قلنا : نعم، إن موسى لم يسأل أن يرى ربه عيانا، مثلما سألت اليهود ، وإنما سأل موسى ربه أن يريه آية من آياته، وعجبا من عجائبه حين قال: { [رب] (¬1) أرني أنظر إليك } (¬2) ، أي أريد أن أنظر إلى آية/[22] من آياتك وعجبا من عجائبك ، فهذا وجه سؤال موسى عليه السلام ربه تبارك وتعالى، والتأويل مخالف للقرآن فافهم، فإن أمر التأويل والتوحيد شديد، والحمد لله رب العالمين (¬3) .
¬__________
(¬1) - + من الشرح، ص289.
(¬2) - سورة الأعراف : 143.
(¬3) - اعلم أيها الواقف على هذه المسألة الشائكة التي تصارع فيها كبار العلماء قديما وحديثا حتى وصل التنابز بينهم بما لا يمكن وصفه هنا ، أنه ليس عند المشبهة أصحاب الرؤية في كتاب الله - عز وجل - آية أوثق في أنفسهم من هذه الآية التي يذكر فيها مسألة موسى ربه ، والآية التي يذكر فيها النظر..وأما الآية التي يذكر فيها الزيادة فقد تعسفوا في تأويلها تعسفا شديدا واستخراجا قبيحا كما تعسفت= =المشبهة في الآية التي يذكر فيها الساق ، وغلطوا في تأويل الساق غلطا قبيحا ، وأما مسألتهم عن مسألة موسى ربه ، فيقال لهم : إن كان موسى إنما سأل الرؤية عندكم على حقيقة الرؤية ، فكيف حتى لم يشرك موسى كما أشركت اليهود بسؤالها ، بمثل الذي سأل موسى ، فكيف يكون أن يكون الله رخص لموسى عليه السلام في شيء ، وقد أغلظ فيه على بني إسرائيل من قوله - عز وجل - : (( فأخذتهم الصاعقة بظلمهم )) (النساء:153) قال أهل التفسير : بشركهم وقد قال الله - عز وجل - : (( فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة )) (النساء:153) ثم قال - عز وجل - على اثر ذلك : (( ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات )) فقار ن مسألتهم لموسى في رؤية الرب - عز وجل - باتخاذ العجل الاها من دون الله وقد يكون أن يرخص الله - عز وجل - لغير الأنبياء ما لا يرخص فيه على الأنبياء ، ففي هذا أوضح الدلالة وأوضح الحجة على أن الذي سأل موسى عليه السلام ليس هو من المعنى الذي سألت اليهود في شيء. فينبغي أن يكون موسى عليه السلام عند أصحاب الرؤية وجميع المشبهة مشركا بالله ، ظالما مستحقا بأن تأخذه الصاعقة بظلمه. وحاش رسول الله وكليمه من مقالات أهل الخطأ . أو تكون اليهود عندهم قد أصابت في سؤالها موسى عليه السلام في رؤية الرب - عز وجل - . فان زعموا أن اليهود مصيبون في سؤالها موسى ، فقد ردوا على الله = = - عز وجل - لأن الله كبر قول اليهود وعظمه، وأضافه إلى الظلم والشرك وقرنه باتخاذ العجل الاها من دون الله . والفرق بين مسألة موسى ربه - عز وجل - وبين مسألة اليهود هو ما ذكره صاحب الكتاب وفسره ، وقال : إنما سأل الله موسى أن يريه آية من آياته وعجبا من عجائبه ، ويدل على ذلك قول الله - عز وجل - في بني إسرائيل وحكايته عنهم (( فقالوا أرنا الله جهرة)) (النساء:153) فوكدوا بقولهم : جهرة ، إنما يطلبون الرؤية بالأبصار ، والرؤية قد تخرج على معنى العلامة ورؤية الدلالة ، وقد يقول الرجل لصاحبه: أرني على الذي قلت برهانا. قال الله - عز وجل - :(( ألم تر الر بك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا )) (الفرقان:45)يريد الرؤية للظل الذي هو دليل على الله - عز وجل - . وقد قال الله لنبيه عليه السلام :(( ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل )) (الفيل:1). يريد ألم تعلم . وقال النابغة يمدح النعمان :
ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك عندها يتذبذب
وكثيرا ما يستعمل الناس فيما بينهم عبارة الرؤية على معنى العلم . وأما الجهرة فلا تذكر إلا عند الملاقاة بالأبصار. فمن زعم أن الله يرى في الدنيا فهو كافر مشرك . ومن زعم أن الله يرى في الدار الآخرة، فهو كافر متأول عند جمهور الاباضية . فان قال قائل من أصحاب الرؤية ما تنكرون أن يكون الله - عز وجل - جعل القوة في أبصار= = أوليائه ، وزاد فيها حتى تكون الأبصار مدركة له - عز وجل - في الدار الآخرة ؟ قلنا له : لا تخلو هذه الزيادة التي ذكرتم من أن تكون مخرجة للأبصار من حد الإبصار، ناقلة لها من معنى الأبصار. فان كان هذا المعنى أردتم فان الابصار إذا خرجت عن معناها وانتقلت عن حقيقتها، فحينئذ تعود غير أبصار ، فإذا عادت الابصار غير أبصار، بطل عنها أن تكون ترى أو تبصر وبطل عنها معنى الدرك والرؤية،فنراكم أردتم إثبات الرؤية بإبطالها ، واحتججتم للرؤية بالذي يوجب الحجة على فسادها ، أو كانت القوة الزائدة في الابصار غير مخرجة للإبصار من معنى الابصار . فإذا كانت القوة لا تخرج الابصار عن معناها ، فالأبصار لو قويت بكل قوة فهي مطبوعة لا تدرك إلا لونا من الألوان وشخصا من الأشخاص . ألا ترون أن الأسد إنما كان يرى ويبصر في ظلمة الليل ما يراه غيره من الحيوان ، ولا يبصر لقوة بصره ولشدة نظره ، وكذلك النار لو زادت حرارة فوق حرارتها لا تخرجها تلك الزيادة من أن تكون محرقة ، والثلج لو زاد برودة وجمودة لا تخرجه زيادته عن معنى ما هو فيه ، وكذلك كل خلق طبعه الله على ما هو فيه ، لو زاد في معناه ما عسى أن يزيده لما أخرجته تلك الزيادة عن صفته التي هو بها ، ولا تنقله عن طبعه الذي عليه طبع . والقول في سائر الحواس من غير البصر كالقول في البصر . وكذلك لو سألوا عن الحاسة السادسة قيل لهم : لا تخلو من أن = =تكون في معنى البصر أو في غير معناه على مثل الذي أجبناه في مسألة البصر والزيادة فيه سواء . وقد قال بعض المفسرين في مسألة موسى ربه أن موسى لما كلفه الله - عز وجل - ولم يجعل بينه وبين موسى واسطة ولا سفيرا ، طلب الرؤية التي هي على معنى العلم ، كالذي أعطي من الكلام الذي هو كلام الله له عليه السلام. وقد كلمه الله على خلاف كلام الخلق بعضهم لبعض ، وطلب الرؤية على خلاف رؤية الخلق بعضهم بعضا من الله لموسى عليه السلام على معنى الدلالة عليه . وكذلك الذي سأل من الرؤية على بعض الدلالة عل الله - عز وجل - ، فأعلم الله موسى عليه السلام أن الدليل الذي يقوم مقام الرؤية ليس هو كالدليل الذي يقوم مقام الكلام . فالأول أعظم في الشهادة وأقطع مما لا يقوم بمثله خلق إذا هو شاهده . فلما أفاق موسى عليه السلام خاطبه - عز وجل - بأن قال : (( إني اصطفيتك على الناس برسالتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين )) (الأعراف:144) على الذي وهبتك من رسالتي وكلامي في كلام من هذا المعنى للعلماء من أهل التفسير. والله أعلم .
صفحہ 65