ميديا
هبوليتس
أفجنيا
ميديا
هبوليتس
أفجنيا
مسرحيات يوربديز
مسرحيات يوربديز
جمع وترجمة
محمود محمود
مقدمة
بقلم محمود محمود
الروح الإغريقية
إنه لمما يثير الدهشة ويبعث على الإعجاب حقا أن يستطيع الشعب الإغريقي - وهو قليل العدد - أن ينتج في القرن الخامس قبل الميلاد هذا الأدب الرائع الذي تحدر إلينا من ذلك العهد الزاهر في تلك الأزمنة السحيقة. إنه أدب ما زلنا نقرؤه ونفهمه ونستمتع به، وهو يكاد يداني في جلاله وعظمته أدب أية أمة في أي عهد من العهود.
وقد خلف لنا اليونان فوق هذا الأدب كثيرا من آيات النحت والبناء، مما يدل على ذوق رفيع ومدنية زاهرة.
والعقل الإغريقي هو الذي وضع أساس الفلسفة والرياضة والعلوم الطبيعية، ولا نكون مبالغين إذا قلنا إنهم منشئو أكثر ما نفخر به في حياتنا الحديثة من علم وثقافة.
بيد أن الإغريق - برغم علو كعبهم في مختلف الفنون والمعارف - كانت تنقصهم بعض نواحي الثقافة الهامة التي لا بد منها لكمال المعرفة والتهذيب؛ فمعرفتهم بالتاريخ القديم وبتقويم البلدان ضيقة محدودة، وصلاتهم بالشعوب الأخرى واهنة يسيرة.
ولكنهم من ناحية أخرى كانت لهم لغة جميلة مرنة تقوى على التعبير الأدبي عن أدق الأفكار.
ولم يعتقد الإغريق - كما كان يعتقد اليهود - في إله واحد يحب الخير للناس وهو على كل شيء قدير، بل كانت لديهم آلهة متعددة تضطرم في نفوسهم العواطف الإنسانية من حب وبغض وغيرة وحسد، وهم في قتال دائم، يتدخلون في شئون البشر من حين إلى حين. ومن وراء هؤلاء الآلهة «القدر» الذي يسيطر على مصائر الآلهة والناس على السواء. ومن العبث أن يقف الإنسان في وجه «القدر» أو يعارضه، وعلى كل امرئ أن يتقبل حكمه عن رضا وطواعية.
ولعل هذا السلطان المتسلط على البشر والآلهة والذي لا مفر منه هو سر المأساة اليونانية.
والإغريقي رجل واقعي؛ فالمحيط عند هومر «ماء ملح»، والموت «موت» لا يحاط بتلك العقائد المعقدة التي كان يعتنقها قدماء المصريين وغيرهم من الأمم القديمة. يشغل نفسه بالحياة دون الموت، ويعتقد أنه في هذه الدنيا وحده بدون معين، وهم يقدرون مقدرة الإنسان؛ لأن المرء يستطيع أن يتغلب على كثير من الصعاب في هذه الدار الفانية؛ ومن ثم فهم يقدسون الإنسانية. وقد استتبع هذا التقديس حب كل شيء يجعل الحياة بهيجة سارة. وأول هذه الأشياء الجمال، فلم تعجبهم الأصنام الهندية والمصرية؛ لأنها منفرة تنم عن الرعب والقوة، بل كانوا يعبدون آلهة أهم صفاتها الجمال، الجمال أحب شيء إلى نفوسهم. ثم هم يقدرون بعد الجمال الحق والعدل والحرية؛ فهي ضرورية لسعادة الإنسان.
كان الإغريق إذن قوما واقعيين، لا تكاد تجيش صدورهم بالعواطف. وربما يرجع ذلك إلى أنهم لم يرثوا عن تاريخهم القديم ما يكبل نفوسهم بمختلف المواضعات والتقاليد التي يتحتم عليهم احترامها ورعايتها.
ولما كانوا قوما واقعيين فقد كانوا يميلون إلى البساطة والسذاجة التي لا كلفة فيها. فلم يكن الشعر اليوناني منمق اللفظ معقد العبارة، إنما كان يتميز بالسهولة بل وبشيء من الجفاف، وهم في أدبهم ونحتهم يتوخون الصدق والبساطة.
ويجب أن نذكر ونحن نتحدث عن الإغريق أنهم كانوا يسكنون في مدائن منفصلة، كل مدينة حكومة قائمة بذاتها. وأكبر هذه المدن وأشهرها أثينا، وأكثر ما تحدر إلينا من الأدب اليوناني من إنتاج أدبائها. ولكن لم يصل إلينا غير القليل من هذا الأدب، ونحن مدينون بالإبقاء عليه لمدينة الإسكندرية التي حفظته أجيالا طوالا.
ويجب أن نذكر كذلك ونحن نتحدث عن الإغريق أن الحرب التي دارت رحاها بينهم وبين الفرس كانت الحافز الأول للوطنية الأوروبية. ولم يبعث خوف البرابرة - كما كانوا يسمونهم - في صدور الإغريق حب الوطن فحسب، بل دفعهم كذلك إلى أن يعتبروا أنفسهم حماة الثقافة من تخريب البرابرة المتوحشين.
الروح الإغريقية معناها حب الجمال الساذج، والبساطة، والصدق، والحرية، والعدالة، وحب الواقع، وبغض التكلف، وتحاشي المبالغة. وأكثر أدبهم مستمد من أساطيرهم الدينية. وقد نشأ أدبهم أول ما نشأ شعرا حماسيا ينشده شعراء متجولون. حتى ظهر من بينهم هزيود وهومر الذي جمع هذا الشعر في ملحمة خالدة. وفي الأساطير الدينية كان كتاب المسرحية يتلمسون موضوعاتهم. ونمو المسرحية اليونانية وتطورها في عدد قليل جدا من السنين أمر يدعو حقا إلى الدهشة والإعجاب؛ ففي نحو خمسين عاما بلغت المسرحية حدا بعيدا من الكمال، وفي هذه الفترة الوجيزة تألق في سماء الأدب المسرحي أسماء باقية على الدهر خالدة على وجه الزمان؛ من هؤلاء إيسكلس الذي نال جائزته الأولى على إحدى رواياته عام 484ق.م، ومنهم سوفوكلين، ويوربديز الذي اخترنا في هذا الكتاب أربعا من مآسيه نقلناها إلى اللغة العربية، وقد ظهر بجائزة الحكومة على «ميديا» (إحدى رواياته المترجمة) عام 431ق.م، ومن هؤلاء كذلك أرستوفان الذي كتب عددا كبيرا من الملاهي. ويشبه هذا التطور السريع للمسرحية اليونانية ورقيها إلى هذا الحد في فترة وجيزة من الزمان ما حدث في إنجلترا في إبان عهد الملكة إليزبث في أوائل القرن السابع عشر، حينما ظهر عدد كبير من كتاب المسرحية النابغين، وعلى رأسهم شيكسبير.
