موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين

جمال الدين القاسمی d. 1332 AH
124

موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين

موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين

تحقیق کنندہ

مأمون بن محيي الدين الجنان

ناشر

دار الكتب العلمية

عَنِ " الفضيل " رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: " هَاهْ، تُرِيدُ أَنْ تَسْكُنَ الْفِرْدَوْسَ وَتُجَاوِرَ الرَّحْمَنَ فِي دَارِهِ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ بِأَيِّ عَمَلٍ عَمِلْتَهُ، بِأَيِّ شَهْوَةٍ تَرَكْتَهَا، بِأَيِّ غَيْظٍ كَظَمْتَهُ، بِأَيِّ رَحِمٍ وَصَلْتَهَا، بِأَيِّ زَلَّةٍ لِأَخِيكَ غَفَرْتَهَا، بِأَيِّ قَرِيبٍ بَاعَدْتَهُ فِي اللَّهِ، بِأَيِّ بَعِيدٍ قَارَبْتَهُ فِي اللَّهِ " وَقَالَ أَيْضًا: " نَظَرُ الرَّجُلِ إِلَى وَجْهِ أَخِيهِ عَلَى الْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ عِبَادَةٌ ". تَحْقِيقُ الْمَحَبَّةِ فِي اللَّهِ: هُوَ أَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ لِذَاتِهِ بَلْ إِلَى حُظُوظِهِ الْأُخْرَوِيَّةِ مِنْهُ كَمَنْ يُحِبُّ أُسْتَاذَهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَوَسَّلُ بِهِ إِلَى تَحْصِيلِ وَتَحْسِينِ الْعَمَلِ، وَمَقْصُودُهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ الْفَوْزُ فِي الْآخِرَةِ، فَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْمُحِبِّينَ فِي اللَّهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ يُحِبُّ تِلْمِيذَهُ لِأَنَّهُ يَتَلَقَّفُ مِنْهُ الْعِلْمَ وَيَنَالُ بِوَاسِطَتِهِ رُتْبَةَ التَّعْلِيمِ فَهُوَ مُحِبٌّ فِي اللَّهِ، بَلِ الَّذِي يَتَصَدَّقُ بِأَمْوَالِهِ لِلَّهِ وَيَجْمَعُ الضِّيفَانَ وَيُهَيِّئُ لَهُمُ الْأَطْعِمَةَ اللَّذِيذَةَ الْغَرِيبَةَ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ فَأَحَبَّ طَبَّاخًا لِحُسْنِ صَنْعَتِهِ فِي الطَّبْخِ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُحِبِّينَ فِي اللَّهِ، وَكَذَا لَوْ أَحَبَّ مَنْ يَتَوَلَّى لَهُ إِيصَالَ الصَّدَقَةِ إِلَى الْمُسْتَحِقِّينَ فَقَدْ أَحَبَّهُ فِي اللَّهِ، أَوْ أَحَبَّ مَنْ يَخْدُمُهُ بِنَفْسِهِ فِي غَسْلِ ثِيَابِهِ وَكَنْسِ بَيْتِهِ وَطَبْخِ طَعَامِهِ، وَيُفَرِّغُهُ بِذَلِكَ لِلْعِلْمِ أَوِ الْعَمَلِ وَمَقْصُودُهُ مِنِ اسْتِخْدَامِهِ فِي هَذِهِ الْأَعْمَالِ الْفَرَاغُ لِلْعِبَادَةِ فَهُوَ مُحِبٌّ فِي اللَّهِ، أَوْ أَحَبَّ مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ وَيُوَاسِيهِ بِكُسْوَتِهِ وَطَعَامِهِ وَمَسْكَنِهِ وَجَمِيعِ أَغْرَاضِهِ الَّتِي يَقْصِدُهَا فِي دُنْيَاهُ، وَمَقْصُودُهُ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ الْفَرَاغُ لِلْعِلْمِ وَالْعَمَلِ الْمُقَرِّبِ إِلَى اللَّهِ فَهُوَ مُحِبٌّ فِي اللَّهِ، فَقَدْ كَانَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ تَكَفَّلَ بِكِفَايَتِهِمْ جَمَاعَةٌ مِنْ أُولِي الثَّرْوَةِ وَكَانَ الْمُوَاسِي وَالْمُوَاسَى جَمِيعًا مِنَ الْمُتَحَابِّينَ فِي اللَّهِ، وَكَذَا مَنْ نَكَحَ امْرَأَةً صَالِحَةً لِيَتَحَصَّنَ بِهَا عَنْ وَسْوَاسِ الشَّيْطَانِ وَيَصُونَ بِهَا دِينَهُ أَوْ لِيُولَدَ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ صَالِحٌ أَوْ أَحَبَّ زَوْجَتَهُ لِأَنَّهَا آلَةٌ إِلَى هَذِهِ الْمَقَاصِدِ الدِّينِيَّةِ فَهُوَ مُحِبٌّ فِي اللَّهِ، وَكَذَا إِذَا اجْتَمَعَ فِي قَلْبِهِ مَحَبَّةُ اللَّهِ وَالدُّنْيَا كَمَنْ أَحَبَّ مَنْ يُعَلِّمُهُ الدِّينَ وَيَكْفِيهِ مُهِمَّاتِ الدُّنْيَا بِالْمُوَاسَاةِ فِي الْمَالِ فَهُوَ مُحِبٌّ فِي اللَّهِ. وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ حُبِّ اللَّهِ أَنْ لَا يُحَبَّ فِي الْعَاجِلِ حَظٌّ الْبَتَّةَ، إِذِ الدُّعَاءُ الَّذِي أُمِرَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ فِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) [الْبَقَرَةِ: ٢٠١] . وَفِي الْمَأْثُورِ «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ رَحْمَةً أَنَالُ بِهَا شَرَفَ كَرَامَتِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» . ثُمَّ إِذَا قَوِيَ الْحُبُّ فِي اللَّهِ حُمِلَ عَلَى الْمُوَالَاةِ وَالنُّصْرَةِ وَالذَّبِّ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ وَاللِّسَانِ، وَتَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِيهِ بِحَسَبِ تَفَاوُتِهِمْ فِي حُبِّ اللَّهِ ﷿، إِلَّا أَنَّهُ يُمْتَحَنُ الْحُبُّ بِالْمُقَابَلَةِ بِحُظُوظِ النَّفْسِ، وَقَدْ يَغْلِبُ بِحَيْثُ لَا يُبْقِي لِلنَّفْسِ حَظًّا إِلَّا فِيمَا هُوَ حَظُّ الْمَحْبُوبِ، وَقَدْ يَكُونُ الْحُبُّ بِحَيْثُ يُتْرَكُ بِهِ بَعْضُ الْحُظُوظِ دُونَ بَعْضٍ كَمَا تَسْمَحُ نَفْسُهُ بِأَنْ يُشَاطِرَ مَحْبُوبَهُ فِي نِصْفِ مَالِهِ أَوْ فِي ثُلُثِهِ أَوْ فِي عُشْرِهِ، فَمَقَادِيرُ الْأَمْوَالِ مَوَازِينُ الْمَحَبَّةِ؛ إِذْ لَا يُعْرَفُ دَرَجَةُ الْمَحْبُوبِ إِلَّا بِمَحْبُوبٍ يُتْرَكُ فِي مُقَابَلَتِهِ، فَمَنِ اسْتَغْرَقَ الْحُبُّ جَمِيعَ قَلْبِهِ لَمْ يَبْقَ لَهُ مَحْبُوبٌ سِوَاهُ، فَلَا يُمْسِكُ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِثْلَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ﵁ فَإِنَّهُ

1 / 127