موت الرجل الوحيد على الأرض
موت الرجل الوحيد على الأرض
اصناف
كان متجها ناحية الجسد المغطى بالعباءة، وحينما أصبح على بعد خطوات منه زحف على بطنه، ثم رفع العباءة من ناحية القدمين وأدخل رأسه من تحت العباءة، ثم شد جسمه زاحفا فوق الساقين ثم الفخذين.
لو فتح شيخ الخفر عينيه في هذه اللحظة لما ارتاب في شيء. فالعباءة كما هي فوق الجسد، ربما كانت هناك حركة خفيفة، لكنه أشبه بحركة الهواء منها بأي شيء آخر. ثم ما هو الشيء الآخر الذي يمكن أن يخطر ببال شيخ الخفر أو أي أحد من الإنس أو الجن؟ إنها قبل وبعد أي شيء ليست إلا جثة، ومن ذا الذي يمكن أن يسعى إلى جثة إلا الدود؟
لكن متولي كان كالدود يعيش في المقابر. يظل جالسا في مكانه على آخر الجسر حتى تسقط الشمس في الجب العميق، فينهض بخطواته العرجاء هابطا الجسر متجها ناحية المقابر، يبحث عن مكان يرقد فيه. قبل أن يرقد كان يتجول بين المقابر، ينثني من حين إلى حين ليلتقط قطعة خبز أو فطيرة تركها أهل ميت. بعد أن يأكل لم يكن يرقد على الفور، بل كان ينهض ويسير بخطوات بطيئة متجها نحو مقبرة من المقابر، يعرفها بحاسة الشم، ويحدد مكانها في الظلام عن طريق الرائحة، الرائحة التي يعرفها جيدا ويستطيع أن يميزها عن أي رائحة أخرى، رائحة الميت الجديد، أو الجسد الذي فارقته الحياة لكنه لا يزال دافئا.
بأصابعه الرفيعة المدببة ينبش التراب كقط يبحث عن قطعة لحم، وبيديه المدربتين ينزع الكفن عن الجسد. يلف الكفن ككرة من القماش، يدفنها حتى الصباح في حفرة من الأرض. أما الجسد فهو يزحف فوقه إذا كان أنثى، فإذا لم يكن قلبه على وجهه، ثم زحف فوق ظهره.
في الصباح يختفي متولي من كفر الطين. لا يسأل عنه أحد، ولا يعرف أحد أنه في الرملة أو في بهنوت جالسا على الرصيف في زحمة السوق يبيع بعض قطع قماش جديد لا يزال يعلوه شيء من غبار المقبرة. •••
أقبلت العربة يسبقها صوت البوق الحاد، وتعقبها زوبعة من التراب والأطفال وكلاب القرية. هبط من العربة بعض الأفندية، أحدهم من ورائه تمورجي يحمل حقيبة، والآخر من ورائه شرطي يجر كلبا، وبعض الرجال الآخرين يروحون ويجيئون، ويطردون الناس بعيدا ويلسعون الأطفال على أردافهم العارية بالعصا الخيزران.
كفر الطين كلها كانت فوق الجسر، الرجال بجلابيبهم وعصيهم، والنساء بالطرح السوداء، والأطفال بذبابهم وأنوفهم السائلة وأردافهم العارية. ثلاثة فقط لم يظهروا فوق الجسر. زكية كانت في دارها، جالسة على الأرض في المدخل الترابي وإلى جوارها زينب، صامتتين، عيناهما المرفوعة إلى أعلى شاخصة إلى الطريق في غضب أشبه بالتحدي أو في تحد أشبه بالغضب. في واجهتهما على مسافة غير بعيدة، كان هناك الباب الكبير قائما بأعمدته الحديدية يقود إلى البيت الضخم.
كان كفراوي جالسا القرفصاء، مختبئا في حقل الذرة، حين سمع الأصوات تقترب منه، يتقدمهم الكلب الذي لم يتوقف عن النباح. أدرك أنهم عرفوا مكانه فتسلل من بين أعواد الذرة وخرج إلى بطن الجسر. لمحه بعض الأطفال المتجمهرين فصرخوا: «كفراوي! كفراوي!» وجروا وراءه، لكنه استطاع أن يسبقهم وجرى ناحية النيل.
قبل أن يدركه الكلب، ومن خلفه رجال الشرطة، كان كفراوي قد خلع جلبابه، وألقى نفسه في النيل. لم يكن كفراوي يعرف لماذا هو يهرب، أو إلى أين يذهب، لكنه كان يريد أن يفر ويجري ولا يكاد يعرف تماما ما الذي حدث منذ كان راقدا إلى جوار الجاموسة.
سمع صوتا في الماء وأدرك أن رجلا يسبح بسرعة خلفه ويكاد يقترب منه، فأخذ يضرب الماء بذراعيه وساقيه، متطلعا نحو الشط الآخر من النيل، كأنما هناك النجاة، وقد نسي من اضطرابه أن الشط الآخر من النيل إنما هي بقية مزارع البرتقال التي يملكها العمدة.
نامعلوم صفحہ