نشأة الأدب المسرحي اليوناني
صور لنفسك جماعة من الراقصات لا يعدو عددهن العشرين، احتشدن حول مذبح من مذابح الآلهة يتراقصن ويغنين الأناشيد. ثم تصور بعد ذلك قصاصا ينضم إلى هؤلاء الفتيات، ويقف فوق منضدة مرتفعة يقص على المستمعين قصص الأبطال والبطولة. ثم يرتبط غناء المغنيات بقصة القصاص في صورة جدل وحوار. هكذا نشأت المسرحية اليونانية نشأة دينية، كما نشأت في إنجلترا في العصور الوسطى حينما كان القسس أول الأمر يمثلون قصص الإنجيل في الكنيسة.
وكانت هذه الحفلات الدينية اليونانية تقام فوق التلال، وبخاصة في فصل الربيع حينما كان الناس يحتفلون بإله الزهر والبساتين ديونيسيس. ثم أنشئت المسارح في مختلف البلدان، وكان أكبر هذه المسارح مسرح أثينا؛ إذ كان يتسع لنحو ثلاثين ألف مقعد لمتفرج. ومن حق كل أثيني أن يشهد حفلات التمثيل. وفي عهد بركليز الزاهر كانت الدولة تدفع أجور المقاعد لكل أثيني. وفي أمثال هذه الحفلات كان التمثيل يستمر طيلة النهار. ومن واجب الأغنياء بل ومما يلذ لهم ويتظاهرن به أن يعينوا الممثلين والمغنيات بكل ما يحتاجون إليه من ضرورات الحياة.
وكانت الدولة تعقد بين المؤلفين مسابقات سنوية، ثم تختار خير ما يقدم لها وتخرجه على المسرح كي يشهده الناس أجمعون، ولا تقبل الدولة أكثر من ثلاثة متنافسين في العام الواحد. وكان على المتنافس أن يبحث له عن رجل غني يدفع الأجر للفرقة التي تقوم بتمثيل مسرحياته. ولما كان التمثيل حفلة دينية، كان الرأي الشائع أنه شؤم على المؤلف ألا يفوز بجائزة، ولذا فقد كانت الجوائز تمنح لكل متنافس تظهر روايته على المسرح. وكان لظهور أيسكلس وسونوكليز ويوربديز خاصة أثر كبير في تقدم الفن المسرحي، ولكثرة النظارة كان الممثل يضطر إلى أن يلبس حذاء عاليا كي يظهر للجميع، ويضطر إلى أن يتكلم من خلال بوق يخفيه حول قناع يتقنع به.
وتبدأ المسرحية عادة بحديث ضاف يشرح الموقف ويقدم للحوار ويأخذ النقاد على هذه الطريقة أن المقدمة كثيرا ما كانت تشتمل على أكثر حوادث الرواية، ولذا فهي تقتل لذة المتفرج. ولكن لذة المسرحية في الواقع تنحصر في الحوار أكثر مما تنحصر في أي شيء آخر. ويتخلل الحوار رقص الجوقة وغناؤها، وكثيرا ما يكون هذا الغناء قليل الصلة بمجرى الحوادث. وهو في الكثير الغالب تعليق شعري على حوادث الرواية لا علاقة له بتطور الموضوع، وسيجد القارئ اليوم، والقارئ العربي خاصة، أن حديث الجوقة ممثل سخيف؛ وذلك لكثرة ما يحتويه من إشارات إلى الأساطير اليونانية القديمة التي انقطعت بيننا وبينها الأسباب. ولكن لهذا الرقص والغناء فائدته في بعض المواقف؛ فهو لون من ألوان الترفيه عن المستمع حين تبلغ المأساة موقفا يدعو إلى الحزن ويثير الألم. والجوقة ساكتة لا تتحرك، تنشد غناءها غالبا على دفعتين؛ لأنها مقسمة إلى فرقتين، وقد تشترك الفرقتان في نشيد واحد.
ويلاحظ على المسرحية اليونانية أنها قليلة الأشخاص، وأن هؤلاء الأشخاص قليلو الحركة على المسرح؛ لأن المسرحية أكثرها حوار، وهي قليلة الحوادث. ولما تبلغ العقدة أشدها، وتصل المسرحية إلى أزمتها تقع الكارثة بعيدا عن المسرح لا يراها المتفرجون، وإنما يرويها لهم رسول حديثه عادة هو قمة المسرحية وبدء انحلال عقدتها. وكثيرا ما تنتهي المسرحية عند يوربديز بظهور إله يختتم الرواية في كلمات موجزة فيها عزاء وسلوى عن الكارثة التي ألمت ببعض أفراد المسرحية، فيغادر المتفرجون المسرح وهم على شيء من راحة النفس والطمأنينة. وآخر ما يسمعه المتفرج نشيد يرتله أفراد الجوقة تعليقا على المأساة.
يوربديز وعصره
عاش يوربديز في عصر البطولة في تاريخ أثينا في الوقت الذي استولى فيه الهلينيون على الإمبراطورية الفارسية الشاسعة، وهزموا جيشها الجرار وأسطولها الضخم في معركة سلامس. وهو يعاصر اثنين من أشهر كتاب المسرحية اليونانية، وهما إيسكلس وسوفوكليز. ولكنه أصغر منهما سنا. وكان سقراط لعهده يسيطر على ميدان الفلسفة ويبعثها بعثا جديدا.
وقد كان إيسكلس جنديا في الجيش، وسوفوكليز رجلا يشترك في سياسة المدينة. أما يوربديز فقد كان يعيش في عزلة من الناس قليل الانسجام مع العصر الذي نشأ فيه، يكره عادات الشعب الأثيني، ويؤثر حياة الريف على حياة المدينة. وكان مبتدعا في فنه مبتكرا. ولعل هذا الابتداع هو الذي جعل أرستوفان يتهكم عليه ويسخر منه في إحدى رواياته؛ وذلك لأن أرستوفان كان محافظا على القديم يمقت كل تجديد. وكان يوربديز رجلا حاقدا على الناس ناقما عليهم، يكره أن يسخر منه أحد. وربما دفعه إلى هذا الحقد أنه تزوج من امرأتين أثبتت كلتاهما الخيانة له. وفي أخريات حياته هجر أثينا نافرا من الحياة فيها، وهبط في مقدونيا؛ حيث كتب مسرحيته الأخيرة «باكي»، وقد قربه الملك إليه، فأثار ذلك غيرة رجال البلاط الذين دبروا له ميتة شنيعة؛ وذلك بأن يهاجمه عدد من الكلاب المتوحشة، وقد أطلقت بالفعل عليه الكلاب وأخذت تنهش لحمه حتى مات.
ولما بدأ يوربديز الكتابة المسرحية كان إيمان الأثينيين بالآلهة قد تزعزع. وقد كانت قدرة الآلهة وسلطانها أساس مسرحيات أيسكلس. ولكن عهد الإيمان قد انقضى وتولى، فلا عجب أن نجد يوربديز يغض من شأنهم أحيانا من خلال مسرحياته. واختار يوربديز أشخاص رواياته من الرجال والنساء مخالفا في ذلك من سبقه من كتاب المسرحية؛ إذ كانوا يجرون كثيرا من حوار المسرحية على ألسنة الآلهة، ولهذا يعتبر يوربديز بحق أبا للمسرحية.
