتى: تاريخ العرب ١٧ جواد علي: تاريخ العرب قبل الإسلام ١/ ٨٦.
1 / 13
وعلى ذلك فحد جزيرة العرب من الشرق بحر عمان وخليج البصرة -خليج العرب- ونهر الفرات، ومن الجنوب بحر العرب، ومن الغرب البحر الأحمر وبرزخ السويس -قناة السويس حاليًا- ومن الشمال البحر المتوسط.
وتحتل جزيرة العرب موقعًا ممتازًا بين قارات العالم الثلاث القديمة، فهي تقع في الركن الجنوبي الغربي من قارة آسيا، كما تتصل بالقارة الأفريقية في ركنها الشمالي الشرقي حيث برزخ السويس قديمًا وقناة السويس في الوقت الحاضر، كما أنها تشرف بحدها الشمالي على شرق البحر المتوسط الذي يصلها بقارة أوربا. أما من ناحية الخريطة الحضارية للعالم قبيل الإسلام؛ فإنها تقع عند نقطة التقاء الحضارتين السائدتين يومئذ وهما حضارة الفرس وحضارة والروم.
وإذا نظرنا نظرة عامة إلى خريطة بلاد العرب رأينا أنها أرَضون واسعة تنحدر تضاريسها من الغرب نحو الشرق، وهي مرتفعة في الغرب حيث جبال السراة١ الممتدة من سورية وفلسطين إلى اليمن. وهي توازي ساحل البحر الأحمر وتقترب منه في مواضع عديدة. ويتراوح ارتفاع هذه الجبال ما بين عشرة آلاف قدم وثلاثة آلاف قدم. فتبلغ قممها في الشمال -في مدين- وفي الجنوب -في اليمن وعسير- حوالي عشرة آلاف قدم، بينما تكون خلف مكة ثمانية آلاف قدم، وقرب المدينة تبلغ ثلاثة آلاف قدم٢، وتحصر بينها وبين ساحل البحر الأحمر أرض سهلية ضيقة تعرف بتهامة، تشرف عليها هذه المرتفعات وتنحدر إليها انحدارًا شديدًا قصيرًا، وسواحلها المهيمنة على البحر يصعب رسو السفن فيها لخلوها من المرافئ الصالحة، ولوجود الشعب المرجانية التي تمتد في بعض المواضع بعيدًا في البحر ٣.
وتتألف الأراضي الوسطى من هضبة تسمى نجد، وتختلف في الارتفاع ما بين ستة آلاف قدم إلى أربعة آلاف قدم ما بين عسير والطائف، وإلى ألفين ومائتي قدم عند العلا٤. وحد نجد الغرب واضح بجبال السراة. أما حدها الشرقي فهو غير واضح وربما امتد إلى قرب خليج العرب.
_________
١ السراة: أعلى كل شيء. تاج العروس ١٠/ ١٧٤. البلدان ١٠/ ١٠٤- ٢٠٥.
. Stamp. P. ١٣٤ K، S. Twlchell، Saudi Arabia. P ١٠
٣ جورج فضلو: العرب والملاحة في المحيط الهندي ص٢٥.
Twitchell. op. cit. p، ١٣٤
1 / 14
وتمتد في الأقسام الجنوبية من شبه الجزيرة سلاسل من الجبال متفاوتة الارتفاع تشرف على المنخفضات الساحلية، وتكثر في الوديان التي تفصل بين هذه السلاسل الجبلية وتأخذ مختلف الاتجاهات، حيث تمثل اتجاهات المياه والسيول. ويبلغ ارتفاع الجبل الأخضر الذي يقع في الجنوب الشرقي من شبه الجزيرة، أي في عمان، زهاء عشرة آلاف قدم١.
وللحِرار أهمية خاصة في التشكيل الجغرافي للجزيرة العربية، وهي تكثر في شبه جزيرة العرب وخاصة في الأقسام الغربية. وتمتد حتى تتصل بالحرار التي في بلاد الشام في حوران ولا سيما في الصفاة٢، كما توجد في المناطق الشرقية الجنوبية من نجد، وفي المناطق الجنوبية والجنوبية الغربية، وقد ذكر علماء العرب من المؤرخين والجغرافيين أسماء عدد منها، كما عثر السياح الأجانب على عدد منها٣.
والحرة أرض بركانية وجمعها حرار، يقال لها اللابة واللوبة٤ وقد تكونت من فعل البراكين، ويشاهد منها نوعان: نوع يتألف من فجوات البراكين نفسها، ونوع يتألف من حممها اللابة Lava التي كانت تقذفها فتسيل على جوانب الفتحة، ثم تبرد وتتفتت بفعل التقلبات الجوية، فتكون ركامًا من الأحجار البركانية التي تغطي الأرض بطبقات قد تكون رقيقة وقد تكون سميكة، وقد وصفها العلماء فقالوا: الحرة أرض ذات حجارة سود نخرة كأنها أحرقت بالنار٥، ويكون ما تحتها أرضًا غليظة من قاع ليس بأسود، وإنما سودها كثرة حجارتها وتدانيها. وتكون الحرة مستديرة فإذا كان لها امتداد مستطيل ليس بواسع فذلك الكراع٦.
