والإغريقي رجل واقعي؛ فالمحيط عند هومر «ماء ملح»، والموت «موت» لا يحاط بتلك العقائد المعقدة التي كان يعتنقها قدماء المصريين وغيرهم من الأمم القديمة. يشغل نفسه بالحياة دون الموت، ويعتقد أنه في هذه الدنيا وحده بدون معين، وهم يقدرون مقدرة الإنسان؛ لأن المرء يستطيع أن يتغلب على كثير من الصعاب في هذه الدار الفانية؛ ومن ثم فهم يقدسون الإنسانية. وقد استتبع هذا التقديس حب كل شيء يجعل الحياة بهيجة سارة. وأول هذه الأشياء الجمال، فلم تعجبهم الأصنام الهندية والمصرية؛ لأنها منفرة تنم عن الرعب والقوة، بل كانوا يعبدون آلهة أهم صفاتها الجمال، الجمال أحب شيء إلى نفوسهم. ثم هم يقدرون بعد الجمال الحق والعدل والحرية؛ فهي ضرورية لسعادة الإنسان.
كان الإغريق إذن قوما واقعيين، لا تكاد تجيش صدورهم بالعواطف. وربما يرجع ذلك إلى أنهم لم يرثوا عن تاريخهم القديم ما يكبل نفوسهم بمختلف المواضعات والتقاليد التي يتحتم عليهم احترامها ورعايتها.
ولما كانوا قوما واقعيين فقد كانوا يميلون إلى البساطة والسذاجة التي لا كلفة فيها. فلم يكن الشعر اليوناني منمق اللفظ معقد العبارة، إنما كان يتميز بالسهولة بل وبشيء من الجفاف، وهم في أدبهم ونحتهم يتوخون الصدق والبساطة.
ويجب أن نذكر ونحن نتحدث عن الإغريق أنهم كانوا يسكنون في مدائن منفصلة، كل مدينة حكومة قائمة بذاتها. وأكبر هذه المدن وأشهرها أثينا، وأكثر ما تحدر إلينا من الأدب اليوناني من إنتاج أدبائها. ولكن لم يصل إلينا غير القليل من هذا الأدب، ونحن مدينون بالإبقاء عليه لمدينة الإسكندرية التي حفظته أجيالا طوالا.
ويجب أن نذكر كذلك ونحن نتحدث عن الإغريق أن الحرب التي دارت رحاها بينهم وبين الفرس كانت الحافز الأول للوطنية الأوروبية. ولم يبعث خوف البرابرة - كما كانوا يسمونهم - في صدور الإغريق حب الوطن فحسب، بل دفعهم كذلك إلى أن يعتبروا أنفسهم حماة الثقافة من تخريب البرابرة المتوحشين.
الروح الإغريقية معناها حب الجمال الساذج، والبساطة، والصدق، والحرية، والعدالة، وحب الواقع، وبغض التكلف، وتحاشي المبالغة. وأكثر أدبهم مستمد من أساطيرهم الدينية. وقد نشأ أدبهم أول ما نشأ شعرا حماسيا ينشده شعراء متجولون. حتى ظهر من بينهم هزيود وهومر الذي جمع هذا الشعر في ملحمة خالدة. وفي الأساطير الدينية كان كتاب المسرحية يتلمسون موضوعاتهم. ونمو المسرحية اليونانية وتطورها في عدد قليل جدا من السنين أمر يدعو حقا إلى الدهشة والإعجاب؛ ففي نحو خمسين عاما بلغت المسرحية حدا بعيدا من الكمال، وفي هذه الفترة الوجيزة تألق في سماء الأدب المسرحي أسماء باقية على الدهر خالدة على وجه الزمان؛ من هؤلاء إيسكلس الذي نال جائزته الأولى على إحدى رواياته عام 484ق.م، ومنهم سوفوكلين، ويوربديز الذي اخترنا في هذا الكتاب أربعا من مآسيه نقلناها إلى اللغة العربية، وقد ظهر بجائزة الحكومة على «ميديا» (إحدى رواياته المترجمة) عام 431ق.م، ومن هؤلاء كذلك أرستوفان الذي كتب عددا كبيرا من الملاهي. ويشبه هذا التطور السريع للمسرحية اليونانية ورقيها إلى هذا الحد في فترة وجيزة من الزمان ما حدث في إنجلترا في إبان عهد الملكة إليزبث في أوائل القرن السابع عشر، حينما ظهر عدد كبير من كتاب المسرحية النابغين، وعلى رأسهم شيكسبير.
نشأة الأدب المسرحي اليوناني
صور لنفسك جماعة من الراقصات لا يعدو عددهن العشرين، احتشدن حول مذبح من مذابح الآلهة يتراقصن ويغنين الأناشيد. ثم تصور بعد ذلك قصاصا ينضم إلى هؤلاء الفتيات، ويقف فوق منضدة مرتفعة يقص على المستمعين قصص الأبطال والبطولة. ثم يرتبط غناء المغنيات بقصة القصاص في صورة جدل وحوار. هكذا نشأت المسرحية اليونانية نشأة دينية، كما نشأت في إنجلترا في العصور الوسطى حينما كان القسس أول الأمر يمثلون قصص الإنجيل في الكنيسة.
وكانت هذه الحفلات الدينية اليونانية تقام فوق التلال، وبخاصة في فصل الربيع حينما كان الناس يحتفلون بإله الزهر والبساتين ديونيسيس. ثم أنشئت المسارح في مختلف البلدان، وكان أكبر هذه المسارح مسرح أثينا؛ إذ كان يتسع لنحو ثلاثين ألف مقعد لمتفرج. ومن حق كل أثيني أن يشهد حفلات التمثيل. وفي عهد بركليز الزاهر كانت الدولة تدفع أجور المقاعد لكل أثيني. وفي أمثال هذه الحفلات كان التمثيل يستمر طيلة النهار. ومن واجب الأغنياء بل ومما يلذ لهم ويتظاهرن به أن يعينوا الممثلين والمغنيات بكل ما يحتاجون إليه من ضرورات الحياة.
وكانت الدولة تعقد بين المؤلفين مسابقات سنوية، ثم تختار خير ما يقدم لها وتخرجه على المسرح كي يشهده الناس أجمعون، ولا تقبل الدولة أكثر من ثلاثة متنافسين في العام الواحد. وكان على المتنافس أن يبحث له عن رجل غني يدفع الأجر للفرقة التي تقوم بتمثيل مسرحياته. ولما كان التمثيل حفلة دينية، كان الرأي الشائع أنه شؤم على المؤلف ألا يفوز بجائزة، ولذا فقد كانت الجوائز تمنح لكل متنافس تظهر روايته على المسرح. وكان لظهور أيسكلس وسونوكليز ويوربديز خاصة أثر كبير في تقدم الفن المسرحي، ولكثرة النظارة كان الممثل يضطر إلى أن يلبس حذاء عاليا كي يظهر للجميع، ويضطر إلى أن يتكلم من خلال بوق يخفيه حول قناع يتقنع به.
نامعلوم صفحہ