وبرغم اختلافه مع أبناء عصره في الرأي في كثير من الأمور، كان يشاركهم الشك في الآلهة، وقد دفعه إلى هذا الشك ما كان يروى من أعمال الآلهة الوضيعة التي لا تتفق وقواعد الأخلاق. فإن صح ما يروى فالآلهة لا يستحقون التقديس والعبادة، وإن لم يصح انهارت أركان العقيدة فيهم؛ لأن هذه الأساطير المروية هي لحمة العقائد وسداها، ولا نعرف إن كان يوربديز يؤمن بالخلود أو لا يؤمن. ومهما يكن من شيء، فقد كان أرستوفان يعتقد أنه كافر ملحد، وقد يكون مصيبا في عقيدته؛ لأن الشك كان يلتهم قلب الرجل التهاما. بيد أن يوربديز كان يعتقد أن عدم الإيمان بالآلهة لا ينافي الأخلاق الكريمة وكمال الشخصية. ولنذكر أنه كان يونانيا؛ فهو يحب الفضيلة لجمالها لا لما يعقبها من مثوبة أو جزاء أو سعادة باقية.
وأكثر مسرحيات يوربديز يدور حول العلاقة بين الرجل والمرأة. وقد برع في تحليل الشخصية، وبخاصة شخصية المرأة. وهذا الفهم الدقيق لعقلية النساء هو الذي جعل المستر جلبرت مري الذي نقل أكثر رواياته إلى الإنجليزية يطلق عليه «أبسن الإغريق»؛ وذلك لما بينه وبين أبسن الكاتب المسرحي النرويجي الحديث من مشابهة في فهم النفوس وما يجيش في صدور الناس من عواطف.
وقد كتب يوربديز ما ينيف على خمس وسبعين مسرحية، بقي لنا منها ثماني عشرة. وقد أثنى أرسطو على عبقرية الرجل، وحزن عليه سوفوكليز بعد مماته، وبموته انقضى عهد الدراما اليونانية الزاهر العظيم.
ويجدر بالقارئ أن يعلم أن أرستقراط أثينا لعهد يوربديز كانوا يقضون العمر في خدمة الدولة وفي الرياضة البدنية والذهنية، أما التجار والمزارعون والعمال فكانوا كقرنائهم في أي عهد من العهود وأي قطر من الأقطار. وكان الرق منتشرا، غير أن أكثر الرقيق كانوا يعيشون عيشة رضية ميسرة. وكانت النساء لعهد هومر - وذلك قبل يوربديز بنحو سبعة قرون - أحرارا في ذهابهن وإيابهن، يقفن مع الرجال على قدم المساواة في كل شيء ما خلا الحرب؛ فهي من شأن الرجال وحدهم. وقد تبدلت الحال في أثينا لعهد يوربديز وتدهور مركز المرأة بالنسبة إلى الرجل، وتكبلت بكثير من القيود، ولعل هذا هو السبب أن إكليز يكاد يصعق حينما تكلمه كيلتمنسترا، ولهذا أيضا لا تدافع أفجنيا عن نفسها أمام البطل في المسرحية. ولكن الكاهنات والقيان كن في حل من هذه القيود. وكان البنات يتزوجن في سن مبكرة، فلا غرابة في أن تقترن أفجنيا وهي بين الثالثة عشرة والرابعة عشرة.
وكان من واجب كل فرد أن يضحي في سبيل الدولة؛ ومن ثم نرى أفجنيا تقبل على التضحية بنفسها وهي راضية مطمئنة. وكان الرجل في ذلك العهد أكثر أهمية من المرأة، ومن الطفل؛ لأنه أنفع للدولة والمجتمع.
المسرحيات المترجمة
اشتغل العرب بترجمة كثير من الكتب اليونانية، ولكنهم أهملوا ترجمة الأدب والمسرحيات، ولعل السبب يرجع إلى انبثاث الأساطير الدينية والعقائد الفاسدة في أكثر الآداب اليونانية، وهي أساطير وعقائد تنافي العقيدة الإسلامية ويخشى أن تتسرب إلى الدين فيعلق به شيء من خرافتها. ولكن هذه الأساطير مع الزمن ثبت بطلانها، ولم يعد يخشى تعلق النفوس بها، فترجم لنا الدكتور طه حسين بك زعيم الأدب العربي في العصر الحديث بعض روايات سوفوكليز، وشق بذلك طريقا للعاملين يسلكونه إن أرادوا ويخدمون بذلك الأدب العربي. فرأيت أن أترجم ليوربديز أربعا من أهم مسرحياته، وأملي أن أسد بذلك نقصا يشعر به كل مشتغل بالأدب. ومهدت لكل مسرحية بتمهيد قصير يعين القارئ على فهم حوادث الرواية. وبالمسرحيات التي نقلتها بعض الإشارات إلى الأساطير اليونانية القديمة، وبخاصة في حديث الجوقة، وأنا أقر أن كثيرا من هذه الإشارات مملول غير مستساغ، ولكنه لا يؤثر في تتبع حوادث المسرحية وفهمها فهما جيدا.
وأولى الروايات التي ترجمتها «أفجنيا في أولس»، ثم أعقبتها «بأفجنيا في تورس»، وقد اعتمدت في نقلهما إلى العربية على ترجمة
C. B. Bonner
الإنجليزية. والمسرحية الأولى موضوعها التضحية؛ فقد ضحى الملك أجاممنن بأفجنيا كي تقلع السفن إلى طروادة لاسترداد هلن زوجة أخيه التي اختطفها بارس. وليس عجيبا في العصر القديم أن يضحي الأب بابنته. بل لقد روت لنا الأديان السماوية أن إبراهيم عليه السلام قد هم بذبح ولده إسحق ، لولا أن أرسل الله كبشا يضحي به إبراهيم لإنقاذ ولده. وكما أرسل الله كبشا لإبراهيم، أرسلت الآلهة ظبيا لأجاممنن قتله بدلا من أفجنيا، وأنقذت الآلهة الفتاة وحملتها إلى جزيرة نائية. والتضحية موضوع يستحق البسط والتحليل، وهي ما تزال تسيطر على كثير من أعمالنا، وما زلنا نتساءل هل من الخير أن يضحي الفرد لمصلحة الجماعة أو لا يضحي؟
وفي المسرحية الثانية (أفجنيا في تورس) يلتقي أرستيز بأخته أفجنيا في تلك الجزيرة النائية، وينقذها من منفاها ويعود بها إلى الوطن. وكما أن في هذا العمل إنقاذا لحياة أفجنيا، ففيه كذلك راحة لنفس أرستيز ولضميره المعذب؛ لأنه كان قد قتل أمه انتقاما لأبيه؛ لأنها خانته في غيبته في حرب طروادة وتزوجت من غيره وقتلته بعد عودته. وفي هذه الرواية عرض رائع جميل للصداقة بين أرستيز ويلديز، وهي الصداقة التي يضرب بها المثل في الآداب الأوروبية جميعا.
وفي هاتين الروايتين حلل المترجم الإنجليزي نشيد الجوقة المتصل إلى حوار على ألسنة أفراد الجوقة، وقد برر عمله هذا بأن ذلك أيسر لنا عند الإخراج والتمثيل، وقد تبعته في الترجمة العربية، ولعل في هذا منفعة للمسرح.