_________
١ جواد على: ١/ ٨٧. Stamp: op. cit. p. ١٣٤ C،M. ٤٢-٤١٧ vol.P.P.Daughty، Travels in Arabia Deserta.
٣ جواد على: ١/ ٨٩ Allics Musil، in The Arabian Dsert
٤ البلدان ١٧/ ٢. لسان العرب ٢/ ٢٤٢. الطبراني ٣/ ٢٢١.
٥ البلدان ١٧/ ٣. المصباح المنير "طبع وزارة المعارف عام ١٩٢٠" ١/ ١٧٧١.
٦ الحرار: أنواء البراكين. اللابة أو اللوبة: المناطق التي غطتها حمم البراكين وسالت فوقها وجفت. الكراع: أعناق الحرار. انظر لسان العرب ٢/ ٢٤٢، ١٠/ ١٨٢. القاموس ٣/ ٧٨ المصباح المنير ٢/ ٧٢٩ "الكراع الأنف السائل من الحمة، وأكارع الأرض أطرافها، والواحد أيضًا كراع ومنه كراع الغميم أي طرفه".
1 / 15
وقد اشتهر كثير من مناطق الحرار بالخصب والنماء، وبكثرة المياه فيها؛ ولا سيما حرار المدينة التي استغلت استغلالًا جيدًا، ومنها خبير فكثرت قراها وكثر سكانها. حتى قيل إنها خير قرى عربية، غير أن ظهور العيون فيها بكثرة، جعلها موطنًا من مواطن الحمى. اشتهر أمرها في الحجاز، حتى قيل حمى خيبر١.
أما من الناحية الهدروجرافية فإن بلاد العرب في الوقت الحاضر في جملة البلاد التي تكاد تنعدم فيها الأنهار والبحيرات، ويندر سقوط الأمطار عليها؛ ولذلك صارت أكثر بقاعها صحراوية قليلة السكان. غير أنها كثيرة الأودية التي تسيل في بعضها المياه عند سقوط الأمطار، وبعضها طويل يسير في اتجاه ميل الأرض. كما أن بعضها الآخر وبخاصة التي تصب في البحر الأحمر قصير عميق المجرى شديد الانحدار، تنحدر فيه السيول بشدة إلى البحر فتضيع فيه، وربما كانت في بعض الأحيان خطرًا يهدد القوافل والمدن والأملاك، ويأتي على الناس بأفدح الخسائر ٢.
وليس في شبه جزيرة العرب نهر واحد بالمعنى المعروف من الأنهار ٣، وما فيها من جداول غير صالح للملاحة٤، فهي إما قصيرة سريعة الجريان شديدة الانحدار، أو ضحلة تجف في بعض المواسم. غير أن العلماء يستنتجون من اتجاه الأودية ومن وجود العاديات والخرائب وآثار السكنى على أطرافها، والترسبات التي تمثل قيعان الأنهار، أن هذه الأودية كانت في الحقيقة أنهارًا في يوم من الأيام، وأن جوانبها كانت مأهولة بالسكان زاخرة بالحياة، ويؤيد هذا الاستنتاج ما ورد في كتب اليونان والرومان من وجود أنهار طويلة في بلاد العرب، فقد ذكر هيرودوت اسم نهر دعاه كورس قال عنه: إنه من الأنهار العظيمة، وإنه يصب في البحر الأريتري ٥. ويقصد به البحر الأحمر.
_________
١ البلدان ٨/ ٤١٠.
كأن به إذ جئته خيبرية ... يعود عليه وردها وملالها
قلت لحمى خيبر استعدي ... هالك عيالي فاجهدي وجدي
وباكري بصالب وورد ... أعانك الله على ذا الجند
٢ حتى ص ٢٠ البتنوني الرحلة الحجازية ص ٢٥٩ "عن السيول انظر البلاذري فتوح البلدان والطبري، والأزرقي في أخبار السيول".
٣ الإصطخري: المسالك والممالك ص٢١.
٤ حتى ٣١. جورج فضلو. العرب والملاحة ص ٢٥.
٥ جواد علي ١/ ١٨. Hcrodotus: vol. l. p. ٢١٤
1 / 16
ويرى بعض العلماء أن المكان الذي ذكره هيرودوت هو وادي الحمض المار بشمالي قرح١. -على مسافة ٤٣ كيلو مترًا من الحجر-. وقد كانت عامرة فيما مضى بالزروع والبساتين وهي المعروفة ببساتين قرح، ويوجد بالقرب منها سقيا يزيد، أو قصر عنتر، كما تسمى في الوقت الحاضر على بعد ٩٨ ميلًا من شمال المدينة٢. كما ذكر بطليموس اسم نهر عظيم سماه lar زعم أنه ينبع من منطقة نجران، أي من الجانب الشرقي من السلسلة الجبلية، ثم يسير نحو الجهة الشمالية الشرقية مخترقًا بلاد العرب حتى يصب في الخليج العربي٣. ويرى بعض العلماء أن هذا النهر الذي يشير إليه بطليموس هو وادي الدواسر، والذي تمده بعض الأودية المتجهة من سلاسل جبال اليمن بمياه السيول٤.
