موسوعة مصر القديمة
موسوعة مصر القديمة (الجزء الأول): في عصرما قبل التاريخ إلى نهاية العصرالإهناسي
اصناف
والظاهر أن النيل لم يستتب في مجراه الحالي إلا منذ أزمان حديثة، ولا ريب أن سيره كان قد عوق في الأزمان الغابرة عند مرتفعات أسوان بحاجز من الجرانيت، ومكث مدة طويلة لم يتمكن من تذليل هذه العقاب الجرانيتية، فكانت مياه النهر تضطر أن تدور حول هذه الكتل الضخمة، ولكن فعل المياه تغلب في النهاية وشق مجراه الحالي، ولا تزال أحجار الشلال الأول شاهدة عدل على المقاومة التي كانت ولا تزال تعترض النهر في سيره.
يضاف إلى ذلك أنه كانت تعترض النهر الصخور النوبية الأقل صلابة من الجرانيت، وقد كانت هذه الصخور تؤلف عدة شلالات صغيرة من بداية مدينة السلسلة الحالية جنوبا، فكانت تعرقل سير النهر وتضع في طريقه العقبة تلو العقبة، وكذلك كان يصادفه في سير مستويات أعلى من مستوى مجراه الحالي مما حتم تكوين عدة بحيرات خلفها في جهات مختلفة في الوادي.
ولا أدل على ذلك من بقايا السد الذي كان يعترض النهر عند جبل السلسلة، وكذلك سهل «كوم أمبو» فإنه عبارة عن حوض ماء كانت تخزن فيه المياه التي كان يعوقها سد طبيعي اعترض لها في طريقها.
ويمكننا حسب نظام القوانين الطبيعية وتكوين الأنهار أن نحكم بأن النيل مر عليه عصران متتابعان متميزان في تاريخ تكوينه.
أولا: كان النهر في بادئ الأمر ذا مياه سيالة تجري في منحدر سريع من الجنوب إلى الشمال مما جعله يقطع لنفسه أولا مجرى عظيما جدا قريب الغور، كان ينحته لنفسه على كر السنين، ثم أخذ بعد ذلك ينكمش هذا المجرى الواسع شيئا فشيئا، وكان قطاع الوادي في هذا الطور يشبه رقم 7، ولكن الاختلافات التي كانت تحدث في مقدار حجم المياه المتدفقة سنويا ، وفي قوة التيارات كانت أحيانا تزيد في حدة التآكل في الصخور وأحيانا تقلل منها، ويمكن ملاحظة شدة هذا التآكل أو ضعفه في اختلاف حجم المدرجات التي يشاهد بعضها فوق بعض على طول شاطئ النهر؛ إذ الواقع أننا نراها الآن ظاهرة واضحة في الصخور، فتارة يكون المدرج واسعا وطورا يكون ضيقا مما يدل على عدم انتظام الظواهر الطبيعية.
أما العصر الثاني فإنا نشاهد فيه أنه بعد العهد الذي حفر النهر في خلاله مجراه قد خلفه عهد آخر ارتطم فيه المجرى ثانية، وتفسير ذلك أنه بعد عهد حفر النهر مجراه شوهد أن الجزء الأسفل من المجرى قد أصبح في عمقه يقارب عمق سطح البحر، ثم وقف بعد ذلك عند هذا الحد، غير أن فعل التآكل كان لا يزال سائرا في منحدر النهر، ولكن مخلفات هذا التآكل لم تكن تكتسح كلها إلى البحر لقلة الانحدار، بل كانت تتراكم في قعر النهر، وكانت هذه الرواسب تزداد من عام إلى عام في القعر مما سبب ارتفاع منسوب مجرى النهر وقلل من حدة انحداره، ومن ثم أصبح سير مائه معتدلا، وأخذت البلاد تستفيد منه، وهناك أدلة على هذه التغيرات واضحة ظاهرة في مجرى النهر من أسوان إلى البحر الأبيض المتوسط، فمثلا في منطقة القاهرة كان النيل في الزمن الجيولوجي الثالث له مجرى يبلغ عرضه في هذه النقطة مقدارا عظيما، وكان جبل المقطم وهضبة الأهرام هما الحدان اللذان يجري النهر في وسطهما في ذلك العهد، ولكن في الزمن الجيولوجي الرابع أخذت الرواسب تغمر هذا المجرى شيئا فشيئا، وكانت تتألف من الحصى الذي كان يندفع مع التيار، ثم بعد ذلك غطى في آخر الأمر بالغرين «الطمي الحديث»، ومن ثم أخذ المجرى الواسع ينكمش تدريجيا حتى أصبح ولم يبق من هذا المتسع العظيم في تلك النقطة إلا مجرى صغير لا يزيد في اتساعه عن بضع مئات الأمتار، وفي نهاية الأمر أخذ النيل يصب في البحر الأبيض المتوسط، غير أن ذلك لم يكن بوساطة مصبه الحالي، بل بخليج ثلاثي الشكل يبعد عن البحر بنحو 200 كيلومتر تقريبا، ولكن الرواسب التي كان يأتي بها النيل سنويا أخذت تغطي هذا المصب تدريجا حتى كونت منه الدلتا الحالية، ويشغل المصب القديم جزءا من مدينة القاهرة الحاضرة.
