مقدمة لفضيلة الأستاذ الدكتور منيع عبد الحليم محمود
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أستاذ التفسير وعلوم القرآن وعميد كلية أصول الدين بالقاهرة- جامعة الأزهر الشريف الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الأطهار الطيبين أفضل الصلاة وأتم التسليم وبعد..
يقول الله تعالى معبرا عن الحكمة فى إرسال سيد الخلق ﷺ: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ «١» .
ومن دعاء سيدنا إبراهيم، وسيدنا إسماعيل، وهما يرفعان القواعد من البيت: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «٢» .
من هذه الآيات ومن غيرها: نعلم أن الحكمة فى إرسال الرسل، إنما هى تبليغ آيات الله، أى تعاليمه وأحكامه وتكاليفه إلى بنى البشر، إن الله تعالى: لم يرد أن يترك البشر دون هداية فى الأمور الأساسية لبناء المجتمع وهى: العقيدة، والأخلاق والتشريع، فأرسل لأهل الأرض الدستور السماوى الذى يؤدى اتباعه والعمل به، إلى تزكية النفس وتطهيرها وصفائها.
فالأديان والرسل إنما كانوا لبيان الأسس والقواعد التى لا يقوم المجتمع الصالح بدونها، وكانوا أيضا لمصلحة الفرد التى تتمثل فى الارتفاع به إلى مستوى التزكية والطهر والصفاء وهو مستوى يجد فيه من يحققه السعادة كل السعادة والبهجة كل البهجة، ويشعر كل من يرتقى فى معارجه منغمسا فى نور هداية الله سبحانه بالسكينة تحيط به وبالطمأنينة تملأ جميع أقطاره ويشعر فوق كل ذلك رضوان من الله أكبر، حكمة إرسال الرسول ﷺ إذن إنما هى إسعاد المجتمع وإسعاد الفرد والرقى بالجميع وبالإنسانية إلى المستوى الذى يرضاه الله لهما وهو المستوى الربانى.
يقول الله تعالى فى حديث قدسى: «من عادى لى وليّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلى عبدى بشىء أحب إلى مما افترضت عليه وما يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر به ويده التى يبطش بها، ورجله التى يمشى بها، ولئن سألنى لأعطينه، ولئن استعاذنى لأعيذنه» .
_________
(١) سورة الجمعة: ٢.
(٢) سورة البقرة: ١٢٩.
المقدمة / 1
وفى هذا الحديث الشريف يبدأ الله سبحانه بالتوجيه فى قوة إلى صفاء القلب وطهارة النية لأوليائه وأولياوه هم:
الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ ومن عاداهم فإنما يعادى المؤمن التقى ونتيجة هذه العداوة ما يقوله الله تعالى: «آذنته بالحرب» .
ثم يرسم الله تعالى الطريق إلى حبه: وأول خطوة فى هذا الطريق أداء ما فرضته عليه، ولن يتأتى حبه تعالى دون الشرط الأول شرط القرب منه سبحانه، وهو أداء الفرائض.
والحب دون أداء الفرائض زيف وكذب، بل إن أداء الفرائض شرط لحسن الظن بالله.
لقد ترك قوم العمل وقالوا: نحن نحسن الظن بالله وكذبوا، كما يقول رسول الله ﷺ:
«لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل» . لابد من أداء الفرائض وإلا لما كان لمهملها إلى القرب من الله تعالى من سبيل ومع أداء الفرائض فى جو القرب- الإكثار من النوافل، فإذا أكثر من النوافل أحبه الله تعالى. ويترتب على حب الله تعالى للعبد هذا الخير الكثير الذى ذكره الله سبحانه فى الحديث القدسى.
ويربط أسلافنا- رضوان الله عليهم- ربطا محكما بين محبة الله تعالى واتباع رسول الله ﷺ متناسقين فى ذلك مع توجيه الله سبحانه قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ «١» .
وهذا الربط معناه الربط بين محبة الله تعالى والعمل.
ومقدمات محبة الله تعالى هى العمل. ونتيجة محبة الله هى العمل، يقول الإمام أبو سعيد الخراز: وبلغنا عن الحسن البصرى رضى الله عنهما أن أناسا قالوا على عهد رسول الله ﷺ: يا رسول الله، إنا نحب ربنا حبّا شديدا فجعل الله تعالى لمحبته علما وأنزل ﷿: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ «٢» .
فمن صدق المحبة اتباع الرسول ﷺ فى هديه وزهده وأخلاقه، والتأسى به فى الأمور كلها والإعراض عن الدنيا وزهرتها وبهجتها، فإن الله ﷿ جعل سيدنا محمدا ﷺ علما ودليلا وحجة على أمته.
ومن صدق المحبة لله تعالى إيثار محبته تعالى فى جميع الأمور على نفسك، وهواك، وأن تبدأ فى الأمور كلها بأمره قبل أمر نفسك ويقول: فعلامة الحب الموافقة للمحبوب، والتجارى مع طرقاته فى كل الأمور والتقرب إليه بكل حيلة، والهرب من كل ما لا يعينه على مذهبه، أما عن صلة المحبة بالإيمان فإن الإمام الغزالى يقول: وقد جعل رسول الله ﷺ الحب لله من شرط الإيمان فى أخبار كثيرة، إذ قال أبو رزين العقيلى: يا رسول الله، ما الإيمان؟
قال: «أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما» .
وفى حديث آخر: «لا يؤمن العبد حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين»، وفى رواية: «ومن نفسه» . كيف وقد قال الله تعالى: قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَ
_________
(١) سورة آل عمران: ٣١.
(٢) سورة آل عمران: ٣١.
المقدمة / 2
إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ «١»، وإنما أجرى ذلك فى معرض التهديد والإنكار.
وهى أيضا أن يجد حلاوة الإيمان. يقول رسول الله ﷺ: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: ١- أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما. ٢- وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله.
٣- وأن يكره أن يعود فى الكفر كما يكره أن يلقى فى النار» .
ورسول الله ﷺ هو القدوة الحسنة فى أقواله وأفعاله وأحواله.
يقول الله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا «٢» .
ويقول الشيخ الصاوى فى شرحه على تفسير الجلالين (الاقتداء برسول الله ﷺ واجب فى الأقوال والأفعال والأحوال لأنه لا ينطق عن هوى، ولا يفعل عن هوى بل جميع أفعاله وأقواله وأحواله عن ربه) .