ومن آثار السدود والنواظم التي ترجع إلى ما قبل الإسلام يمكن الاستدلال على أن العرب كانوا على علم واسع بتنظيم أمور الإرواء، والاستفادة من مياه الأمطار والسيول والأنهار، كما تدل كثرة المصطلحات في اللهجات العربية الشمالية والجنوبية على معرفة العرب بأنواع الآبار، والسدود، والمساك، والنحايت وغير ذلك من الوسائل التي استخدمت للحصول على الماء ٥.
وإذا كانت البحار تحيط بجزيرة العرب؛ فإن الجو البحري لم يستطع أن يخفف من حدة الحرارة فيها أو يتغلب على جفافها، فإن الأبخرة المتصاعدة من البحر لا تكاد تصل إلى أواسط الجزيرة العربية، إذ إن الرياح السمائم الشديدة الحر تقاومها مقاومة شديدة، وتمنعها في الغالب من الوصول إلى أواسط شبه الجزيرة ٦، على أن الأقسام
_________
١ البلدان ١٥/.٣٢- ٣٢١ "وكانت من أسواق العرب في الجاهلية وزعم بعضهم أن بها كان هلاك عاد قوم هود، ما يدل على أنها من المواضع القديمة في بلاد العرب".
٢ "إصطبل عنتر" وهبة: ٢- البلدان ١٠/ ٢٢٨.
٣ جواد علي ١/ ٩٨.
٤ وهبة ٥٤.
٥ بئر سك= ضيقة الخرق وقيل الضيقة المحفر من أولها إلى آخرها (لسان ٤٠/ ٤٤ والمسك، والمساك الموضع الذي يمسك الماء) (اللسان ١٢/ ٣٧٨) . جواد علي: ١/ ١٠١.
٦ حتى ٩. جواد علي ١/ ٨٦.
1 / 17
الجنوبية كثيرة المطر، تجلبه إليها الرياح الموسمية. ولأهل اليمن عناية بتصريف المياه والانتفاع بها منذ زمن بعيد، وقد أشار القرآن الكريم إلى ما كان في اليمن من حضارة وعمران وخصب ورخاء فقال: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾ [سبأ] . أما بقية بلاد العرب فتتكون من صحار، وسهول تغلب عليها الطبيعة الصحراوية.
وتدل البحوث والدراسات التي قام بها السياح والعلماء عن بلاد العرب. على أن تغييرًا كبيرًا طرأ على جوها، وأن هذا الجفاف الذي نعهده الآن في هذه البلاد لم يكن على النحو الذي كانت عليه في العصور التي سبقت الإسلام، وأن ذلك الجفاف أثر تأثيرًا كبيرًا في شبه جزيرة العرب. فجعل أكثر بقاعها صحاري جرداء؛ كما أثر في حالة سكانها، فقاوم نشوء المجتمعات الكبرى وأثر تأثيرًا خطيرًا في تاريخ الأمة العربية، وفي حدوث الهجرات١.
ويرى العلماء أن الرياح الغربية الباردة المشبعة بالرطوبة كانت تصل إلى أرض شبه الجزيرة العربية وتنزل المطر عليها، وأن هذه البقاع الصحراوية كانت خضراء آهلة بالسكان، فمثلًا المنطقة الواقعة بين العلا، ومُعان من المناطق الصحراوية الآن، وقد كانت من مناطق الغابات المكتظة بالأشجار المملوءة بالحيوانات المفترسة٢.
وكانت جبال الطائف تمون مكة بالأخشاب الصالحة للبناء والوقود؛ كذلك المنطقة الواقعة بين مكة وعرفة كانت حتى القرن السادس عشر الميلادي مغطاة بالأشجار وبالعوسج والسلم، وهي من الشجيرات الصحراوية، وقد عرف وادي القرى -الذي لا بد أن يكون قد سمي بذلك لكثرة القرى فيه -بكثرة بساتينه ومياهه وقراه، وهو طريق عالمي قديم تسلكه القوافل في طريقها بين الشام واليمن، أما اليوم فقد جفت ينابيعه وفقد أكثر قراه، واضطر أهله إلى الهجرة أو إلى المعيشة المتنقلة كما يفعل الأعراب٣. كما أن المسافة بين اليمن والشام كانت عامرة بالقرى زاخرة بالحياة، حتى إن المسافر لم يكن في حاجة إلى التزود ٤، وقد عبر القرآن الكريم عن ذلك في حديثه
_________
١ جواد علي ١/ ٩٧ وانظر عن تغيير المناخ ١.
