موت الرجل الوحيد على الأرض
موت الرجل الوحيد على الأرض
اصناف
لكن الجسد الممدود فوق الجسر لم يعد ساخنا كما كان، يضربه هواء النيل ضربات خفيفة، محركا عنه العباءة البالية، فيظهر من تحتها كعبا علوان المشققان لا يزال يعلوهما طين الحقل.
هبت نسمة أزاحت العباءة قليلا، ولمح الحاج إسماعيل من تحت جفنيه المثقلين بالنوم الساق الطويلة المشعرة تمتد صاعدة إلى فخذ نافر العضلات. شد جفنيه منتفضا ومستيقظا فجأة، كأنما هوت فوق رأسه مطرقة، وتلفت حوله بعينين متباعدتين متنافرتين، إذا اتجهت العين اليمنى إلى الأمام اتجهت اليسرى إلى الخلف، وإذا اتجهت اليسرى نحو اليمين تحركت اليمنى نحو اليسار. ولدته أمه بهذا الحول وأصبح كالذي يرى الشيء شيئين، أو كالذي يرى نصف الشيء فقط؛ لأن عينا واحدة هي التي تنظر والعين الثانية تهرب في الاتجاه الآخر.
نهض وسار ناحية الجسد الممدود، وشد طرف العباءة ليغطي الجزء العاري فارتطمت يده بالفخذ المشعر المشدود العضلات. سرت فوق جسده رعدة، وعاد إلى مكانه في بطن الجسر، إلى جوار شيخ الخفر، وتكور حول نفسه لينام، لكن الفخذ المشعر العاري ظل أمام عينيه، تنظر إليه عين واحدة وتهرب الأخرى تحت الجفن. كان لا يزال صغيرا، في العاشرة تقريبا، وابن عمه يوسف أكبر منه، وأقوى منه، ذراعاه وساقاه يغطيهما الشعر الأسود، وعضلات فخذيه نافرة قوية، رآها لأول مرة فشعر بالخوف ، حاول أن يهرب لكن يوسف كان قد أغلق الحجرة. حاول أن يتملص لكن يد يوسف قبضت عليه كيد حديدية، قلبته على وجهه وشدت جلبابه من الخلف، ثم أحس بالجسد القوي الثقيل يضغط عليه، وأنفه انضغط في الأرض، ولم يعد الهواء يدخل صدره أو يخرج، وظل راقدا طول اليوم، حتى بعد أن فتح يوسف الباب وخرج. ظل هو راقدا في مكانه، وحينما سمع صوت أبيه يناديه من الدكان أغمض عينيه وتظاهر بالنوم. لكنه سمع وقع قدمي أبيه وهو يدخل الحجرة، وصوته الغاضب يناديه مرة ومرتين وثلاثا. أراد أن يفتح فمه ويرد، لكنه لم يستطع، ثم أحس اللكمة القوية في ظهره فانتفض واقفا على قدميه، وسار خلف أبيه إلى الدكان، حيث الرفوف الخشبية من فوقها الصابون والشاي والدخان والمعسل والتوابل. علمه أبوه كيف يعد القروش، وأين يضعها في الدرج ويغلقه بالمفتاح، وكيف يضع الدخان في كفة الميزان وفي الكفة الأخرى يضع قطعة صغيرة مربعة من الحديد، وقبل أن يغلق أبوه الدكان يجلس إلى جواره على الدكة الخشبية ويعلمه ضرب الحقن وفتح الدمامل والخراريج. بعد العيد الصغير سافر أبوه إلى الحجاز للحج، ولم يعد مرة أخرى، وترك له الدكان، وحقيبة صغيرة بها كماشة لخلع الضروس، وآيات قرآنية على شكل أحجبة، وإبرة للحقن، وموسى للطهارة، وزجاجة يود خالية وجافة منذ سنوات.
بدأ الصداع في مؤخرة رأسه؛ فأخرج منديله من جيب جلبابه وربط به رأسه. أغمض عينيه لينام، لكنه رأى شيئا كالشبح يقترب من الجسد الممدود فوق الجسر. لكز شيخ الخفر في كتفه هامسا: يا شيخ زهران!
انتفض شيخ الخفر واقفا، ويده بالحركة الغريزية أصبحت فوق البندقية، وهتف بصوته العالي: من هناك؟
لم يرد أحد. تطلع شيخ الخفر باحثا بعينيه الصغيرتين فلم ير أحدا. سار بضع خطوات حول الجثة متطلعا هنا وهناك، فوق الجسر، وفي حقول الذرة، وفي بطن الجسر، وحينما لم يجد أحدا عاد ليجد حلاق الصحة جالسا القرفصاء، وعيناه تتحركان في الظلام بغير توقف. - ما لك يا حاج إسماعيل؟ - أقسم بالله رأيت رجلا يا شيخ زهران. - يا رجل، نم وتوكل على الله! - رأيته يقترب من الجثة. - من ذا الذي يفكر في سرقة جثة؟ - ولكنني رأيته. - هل عرفته؟ - لا. لم أره جيدا. - لا بد أنه عفريت علوان يحوم حول جثته. - عفريت؟ ما عفريت إلا بني آدم.
ورمق الحاج إسماعيل شيخ الخفر بعينه الواحدة ثم قال متخابثا: عفريت من هذا الذي قتل علوان يا شيخ زهران؟
رد شيخ الخفر: كفراوي.
همس الحاج إسماعيل: كفراوي لا يقتل دجاجة يا شيخ زهران، وأنت تعرف ذلك.
قال شيخ الخفر بحماس: لكن حينما يكون الأمر يتعلق بالشرف والعرض، فإن أي رجل يمكن أن يقتل يا حاج إسماعيل. - هذا الكلام تقوله للناس وللضابط الذي سيحقق، وليس لي أنا يا شيخ زهران، ولكنك هذه المرة ضربت عصفورين بحجر واحد. المهم من هو القاتل هذه المرة؟
نامعلوم صفحہ