لذا قال العارف:
وحصل بالهدى فى كل أمر ... فليس تشاء إلا ما يشاء
والله ﷾ يقول فى سورة النجم: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «٣» وإذا كان الاقتداء برسول الله ﷺ واجبا فإن له شروطا لا يتأتى الاقتداء الصحيح إلا بتحقيقها، وقد ذكرت الآية الكريمة هذه الشروط. والشرط الأول منها:
أن يرجو الإنسان الله تعالى: ورجاء الله تعالى قد حذده الله سبحانه فى القرآن الكريم بقوله: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا «٤» فالعمل الصالح وعدم الشرك فى العبادة أمران لا زمان لمن كان يرجو لقاء الله فى صدق.
ويقول الإمام ابن كثير فى ذلك:
وهذا ركنا العمل المتقبل: لابد أن يكون خالصا لله، صوابا على شريعة رسول الله ﷺ.
وعن طاوس قال: قال رجل: يا رسول الله إنى أقف الموقف أريد وجه الله، وأحب أن يرى موطنى. فلم يرد عليه رسول الله ﷺ شيئا حتى نزلت هذه الآية: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا «٥» .
رجاء اليوم الآخر هو الشرط الثانى والتأسى برسول الله ﷺ إنما يتمثل فى العمل لهذا اليوم حتى يلقى الله فيه وهو عنه راض.
ويصف الله سبحانه الذين لا يرجون لقاءه، ولا يرجون اليوم الآخر فيقول: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ «٦» .
والشرط الأخير فى الوصول إلى التأسى برسول الله ﷺ هو الذكر الكثير. ولقد سأل
_________
(١) سورة التوبة: ٢٤.
(٢) سورة الأحزاب: ٢١.
(٣) سورة النجم: ٣، ٤.
(٤) سورة الكهف: ١١٠.
(٥) سورة الكهف: ١١٠.
(٦) سورة يونس: ٧، ٨.
المقدمة / 3
رجل رسول الله ﷺ قائلا: إن شرائع الإسلام كثرت على، فأخبرنى بشىء أتشبث به، فقال له ﷺ: «لا يزال فوك رطبا من ذكر» .
والله ﷾ يقول: وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ «١» .
كان أصحاب رسول الله ﷺ يقتدون به فى كل شىء ...
أخرج البخارى ومسلم ومالك والترمذى والنسائى وابن ماجه عن سعيد بن يسار قال:
كنت مع ابن عمر رضى الله عنهما فى طريق مكة فلما خشيت الصبح نزلت فأوترت، فقال ابن عمر رضى الله عنهما: أليس لك فى رسول الله أسوة حسنة؟ قلت: بلى. قال: فإنه كان يوتر على البعير.
وأخرج البخارى ومسلم والنسائى وغيرهم عن ابن عمر رضى الله عنهما أنه سئل عن رجل معتمر طاف بالبيت أيقع على امرأته قبل أن يطوف بين الصفا والمروة، ثم قرأ: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ «٢» .
أخرج أحمد عن ابن عباس رضى الله عنهما أن عمر رضى الله عنه أكب على الركن فقال: إنى لأعلم أنك حجر ولو لم أر رسول الله ﷺ قبلك واستلمك ما استلمتك وما قبلتك لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ «٣» .
من أجل هذه الأسس الأصيلة فى الإسلام منهج الحب والاتباع أو منهج العبودية كان كتاب المواهب اللدنية بالمنح المحمدية للشيخ أحمد بن محمد القسطلانى المتوفى سنة ٩٢٣ هـ وهو حلقة هامة فى سلسلة طويلة من الكتب المباركة التى تناولت سيرة المصطفى ﷺ والقرآن هو المصدر الأول الذى تستمد منه صفات الرسول وأخلاقه ﷺ، سئلت السيدة عائشة- رضوان الله عليها- عن خلق رسول الله ﷺ فقالت: «كان خلقه القرآن» . والقرآن كان يتحدث عن الرسول- صلوات الله عليه وسلامه- حديثا مباشرا يرسم القواعد فى العقيدة والأخلاق ويصور فى الوقت نفسه الطريق الذى كان يسير عليه السراج المنير الرؤف الرحيم- صلوات الله وسلامه عليه-، فالقرآن إذن المصدر الأول الذى تستمد منه صفات الرسول وأخلاقه ﷺ.
والمصدر الثانى هى كتب الأحاديث الصحيحة وخيرها صحيح البخارى يليه صحيح مسلم وكل كتاب من كتب الأحاديث على وجه العموم يخصص قسما منه لصفات الرسول ﷺ وأخباره، ثم يأتى فى المرتبة الثالثة كتب السيرة القديم منها والحديث.
ومن خير كتب السيرة سيرة ابن هشام والمواهب اللدنية بالمنح المحمدية للقسطلانى وكتاب الأنوار المحمدية للعارف بالله يوسف النبهانى.
والإمام أحمد بن محمد القسطلانى مؤلف المواهب اللدنية بالمنح المحمدية من قمم علماء عصره، فكان إماما حافظا متقنا جليل القدر حسن التقرير والتحرير، لطيف الإشارة بليغ العبارة حسن الجمع والتأليف لطيف الترتيب والترصيف زينة أهل عصره ونقاوة ذوى دهره، ولا يقدح فيه، تحامل معاصروه عليه فلا زالت الأكابر على هذا فى كل عصر.
هكذا وصفه علماء التراجم وذكر صاحب كشف الظنون مؤلفات عديدة له نذكر منها:
١- إرشاد السارى فى شرح صحيح البخارى.
_________
(١) سورة الجمعة: ١٠.
(٢) سورة الأحزاب: ٢١.
(٣) سورة الأحزاب: ٢١.
المقدمة / 4
٢- الإسعاد فى تلخيص الإرشاد.
٣- اللآلئ السنية.
٤- مراصد الصلات فى مقاصد الصلاة.
٥- النور الساطع فى مختصر الضوء اللامع فى أعيان القرن التاسع.
٦- يقظة ذوى الاعتبار فى موعظة أهل الاغترار.
ويوضح الإمام القسطلانى فى مقدمة كتابه الذى بين أيدينا المنهج العلمى الذى اتبعه فى تكوينه حتى أصبح من أهم المراجع فى السيرة النبوية المشرفة والتى نعتبرها أيضا أهم تفسير للقرآن الكريم فى كل العصور وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ونعتبرها أيضا الرد السليم على الإلحاد ومهاجمة دين الإسلام فى عصرنا الراهن ويعبر بحق عن الفهم العميق لنبوة الرسول ﷺ ما ذكره الإمام الأكبر عبد الحليم محمود شيخ الإسلام- تقدس سره- مما يجعلنا ندرك قيمة هذا المصدر يقول:
يتحدث القرآن الكريم عن رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه-، فى كثير من سوره، يقول سبحانه:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (٤٥) وَداعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجًا مُنِيرًا «١» .