Hnzayyin، Aradia and the far East. P.P٢-٤
٢ Op. Cit. P.٥
٣ البلدان ١٥/ ٣٣٨.
٤ الإصطخري ٢١.
1 / 18
على السبئيين: ﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِي وَأَيَّامًا آمِنِينَ﴾ [سبأ] ١. وهناك أمثلة تاريخية كثيرة ذكرت عن أقوام هلكت كعاد وثمود وأصحاب الأيكة٢، ومدن ذكرها الكتاب اليونانيون والرومان لم يبق لها أثر، وكتابات عثر عليها السياح في مواضع صحراوية مهجورة٣. كل ذلك يدل على مدى التغيير الذي طرأ على بلاد العرب -سواء أكان من الناحية المناخية أم من الناحية الجيولوجية ٤- فأدى إلى مقاومة الحضارة، ومنع نشوء المجتمعات الكبرى بها، وحول أراضيها إلى بقاع صحراوية، وطبع الحياة فيها بطابع الرحلة والانعزالية الاجتماعية والسياسية. ويميل كثير من السياح وعلماء طبقات الأرض الذين جابوا أنحاء شبه الجزيرة إلى تأييد القول بظهور الجفاف في الألف الثاني قبل الميلاد٥.
_________
١ تفسير النسفي ٣/ ٢٤٧.
٢ القرآن الكريم: الفجر: ٦- ٩. الأعراف: ٣٣-٧٩. الشعراء: ١٤١-١٥٩الشمس:١١-١٥.
٣ جواد علي: ١/ ١١٥.
٤ Huzyyin، oit. P.٥
٥ جواد علي: نفسه.
أقسام شبه الجزيرة العربية قسم العرب جزيرتهم تقسيمًا مسايرًا لطبيعتها الجغرافية إلى خمسة أقسام، وهي: تهامة، والحجاز، ونجد، والعروض، واليمن. وزاد الإصطخري وابن حوقل ثلاثة أصقاع هي بادية العراق، وبادية الجزيرة، وبادية الشام١. ويجمل الهمداني أقوال الجغرافيين العرب عن هذا التقسيم فيما يلي:- فصارت بلاد العرب من هذه الجزيرة التي نزولها وتوالدوا فيها على خمسة أقسام عند العرب في أشعارها وأخبارها: تهامة - الحجاز- نجد- العروض- اليمن. وذلك أن جبل السراة، وهو أعظم جبال العرب وأذكرها، أقبل من قعرة اليمن حتى بلغ أطراف الشام، فسمته العرب حجازًا؛ لأنه حجز بين الغور وتهامة وهو هابط، وبين نجد _________ ١ الإصطخري: ٢٠- ٢١. القلشقشندي: صبح الأعشى ٤/ ٢٤٥.
أقسام شبه الجزيرة العربية قسم العرب جزيرتهم تقسيمًا مسايرًا لطبيعتها الجغرافية إلى خمسة أقسام، وهي: تهامة، والحجاز، ونجد، والعروض، واليمن. وزاد الإصطخري وابن حوقل ثلاثة أصقاع هي بادية العراق، وبادية الجزيرة، وبادية الشام١. ويجمل الهمداني أقوال الجغرافيين العرب عن هذا التقسيم فيما يلي:- فصارت بلاد العرب من هذه الجزيرة التي نزولها وتوالدوا فيها على خمسة أقسام عند العرب في أشعارها وأخبارها: تهامة - الحجاز- نجد- العروض- اليمن. وذلك أن جبل السراة، وهو أعظم جبال العرب وأذكرها، أقبل من قعرة اليمن حتى بلغ أطراف الشام، فسمته العرب حجازًا؛ لأنه حجز بين الغور وتهامة وهو هابط، وبين نجد _________ ١ الإصطخري: ٢٠- ٢١. القلشقشندي: صبح الأعشى ٤/ ٢٤٥.
1 / 19
وهو ظاهر. فصار ما خلف ذلك الجبل في غربيه إلى أسياف البحر من بلاد الأشعريين وعك وكنانة وغيرها، ودونها إلى ذات عرق والجحفة وما صاقبها وغار من أرضها: الغور؛ غور تهامة، وتهامة تجمع ذلك كله. وصار ما دون ذلك الجبل من شرقيه من صحاري نجد إلى أطراف العراق والسماوة وما يليها: نجدًا، ونجد تجمع ذلك كله.
وصار الجبل نفسه سراته، وهوالحجاز، وما احتجز به في شرقيه من الجبال وانحاز إلى ناحية فيد والجبلين إلى المدينة، وراجعًا إلى أرض مذحج من تثليث وما دونها: حجازًا، والحجاز يجمع ذلك كله.
وصارت بلاد اليمامة والبحرين وما والاهما: العروض، وفيها نجد وغور لقربها من البحر، وانخفاض مواضع منها ومسايل أودية فيها، والعروض يجمع ذلك كله.
