نشأت الميتافيزيقا من غلطة أساسية، هي التي أشرنا إليها في ختام الفقرة السابقة، وهي الظن بأنه ما دامت هناك كلمة في اللغة، فلا بد أن يكون لها مدلول ومعنى، وكثرة تداول اللفظة ووجودها في القواميس يزيد الناس إيمانا بأنها يستحيل أن تكون مجرد ترقيم أو مجرد صوت بغير دلالة، لكن التحليل يبين لك أن مئات من الألفاظ المتداولة والمسجلة في القواميس هي ألفاظ زائفة، أو هي «أشباه ألفاظ» كما يسميها رجال الوضعية المنطقية، وما أشبه الأمر هنا بظرف يتداوله الناس في الأسواق مدة طويلة على أنه يحتوي على ورقة من ذوات الجنيه، حتى يكتسب الظرف قيمة الجنيه في المعاملات، وبعدئذ يجيء متشكك ويفض الظرف ليستوثق من مكنونه ومحتواه، وإذا هو فارغ وكان ينبغي أن يبطل البيع به والشراء، لو تنبه الناس إلى زيفه من أول الأمر.
وسأسوق لك فيما يلي أمثلة من المسائل الميتافيزيقية، تبين كيف نشأت كل مشكلة منها من وجود «كلمة»، ثم من الظن بأنه ما دامت «الكلمة» قائمة، فلا بد كذلك أن يكون لها مدلول قائم، فإذا لم يكن مدلولها ذاك مما يقع في مجال الخبرة الحسية، قيل إنه لا بد أن يكون في عالم آخر غير عالم الحس.
وأول مسألة أسوقها للتوضيح، مسألة «العنصر» أو «الجوهر» أو «الشيء في ذاته»، فنحن في حديثنا إذ نتحدث عن البرتقالة مثلا، نقول عبارات كهذه: «البرتقالة صفراء» «البرتقالة مستديرة» «البرتقالة حلوة» ... إلخ.
ولما كانت كل كلمة من الكلمات التي استخدمناها هنا لتدل على صفات البرتقالة، وهي كلمات «صفراء» و«مستديرة» و«حلوة»، أقول: لما كانت كل كلمة من هذه الكلمات دالة على شيء خارجي في البرتقالة، فهنالك البقعة الضوئية التي أسميها «أصفر»، وهنالك الشكل الذي أسميه «استدارة»، وهنالك الطعم الذي أسميه «حلاوة»، فقد بقي أن أعرف أين مدلول كلمة «البرتقالة» إذا أبعدت عنها العناصر التي فرغت من تسميتها بأسماء الصفات السالفة الذكر، بعبارة أخرى: هبني طرحت منها اللون والشكل والطعم وسائر هذه الصفات، وهبني كلما أبعدت عنها صفة حذفت من كلامي اللفظة الدالة على تلك الصفة، أفلا تبقى لي بعد كل هذا الطرح والحذف كلمة «برتقالة»؟ فأين مدلولها بعيدا عن مجموعة هذه الصفات؟ ها هنا بين أيدينا كلمة «برتقالة» فلا بد أن يكون لها مسمى، غير أني حين أخرج إلى عالم الحس، لن أجد إلا الصفات المحسة المتمثلة في الكلمات: «أصفر» و«مستدير» و«حلو» ... إلخ، وإذن فالنتيجة الحتمية لذلك هي أن يكون هنالك «عنصر» يخفى عن الحواس جميعا، هو «جوهر» البرتقالة، أو هو «البرتقالة في ذاتها» التي توصف بالاصفرار والاستدارة والحلاوة.
وهكذا تنشأ مشكلة ميتافيزيقية من النظر الخاطئ إلى تكوين العبارة اللغوية، فما دامت العبارة اللغوية موضوعها كلمة «برتقالة» ومحمولها كلمة «صفراء»، ثم ما دمت قد عثرت على مدلول «صفراء»، فلا بد أيضا أن أبحث عن مدلول الكلمة الموضوع، وإذا لم أجده في هذه الدنيا فلأفرض له عالما آخر وراء السحاب! المبتدأ النحوي في الجملة كفيل وحده عند الفلاسفة الميتافيزيقيين أن يكون دليلا على وجود كائن في العالم الخارجي، ولو اعتمدنا على التحليل المنطقي في فهم العبارة لتبين أن حديثنا عن الشيء وظواهره لا يدل على أن الشيء يمكن قيامه مستقلا عن ظواهره، إنما الذي جعله يستقل في كلمة وحده - غير الكلمات الدالة على الظواهر - هو طريقة اللغة في التعبير لا أكثر ولا أقل، ليس حتما أن أبحث للظواهر عن «عنصر» محوري ترتبط به لتكون «شيئا»، فيكفي أن ترتبط هذه الظواهر بعضها ببعض، ولا حاجة بنا إلى افتراض شيء وراءها يجمعها معا على نحو ما، وإذا لم يستطع الميتافيزيقي أن يرى كيف يمكن للاصفرار والاستدارة والحلاوة وغيرها من صفات البرتقالة أن ترتبط بغير محور يربطها، فما ذاك إلا لأنه لم يستطع أن يحلل اللغة وطرائق بنائها.
وخذ مشكلة ميتافيزيقية أخرى، هي مشكلة «الوجود»، فلأننا نقول عبارات كهذه: «البرتقالة موجودة على المنضدة» و«الكتاب موجود في المكتبة» و«القلم موجود في المحفظة» ... إلخ، إذن فكلمة «الوجود» هذه لا بد أن يكون لها دلالتها مستقلة عن الأشياء المختلفة المتصفة بها، أعني أنه حتى لو لم يكن هنالك برتقالة وكتاب وقلم ... إلخ، فسيظل هنالك «وجود»، ثم يمضي الميتافيزيقي في البحث عن خصائص هذا «الوجود» الذي يتصور قيامه بغير «الموجودات».
والخلط هنا كذلك ناشئ من عجز عن فهم اللغة وطرائق تركيبها، فالميتافيزيقي يحسب عبارتين كهاتين: «البرتقالة صفراء» و«البرتقالة موجودة» من قالب واحد ومن نمط واحد، وما دام يمكن في العبارة الأولى أن أجرد «الاصفرار» عن البرتقالة لأبحث فيه على حدة، فكذلك يمكن في العبارة الثانية أن أجرد «الوجود» عن البرتقالة لأبحث فيه على حدة، ولئن كان البحث في اللون من شأن عالم الطبيعة، فالبحث في «الوجود» هو من شأن عالم الميتافيزيقا.
لكن حلل العبارتين تجدهما متشابهتين في الصورة النحوية، مختلفتين أشد اختلاف في النمط المنطقي، فالاصفرار في العبارة الأولى محمول أو صفة تصف موضوعها، أما «الوجود» في العبارة الثانية فليس صفة،
22
إنك تستطيع أن تشير إلى البرتقالة أو تومئ إليها بغير حاجة منك إلى النطق بكلمة «موجودة»، فهذه الكلمة لا تضيف معنى جديدا، ولا تزيد البرتقالة صفة على صفاتها، إذ يكفي أن تسمي شيئا ما بأنه «برتقالة» ليكون ذلك وحده كافيا للاعتراف بوجود ذلك الشيء، فمن تحصيل الحاصل أن تضيف كلمة «موجود» إلى الشيء الذي تسميه.
نامعلوم صفحہ