ويقول سبحانه:
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا «٢» .
ويقول سبحانه:
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ «٣» .
ومن أجل هذه الصلة الإلهية برسول الله ﷺ، أرشدنا الله ﷾ إلى اتخاذ الرسول أسوة، فقال سبحانه:
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا «٤» .
بل أمرنا سبحانه أن نأخذ ما آتانا، وأن ننتهى عما نهانا عنه، وهددنا إذا لم نلتزم ذلك، فقال سبحانه:
وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ «٥» .
أما السر فى ذلك فهو:
١- أن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه-: لا ينطق عن الهوى ولا ينحرف عن صراط الله المستقيم، ولقد أقسم الله تعالى على ذلك فقال سبحانه:
_________
(١) سورة الأحزاب: ٤٥، ٤٦.
(٢) سورة النساء: ٨٠.
(٣) سورة آل عمران: ٣١.
(٤) سورة الأحزاب: ٢١.
(٥) سورة الحشر: ٧.
المقدمة / 5
وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «١» .
٢- كان رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- فى جميع أحواله حركة وسكونا، إشارة ونطقا، قلبا وقالبا، يمثل القرآن الكريم، وقد كان- صلوات الله وسلامه عليه- تطبيقا للقرآن، لقد لبس القرآن ظاهرا وباطنا، لقد كان قرآنا.
ولقد وصفته السيدة عائشة رضى الله عنها وصفا دقيقا حينما سئلت عن خلقه، فقالت: «كان خلقه القرآن» .
ومن كان خلقه القرآن كان أسوة، وكان قدوة، وكان على خلق عظيم، ومن هنا وصف الله ﷾ له إذ يقول:
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ «٢»
والحق، أننا حينما نريد أن نكون صورة واضحة تامة عن رسول الله، - صلوات الله وسلامه عليه-، فإن الطريق الوحيد لذلك: إنما هو الإحاطة بالقرآن إحاطة واضحة تامة، والإحاطة بالقرآن على هذا النسق ليست من السهولة بمكان، بل ليست بممكنة: فالقرآن فى كل يوم يتفتح عن معان جديدة للإنسانية، ويتفتح عن معان جديدة للشخص المتأمل المتدبر: وهذه المعانى الجديدة: - إنسانية عامة، أو فردية شخصية- إنما هى إيضاح وتفسير للصورة النبوية الكريمة.
والعكس أيضا صحيح، فإن المتدبر المتأمل فى الصورة النبوية الكريمة عن طريق السيرة الصحيحة، والأحاديث المعتمدة، يفهم عن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- كل يوم جديدا، وهذا الفهم إنما هو تفسير وإيضاح لجوانب من القرآن الكريم.
لقد امتزج الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- بالقرآن- كما قدمنا- روحا وقلبا وجسما، وامتزج القرآن به عقيدة وأخلاقا وتشريعا: فكان، - صلوات الله وسلامه عليه-، قرآنا يسير فى الناس، وكان القرآن روحا ينتقل، وكان قلبا ينبض، وكان لسانا ينطق بالهداية والإرشاد.
ولقد كان- صلوات الله وسلامه عليه- حريصا كل الحرص على أن يكون خلق الأمة الإسلامية القرآن، لقد عمل على ذلك طيلة بعثته.
ويحدثنا القرآن الكريم عن موقف الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- من الأمة فيقول سبحانه:
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ «٣» .
صلوات الله وسلامه عليك يا سيدى يا رسول الله.
ويتحدث- صلوات الله وسلامه عليه- عن حرصه الشديد على هداية أمته فيقول:
_________
(١) سورة النجم: ١- ٤.
(٢) سورة القلم: ٤.
(٣) سورة التوبة: ١٢٨.
المقدمة / 6
«مثلى ومثلكم: كمثل رجل أوقد نارا، فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها، وهو يذهبن عنها، وأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تفلتون من يدى» .
هذه هى صلة الرسول ﷺ بربه، وهذه هى صلته بأمته.
لقد ارتفع- صلوات الله وسلامه عليه- إلى السماء بل وتجاوزها إلى سدرة المنتهى، ورأى من آيات ربه الكبرى، لقد ارتفع إلى الأفق الأعلى فانغمس فى الأفق الأعلى وتلقى عن الله مباشرة كيفية الصلة به وهى الصلاة، ثم ... ثم انبسط إلى الأرض سراجا منيرا، رؤفا رحيما، هاديا، يدعو إلى الله على بصيرة هو ومن اتبعه.
يقول أحد الصالحين: «صعد رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- إلى السماء وتجاوز بذلك النهايات الكونية ثم عاد إلى الأرض لقد كان فعلا أدنى من قاب قوسين، أقسم بالله لو صعدت إلى السماء لما حاولت العودة إلى الأرض مرة أخرى» .
بيد أن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- نبى ورسول فهو متصل بالله دائما: إنه فى السماء على الدوام، وهو متصل بالبشر، يؤدى رسالة السماء كاملة غير منقوصة. إنه كان على حد تعبير القرآن: بَشَرًا رَسُولًا فهو ببشريته مع الناس، وهو بسره مع الله: إنه مع الناس بإرادة الله وتوجيهه وأمره، إنه مع الناس بكلمة الله ورسالته، إنه مع الناس رسول من قبل الله.
وبهذه المعانى كلها يمكننا أن نقول: إنه دائما مع الله ويمكننا أن نقول: إنه- منذ اللحظة الأولى للبعثة- لم ينزل إلى الأرض قط، وإنما كان دائما مع الله ﷾، فهو- صلوات الله وسلامه عليه- يبيت عند ربه، يقول ﷺ:
«لست كهيئتكم، أبيت عند ربى ...» .
قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ «١» .
إنه- صلوات الله وسلامه عليه-: «بشر» وما يجول فى خلد مسلم قط أن يخرجه عن البشرية، ولكنه- صلوات الله وسلامه عليه- «بشر يوحى إليه» .
وما يتأتى قط أن يوحى الله إلى بشر إلا إذا أصبح وكأنه قطعة من النور: صفاء نفس، وطهارة قلب، وتزكية روح.
فمنتهى القول فيه أنه بشر ... وأنه خير خلق الله كلهم
وبعض الناس حينما يقرأ القرآن الكريم، فتمر عليه الآية الكريمة: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ «٢» .
