4
فليس في مستطاع الفلسفة «التأملية» أن تنقض لنا هذه القضية - وإن اختلفت في تفسيرها - وحسبنا ذلك؛ لأنه وحده دليل كاف على أننا ندرك الصدق ببداهة «الفهم المشترك».
فبالفهم المشترك نعرف أن العالم المادي موجود، وأن فيه أناسا غيرنا، وأنه قد لبث موجودا عدة سنين ... إلخ، فليس بنا حاجة إلى ميتافيزيقا تبرهن لنا على ذلك، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فلو كان هنالك من المعرفة ما ليس يأتينا به «الفهم المشترك» بفطرته ولا العلم بمشاهداته - كالقول بخلود الروح مثلا - فستعجز الميتافيزيقا كذلك عن إمدادنا بهذه المعرفة، بعبارة أخرى: ما نعرفه عن طريق الفهم المشترك والعلوم لا حاجة بنا فيه إلى الميتافيزيقا لتزيد من معرفتنا به، وما لا نعرفه عن ذلك الطريق ليس في وسع الميتافيزيقا أن تحيطنا علما به.
فخير ما تشغل الفلسفة نفسها به هو أن تحلل عبارة المتكلم التي يصدر فيها عن «فهم مشترك» أو عن بحث علمي، تحليلا يبين على وجه الدقة ما يراد بها من معنى حتى يصح لها أن تكون عبارة صادقة.
ليس صدق العبارات الآتية عن طريق «الفهم المشترك» موضع شك أو بحث في رأي «مور»، وكل ما قد تحتاجه هو التحليل الذي يوضحها ويبرز عناصرها، لا الدليل الذي يبرزها ويؤيدها، وقد نشر سنة 1925م بحثه المشهور «دفاع عن الفهم المشترك»،
5
جاء فيه: «هنالك في هذه اللحظة الراهنة جسم بشري حي، هو جسمي، وقد ولد هذا الجسم في وقت معين في الماضي، ولبث منذ ذلك الحين مستمرا على وجوده، وإن لم يخل من تغيرات سايرت وجوده، فمثلا كان أصغر مما هو الآن حين ولد، ولمدة من الزمن بعد ولادته، وقد ظل منذ ولادته حتى الآن ملامسا لسطح الأرض وغير بعيد عنه، وكان هنالك منذ ولد أشياء كثيرة أخرى لها شكل وحجم في أبعاد ثلاثة ... وكان جسمي على مسافات مختلفة من تلك الأشياء ...»
6
هكذا يأخذ «مور» في ذكر أشياء أدرك وجودها ب«الفهم المشترك» إدراكا لا يجوز أن يكون موضع شك، فمن العبث والباطل أن تلتمس الفلسفة إقامة البرهان على أن معرفتنا بأمثال هذه الأشياء صحيحة وقائمة على أساس سليم، فالفهم المشترك يدركها وفي ذلك الكفاية.
لا، بل إنه إذا جاءت فلسفة تزعم لنا حقائق ينكرها «الفهم المشترك» فهي فلسفة باطلة، إن جاء فيلسوف مثالي زاعما بأن المكان والزمان ليسا من عالم الطبيعة الخارجية، وزاعما بأن هذه المقاعد والمناضد لا وجود لها، تنكرنا لزعمه على أساس أن «فهمنا المشترك» يقرر حقيقة المكان والزمان ووجود المقاعد والمناضد، فالفلسفة «التأملية» (الميتافيزيقا) ليس في مقدورها أن تفند ما يقرره «الفهم المشترك»، أما «الفهم المشترك» ففي مستطاعه أن يفند الميتافيزيقا إذا جاءته بما يتعارض مع إدراكه.
نامعلوم صفحہ