ثم ترجمت كذلك روايتي «ميديا» و«هبوليتس»، وقد نقلتهما إلى العربية عن ترجمة
R. Potter
الإنجليزية. وفي المسرحية الأولى يشرح الكاتب انتقام الزوجة إذا أساء إليها زوجها وأنكر جميلها. وقد بلغ الانتقام بميديا أن قتلت ولديها كي تؤجج نارا حامية في صدر زوجها الذي أنكر عليها فضلها؛ إذ كانت قد أنقذت حياته في كثير من المخاطر. ومغزى القصة أن الشر يعقبه الألم، وأن الحياة الخلقية حياة جميلة، والحياة التي تحيد عن الخلق القويم محفوفة بالأشواك والأخطار.
وفي مسرحية هبوليتس يبين لنا الكاتب أن هذا الشاب أراد أن ينفي عاطفة الحب الجنسي من قلبه، فعرضته فينس ربة الحب لأشد الأخطار، انتقمت منه لاعتدائه على نفوذها، ودبرت مقتله على يدي أبيه؛ وذلك أنها أوقعت زوج أبيه في حبه، فقتلت الزوجة نفسها كي لا يتلوث شرفها بهذا الحب الدنيء، أو يلحقها العار لهذه الصلة التي لا يبررها عرف ولا قانون. وبرغم إعراض هبوليتس عنها ظن أبوه به الظنون، فاستنزل عليه لعنة السماء ودعا عليه بالموت، واستجابت الآلهة دعاءه، فقضت على حياته. ولا يدرك الأب نزاهة ابنه إلا وهو (هبوليتس) في النزع الأخير، فيتم بينهما التوفيق والتراضي في نهاية الأمر.
والآن أنتقل بالقارئ إلى المسرحيات، وأرجو أن يجد فيها لذة تعوضه الوقت الذي ينفقه في قراءتها.
ميديا
تمهيد
لبث «إيسن» ملكا على أيولكس في تساليا حتى أنزله «بلياس» عن العرش واستولى على الحكم. ثم أعقب إيسن ولدا سماه «جيسن»، وخشي عليه من عسف الملك الغاصب، فأذاع نبأ موته بين الناس، وأرسله خلسة إلى «كيرن» كي يتلقى عليه العلم والحكمة، وبقي الفتى تحت رعاية أستاذه عشرين عاما، وبعدئذ عاد إلى أيولكس، وطالب بعرش آبائه بكل جرأة وجسارة.
وذعر بلياس لعودة جيسن ذعرا شديدا، وقابله مقابلة حسنة، ثم قال له: إن الآلهة قد تجلت له في الحلم، وأمرتني أن أعيد الفراء الذهبي من كولكس. وقد استشرت كهنة دلفي فأجابوني بأني رجل مسن لا أحتمل أداء هذا الواجب، وذكروا لي أنك في شرخ الشباب، فأنت أقدر من يجرؤ على هذه المحاولة. ثم قال: «فاذهب، وقم لنا بهذا العمل. وإني أقسم لك بجوبتر خالق أمتنا أني سأتخلى لك بعد عودتك عن ولاية البلاد.» ولم يخش البطل الشاب المغامرة التي كان بلياس يؤمل أن تودي بحياته، فقام برحلة بحرية على سفينة آرجو، وأقلع إلى كولكس، وطالب بالفراء الذهبي. ولكن قبل أن يستطيع الاستيلاء عليه كان لا بد له أن يضع النير على كاهل ثورين وحشيين ينفثان النار من فيهما، وأن يستخدمهما بعدئذ في حرث قطعة معينة من الأرض، يبذر فيها أسنان أفعوان تثمر رجالا مسلحين يتحتم عليه فيما بعد أن يهزمهم. فإن نجح في هذا كان أمامه فوق ذلك خطر أعظم عليه أن يلاقيه؛ وذلك أن الفراء الذهبي كان في حراسة أفعوان وحشي يقظ ذي حجم هائل.
وكان لملك كولكس الهمجي ابنتان، أخذت كلتاهما عن أمهما علم السحر. وكانت إحداهما تستخدم علمها في أغراض دنيئة، أما الأخرى - واسمها ميديا - فكانت أشد من أختها ميلا إلى الخير، تحب الإنسانية وصنع المعروف، وتستخدم سحرها في تخفيف الويلات التي تجلبها قسوة أبيها على البلاد، وفي تحرير الأغراب من الأخطار التي تحيق بهم فوق أرضها وفي وطنها، وتمهد لهم سبيل النجاة. وعندما وقعت عيناها على جيسن أعجبها جمال صورته واعتدال قامته، فأحبته حبا جما، وبادلها الحب، وعاونته بسحرها على أداء مهمته، وأقسم لها يمين الإخلاص، وبرت بوعدها له، وأنقذته من كل ما تعرض له من خطر، ومكنته من الحصول على الفراء الذهبي، وفرت معه إلى بلاد اليونان.
وكان قد نما إلى بلياس أن كل من أقلع على ظهر آرجو قد هلك، فأقبل على أبي جيسن وأمه وأخيه وأعمل فيهم القتل كي لا يبقى له على وجه الأرض مطالب بالتاج. وبعدئذ عاد جيسن إلى أيولكس، ولكن ماذا عساه يصنع؟ هل يستطيع ومن معه أن يهزموا - وهم قلة - ملكا قويا جبارا عليه حراسة شديدة؟ أم هل يؤجج حربا أهلية ويقابل هذا الغاصب في ساحة القتال؟ وإذ هو في حيرة من أمره إذا بميديا تقدم له سحرها مرة أخرى، وتستطيع أن تقضي على حياة الملك وترد التاج إلى جيسن. وأحسن جيسن إلى بنات الملك وأبنائه صنعا، غير أنه آثر أن ينزل عن العرش لابن الملك المقتول، ويهاجر إلى كورنث مع ميديا وولديه.
وتلقاه «كريون» ملك تلك البلاد لقاء حسنا، واشتدت أواصر الصداقة بينهما. وعندئذ لم يرع جيسن لعهده السابق حرمة، فهجر ميديا وتزوج من ابنة كريون.
وهذه الخيانة وما أعقبها من نتائج مفزعة هي قصة هذه المأساة المروعة.
أشخاص المسرحية
المربية.
المربي.
ابنا ميديا.
ميديا.
كريون.
جيسن.
إيجس.
الرسول.
جوقة من فتيات كورنثيا.