يقف عند كلمة: (بشر) فيحاول التركيز عليها وتوجيه الانتباه كله إليها، وتحويل الأنظار كلها نحوها، فيتحدث عن خصائص البشرية العادية ويبرزها، ويندفع فى هذا الاتجاه المنحرف اندفاعا لا يتناسب قط مع قوله تعالى: يُوحى إِلَيَّ* بل إنه فى اندفاعته الهوجاء ينسى يُوحى إِلَيَّ* ويهملها إهمالا.
_________
(١) سورة الكهف: ١١٠.
(٢) سورة الكهف: ١١٠.
المقدمة / 7
إنه ليس بنادر فى هذا العصر الحاضر أن يجرؤ بعض الناس فيتحدث عن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه-، وعن خطئه- معاذ الله- فى الرأى، وعن إصابته فيه، ويسير هذا البعض فى حديثه أو فى كتابته مستنتجا ومستنبطا وحاكما، وينسى فى كل ذلك:
وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى «١»، وينسى فى كل ذلك:
يُوحى إِلَيَّ، وينسى: «لست كهيئتكم»، وينسى:
لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا «٢» .
وينسى أن بعض المسائل يمكن أن تكون لها حلول مختلفة، كلها صحيحة: بعضها رفيق رحيم، وبعضها عادل حاسم، وأن الله ﷾ قد بيّن للأمة الإسلامية أن رسوله- صلوات الله وسلامه عليه- وهو على صواب دائما- إنما يتخذ الحل الذى يتناسب مع ما حلاه الله به من الرأفة، وما فطره عليه سبحانه من الرحمة، وهو الحل الذى يتناسب مع طابع الرسالة الإسلامية العام:
وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «٣» .
والله سبحانه ببيانه ذلك فى هذه المواضع التى كان من الممكن أن يقف فيها الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- مع العدالة الحاسمة، فعدل عن ذلك إلى الرأفة الرحيمة ... أن الله ﷾ ببيانه ذلك، إنما يمدح الرسول- صلوات الله وسلامه عليه-، ويبين أن منزع الرحمة إنما هو الغالب عليه، - صلوات الله وسلامه عليه-.
ولم يلغ الله سبحانه اتجاها عاما سار فيه الرسول، ولم ينقض قضية كلية أقرها، - صلوات الله وسلامه عليه-، ولم ينف مبدأ أثبته رسوله، فما كان- صلوات الله وسلامه عليه- يسير إلا على هدى من ربه، وعلى بصيرة من أمره، وقد شهد الله له بذلك حيث قال:
وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللَّهِ.. «٤» .
وما فعل الله فى كل ما تمسك به المنحرفون، وتمحك فيه المتمحكون إلا بيان رحمة الرسول، - صلوات الله وسلامه عليه-، ورأفته: أى أنه سبحانه كان يبين فى هذه المواطن فضله- صلوات الله وسلامه عليه- وأنه- كما وصفه سبحانه-: على خلق عظيم، والبون شاسع بين هذه الوجهة الربانية، وبين التحدث عن خطأ وصواب، وأوضاع بشرية يركز عليها ولا يلتفت لسواها.
ولنضرب لذلك مثلا: أن الذين ديدنهم الجدل يتحدثون كثيرا عن قوله تعالى:
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ «٥» .
ويقذفون مباشرة بقولهم: أن العفو لا يكون إلا عن خطأ.
ولهؤلاء نقول: أن الأساليب العربية فيها من أمثال هذا لكثير، ومنها قولهم مثلا: غفر الله لك، لم تشق على نفسك كل هذه المشقة؟
_________
(١) سورة النجم: ٣.
(٢) سورة النور: ٦٣.
(٣) سورة الأنبياء: ١٠٧.
(٤) سورة الشورى: ٥٢، ٥٣.
(٥) سورة التوبة: ٤٣.
المقدمة / 8
عفا الله عنك، لم تعنّى نفسك فى سبيل هؤلاء؟ وكأن القائل يقول:
رضى الله عنك، لم ترهق نفسك كل هذا الإرهاق؟
أن الآية القرآنية من هذا الوادى.
وضم هذه الآية الكريمة إلى أختها التى فى سورة النور:
فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ «١» .
تجد المعنى واضحا جليا، وهو أن الله سبحانه، فوض الأمر لنبيه، - صلوات الله وسلامه عليه-، فى أن يأذن لهم أو لا يأذن.
ليس النبى إذن معاتبا بهذه الآية- وحاشاه- بل كان ﷺ مخيرا، فلما أذن لهم أعلمه الله أنه لو لم يأذن لهم لقعدوا، ولتخلفوا بسبب نفاقهم، وأنه مع ذلك لا حرج عليه فى الإذن لهم، إنها آية مدح للرسول غاية فى الرقة ... ومن غير شك قد صدر الإذن لهم عن قلب رحيم، وعن هذا القلب الرحيم، وعن هذه الرحمة الفياضة، كان الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- يصدر فى أحكامه، وما كان فى ذلك إلا متبعا لقوله تعالى:
وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «٢» .
وهكذا الأمر فى كل ما يمارى فيه الممارون.
ومع ذلك فإننا نريد أن نزيد الأمر وضوحا فى الفرق بين من يركز على «بشر» ومن يركز على «يوحى إلى» لأهميته الكبرى، فنقص القصة التالية، ذات المغزى العميق، والقصة يرويها ابن عطاء الله السكندرى رضى الله عنه فى شرحه لقصيدة ولى الله: (أبو مدين) رضى الله عنه، يقول:
زار بعض السلاطين ضريح أبى يزيد رضى الله عنه وقال: هل هنا أحد ممن اجتمع بأبى يزيد؟
فأشير إلى شيخ كبير فى السن كان حاضرا هناك.
فقال له: هل سمعت شيئا من كلام أبى يزيد؟
فقال: نعم سمعته قال: «من زارنى لا تحرقه النار» .
فاستغرب السلطان ذلك الكلام، فقال: كيف يقول أبو يزيد ذلك، وأبو جهل رأى النبى ﷺ وتحرقه النار؟
فقال ذلك الشيخ للسلطان: أبو جهل لم ير النبى ﷺ، إنما رأى (يتيم أبى طالب)، ولو رآه ﷺ لم تحرقه النار.
ففهم السلطان كلامه وأعجبه هذا الجواب منه، أى أنه لم يره بالتعظيم والإكرام والأسوة، واعتقاد أنه رسول الله، ولو رآه بهذا المعنى لم تحرقه النار، لكنه رآه باحتقار، واعتقاد أنه (يتيم أبى طالب)، فلم تنفعه تلك الرؤية.
ولسنا هنا بصدد الحديث عن أبى يزيد رضى الله عنه، وإنما نريد أن نتحدث عن كلمة الشيخ للسلطان من أن أبا جهل لم ير النبى ﷺ وإنما رأى (يتيم أبى طالب) .