وصار ما خلف تثليث وما قاربها إلى صنعاء، وما والاها من البلاد إلى حضرموت والشحر وعمان، وما يلي ذلك: اليمن، وفيها التهائم والنجد. واليمن تجمع ذلك كله.
هذا إجمال تقسيم الجزيرة تقسيمًا طبيعيًّا كما يراه جغرافيو العرب. والقسم الذي يهمنا الحديث عنه في هذا البحث هو الحجاز؛ ولذلك نعرض له بشيء من التفصيل:
_________
١ الهمداني: صفحة ٤٧- ٤٨.
الحجاز يقول الجغرافيون العرب: إن الحجاز هو الجبال الحاجزة بين الأرض العالية نجد وبين الساحل الواطئ تهامة، فهو إذن الجبال الممتدة من خليج العقبة إلى عسير. لكن اسم الحجاز في العرف يشمل تهامة أيضًا، وقد عد بعض العلماء تبوك وفلسطين من أرض الحجاز١. طول الحجاز من الشمال إلى الجنوب حوالي ٧٠٠ ميل، وعرضه من الشرق إلى الغرب ٣٥٠ ميلًا٢. وتعد جبال السراة العمود الفقري لشبه جزيرة العرب. ويجعلها الجغرافيون العرب قاعدة لتقسيماتهم، كما أشرنا من قبل، وتتصل السلاسل بسلسلة جبال الشام المهيمنة على البادية، وبعض قمم هذه الجبال الحجازية _________ ١ البلدان: ٣/ ٢١٨ "مطبعة السعادة بالقاهرة". ٢ وهبة: ١٤.
الحجاز يقول الجغرافيون العرب: إن الحجاز هو الجبال الحاجزة بين الأرض العالية نجد وبين الساحل الواطئ تهامة، فهو إذن الجبال الممتدة من خليج العقبة إلى عسير. لكن اسم الحجاز في العرف يشمل تهامة أيضًا، وقد عد بعض العلماء تبوك وفلسطين من أرض الحجاز١. طول الحجاز من الشمال إلى الجنوب حوالي ٧٠٠ ميل، وعرضه من الشرق إلى الغرب ٣٥٠ ميلًا٢. وتعد جبال السراة العمود الفقري لشبه جزيرة العرب. ويجعلها الجغرافيون العرب قاعدة لتقسيماتهم، كما أشرنا من قبل، وتتصل السلاسل بسلسلة جبال الشام المهيمنة على البادية، وبعض قمم هذه الجبال الحجازية _________ ١ البلدان: ٣/ ٢١٨ "مطبعة السعادة بالقاهرة". ٢ وهبة: ١٤.
1 / 20
مرتفعة وقد تتساقط الثلوج عليها كجبل دباغ الذي يرتفع ٢.٣٠٠ م عن سطح البحر. وجبل وتر، وجبل شيبان. وتنخفض هذه السلاسل عن دنوها من مكة فتكون القمم في أوطأ ارتفاع لها، ثم تعود بعد ذلك للعلو، فتصل في اليمن إلى مستوى عال حيث تتساقط الثلوج على قممها١. ومن جبال الحجاز الجبال الواقعة في منطقة الطائف ومكة والمدينة، وجبال الطائف يبلغ علوها ستمائة متر، وجبل كَرَا في الطريق بين مكة والطائف ويبلغ علوه مائتي متر. وجبل رضوى بين المدينة وينبع ويرتفع إلى مائتي متر، وقد قال عنه ياقوت: إنه جبل منيف ذو شعاب وأودية، وإنه كثير المياه والأشجار٢. وقد ذكر الشعراء جبل رضوى كثيرًا. واتخذه العرب مثلًا للعزة والرسوخ٣.
أما منطقة السهول الواقعة بين جبال السراة والبحر الأحمر فهي سهول ضيقة في الغالب، تعرف بتهامة، تتغير في الاتساع من الجنوب إلى الشمال، فتكون عند اليمن حوالي ٤٠ ميلًا، ثم تأخذ في الضيق حتى تبلغ أقصى ضيق لها عند العقبة٤، وهذه السواحل حارة رطبة في الغالب غير صحية في بعض الأماكن ٥. ويطلق على أقسام التهائم الغور، أو السافلة لانخفاض بقاعها ٦، ويقال القسم الشمالي من الحجاز أرض مدين وحَسْمى نسبة إلى سلسلة الجبال المسماة بهذا الاسم ٧. وهو ما يلي أيلة إلى الجنوب، وتتخللها أودية محصورة بين التيه وأيلة من جهة، وأرض بني عذرة من ظهر حرة نهيل بقرب خيبر من جهة أخرى. وكانت تسكنها في الجاهلية قبائل جذام ٨.
_________
١ حتى: ٢١. الواسعي: تاريخ اليمن: ٨٠.
٢ البلدان: ٩/ ٥١ الإصطخري: ٢٥.