المنظر
رواق قصر جيسن في كورنث. ***
مربية ميديا :
كم كنت أتمنى لو أن «آرجو» الجريئة لم تشق طريقها إلى كولكس خلال الصخور التي تعترض بحر يوكسين المظلم. وكم كنت أتمنى لو أن أشجار الصنوبر في غابات بلين لم تقطع، ولو لم تمتد أيدي الأبطال إلى المجاديف ويجهدوا أنفسهم أملا في الحصول على الفراء الذهبي لبلياس. إذا ما كانت مليكتي ميديا لتركب متن البحر تقصد بروج أيرلكس وقد اختبل عقلها حبا في جيسن، وما كانت لتظفر ببنات وتقتل أباهن ثم يستقر مقامها في كورنث مع زوجها وابنيها، وما كان أشد سرور أولئك الذين أقامت فوق أرضهم بهذا الفرار، وهي في كل هذا تحصر أفكارها في جيسن وتثابر على معونته. هكذا تكون السعادة ثابتة الأركان، حينما لا تعارض الزوجة بإرادتها إرادة بعلها. أما الآن، فقد تفككت أعز عرى المحبة بينهما، ولم يعد بينهما إلا الشقاق والبغضاء؛ ذلك أن جيسن غدر بابنيه، وغدر بمولاتي، فهجر مضجعها من أجل عروس ملكية، حينما تزوج من ابنة كريون سيد هذه البلاد. وإن ميديا لتضيق بهذا العار الشنيع، وإنها لتذكر زوجها بأيمانه، وتذكر حين عقدت يديها في يديه وتعاهدا عهدا أكيدا على تبادل الإخلاص، وتهيب بالآلهة أن يشهدوا ما تلاقي عند جيسن من جزاء. وقد أهملت طعامها واستلقت مستغرقة في أحزانها، يذيبها الدمع كل ساعة من ساعات الضجر منذ عرفت أن مولاها قد أساء إليها. لا ترفع بصرها، ولا ترفع وجهها من الأرض، وهي لرجاء أصدقائها صماء كالصخر أو كموج البحر، لا تحيد عن هذا إلا حين تلتفت بجيد كالثلج الناصع، وتنوح لنفسها على أبيها وعلى وطنها وبيتها الذي غدرت به كي تتبع هذا الرجل الوضيع الذي يعاملها الآن معاملة مشينة. وقد علمتها الكوارث الآن ما يعود به هجران الأبوين وهجران البيت. إنها لتكره ابنيها، ولا تنظر إليهما بعين الغبطة، وإني لأتوجس خيفة وأخشى أن تدبر خطة ما أنزل الله بها من سلطان؛ لأنها حادة المزاج لا تطيق الإساءة. وإني لأعرفها حق المعرفة، وأخشى أن تتسلل إلى الدار في هدأة الليل، حينما يستولي النوم العميق على الجميع، فتغمد السيف الباتر في صدر ولديها أو تقتل ملك البلاد، وتقتل جيسن، وهو حديث عهد بالزواج، فتجر على نفسها بلايا أشد إيلاما؛ فإن عواطفها تثور كالعاصفة. ومن يجسر على إثارة غضبها لن يبوء بما يدعوه إلى المباهاة بالنصر . ولكن انظروا! ها هما ابناها يعودان من حلبة السباق غير مكترثين لآلام أمهما؛ لأن الأحداث لا يطيقون عبء الأحزان.
المربي مع ابني ميديا، والمربية
المربي :
أنت أيتها الخادمة العجوز في بيت سيدتي، لماذا تتخذين موقفك عند الأبواب، وتستعيدين أحزانك في صمت؟ ولماذا أرادت ميديا أن تبقى وحدها؟
المربية :
أيها الرجل الطيب العجوز، يا من تقف على خدمة ابني جيسن. اعلم أن الأتباع المخلصين يكابدون مع أسيادهم الأرزاء، وتملأ قلوبهم الأحزان. وإن أحزاني من أجل آلام ميديا قد ارتفعت إلى حد يجعل الرغبة الملحة تدفعني لأن أنطلق وأبث في الأرض والسموات أحزاني.
المربي :
وهل لم تسمح بعد سيدتي لنفسها بطرح همومها؟
المربية :
إني لأعجب لك. كلا. إنما هموم سيدتي في ازدياد، ولم تبلغ بعد أقصى شدتها.
المربي :
إنها غير حكيمة - إن جاز لنا أن نقول ذلك في موالينا - لأنها لم تعرف بعد شيئا عن أنباء الكوارث الأخيرة.
المربية :
وماذا عسى أن تكون هذه الكوارث؟ لا ترفض أن تخبرني بها.
المربي :
لا شيء. وإني على ما قلت نادم.
المربية :
كلا، وحق هذه اللحية، لا تخفيها عني؛ فأنا زميلتك في الخدمة. وإذا كان الظرف يتطلب كتمان السر، فسوف ألزم الصمت.
المربي :
سمعت قائلا يقول - وقد تظاهرت بعدم الإصغاء وأنا أسير مصادفة بين جمع من الشيوخ الموقرين يلعبون النرد وهم جلوس على ضفاف مجرى بيرين المقدس: إن كريون سيد هذه البلاد الجميلة سوف يبعد هذين الطفلين وأمهما عن ولاية كورنث. ولست أعرف إن كان هذا الخبر صحيحا، وإن كنت أرجو ألا يكون كذلك.
المربية :
وهل يستطيع جيسن أن يرى ابنيه يساء إليهما هكذا، حتى إن كان لا يقيم لأمهما الآن اعتبارا؟
المربي :
إن الصلات القديمة تتلاشى أمام الصلات الجديدة. ولم يعد جيسن لهذا البيت صديقا.
المربية :
إذا انضمت هذه النكبة إلى النكبات السابقة قبل أن يخف وقعها، فسيلحقنا الدمار.
المربي :
إذن فلتكوني حريصة؛ إذ لم يحن بعد الوقت لتسمع مليكتنا بهذا النبأ. فضمي شفتيك على الصمت.
المربية :
هل سمعتما طفلي كيف يفكر فيكما أبوكما ؟ ولكني برغم هذا لا أتمنى له شرا؛ فهو مولاي، وإن يكن بأصدقائه غير شفيق.
المربي :
ألا فلتعلمي ما لا يعلم الناس. اعلمي أن كل امرئ يحب نفسه ويعزها أكثر مما يحب جاره ويعزه. بعضهم يدفعه طلب المجد، وبعضهم يدفعه حب الكسب، فأي عجب بعد هذا إن كان الأب لا يحب ابنيه هذين، وقد شغف زوجته الجديدة حبا!
المربية :
ادخلا البيت ولدي، فستسير الأمور على ما نروم. وكن أيها المربي على حذر، وأبعدهما عن أمهما، ولا تقربهما منها حينما تكون الأحزان على نفسها شديدة الوقع. وقد لحظت في عينيها أخيرا قسوة ووحشية تنمان عن أسوأ المكائد لهذين الولدين، وإني على يقين أنها لن تخفف من غضبها حتى تثور عاصفتها على أي إنسان، وأرجو أن تسقط ضربتها على رأس عدو لا على رأس صديق.
ميديا (من الداخل) :
ما أتعسني! وما أشد الكروب التي تفتت قلبي! ما أتعسك يا ميديا. إنهم أفسدوا عليك حياتك.
المربية :
أجل، هذا صحيح. إن أمكما يا ولدي في ثورة حنق وغضب، فسارعا بالدخول، ولا تظهرا أمام ناظريها، ولا تقتربا منها، وابتعدا عنها وهي في ثورة الغضب المفزع الهائج. والآن ادخلا سريعا؛ فإن سحابة غضبها آخذة في التكاثف وتنذر بالعاصفة التي سرعان ما تهب بعنف وشدة. ولما كانت الآلام تلهبها، فإن نفسها العاصفة تجرؤ على كل شيء.
ميديا :
ويلتاه! ويلتاه! ما أشد ما أكابد من ألم. وهذه الآلام تتطلب مني الدموع والانتحاب. وأنتما يا ولدي البائسين لتهلكا مع أبيكما؛ فإن أمكما مكروهة ممقوتة، وليصب بيتكما دفعة واحدة بالخراب والدمار.