هذه النظرة لأبى جهل هى التى نريد أن يتنزه المؤمنون عنها.
_________
(١) سورة النور: ٦٢.
(٢) سورة الأنبياء: ١٠٧.
المقدمة / 9
والمؤمنون- بحمد الله- لا يقعون فى هذا الإثم متعمدين، وإنما يتسلل هذا الإثم إلى بعض النفوس فى صورة لا شعورية، عندما يركز بعضهم على بشرية الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- وكأنه لا شىء فيه غير البشرية.
ومن الغريب أنهم حينما يتحدثون عن البشرية، ويركزون عليها يعتبرون أنفسهم تقدميين متطورين، وفاتهم أن هذه النظرة لأبى جهل إنما هى النظرة التى يتبناها المستشرقون والمبشرون فى العصر الحاضر، ليقللوا من شأن الرسول فى نظر مواطنيهم.
وما كان المستشرقون فى تركيزهم على بشرية الرسول إلا متابعين فى ذلك زعيمهم الأكبر فى هذه النزعة- وهو أبو جهل. وكل من يركز على بشرية الرسول من الكتاب المسلمين إنما هو بذلك يتابع المستشرقين والمبشرين فى هذه النزعة، أو يتابع أبا جهل وهم فى ذلك ليسوا تقدميين ولا متطورين، وإنما هم من الرجعيين حيث ترجع فكرتهم إلى ما قبل ثلاثة عشر قرنا مضت، يتزعمهم فيها أبو الجهل كله، وأبو الظلمة القلبية كلها!!.
ليس هناك إذن اجتهاد وخطأ وصواب، وإنما هناك تصرفات تصدر عن الكرم والرحمة، فيتحدث الله مبينا طبيعة رسوله الكريمة، وفطرته الرحيمة ورأفته الواضحة، ويبين فى الوقت نفسه: أن بعض هؤلاء الذين فاضت عليهم هذه الرحمة ليسوا جديرين بها وليسوا أهلا لها لفساد فطرهم وسوء نواياهم.
من الحقائق المعروفة أن الإنسان يميل إلى التركيز على: «بشر» أو على: «يوحى إلى» حسب قوة شعوره الدينى وضعفه، فالذى لا إيمان له لا يرى إلا البشرية، ومن ضعف إيمانه يركز على البشرية. ويخفف التركيز على البشرية كلما قوى الإيمان، ويزداد التركيز على:
«يوحى إلى» كلما ازداد الإيمان، حتى يصل الإنسان إلى ألا يرى أو لا يكاد يرى إلا «يوحى إلى» .
صلوات الله وسلامه عليك يا سيدى يا رسول الله.
وهناك إذن طرفان يمثلان فريقين من الناس. طرف: «بشرا» أو، «قل: إنما أنا بشر مثلكم» .
وطرف: «يوحى إلى» أو «رسولا»، وبين الطرفين يتأرجح عدد لا يحصى من المسلمين نزولا وارتفاعا، انخفاضا وسموّا.
وأن مقياس الإيمان قوة وضعفا، مقياس درجة الإيمان الذى لا يخطئ، إنما هو ما وقر فى القلب أو غلب عليه، من البشرية أو من: «يوحى إلى» إنهما يمثلان ما يوضع فى كفتى ميزان.
دع ما ادعته النصارى فى نبيهمو ... واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم
ولعلك تتساءل الآن عن هذا الذى لا يرى أو لا يكاد يرى، إلا: «يوحى إلى» ماذا يرى؟ وكيف يرى؟.
ما هى النظرة التى تنأى بنا عن: «يتيم أبى طالب» لتقربنا من «الأسوة»؟ كيف ينبغى أن تكون نظرة المؤمن لرسول الله- صلوات الله وسلامه عليه-؟.
المقدمة / 10
والواقع أن الصورة الكاملة عن رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- يلزم لها أن يصل الإنسان إلى مستواه- صلوات الله وسلامه عليه- أو إلى ما يقرب من مستواه وذلك لا يتأتى.
بيد أنه إذا استحال ذلك فإنه من الميسور أن نورد صورتين، إحداهما: جاهلية، والآخرى إسلامية. والصورتان لسيدنا عمر رضى الله عنه.
أما الصورة الأولى: فإنها «يتيم أبى طالب» كان سيدنا عمر يراها قبل أن يهديه الله للإسلام، وأراد سيدنا عمر أن يقتل «يتيم أبى طالب» حتى لا تتفرق كلمة القرشيين بسببه.
ولكن دعاء رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه-: «اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك: بعمرو بن هشام، أو بعمر بن الخطاب» كانت قد استجيبت لخير سيدنا عمر فهداه الله للإسلام، ولازم الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- فناله من بركاته ومن خيره ما هيأه لأن يكون الخليفة الثانى للأمة الإسلامية أجمع، وأن يعز الله الإسلام به فى حياة الرسول صلوات الله وسلامه عليه-، وبعد وفاته.
إن سيدنا عمر هذا الذى لم يكن للشيطان عليه من سبيل، والذى كان إذا سلك طريقا سلك الشيطان طريقا آخر: خشية منه ورهبة، والذى نزل القرآن أحيانا مصدقا لما رآه، إن سيدنا عمر صاحب: «يا سارية الجبل» يرسم لنا صورة إسلامية لسيده وحبيبه وصديقه ونبيه ورسوله- صلوات الله وسلامه عليه-.
ولكن هذه الصورة: هى صورة سيدنا عمر، إنها تتناسب مع مستوى سيدنا عمر وهو من غير شك عظيم.
ماذا كان يمكن أن يقول سيدنا أبو بكر- رضوان الله عليه-؟ وماذا كان يمكن أن يقول سيدنا على رضى الله عنه؟ وماذا كان يمكن أن يكون وصف سيدنا جبريل لو وصفه؟.
إن الله ﷾ يقول عنه- صلوات الله وسلامه عليه-:
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ «١» .
وما كانت كلمة السيدة عائشة- رضوان الله عليها-: «كان خلقه القرآن» إلا تفسيرا لما أشارت إليه الآية القرآنية الكريمة، أيمكنك أن تتصور المدى الذى تبلغه الآية الكريمة، وتفسير السيدة عائشة لها؟ أيتأتى لك أن تحيط بالقرآن، أستغفر الله وأتوب إليه.
ولنعد إلى الصورة التى حاول رسمها صاحب: «يا سارية الجبل»، لنعد إليها لنثبتها شارحين لبعض حوادثها، موضحين لبعض أنبائها، وسنجعل الإيضاح بين أقواس.
