فتأمل كيف ترتب عليهم هذا الوعيد وأوجب لهم النار؟ وقد ورد أنهم كانوا مكرهين على تكثير سواد المشركين فقط، فكيف بمن كثر سوادهم بغير إكراه وأعان وظاهر، وقال وفعل من غير استضعاف ولا إكراه؟ أترى بقي مع هذا شيء من الإيمان والحالة هذه؟.
وعيد من ترك الهجرة إلا المستضعفين
ثم إن الله تعالى بين في هذه الآية من خرج من هذا الوعيد بأوصاف لا تخفى على البليد فقال: ﴿إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ ١، فذكر أنهم الذين ﴿لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾ ٢، وهم العاجزون عن الهجرة من كل وجه، وهؤلاء هم الذين دعا لهم رسول الله ﷺ في حديث أبي هريرة المتقدم، بخلاف من لم يعجز عن الهجرة، بل اختارهم ورغب إليهم وسكن إليهم ووافقهم وتأيد بهم واستنصر مثل عبد الله بن أبي سرح ومقيس بن صبابة الليثي وأمثالهما مما تزين له الباطل، كجبلة بن الأيهم الغساني، وأمثال هؤلاء كثيرون. نسأل الله الثبات على الإسلام والعفو والعافية في الدنيا والآخرة.
والأمر الثاني: استدلالهم على جواز الإقامة مع المشركين أو تركهم الهجرة؛ لأن الصحابة هاجروا إلى الحبشة وفيها نصارى.
فيقال: (أولا): لا يجوز عند من له أدنى معرفة أن يستدل على ترك الهجرة بأن الصحابة هاجروا، وكيف يجوز في عقل من له أدنى مسكة من عقل أن يستدل لترك شيء بأن ذلك الشيء الذي تركه قد فعله غيره؟
وقد عرفت أن الله سجل على من ترك الهجرة بالوعيد الشديد وبرئ منه رسول الله ﷺ، وأثنى على من هاجر، ووعدهم على الهجرة بخيري الدنيا والآخرة كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ ٣.
وقال: ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ
_________
١ سورة النساء آية:٩٨: ٩٩.
٢ سورة النساء آية: ٩٨.
٣ سورة النحل آية: ٤١.
1 / 311