ومن مدهشات الصدف أن «هيكاته» السائح اليوناني قد وصف مصر، أو بعبارة أخرى وصف الدلتا بأنها منحة النيل، وقد نقل ذلك عنه فيما بعد «هيرودوت» أبو التاريخ، وقد جاء هذا الوصف مطابقا للواقع، بل هو الواقع نفسه، ولا جدال في أنه في هذا العصر السحيق لم تكن هناك أية صحار في أفريقيا الشمالية؛ إذ كانت كل هذه الأقاليم من المحيط إلى المحيط تغمرها رطوبة حارة تزيد من اخضرار الأراضي، ولا بد أن منظر هذه البقاع كان يشبه أقاليم شمال البحر الأبيض المتوسط، حيث يتوقف نمو النباتات على التقلبات الجوية وأمطارها الغزيرة التي تجعل وظيفة الأنهار في ري الأراضي مسألة ثانوية محضة، فقد كانت هذه الأمطار تكون البحيرات الشاسعة التي تسبح فيها التماسيح وجاموس البحر، وتنشأ فيها المستنقعات التي تحلق فوقها الطيور، وهذه المستنقعات كانت تشغل الأماكن المنخفضة، ولا تزال الواحات الحالية شاهدا ناطقا على ذلك، ولا أدل على حقيقة ما ذكرنا من وجود بركة قارون في الفيوم والبحيرات الملحة ووادي النطرون، وكانت في المناطق التي تحيط بهذه البحيرات حيوانات بعضها من آكلة الحشائش وبعضها من آكلة اللحوم، وقد انقرض بعض أجناسها واختفى نهائيا.
وعلى هذه الحال كانت تظهر للعيان الأرض المصرية عند بداية الزمن الجيولوجي الرابع، وهو الوقت الذي ظهرت فيه أول قبيلة بشرية.
والآن نبدأ بالكلام عن هذه العصور التي أخذ الإنسان يظهر فيها، ثم أخذ يتقدم نحو الرقي شيئا فشيئا حتى وصل إلى تدوين أفكاره بالكتابة وهو بداية العصر التاريخي. (2) عصور ما قبل التاريخ
نشأ علم ما قبل التاريخ في أوروبا، ولذلك كان من البديهي أن تكون كل مصطلحاته وتعابيره العلمية أوروبية محضة، وقد بدأت دراسة هذا العلم في غربي أوروبا، ولذلك نجد بعض الاختلافات عندما نريد تطبيق ما وصل إليه من النتائج في هذه الجهة بالنتائج التي وصل إليها في شرقي أوروبا، وليس من المستغرب إذن إذا كانت هناك اختلافات في النتائج التي عرفت في أوروبا أن نجد مثلها عند تطبيقها على باقي بلاد المعمورة الأخرى، وذلك أمر طبيعي؛ إذ إن تربة كل بلد وأحوالها تطبعها بطابع خاص يميزها عن غيرها من وجوه عدة.
نامعلوم صفحہ