بعد موت رسول الله ﷺ، سمع سيدنا عمر يبكى ويقول:
«بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لقد كان جذع تخطب الناس عليه، فلما كثر الناس اتخذت منبرا لتسمعهم، فحن الجذع لفراقك حتى جعلت يدك عليه فسكن، فأمتك كانت أولى بالحنين إليك لما فارقتها» . يروى البخارى ومسلم، وكتب السنة كلها تقريبا وكتب السيرة (حادث حنين الجذع) بعدة روايات، وننقل هنا إحدى روايات البخارى:
_________
(١) سورة القلم: ٤.
المقدمة / 11
عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: «كان النبى ﷺ يخطب إلى جذع، فلما اتخذ المنبر تحول إليه فحن الجذع فأتاه فمسح يده عليه» .
بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عنده: أن جعل طاعتك طاعته، فقال ﷿:
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ «١» .
بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عنده: أن بعثك آخر الآنبياء، وذكرك فى أولهم، فقال ﷿:
وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ «٢» .
بأبى أنت وأمى يا رسول الله. لقد بلغ من فضيلتك عنده: أن أهل النار يودون أن يكونوا قد أطاعوك وهم بين أطباقها يعذبون:
يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا «٣» .
بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لئن كان موسى بن عمران أعطاه الله حجرا تنفجر منه الأنهار فماذا (فليس ذلك) بأعجب من أصابعك حين نبع منها الماء صلى الله عليك يا سيدى يا رسول الله.
إن نبع الماء من بين أصابعه الشريفة- صلوات الله وسلامه عليه-، لم يحدث مرة واحدة وإنما حدث عدة مرات، رواه البخارى ومسلم وغيرهما من كتب السنة، وروته كتب السيرة بروايات عدة، فى ظروف مختلفة، مما يدل على كثرة حدوثه، وننقل هنا إحدى روايات الإمام البخارى:
عن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما قال: عطش الناس يوم الحديبية، والنبى ﷺ بين يديه ركوة، فتوضأ فجهش الناس، فأسرعوا وتكاثروا نحوه فقال: «ما لكم؟» قالوا: ليس عندنا ماء نتوضأ ولا نشرب إلا من بين يديك. فوضع يده فى الركوة، فجعل الماء يثور بين أصابعه كأمثال العيون، فشربنا وتوضأنا.
قلت: كم كنتم؟.
قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة. بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لئن كان سليمان بن داود أعطاه الله الريح غدوها شهر، ورواحها شهر، فماذا بأعجب من البراق حين سريت عليه إلى السماء السابعة ثم صليت الصبح من ليلتك بالأبطح، صلى الله عليك.
بأبى أنت وأمى يا رسول الله! لئن كان عيسى ابن مريم أعطاه الله إحياء الموتى، فماذا بأعجب من الشاة المسمومة حين كلمتك وهى مشوية فقالت لك الذراع: لا تأكلنى فإنى مسمومة.
يروى ابن سعد فى طبقاته:
أخبرنا سعيد بن محمد الثقفى، عن محمد بن عمر، عن أبى سلمة قال: كان رسول الله
_________
(١) سورة النساء: ٨٠.
(٢) سورة الأحزاب: ٧.
(٣) سورة الأحزاب: ٦٦.
المقدمة / 12
ﷺ، لا يأكل الصدقة، ويأكل الهدية، فأهدت إليه يهودية شاة مصلية، فأكل رسول الله ﷺ منها هو وأصحابه، فقالت: إنى مسمومة، فقال لأصحابه: «ارفعوا أيديكم، فإنها قد أخبرتنى أنها مسمومة» قال: فرفعوا أيديهم، قال: فمات بشر بن البراء، فأرسل إليها الرسول ﷺ فقال: «ما حملك على ما صنعت» فقالت: أردت أن أعلم إن كنت نبيّا لم يضرك وإن كنت ملكا أرحت الناس منك، قال: فأمر بها فقتلت. اه.
بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لقد دعا نوح على قومه فقال:
رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّارًا «١» .
ولو دعوت علينا بمثلها لهلكنا كلنا، فلقد وطىء ظهرك- تروى كتب السيرة أن عقبة بن أبى معيط وطأ على رقبته الشريفة وهو ساجد عند الكعبة، حتى كادت عيناه تبرزان- وأدمى وجهك، وكسرت رباعيتك، فأبيت أن تقول إلا خيرا، فقلت:
«اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون» .
لقد دمى وجهه- صلوات الله وسلامه عليه- وكسرت رباعيته فى غزوة أحد. روى ذلك البخارى ومسلم. أما حديث:
«اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون» فقد رواه البيهقى فى دلائل النبوة.
بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لقد اتبعك فى قلة سنك، وقصر عمرك ما لم يتبع نوحا فى كثرة سنه، وطول عمره، ولقد آمن بك الكثير وما آمن معه إلا القليل.
بأبى أنت وأمى يا رسول الله: لو لم تجالس إلا كفؤا لك ما جالستنا، ولو لم تنكح إلا كفؤا لك ما نكحت إلينا، ولو لم تواكل إلا كفؤا لك ما واكلتنا، فقد والله جالستنا، ونكحت إلينا، وواكلتنا، ولبست الصوف، وركبت الحمار، وأردفت خلفك، ووضعت طعامك على الأرض تواضعا منك صلى الله عليك وسلم.
هذه صورة.
ومن الطريف أن نذكر صورة أخرى استنتاجية، استنتجها رجل لم يكن يعرف الرسول- صلوات الله وسلامه عليه-، ولكنه رجل واسع الأفق رحب الخيال دقيق التفكير.
وقد اتخذ الاحتياط اللازم حتى لا يشوب الصورة أى مطعن، هذا الرجل هو: (هرقل) .
أتاه كتاب رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه-، يدعوه إلى الإسلام فلم يهمل الكتاب ولم يمزقه، وإنما قرأه فى عناية وانتباه، ثم أراد أن يكون صورة صحيحة عن صاحب الخطاب، فسأل عما إذا كان بالمدينة بعض العرب الذين يعرفون الرسول فقيل له: إن بالمدينة تجارا من مكة يعرفون محمدا باعتباره من مواطنيهم فأمر بإحضارهم وكان منهم أبو سفيان.
وسأل هرقل عن أقربهم نسبا إلى الرسول، فكان أبا سفيان فقربه منه وأدناه وقال لهم:
إنى سائله عن أمور فإن كذبنى فكذبوه.
يقول أبو سفيان، فو الله لولا الحياء من أن يأثروا على كذبا لكذبت عليه.