المربية :
ما أشد شقوتي! لماذا تشركين ابنيك في خطأ أبيهما؟ ولماذا تصبين فوقهما جام غضبك؟ آه، إني لأخشى يا طفلي أن تهدد حياتكما الشرور. إن للملوك نفوسا سريعة الغضب؛ فهم يألون الإمارة، فإن أحسوا بالحد من السلطان - ولو قليلا - اشتعلت في نفوسهم نيران الغضب. وليس من اليسير إطفاؤها. ولذا فإني أوثر على حياتهم حياة متواضعة معتدلة. فإن كنت لا أعيش في الأبهة والعظمة، فإني أنحدر إلى الشيخوخة لا تتحوطني الأخطار . في اسم «الاعتدال» نفسه لنا حماية ووقاية، والسعادة قرينته. ولكن ارتفاع العظمة الشاهق لا يثبت طويلا للإنسان الفاني. وإذا ما حلت بها النكبات الثائرة اندكت أركان البيت في هوة الدمار.
المربية والجوقة
الجوقة :
سمعت صوت ابنة كولكيا التعسة وسمعت صياحها العالي، فخبريني أيتها المربية الوقور، هل لم تجد بعد ما يخفف عنها أحزانها؟ من خصاص الباب سمعت صوتها. ولست أجد بين أحزان هذا البيت سببا للسرور، وإن ما يجري به لا يدعوني إلى الغبطة.
المربية :
لم يعد هذا بيتا، فكل ما به قد تلاشى ولم يخلف بعده أثرا؛ فقد اتخذ مولاي بيت الملك بيتا له، وسيدتي البائسة تذيب حياتها في قطرات دموعها وحيدة في مخدعها، لا تزعزعها الحجج يدلي بها خليلاتها لتخفف عن نفسها الحزينة.
ميديا :
وددت لو أن صاعقة من السماء نزلت برأسي! لماذا أريد أن أحيا بعد هذا؟! ما أشد شقوتي! مرحبا بالموت ينقذني برفق من هذه الحياة البغيضة.
الجوقة :
ربي جوف، أيتها الأرض، أيها النور، هل سمعتم هذا الصوت الحزين، صوت هذه السيدة البائسة؟ لماذا تندفعين مولاتي مع قوة الحب الزوجي العنيفة، وتقسين على نفسك وتسارعين بها إلى الموت؟ ارغبي عن هذا. وإذا كان زوجك الآن يسحره سرير غير سريرك، فلا تحملي إساءته في سويداء قلبك؛ فإن جوف سينتقم لك، فلا تجعلي قلبك فريسة للأحزان.
ميديا :
اشهدي يا ثيمس العتية، واشهدي يا ديانا المقدسة، اشهدا ما أعاني من هذا الزوج الدنيء اللعين رغم الأيمان المقدسة التي قيدته بها! كم أتمنى لو رأيته وعروسه يوما مقطعين في بيتهما إربا إربا؛ فقد أرادا أن يسيئا إلي إلى هذا الحد ولم أستفز غضبهما. وا أسفاه على أبي! ويا حسرتاه على وطني الذي هجرته في فرار مشين بعدما ذبحت أخي!
مربية :
هل سمعتم دعاءها، وكيف تناشد ثيمس التي لا تنفك تصغي لنذور الضارعين، كما تناشد جوف الذي ينتقم من الإنسان الفاني على حنثه في اليمين. محال أن يعرف غضبها الملتهب فترة من سكون.
الجوقة :
بأي دافع نبعثها على الخروج ؟ لو أنا رأيناها، أو لو أنها سمعت صوتنا لكان من الجائز أن تخف لوعتها أو يفل غضبها بما نقدم لها من أسباب العزاء، فإنا لا نفتقر إلى الإخلاص لأصدقائها. إذن فلتذهبي إليها، واحمليها على الخروج، وبعذب الخطاب سوقيها إلى هذا المكان. أسرعي أيتها السيدة الودود قبل أن يتفجر حنقها على أولئك الذين بداخل الدار؛ لأن أحزانها البالغة تكاد تبلغ عنان السماء.
المربية :
سأحاول ذلك، وإن كنت أخشى ألا تقنعها حجتي. ولكني سأفعل لأن حماستك الودية تتطلب مني هذا الصنيع. واعلمي أنها تبدو كاللبؤة الغاضبة تحمي أشبالها كلما اقترب منها أحد من عبيدها يتحدث إليها. ولو أنك قلت إن الرجال في سابق العهود كانوا على ضلال، قليلي المعرفة، عديمي الحكمة، لما كنت من الخاطئين؛ ذلك لأنهم كانوا يؤلفون الأناشيد المرحة تشنف الأسماع وتدخل البهجة على الحياة ويتغنون بها في الحفلات والولائم والمآدب، ولكنهم لم يستطيعوا بقوة الموسيقى وبعذب الألحان ومختلف الأنغام أن يخففوا من حدة الأحزان التي تفتت القلب فيرتكب المرء جريمة القتل وأعمال القسوة التي ينجم عنها الخراب والدمار. فلو أن الناس استطاعوا أن يخففوا من لوعة النفس الحزينة بعذب الأناشيد، لكانوا على حكمة وصواب؛ إذ من العبث حين يمتد السماط أن نرفع الصوت بالغناء؛ فالمائدة المثقلة بفاخر الطعام تحمل فوقها متعة تنبه بها القلوب إلى الغبطة والسرور.
الجوقة :
سمعت نواحها مخلوطا بالأنين، وهي تبثه من قلب ضيق مكروب. ويتعالى صياحها على زوجها الخائن الذي غدر بسريرها. وتستغيث بالآلهة على هذه الإساءة الدنيئة. وتشهد ثيمس ابنة جوف التي تقوم على رعاية الأيمان. وهي التي ساقتها إلى شواطئ اليونان عبر المحيط الصاخب حينما كانت حلكة الليل تظلم الموج، ودفعت فلكها خلال البواغيز.
