ولسنا في هذا الموضوع نريد أن نؤيد أو نفند ما يقوله هؤلاء الفلاسفة في تحليلهم للعبارات وما تنطوي عليه من عناصر ومعان، فربما أصابوا هنا وأخطئوا هناك، أو ربما أخطئوا هناك وأصابوا هنا فذلك بحث آخر، لكن الذي يعنينا الآن هو أن نقرر هذه الحقيقة الآتية: وهي أن الفلسفة على أيديهم كانت عملية تحليلية، ولم تكن - في الأعم الأغلب - تقريرا عن ظواهر الكون المختلفة بإثبات صفات معينة لها أو نفيها عنها، ولو فعلوا لكان الأجدر أن يسلكوا في جماعة العلماء الذين من شأنهم ملاحظة الطبيعة ووصفها.
فإذا أريد للفلسفة بقاء، وجب أن تحصر نفسها في مهمتها الحقيقية الممكنة النافعة، ألا وهي التحليل المنطقي للألفاظ والعبارات: يقول «بيرتراند رسل»: «إن كل مشكلة فلسفية، إذا ما أخضعتها للتحليل وللتنقية الضروريتين؛ ألفيتها إما ألا تكون مشكلة فلسفية بالمعنى الصحيح، وإما أن تكون مشكلة منطقية، بالمعنى الذي نقصد إليه بكلمة منطق.»
42
إن الذي نتصدى لإنكاره في هذا الكتاب إنكارا قاطعا، هو إمكان التحدث عن «أشياء» غير محسة، وهو موضوع الميتافيزيقا بالمعنى الذي نرفضه، فإن قال لنا قائل: إن هذه هي مهمة الفلسفة الأساسية، أجبناه بأن الفلسفة عندئذ تفقد أساس وجودها ولا يعود لها كيان تقوم عليه؛ أما الفلسفة بمعنى التحليل، فهي شيء نرتضيه، ونستمد دعامة لنا تؤيد وجهة نظرنا من أعلام الفلاسفة: من سقراط، ومن أفلاطون في بعض محاوراته، ومن أرسطو في منطقه، ومن الفلاسفة التجريبيين الإنجليز، ولم نقل شيئا عن «كانت» الذي جاء الشطر الأعظم من فلسفته «نقدا» - أي تحليلا - للأسس التي تقوم عليها العلوم.
لكن «كانت» أخطر مكانة في ميدان الفلسفة التحليلية من أن نذكره في إشارة عابرة، فلنجعل للحديث في فلسفته النقدية فصلا بأسره، هو الفصل التالي.
الفصل الثاني
«كانت» وفلسفته النقدية
1
أريد بهذا الفصل أن أبين أن الفلسفة عند «كانت» هي - أولا وقبل كل شيء - تحليل للقضايا، وليست هي بالفلسفة التي يريد بها صاحبها أن يقول من عنده شيئا إيجابيا عن العالم أو أي جزء منه، الفلسفة عنده طريقة أكثر منها مادة، وليس هذا القول استنتاجا منا، بل هو نقل مباشر عن نص صريح ذكره، «كانت» نفسه في مقدمة الطبعة الثانية من كتابه «نقد العقل الخالص» يصف به كتابه ذاك، إذ يقول إنه إنما يحاول أن يلتمس للميتافيزيقا طريقة للبحث تجعلها علما على غرار علمي الرياضة والطبيعة، فالكتاب «رسالة في المنهج وليس هو بشرح لمذهب في مادة العلم نفسه.»
1
نامعلوم صفحہ