وسنترك المقدمات والأسئلة الأولى: لأنها واضحة من النتائج التى انتهى إليها هرقل:
_________
(١) سورة نوح: ٢٦.
المقدمة / 13
إن هرقل بعد أن انتهى من الأسئلة: بدأ- عن طريق الترجمان- يقول لأبى سفيان، على مشهد من الملأ الحاضر من أصحاب هرقل، ومن أصحاب أبى سفيان: سألتك عن نسبه:
فذكرت أنه فيكم ذو نسب.
فكذلك الرسل تبعث فى نسب قومها.
وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول؟
فذكرت: أن لا.
فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت: رجل يأتسى بقول قيل قبله.
وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟
فذكرت: أن لا.
قلت: لو كان من آبائه من ملك، لقلت: رجل يطلب ملك أبيه.
وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟
فذكرت: أن لا.
فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله.
وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟
فذكرت: أن ضعفاؤهم اتبعوه.
وهم: أتباع الرسل.
وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟
فذكرت: أنهم يزيدون.
وكذلك أمر الإيمان حتى يتم.
وسألتك: أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟
فذكرت: أن لا.
وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.
وسألتك: هل يغدر؟
فذكرت: أن لا.
وكذلك الرسل لا تغدر.
وسألتك: بم يأمركم؟
فذكرت: أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة، والصدق والعفاف.
فإن كان ما تقول حقّا فسيملك موضع قدمى هاتين.
وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظن أنه منكم: فلو أنى أعلم أنى أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه.
هذه الصورة التى كونها هرقل بمنطقه، ويمكن أن يكونها أو يكون مثيلات لها كل إنسان اتسع أفقه، ورحب تفكيره، وكل إنسان يصدق الله والحق: لابد أن ينتهى بما انتهى إليه هرقل
المقدمة / 14
من قوله: «لو كنت عنده لغسلت عن قدميه» وإنما يغسل عن قدميه، من أجل: «يوحى إلى» إذ إن من اصطفاه الله لرسالته جدير بأن يكون أهلا لذلك.
بيد أن هذه النهاية التى انتهى إليها هرقل، إنما هى الشعار الدائم الذى لا ينتهى بانتقال الرسول إلى الملأ الأعلى، فالرسول حى بيننا الآن برسالته وهديه وتعاليمه والغسل عن قدميه الآن أو بتعبير آخر احترامه: إنما هو باتباع هديه، والتزام رسالته، وتقديره تقديرا يتناسب مع اصطفاء الله له ﷺ.
ولقد ركز هرقل نوعا ما على الصدق والإخلاص، والواقع أن صورة الصدق والإخلاص كان يراهما كل من عرف الرسول ﷺ ولم تعمه عصبية، أو حسد أو هوى.
على أن صورة الصدق والإخلاص: كانت سمة من السمات التى اتصف بها الرسول قبل بعثته، وبعد بعثته- صلوات الله وسلامه عليه-، لقد لازمته طيلة حياته، لقد كان مجرد الخبر يلقيه- صلوات الله وسلامه عليه-، يأخذه أعدى أعدائه على أنه واقع لا محالة. فهذا أمية بن خلف- عدو لدود- يتلاحى مع سعد بن معاذ رضى الله عنه، يريد أن يمنعه من الطواف بالكعبة، فيقول له سعد بن معاذ فى حدة المناقشة: لقد سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إنه قاتلك» ويضطرب قلب أمية بن خلف ويسأل فى لهفة وضعف وتخاذل: أو قال ذلك حقّا؟ فلما أكد له سعد بن معاذ الخبر أسقط فى يده وقال: لئن كان قال ذلك، لقد صدق، وقتل أمية بن خلف يوم بدر.
على أن هذه الصورة تتمثل فى وضوح بيّن حينما أعلن رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- إلى قريش نبوته، فقال لهم:
«أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا وراء هذا الوادى تريد أن تغير عليكم أكنتم تصدقونى؟» .
لقد كانت إجابتهم عن هذا السؤال تعبر عن الحقيقة التى لمسوها فيه لقد قالوا:
«نعم أنت عندنا غير متهم، وما جربنا عليك كذبا قط» .
وصورة أخرى، صورة لم يرتب لها ترتيب مروى ولم يؤد إليها منطق محكم، صورة لم تكن نتيجة عشرة طويلة، ورفقة قريبة، وإنما جاءت على البديهة، وأوحت بها الملاحظة السليمة.
إنها الصورة التى كونتها عنه- صلوات الله وسلامه عليه- أم معبد الخزاعية، وهى صورة لا تخص الجانب المعنوى منه وإنما تتصل على الأخص بالجانب الظاهر، وأردنا أن نثبتها هنا لنثبت بها (هيئة) وظاهرا بعد أن أثبتنا زوايا من المعنويات، وجوانب من التقدير والإجلال، إن الصورة التى نثبتها الآن مجرد وصف، إنها تعبير عن ملاحظة.
هاجر رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- من مكة إلى المدينة يرافقه أبو بكر رضى الله عنه، وعامر بن فهيرة مولى أبى بكر ودليلهم عبد الله بن أريقط.
مروا بخيمة أم معبد الخزاعية، وكانت امرأة قوية الأخلاق عفيفة تقابل الرجال، فتتحدث إليهم وتستضيفهم، وسألها الركب عن تمر أو لحم يشترونه فلم يصيبوا عندها شيئا من ذلك، فقد كانت سنة من السنين العجاف، فقالت لهم:
المقدمة / 15
والله لو كان عندنا شىء ما أعوزكم القرى. فنظر رسول الله ﷺ إلى شاة فى ركن الخيمة فقال:
«ما هذه الشاة يا أم معبد؟» قالت:
هذه شاة خلفها التعب عن الغنم.
فقال- صلوات الله وسلامه عليه-: هل بها من لبن؟ فقالت:
هى أجهد من ذلك.
قال: «أتأذنين أن أحلبها؟» .
قالت: نعم بأبى أنت وأمى إن رأيت بها حلبا.
فدعا رسول الله ﷺ بالشاة فمسح ضرعها وذكر اسم الله وقال: «اللهم بارك لها فى شاتها» .
فامتلأ ضرع الشاة ودر لبنها: فدعا بإناء لها كبير، فحلب فيه حتى ملأه فسقى أم معبد فشربت حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا، وشرب ﷺ آخرهم وقال:
«ساقى القوم آخرهم» .
فشربوا جميعا مرة بعد مرة.
