في الليلة السابقة ليوم الحفل، قدم الغداء في موعده المحدد في الساعة السادسة والنصف، لكن حين يكون العدد قليلا فإن الغداء كان يقدم في غرفة صغيرة متاخمة لغرفة الطعام الرسمية، حيث يتسع المكان لثمانية أشخاص يجلسون بأريحية حول الطاولة المستديرة. وفي السنوات السابقة كانت الحجرة الكبرى ضرورية لأن عائلة جاردنرز - وكذلك أخوات بينجلي أحيانا - كانوا ضيوفا في بيمبرلي لحضور الحفل، لكن السيد جاردنر لم يكن يجد سهولة قط في ترك أعماله، ولم تجد زوجته كذلك سهولة في أن تبتعد عن أطفالها. كان ما يحبه كلاهما أكثر هو زيارة صيفية حيث يمكن للسيد جاردنر أن يستمتع بصيد السمك وتستمتع زوجته بالتنزه مع إليزابيث في عربة فيتون يجرها حصان واحد. كانت الصداقة بين السيدتين تعود لسنوات طويلة كما كانت وثيقة، وكانت إليزابيث تكن تقديرا كبيرا لنصائح عمتها. والآن، هناك أمور ستسر كثيرا بأن تسمع نصيحتها بشأنها.
وعلى الرغم من أن الغداء كان ذا طابع غير رسمي، فقد تحركت المجموعة معا بصورة طبيعية ليدخلوا إلى غرفة الطعام في ثنائيات. وفي الحال قدم الكولونيل يده إلى إليزابيث، وتحرك دارسي نحو جين، وقدم بينجلي ذراعه إلى جورجيانا في شيء من التودد. وحين رأت إليزابيث أن ألفيستون كان يسير وحيدا خلف آخر ثنائي منهم، تمنت لو أنها رتبت الأمور بشكل أفضل، لكن كان من الصعب دوما إيجاد سيدة مناسبة دون مرافق لها في وقت قصير، كما أن الاجتماع على العشاء قبل الحفل لم يكن ذا أهمية من قبل. وبالقرب من جورجيانا كان هناك كرسي فارغ، وحين جلس فيه ألفيستون، استطاعت إليزابيث أن تلحظ ابتسامة الغبطة والسرور العابرة على وجهه.
وحيث أخذ كل منهم مجلسه، قال الكولونيل: «السيدة هوبكنز ليست معنا مرة أخرى هذا العام. أليست هذه هي المرة الثانية التي تفوت فيها الحفل؟ ألا تستمتع أختك بالرقص، أم أن للقس ثيودور اعتراضات دينية فيما يخص الحفلات؟»
قالت إليزابيث: «لم تكن ماري محبة للرقص قط، وقد طلبت أن نتغاضى عن حضورها، لكن بكل تأكيد ليس هناك أي اعتراضات من جانب زوجها على مشاركتها في الحفل. لقد أخبرني في آخر مرة كانا يتناولان الطعام فيها هنا أن أي حفل يقام في بيمبرلي ويحضره الأصدقاء والمعارف لا يمكن أن يكون له تأثير ضار لا على الأخلاق أو الآداب.»
همس بينجلي إلى جورجيانا قائلا: «مما يوضح أنه لم يشرب قط الحساء الأبيض الخاص ببيمبرلي.»
سمع الآخرون تلك الملاحظة، فأثارت شيئا من الابتسام والضحك فيما بينهم. لكن هذا المزاح لم يستمر طويلا. فقد كان الحديث الحماسي المعتاد على الطاولة غائبا، وكان هناك وهن وكسل لم يستطع بينجلي حتى بما يتمتع به من طلاقة وحس دعابة أن يخرجهم منه. وحاولت إليزابيث ألا ترمق الكولونيل بنظرها كثيرا، لكنها أدركت حين كانت ترمقه كيف أن نظراته كانت مثبتة على الثنائي الجالس أمامه. وقد بدا لإليزابيث أن جورجيانا - بفستانها الأبيض البسيط والمصنوع من نسيج الموسلين وبإكليل الدرر الذي يستقر على شعرها الداكن - كانت جميلة أكثر من أي وقت مضى، لكن نظرة الكولونيل كانت تحمل في طياتها شيئا ينم عن التفكير والتأمل أكثر مما يعبر عن الإعجاب. بالطبع كان الثنائي الشاب يتصرفان بطريقة مثالية، فلم يكن ألفيستون يظهر اهتماما لجورجيانا أكثر من الطبيعي، وكانت جورجيانا تلتفت لتوجه حديثها بالتساوي بين ألفيستون وبينجلي، وكأنها فتاة صغيرة تتبع الأعراف والتقاليد الاجتماعية بإخلاص في عشائها الأول. وكانت هناك لحظة واحدة كانت تأمل ألا يكون الكولونيل قد التفت إليها. كان ألفيستون يخلط النبيذ بالماء لجورجيانا، فتلامست أياديهما ثواني قليلة، ولاحظت إليزابيث توردا خفيفا يزداد على وجنتي جورجيانا ثم يختفي بعد ذلك.