٣ قال حسان:
لنا حاضر نعم وماض كأنه
شماريخ رضوى عزة وتكرما
وقال أبو العلاء:
وقد نطحت بالجيش رضوى فلم تنل
ولزت برايات الخميس قباء
٤ Twitchell. op. cit. P. ١١
٥ Ibid. p. ١٤
٦ البلدان: ١٤/ ٢١٧، ٥/ ٦٣.
٧ البلدان: ٧/ ٢٥٨- ٢٥٩.
٨ نفس المصدر.
1 / 21
أودية الحجاز:
وفي الحجاز أودية تسيل من الحرار صوب الشرق والغرب إلى نجد من ناحية. وتهامة فبحر القلزم -البحر الأحمر- من ناحية أخرى. وأعظم أودية الحجاز وادي إضم، ويسمى اليوم وادي الحمض الذي سبق الإشارة إليه؛ وهو يسيل من الجنوب الشرقي لحرة خيبر، ويسير نحو الجنوب الغربي حتى يقارب يثرب. حيث تتصل به أودية فرعية منها وادي العقيق، ويتصل به كذلك وادي القرى، وهو يستمد مياهه من السيول التي تنحدر إليه من العيون التي عند خيبر، ثم يتجه غربًا حيث يصب في البحر الأحمر جنوب قرية الوجه١. وعند هذا المصب بقايا قرية يونانية قديمة وبقايا معبد يعرف عند الأهالي باسم: كصر كريم٢ وهي من بقايا المستعمرات اليونانية التي اتخذها التجار اليونانيون عند ساحل البحر لحماية سفنهم من القرصان وللاتجار مع الأعراب، ولتموين سفنهم بما تحتاج إليه من ماء وزاد. ويبلغ طول وادي الحمض زهاء ٩٠٠ كيلو متر٣.
ويبدأ وادي الرُّمة بالحجاز عند حرة فدك من التقاء بضعة أودية، ثم يتجه نحو الشرق حتى يصل إلى القصيم. ويبلغ طوله أكثر من ٩٥٠ كيلو مترًا ٤.
ومن أودية الحجاز وادي الصفراء، وهو واد كثير النخل والزرع في طريق الحاج سلكه رسول الله ﷺ غير مرة، وبينه وبين بدر مرحلة، وعليه قرية الصفراء، وهي قرية كثيرة النخل والزرع وماؤها عيون تجري إلى ينبع، وهي لجهينة والأنصار ولبني فهر ونهد ورضوى ٥.
ووادي القرى واد مهم يقع بين تيماء وخيبر؛ ويمر به طريق القوافل القديم الذي كان شريانًا من شرايين الحركة التجارية في العالم القديم، ويقال له وادي الديدبان ٦.
_________
١ البلدان: ٢/ ٢١٥، ٧/ ٣٠٥. وهبة: Twitchell. op. cit p.١١
٢ عن جواد علي: ١/ ١٠٠. Morits، S، ٢٣
٣ Ibid. ٢٤.
٤ البلدان: ٩/ ٧٢، ويقال له بطن الرمة. وهبة: ٢٠. الهمداني: ١٤٤.
٥ الهمداني: ١٤٤ البلدان: ١٢/ ٤١٢. وهبة: ١٥.
٦.Daughty، op. oit.vol.l،P، ١٨٩
1 / 22
وكان عامرًا جدًّا تكثر فيه المياه، وتشاهد فيه إلى اليوم آثار المدن والقرى١، التي كانت متصلة على طول الطريق من سبأ إلى الشام٢، وقدعثر فيه على كتابات كثيرة لِحيانية ومعينية وسبئية وغيرها٣.
_________
١ البلدان: ١٥/ ٣٣٨، ١٩، ٣٤٥.
٢ انظر الآية ١٨ من سورة سبأ.
٣ جواد علي: ١/ ١٣٠.
مدن الحجاز: ويشتمل الحجاز على مدن وقرى كثيرة أهمها مصرًا بلاد العرب: مكة والمدينة أويثرب، كما توجد به الطائف وخيبر، ووادي القرى. والاعتبارات الجغرافية والاقتصادية هي التي ساعدت على نشوء هذه المدن الحجازية فالحجاز -كما قلنا- إقليم جبلي مساير للبحر الأحمر من الجنوب إلى الشمال، من اليمن إلى فلسطين، وكان يمر به أحد طريقي التجارة البريين الهاميين بين الشرق والغرب مبتدئًا من مواني اليمن مخترقًا تهامة والحجاز، مارًّا بمكة ويثرب. حتى يصل إلى أيلة على خليج العقبة، ثم مواني البحر المتوسط. والتجارة بين الشرق والغرب هامة جدًّا وضرورية، وذلك لاختلاف المناخ بين أقطار الشرق الهندي والغرب الأوربي، مما استتبع اختلاف الغلات وحاجة كل منهما إلى منتجات الآخر، وفي هذا نجد سر الأهمية الكبيرة التي اتفقت لِتَدْمُر المدينة القديمة الواقعة في البادية، فكانت تحمي القوافل وتضمن سلامة المواصلات١. وأصبح العرب، بعد أن خرب الرومان تدمر، سادة مطلقين لتلك الطرق بالتدريج، وقد أعانهم معرفتهم بالبادية ودروبها وتعودهم الحياة فيها، على أن يتصرفوا تصرف السادة في تلك البقاع بلا منازع، كما مكنتهم تربيتهم للإبل -وهي الحيوان الوحيد القادر على السير في الصحراء مدة طويلة- من نقل المتاجر والقيام على تنظيم القوافل؛ والإبل معروفة منذ أقدم الأزمنة التاريخية _________ ١ جورج فضلو: الملاحة في المحيط الهندي: ٥٨.