ثم حلب فيه ثانية عودا على بدء، فغادروه عندها، ثم ارتحلوا عنها، فما لبثت أن جاء زوجها يسوق أعنزا عجافا هزلى فلما رأى اللبن عجب واستغرب وقال:
«من أين لكم هذا ولا حلوبة فى البيت»؟.
قالت: لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت.
قال: والله إنى لأراه صاحب قريش الذى يطلب، صفيه لى يا أم معبد؟
قالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة، متبلج (مشرق) الوجه، حسن الخلق، لم تعبه ثجلة (ضخامة البطن) ولم تزر به صعلة (لم يشنه صغر الرأس) وسيم قسيم، فى عينيه دعج، وفى أشفاره وطف (طويل شعر الأجفان)، وفى صوته صحل (رخيم الصوت) أحور أكحل أزج أقرن شديد سواد الشعر، فى عنقه سطح (ارتفاع وطول) وفى لحيته كثافة، إذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلم سما وعلاه البهاء، وكأن منطقة خرزات نظم يتحدرن، حلو المنطق فصل لا نذر ولا هذر (لا عى فيه ولا ثرثرة فى كلامه) أجهر الناس وأجملهم من بعيد، وأحلاهم وأحسنهم من قريب، ربعة (وسط ما بين الطول والقصر) لا تشنؤه (تبغضه) من طول ولا تقتحمه عين (تحتقره) من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرا، وأحسنهم قدرا له رفقاء يخصون به، إذا قال استمعوا لقوله، وإذا أمر تبادروا إلى أمره، محفود (يسرع أصحابه فى طاعته)، محشود (يحتشد الناس حوله)، لا عابث ولا منفذ (غير مخرف فى الكلام) .
قال أبو معبد: هذا والله صاحب قريش الذى ذكر لنا من أمره ما ذكر، ولو كنت وافقته يا أم معبد لتلمست أن أصحبه ولأفعلن إن وجدت لذلك سبيلا.
هذه هى الصورة التى حاولت أم معبد رسمها.
المقدمة / 16
أما سيدنا عمرو بن العاص فإنه يقول فى صراحة وصدق- عندما حضرته الوفاة وعندما تذكر الماضى فخنقته العبرات، وتحدث مع ابنه عن أشياء عدة فى صورة مؤثرة-: (ما كان أحد أحب إلى من رسول الله ﷺ ولا أجل فى عينى منه، وما كنت أطيق أن أملأ عينى منه إجلالا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت: لأنى لم أكن أملأ عينى منه) .
هذا وبالله التوفيق.
أ. د/ منيع عبد الحليم محمود أستاذ التفسير وعلوم القرآن وعميد كلية أصول الدين بالقاهرة جامعة الأزهر
المقدمة / 17
الجزء الأول
1 / 1
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستهديه ونسعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد ألاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد ...
إننا أمام كتاب يتحدث عن سيرة رسول الله- ﷺ، ولدراسة سيرة رسول الله- ﷺ مكانة خاصة، لا أقول فى نفوس متبعيه فقط، بل فى نفوس معاديه أيضا! وذلك يرجع إلى مكانة رسول الله- ﷺ التى لم ينلها أحد قبله، ولن ينالها أحد بعده. فهو صفوة خلقه ورسوله إليهم جميعا عربهم وعجمهم، أبيضهم وأسودهم، كما ورد فى حديث فضلت على الأنبياء بست فذكر منهم فكان النبى قبلى يرسل إلى قومه خاصة، وأرسلت إلى الناس عامة أبيضهم وأسودهم.
ومن رحمة الله ﷿ بخلقه أنه عندما يختار لهم رسولا يجعله قدوة وأسوة فى حياته لما يدعو إليه، لا كلاما نظريّا فحسب، بل ترجمة عملية واقعية لما يدعو إليه، لأن الله ﷿ يعلم أن ذلك أبلغ وأوقع فى نفوس المتبعين، ولعل ذلك من أسباب كون الرسل من البشر لا من الملائكة؛ لأن طبيعة الملائكة تختلف عن طبيعة البشر، فلن تكون حياتهم أسوة لنا بخلاف الرسل من البشر.
1 / 3
ولأن حياة الرسل، وبخاصة رسولنا- ﷺ أسوة لنا اهتم العلماء قديما وحديثا بالتصنيف فى سيرة حياته- ﷺ، لنعرف عنه كل كبيرة وصغيرة، بل لم نجد أتباع رسل اهتموا بكل تفاصيل حياته خاصها وعامها كما اهتم علماؤنا بسيرة سيد الخلق أجمعين، محمد- ﷺ، ولذلك حظيت حياته عن غيره من الأنبياء بمصنفات شتى لا تعد ولا تحصى ليجد كل واحد منا بغيته فى معرفة حياة رسولنا- ﷺ.
ثم إن دراسة سيرة الرسول- ﷺ لا تقف عند حد معرفة شمائله ﷺ فقط، بل معرفة شرعه- ﷺ، حيث إن فى سلوكه مع ربه نعرف هديه فى العبادات، ثم سلوكه مع من حوله نعرف هديه فى معاملة الخلق، فإذا كان مع زوجه عرفنا هديه فى معاملة الأزواج، وإن كان مع صاحب أو جار عرفنا هديه فى معاملة الأصحاب والجيران، ثم مع أعدائه عرفنا هديه فى السلم والحرب، وكيف نعامل أعداءنا!!، كل ذلك بضوابطه الشرعية التى بينتها سيرة رسول الله- ﷺ.
ومن هؤلاء صاحب كتابنا شهاب الدين أحمد بن محمد القسطلانى، وهو كتاب يتضمن السيرة والمغازى والخصائص والشمائل وأعلام النبوة، وسيرته- ﷺ فى العبادة، ولعله بذلك قد استوعب كل جوانب حياته ﷺ سواء كانت علاقته بربه، أو مع خلقه كأزواجه وأصحابه، حيث كان نعم الأب ونعم الأخ ونعم الزوج.
إلا أنا نجد أنا صاحبنا قد غالى بعض الشىء فى مناقبه- ﷺ، قد بينا ذلك فى موضعه، ولا ننكر أنها قليلة بالنسبة إلى الكتاب عامة ولكن الأدب مع رسول الله- ﷺ أن نضعه فى المكانة التى أراد الله ﷿ أن يضعه فيها، بل هو أيضا قد أمرنا بذلك، حيث قال: «لا تطرونى كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله»، وليس فى ذلك نقص من مكانته- ﷺ، بل هذا رفعة له أن نصفه بأنه عبد ورسول، بل إن الله ﷿ حينما أراد أن يصفه فى أعظم رحلة على وجه الأرض
1 / 4