ولكن ماذا نقول في الموضوعات الثلاثة التي كان قد جعلها عند بداية حديثه، موضوع البحث الميتافيزيقي بصفة خاصة، وأعني بها: الله والحرية والخلود؟ هل يجوز القول فيها أو لا يجوز؟
يجيب «كانت» على ذلك بأنها موضوعات يستحيل أن يستغني الإنسان عن الحديث فيها، لكنها خارجة عن حدود العقل النظري ومستطاعه، فإذا نحن جعلناها موضع بحث نظري عقلي علمي، وقعنا في متناقضات ... يقول كانت في مستهل كتابه «نقد العقل الخالص» (في الطبعة الثانية) ما يأتي:
كتب على العقل الإنساني أن يتسم بهذه السمة المميزة، وهي أنه - في جانب من جوانب علمه - مثقل بأسئلة، ومحتوم عليه بحكم طبيعته نفسها ألا يهملها، لكنه في الوقت نفسه لا يستطيع الإجابة عنها؛ لأنها تجاوز حدود قدراته كلها،
12
وإذا اضطر العقل إلى الرجوع إلى مبادئ تجاوز حدوده، فهو بذلك «يطوح بنفسه في الظلام والمتناقضات.»
13
فكأنما يريد «كانت» أن يقول: إن الحديث في الموضوعات الميتافيزيقية بهذا المعنى الخاص؛ وهي: الله والحرية والخلود، ممكن، لكن إمكانه لا يكون عن طريق العقل النظري؛ لأن هذا العقل النظري له حدود لا يستطيع مجاوزتها بغير أن «يطوح بنفسه في الظلام والمتناقضات»، وها هنا تختلف الوضعية المنطقية عن «كانت»؛ لأنه في رأي هذا المذهب الوضعي المنطقي أن الحديث في هذه الأمور وأمثالها غير مشروع بتاتا، ما دمنا نريد بالحديث أن يكون منطقيا، أي قابلا لأن يوصف بأنه صادق أو كاذب، فإذا كان «كانت» قد سبق إلى القول باستحالة الميتافيزيقا على العقل النظري، فقد بنى تلك الاستحالة على أساس غير الأساس الذي ترفضها عليه الوضعية المنطقية، فبينما الوضعية المنطقية ترفضها على أساس أن عبارتها ليست من الكلام المفهوم عند المنطق ومعاييره، نرى «كانت» يرفضها على أساس أن العقل البشري بحكم طبيعته لا يستطيع الحكم إلا على ظواهر الأشياء، وأنه إذا ما غامر في مجال «الأشياء في ذاتها» وقع في المتناقضات، وعلى ذلك فاستحالة المعرفة الميتافيزيقية عنده حقيقة نفسية، وليست هي بالاستحالة المنطقية كما يرى المذهب الوضعي المنطقي. هي عند «كانت» حقيقة نفسية بمعنى أنه لو كان الإنسان على غير ما هو عليه في إدراكه للأشياء، لأمكن ألا تكون المعرفة الميتافيزيقية مستحيلة، هي مستحيلة الآن لأن العقل الإنساني لم يخلق لإدراكها، كما لم تخلق العين لسماع الأصوات، أما أصحاب المذهب الوضعي المنطقي فيبنون استحالة الميتافيزيقا على أساس أن أقوالها فارغة من المعنى بحكم ما اتفقنا عليه في طرائق استعمال اللغة، إنها أقوال لا تصف شيئا هنا أو هناك، بحيث يجوز لنا أن نسأل: أيمكن حقا أن يدرك الإنسان هذا الشيء أم أن إدراكه مستحيل عليه.
ونحب بعد هذا الاستطراد أن نجمع شتات القول، فنلخص ما أسلفناه في هذه الفقرة من حديثنا فيما يأتي: يمكنك أن تجعل للميتافيزيقا عند «كانت» معنيين، وهي عنده مستحيلة بأحد هذين المعنيين، لكنها ممكنة بالمعنى الآخر، هي مستحيلة على العقل النظري العلمي إذا أريد بها البحث فيما هو فوق متناول التجربة البشرية، وهي ممكنة إذا أريد بها تحليل القضايا العلمية تحليلا ينتهي بنا إلى إبراز الفروض التي تستند إليها تلك القضايا.
وقد بدأ «كانت» بالاعتراف بمعنى واحد لها، وهو المعنى الأول، إذ كانت لفظة «الميتافيزيقا» عنده بادئ ذي بدء تعني «مجموعة الأحكام الفلسفية كلها فيما عدا الأحكام المنطقية، وذلك بعبارة أخرى معناه: كل الأحكام التي لا تنبني على الحدس التجريبي أو الحدس الرياضي»،
14
نامعلوم صفحہ