وبرؤيتها لألفيستون في ثيابه المسائية الرسمية، ذهلت إليزابيث مرة أخرى بحسن مظهره غير العادي. لا شك أنه كان مدركا أنه لا يمكن له أن يدخل أي مكان من دون أن تلتفت إليه كل امرأة حاضرة وتحول عينها نحوه. كان شعره الكثيف بلون بني متوسط مربوط من الخلف عند مؤخر رقبته. وكانت عينه بلون بني داكن أكثر، وفوقهما حاجبان مستقيمان، وفي وجهه علامات انفتاح وقوة أنقذته من أن يكون وسيما بدرجة أكثر من اللازم، وكان يتحرك في ثقة وطلاوة هينة. وكما تعلم إليزابيث، كان ألفيستون في الغالب ضيفا محبوبا ومفعما بالحيوية، لكنه بدا الليلة متأثرا بالإحساس العام بعدم الارتياح. وفكرت في نفسها أن السبب في ذلك قد يعود إلى التعب الذي أصاب الجميع. فقد سافر كل من بينجلي وجين مسافة 18 ميلا فقط، لكنهما تأخرا بفعل الرياح الشديدة، وبالنسبة إليها وإلى دارسي فإن اليوم الذي يسبق الحفل دائما ما يكون مشغولا بصورة غير اعتيادية.
ولم تساعد العاصفة القائمة في الخارج في تهدئة الأجواء في الداخل. فقد كانت الرياح تعوي من وقت لآخر، وكانت النار تصدر صفيرا وخشخشة وكأنها كائن حي، ومن حين لآخر كانت إحدى القطع الخشبية فيها تتحرك، فتندفع منها ألسنة لهب مذهلة فتلقي بضوء أحمر لحظي على وجوه من يتناولون الطعام فكانوا يبدون وكأنهم محمومون. وكان الخدم يتحركون في صمت، لكن كان ما أراح إليزابيث هو انتهاء وجبة العشاء، فاستطاعت عيناها أن تلتقيا بعيني جين، وبذا تحركت إليزابيث وجين وجورجيانا معا عبر الغرفة دخولا إلى غرفة الموسيقى.
الفصل الرابع
بينما كان يقدم الغداء في غرفة الطعام الصغيرة، كان توماس بيدويل قابعا في حجرة كبير الخدم ينظف الفضة. تلك كانت وظيفته منذ أربع سنوات حين استحال مع الألم في ظهره وركبته قيادة العربات، وكانت تلك مهنة يفخر بها، خاصة في تلك الليلة التي تسبق حفل الليدي آن. ومن الشمعدانات السبعة الكبيرة التي ستوضع بطول طاولة الغداء، نظف خمسة منها، وكان سينتهي من الاثنين الباقيين في هذه الليلة. كانت تلك المهمة مضجرة وتستغرق وقتا طويلا ومتعبة بشدة، وسيؤلمه ظهره وذراعاه ويداه كثيرا بمجرد أن ينتهي من عمله. لكن تلك المهمة لم تكن مخصصة للخادمات أو للصبية من الخدم. فقد كان كبير الخدم ستاوتن هو المسئول الأخير، لكنه كان مشغولا في اختيار النبيذ والإشراف على تحضيرات غرفة الرقص، وعد أن مسئوليته تقتضي أن يفحص الفضة بمجرد أن يتم الانتهاء من تنظيفها، وليس تنظيف أكثر القطع قيمة حتى بنفسه. وكان من المتوقع من بيدويل خلال الأسبوع السابق للحفل أن يقضي معظم ساعات النهار - وشيئا من ساعات المساء في الغالب - وهو جالس إلى الطاولة في حجرة المؤن يرتدي مئزره ومرصوص أمامه الأشياء الفضية التي تمتلكها عائلة دارسي - من سكاكين وشوك وملاعق وشمعدانات وأطباق فضية يقدم الطعام فيها، وأطباق تقديم الفاكهة. وبينما كان بيدويل يلمع الفضة كان يتخيل الشمعدانات بشموعها الطويلة وهي تلقي بالضوء على الرءوس المزينة بالمجوهرات، والأوجه المتوهجة والأزهار وهي تهتز في مزهرياتها.
نامعلوم صفحہ