ميديا والجوقة
ميديا :
ها أنا ذا يا فتيات كورنث أخرج من الدار حتى لا تلمنني في شيء. وكم عرفت من أبناء الأشراف ممن ضاع بين الناس احترامهم، إما لأنهم انزووا عن أعين الجمهور، أو لأنهم أسرفوا في الظهور. وقد أحب بعضهم الهدوء والحياة الوادعة فوصموا بالتراخي وفقدان الروح؛ ذلك لأن الإنسان لا يستطيع بمجرد النظر أن يحكم بالحق ويصيب في حكمه. ولو أنك كرهت - عند مجرد النظر - شخصا لم يصبك بسوء، ولم تبلغ قرارة نفسه، فأنت من الخاطئين. وعلى الغريب أن يكون شديد الحرص على أن يتطبع بطبع البلد الذي يعيش فيه. كما أني لا أثني على مواطن يأخذه الكبر وضعف الفكر فيكون مع بني وطنه شاذا سفيها. أما أنا، فإني أنوء تحت عبء الكوارث التي ألمت بي بغير ارتقاب. فقدت يا صاحباتي كل ما هو ممتع في الحياة وكل ما هو جليل. والموت الآن أمنيتي، لأن الرجل الذي أودعه قلبي كل ما يفخر به ويعجب قد دل على خيانته وعلى أنه أسفل إنسان في الوجود. وهكذا نحن النساء أشقى الكائنات جميعا التي تدب فيها الحياة وتتميز بالإدراك. فعلينا أولا أن نشتري زوجا بأعز ما نملك، ثم نجعل من هذا الزوج سيدا. وإن في هذا لمشقة. وأمامنا بعدئذ ما هو أشق من هذا؛ وذلك أن هذا الزوج قد يكون رفيقا وقد يكون طاغيا، وقد تسوء العلاقة فتنحل الروابط الزوجية، وفي هذا إيذاء لسمعة المرأة. كما أنها لا تملك أن تسحب يدها من يد زوجها بعد التعاقد؛ ومن ثم فإن أولئك اللائي ينتقلن من أوطانهن ويعشن في بلد جديد يجهلن عادات أهله وشرائعهم بحاجة عند اختيار الزوج إلى روح ملهمة؛ لأنهن لم يعرفن هذا البلد الجديد وهن في الأوطان. فإن كنا بكل حرصنا نظفر بزوج رفيق، زوج لا يخضعنا لنير الحقد والضغينة؛ فالحياة سعيدة حقا. وإلا فالموت إلى نفوسنا أحب. إن الرجل إذا لم يجد في البيت ما يسره هرع إلى الخارج يلتمس الفرج بين أترابه وخلانه، فيصرف عن نفسه كربتها. ولكنا لا نملك إلا أن نوجه أبصارنا إلى فرد واحد. وبرغم هذا يقولون عنا إنا نحيا في بيوتنا حياة مطمئنة، آمنة من الخطر، في حين أنهم يحملون الحراب إلى الحروب. تالله لقد أخطأ الرجال الحكم! وإنه لخير لي أضعافا أن أحمل السلاح في حومة الوغى على أن أكابد آلام الوضع مرة واحدة. ولكنكن لا تحسسن بما في كلماتي هذه من قوة كما أحس، فهذي بلادكن، وتلك بيوت آبائكن، ولكن الثراء الذي يخفف عبء الحياة، ولكن عشرة الخلان الحلوة العذبة. ولكني بائسة منبوذة، مهملة، أساء إلي زوجي إساءة دنيئة بعدما حملت له هدية من بلد غريب. ليس لي هنا أم ولا أخ ولا قريب يقيني هذه النائبة، غير أني أطلب إليكن هذا المعروف اليسير؛ إذا فكرت في مكيدة أو رسمت خطة كي أنتقم لنفسي عدلا من زوجي إزاء هذه الشرور، فالزمن الصمت أمام ذلك الذي وهبه ابنته وتلك التي اقترن بها؛ لأن المرأة بطبعها هيوب، ضعيفة الإعداد لأعمال الشجاعة الباسلة، تخشى السيف المسلول، ولكنها إن أسيء إليها في سرير الزوجية تحس بالغضب يملأ جوانب نفسها وتتعطش للدماء.
الجوقة :
سأفعل هذا. وإنك في طلب الانتقام لعادلة. ولا عجب أن تملأ الإساءة جوانح نفسك بالهم والغم. ولكن، انظري! ها هو ذا كريون ملك هذي البلاد يقبل، ورأسه - على ما يبدو - مفعم بطريف الآراء.
كريون وميديا والجوقة
كريون :
إليك يا ميديا أصدر أوامري، إليك يا ذات المنظر الكئيب، يا من ثارت نفسك على زوجك. اغربي عن هذا المكان، واخرجي طريدة من هذه البلاد، واصحبي معك ابنيك، ولا تتلكئي؛ فهذا القرار من عندي، وسوف أضعه موضع التنفيذ. ولا تزوري بيتي بعد هذا حتى يتم إبعادك إلى أقصى حدود هذه المملكة.
ميديا :
يا ويلتي، ويا شقائي! الآن لا بد لي أن أسقط، وا ضيعتاه! إن العدو يطاردني وقد نشر كل أشرعته، ولست أستطيع أن أبلغ ساحلا يحميني. ولكني أسألك يا كريون - برغم إيذائي - لماذا تبعدني من هذه البلاد؟
كريون :
إني أخشاك - ولست أرى داعيا إلى التواء العبارة - أخشى أن تحاولي عملا ضد ابنتي لا ينفع فيه الدواء. وكل الظروف تقوي في نفسي هذه المخاوف؛ فقد عرفت بالعلم، وحذقت المعارف الخطرة، والحقد يلهبك الآن بعدما نحاك زوجك عن مضجعه. لقد نما إلى مسامعي وعيدك الذي ينطوي على الانتقام من الأب الذي زوج ابنته، ومن الرجل الذي اقترن بها ، ومن تلك التي عقدت يدها في يده. وسوف أحتاط حذرا من هذا الشر الموعود، ولأن أتعرض الآن لمقتك خير من أن ألين للفظك المعسول، فأعض فيما بعد بنان الندم على شفقتي الحمقاء.
ميديا :
يا ويلتاه! إن هذا الرأي لا يؤذيني الآن لأول مرة، فلطالما وجست خيفة من شره. وإن العقل ليملي على الأب ألا يغالي في تدريب أبنائه على فنون الحكمة؛ فإنهم إن تعلموها يؤثرون الراحة ولا يجنون من مواطنيهم غير الشر والحسد. وإنك إن أطلعت الحمقى من الخبثاء على حكمة جديدة لم تكشف من قبل كنت غافلا لا حكيما. وإن ذيوع الصيت كثيرا ما يعود بالشر على أولئك الذين يفاخرون بالحكمة البالغة. وإني لأحس هذا لأن معارفي تثير الحسد في قلوب الآخرين. كما يتهمني بعضهم بالتراخي، وبعضهم يصمني بشذوذ الأخلاق، وبعضهم بصلابة الرأي، مع أن معارفي قليلة محدودة. وإنك كذلك لتخافني خشية أن أوذيك بشر مستطير. كلا، لست في هذه المكانة، فلا تخشاني يا كريون، فلست أجسر أن أسيء إلى ذوي الكرامة الرفيعة. وفيم أسأت إلي؟ إنك وهبت ابنتك لمن تشاء. إنما أنا أمقت زوجي، أما أنت فما أحسب إلا أنك قد صدرت فيما فعلت عن صائب الرأي. ولست أحسدك على نجاحك الجميل. ألا فلتعقد ما شئت من صلات المصاهرة، ولتكن فيها سعيد الحظ، وإنما أطلب إليك أن تسمح لي بالإقامة فوق أرضك، وسوف أتحمل إساءتي في صمت، وأخضع للقوة العليا.
كريون :
ما أعذب هذه الكلمات، وما أخفها على السمع! ولكني أخشى أن يكون سوء النية كامنا في قلبك. ومن أجل هذا تضعف فيك ثقتي. إن الرجل - أو المرأة - الذي تشتعل نفسه الملتهبة غضبا يدعونا إلى الحذر أكثر مما يدعونا الهدوء الرزين الذي يخفي الكراهية في صمت وسكون. ولذا فإني آمرك أن تغربي على عجل، ولن أسمح بالحديث بعد هذا؛ فإن أمري لن يتزعزع، ولن يفلح كل ما لديك من حيلة في إغرائي بإبقائك، وأنت على ما أنت من خطر.
ميديا :
أستحلفك بابنتك العروس الجديدة! وأجثو عند قدميك.
كريون :
عبثا ما تقولين، فإنك لن تغريني.