مدن الحجاز: ويشتمل الحجاز على مدن وقرى كثيرة أهمها مصرًا بلاد العرب: مكة والمدينة أويثرب، كما توجد به الطائف وخيبر، ووادي القرى. والاعتبارات الجغرافية والاقتصادية هي التي ساعدت على نشوء هذه المدن الحجازية فالحجاز -كما قلنا- إقليم جبلي مساير للبحر الأحمر من الجنوب إلى الشمال، من اليمن إلى فلسطين، وكان يمر به أحد طريقي التجارة البريين الهاميين بين الشرق والغرب مبتدئًا من مواني اليمن مخترقًا تهامة والحجاز، مارًّا بمكة ويثرب. حتى يصل إلى أيلة على خليج العقبة، ثم مواني البحر المتوسط. والتجارة بين الشرق والغرب هامة جدًّا وضرورية، وذلك لاختلاف المناخ بين أقطار الشرق الهندي والغرب الأوربي، مما استتبع اختلاف الغلات وحاجة كل منهما إلى منتجات الآخر، وفي هذا نجد سر الأهمية الكبيرة التي اتفقت لِتَدْمُر المدينة القديمة الواقعة في البادية، فكانت تحمي القوافل وتضمن سلامة المواصلات١. وأصبح العرب، بعد أن خرب الرومان تدمر، سادة مطلقين لتلك الطرق بالتدريج، وقد أعانهم معرفتهم بالبادية ودروبها وتعودهم الحياة فيها، على أن يتصرفوا تصرف السادة في تلك البقاع بلا منازع، كما مكنتهم تربيتهم للإبل -وهي الحيوان الوحيد القادر على السير في الصحراء مدة طويلة- من نقل المتاجر والقيام على تنظيم القوافل؛ والإبل معروفة منذ أقدم الأزمنة التاريخية _________ ١ جورج فضلو: الملاحة في المحيط الهندي: ٥٨.
1 / 23
في الجزيرة العربية؛ فقد وجدت رسومها على النقوش١. وتحدثت عنها التوراة٢. وتنظيم القوافل استتبع اتخاذ محطات ومنازل لإراحتها وتزويدها بما تحتاج إليه من ماء. ومن البديهي أنه عندما تريد قافلة أن تنزل لتريح دوابها، لابد أن تختار مكانًا مناسبًا يتوافر فيه الخصب والماء لتجد الإبل ما تطعمه ولتتزود القافلة بالماء، كذلك يتوفر فيه حصانة الموقع حتى تطمئن إلى حراسة الأموال والتجارة التي معها. وعلى مر الزمن صارت محطات هذه القوافل ومنازلها مدنًا شيئًا فشيئًا، وكانت أغلب هذه المدن في الحجاز، وأهمها:
_________
١ انظر جواد علي ج١ النقش بين صفحتي ٣٩٢- ٣٩٣، ج٢٠ بين ص ٢٩٨- ٢٩٩، ٣٠٢- ٣٠٣.
٢ التوراة: سفر القضاء إصحاح: ٥-٦.
مكة: وتقع في واد على شكل سهل منبسط محاط بجبال ذات شعاب١ تحيط بالوادي إحاطة كاملة. وقد أغنت على مر الزمن عن بناء سور لحماية المدينة. فمن الممكن للقافلة التي تنزل في هذه البقعة أن تتحصن في هذه الشعاب بواسطة حراسها، كما يوجد بها بئر يستقي منه المسافر وهو بئر زمزم. وبمكة وجد البيت الحرام الذي عاصر أولية هذه المدينة بل إنه -كما تقول الروايات- هو أول بناء فيها، وقد أكسبها حرمة وقدسية وجعلها مهوى أفئدة العرب جميعًا، الأمر الذي ضمن لها التفوق على غيرها من مدن الحجاز. وإذن فكل ما تتطلبه القافلة المسافرة في بلاد قاحلة متوافر فيها. _________ ١ الإصطخري: ٢١. البلدان ١٨/ ١٨١- ١٨٨. وهبة: ٢٣.
الطائف: وتقع على بعد خمسة وسبعين ميلًا إلى الجنوب الشرقي من مكة، على ربوة عالية يبلغ ارتفاعها عن سطح البحر خمسة آلاف قدم، على ظهر جبل غزوان١. وتحف بها وديان كثيرة تسيل فيها المياه في موسم الأمطار، وحولها عيون وآبار كثيرة، وهي خصيبة تنبت الأشجار والفواكه والحبوب إلى الوقت الحاضر، كما أن جوها لطيف بالنسبة لعلوها، فاعتدال الجو وخصوبة التربة حببا إلى المسافر أن ينزل فيها وإلى المستعمر أن ينتجعها. _________ ١ البلدان: ١٣/ ٩ الإصطخري: ٢٤ وهبة: ٣٥.
مكة: وتقع في واد على شكل سهل منبسط محاط بجبال ذات شعاب١ تحيط بالوادي إحاطة كاملة. وقد أغنت على مر الزمن عن بناء سور لحماية المدينة. فمن الممكن للقافلة التي تنزل في هذه البقعة أن تتحصن في هذه الشعاب بواسطة حراسها، كما يوجد بها بئر يستقي منه المسافر وهو بئر زمزم. وبمكة وجد البيت الحرام الذي عاصر أولية هذه المدينة بل إنه -كما تقول الروايات- هو أول بناء فيها، وقد أكسبها حرمة وقدسية وجعلها مهوى أفئدة العرب جميعًا، الأمر الذي ضمن لها التفوق على غيرها من مدن الحجاز. وإذن فكل ما تتطلبه القافلة المسافرة في بلاد قاحلة متوافر فيها. _________ ١ الإصطخري: ٢١. البلدان ١٨/ ١٨١- ١٨٨. وهبة: ٢٣.
الطائف: وتقع على بعد خمسة وسبعين ميلًا إلى الجنوب الشرقي من مكة، على ربوة عالية يبلغ ارتفاعها عن سطح البحر خمسة آلاف قدم، على ظهر جبل غزوان١. وتحف بها وديان كثيرة تسيل فيها المياه في موسم الأمطار، وحولها عيون وآبار كثيرة، وهي خصيبة تنبت الأشجار والفواكه والحبوب إلى الوقت الحاضر، كما أن جوها لطيف بالنسبة لعلوها، فاعتدال الجو وخصوبة التربة حببا إلى المسافر أن ينزل فيها وإلى المستعمر أن ينتجعها. _________ ١ البلدان: ١٣/ ٩ الإصطخري: ٢٤ وهبة: ٣٥.
1 / 24
يثرب:
وتقع على بعد ثلاثمائة ميل إلى الشمال من مكة، كما تبعد ينبع عن مينائها على البحر الأحمر مائة وثلاثين ميلًا١. وهي في أرض بركانية بين حرتين، وقد اشتهرت بالخصب والنماء، وفي شمالها جبل أحد. ومن أوديتها وادي العقيق الذي تصب فيه مياه عذبة، كما أن المزارع تحيط بها من جميع الجهات ماعدا الجهة الغربية٢ والمسافر يجد فيها كما يجد المقيم حاجته من زاد وأمن.
ونحن لا نستطيع تحديد أولية هذه المدن فهي من أقدم العصور، ولا شك أن التجارة كان لها شأن كبير في إقامة هذه المدن وظهورها، وخاصة مكة التي تعتمد اعتمادًا كليًّا في حياتها على ما يجلب لها من الخارج لعدم وجود الزراعة بها، فموقع الحجاز بين الشام واليمن، وكونه ممرًّا واستراحة للقوافل، ساعد على أن تقوم به هذه المدن التجارية. وفي أجزاء كثيرة من العالم، في أوربا وأفريقيا وآسيا عرف التاريخ مدنًا قامت للتجارة، وكانت كل مدينة من هذه المدن ذات نظام سياسي مستقل، عرف في التاريخ باسم الدول المدينية.
وأظهر مثل لهذه الدولة المدينية، المدن اليونانية في التاريخ القديم، والمدن الإيطالية في العصور الوسطى مثل: جنوه، والبندقية، وفلورنسة.
وكانت مكة والمدينة -يثرب- من هذا النوع من المدن. وكانت مكة لموقعها المتوسط بين الشام واليمن٣، وعلى طريق التجارة، مركزًا هامًّا جدًّا، بل إنها في القرن السادس الميلادي كانت أهم المراكز التجارية في شبه جزيرة العرب٤، وأما المدينة -يثرب- فلا بد من أنها كانت منافسة لمكة لوقوعها على نفس الطريق، غير أن وحدة السكان في مكة ووجود البيت الحرام بها، جعلها أقدر من يثرب على التفوق التجاري والثقافي وأظهر في التنظيم الإداري -كما سوف نبين فيما بعد- وإن كانت
_________
١ البلدان: ١٧/ ٨٢- ٨٨. الإصطخري: ٢٣. وهبة: ١٦.،Twitchsll op. cit، p.١٢
٢ البتنوني: الرحلة الحجازية: ١٦١.
٣ البلدان: ١٨/ ١٨٧.
٤ Husayyin، op. cit. p. ١٤٢- ١٤٣
1 / 25