ميديا :
أنت إذن تطردني من هنا، ولا تستمع إلى ضراعتي؟
كريون :
إني لا أحبك أكثر مما أحب أسرتي.
ميديا :
الآن أذكرك يا بلادي!
كريون :
إني أعز أطفالي أكثر مما أعز بلادي.
ميديا :
وا أسفاه! إن الحب ينزل بالمرء أقسى الآلام.
كريون :
ولكني أرى أن القدر يوجه الحب كما يشاء.
ميديا :
إلهي جوف! اذكر مبعث آلامي هذه.
كريون :
اغربي أيتها المرأة العابثة، وخلصيني من همومي.
ميديا :
الهموم نصيبي، ولدي منها قدر وافر.
كريون :
إن حراسي سيجذبونك بالقوة سريعا من هنا.
ميديا :
كلا. لا تأمر بهذا. أتوسل إليك يا كريون.
كريون :
إني أرى أنك ستسببين لنا المتاعب أيتها المرأة.
ميديا :
سأغرب من هنا. وما تضرعت إليك من جل هذا.
كريون :
ولماذا هذا النضال إذن؟ لماذا لا تهجرين هذي البلاد؟
ميديا :
هبني يوما واحدا أجمع فيه شتات فكري، وأدبر طريق سيري، وأعد لابني مئونة متواضعة، ما دام أبوهما لا يبدي نحوهما عناية. كن بهما شفيقا، فإن لديك أطفالا، ولست أشك في أنك تحس بعطف الأبوة. إني لا آبه بنفسي؛ إذ لا بد لي من أن أخرج من هنا طريدة، ولكني أبكي من أجل همهما.
كريون :
ليس قلبي وحشيا عديم الإحساس، وإنما تعمره الشفقة التي كثيرا ما آذتني. ولذا فإني الآن أمنحك ما تطلبين، وإن تكن الحكمة تحدثني بأني أسلك سبيل الخطأ. ولكن أصغي إلي جيدا، إذا طلعت عليك وعلى ابنيك شمس الغد المشرقة وأنت ما زلت في هذه البلاد فجزاؤك الموت. هذه كلمتي أصدرها، وسوف تجدينها صادقة. إني أجيزك يوما واحدا إن كانت تدعوك إليه الحاجة. فإنك لن تستطيعي أن تقومي بالفعال الشنيعة التي أخشاها في هذا الزمن الوجيز.
ميديا والجوقة
الجوقة :
أيتها المرأة التعسة، أي طريق تسلكين وأنت بائسة في هذا الموقف اليائس؟ أي بيت وأي بلد كريم سوف تجدين موئلا لأحزانك؟ آه. إن مصيرك ينقلب منحدرا نحو هاوية من الشقاء.
ميديا :
إن الشرور تتحوطني من كل جانب. ولكن لا تحسبن أنها هكذا تنتهي . فعلى الزوج وزوجته الجديدة النضال والكفاح، ولن يكون نصيب حلفائهما من الغم القليل. وهل تظنن أني أذل نفسي وأتملق هذا الرجل إلا إن كان نصب عيني غرض أو مكيدة؟ إذا لم يكن هذا فما كنت لأفتح له شفتي أو أمس يده. وإنه لأحمق، فقد كان بوسعه أن يسحق كل مكائدي لو أنه طاردني من هذا المكان. ولكنه منحني هذا اليوم، وفي هذا اليوم سأصب نقمتي على أعدائي الثلاث؛ الأب وزوجي والعروس. ولكن يا صديقاتي لا أدري أية وسيلة أحاول أولا من وسائل الفتك التي أستطيع. هل أقضي على بيت الزوجية هذا بإشعال النيران؟ أم هل أسترق الخطى في أعماق الدجى - وهم جميعا في سبات عميق - وأغمد سيفي الباتر في صدورهم؟ ولكن أمرا واحدا يقف في سبيلي؛ وذلك أنهم لو قبضوا علي في البيت وأنا أقوم بهذا العمل، فإن موتي سيكون ثوابا لأعدائي، ثم أبيت موضع سخرهم بعد هذا. وإذن فلأسلك السبيل الذي يؤهلني له علمي خير التأهيل وأقتلهم بفعل السحر والرقى. فإن تم لي هذا، وقضيت عليهم جميعا، فأي بلد يتلقاني؟ وأي أرض تحميني؟ وأي بيت مخلص يفتح لي بابه الكريم ويحفظ لي حياتي؟ لقد فقدت الأمل. وإذن فلأتريث برهة من الزمن، فإن عثرت بحصن آمن دبرت قتلهم بمكيدة خادعة في صمت وسكون، وإن صرفني نكد الطالع عن هذه المحاولة بقوة لا أستطيع لها ردا؛ فبيدي هذه سأرفع السيف وأقتلهم مخاطرة بحياتي، فإني قد بلغت قمة الجرأة والإقدام. والآن أقسم بهكتي، تلك الآلهة التي أقدسها أكرم تقديس، والتي اخترتها معينة لي، والتي اتخذت لنفسها في مخابئ بيتي الخفية مقاما مهابا، لن يشمخ بأنفه، في هذا الأمر، واحد من أولئك الذين يهصرون قلبي، ولأعلن هذه الزيجة بغيضة لهم باعثة على الأسى، وعلى هذا التعاقد وعلى فراري ليندمن. انهضي يا ميديا، واستنهضي علمك العميق، وتفكري ودبري، واستجمعي قواك المروعة؛ فالنضال يتطلب الآن روحا جريئا. هل تحسين بآلامك؟ إذن فلتبرري مولدك الكريم، ولا تجعلي ابنة «الشمس» سخرية لأبناء سسفس بعد زواج جيسن؛ فإن لديك المهارة ، وإنك لامرأة، وإن الطبيعة التي أمدتنا نحن النساء بقدرة يسيرة على فعل الخير، أعدتنا للانتقام بسرعة الخاطر والحيلة الماكرة.
الجوقة
الفرقة الأولى :
إن الأنهار المقدسة تتدفق مرتدة نحو منابعها صاعدة، والحق لا يسلك طريقه القويم، والعدالة لا تستقيم. لقد تبدل كل شيء؛ فالخداع ملاذ الإنسان، وقد غاض معين الإيمان بالله، ولكنا سنرد الأمر إلى نصابه بما لنا من رفيع المقام، وسوف يجلل الشرف اسم المرأة فلا يعود مهينا، ويرفعه إلى أوج الشهرة ناصعا كريما.
الفرقة الثانية :
ولسوف تبدل «ميوز» ذات الصوت الرخيم النغم القديم، وتتغنى بمآثر النساء الحقة، ولا تتهمهن بالخيانة وتعيرهن في كل لحن. ولو أن فيبس - زعيم الغناء - أمر القيثار العذب أن يخضع لأيدينا، لضربنا نحن كذلك على وتر جديد ولا نعيب فيه على النساء. فما أكثر ما تحدر إلينا من قصص تروي غدر النساء، وإن للرجل المتكبر منها لنصيبا.
الفرقة الأولى :
لقد أقلعت من بيت أبيك الملكي وقلبك ينبض بجنون الحب، وشققت عباب الماء مغامرة وسط الصخور المصطخبة، ولاقيت مخاطر البحار بقلب جسور. ثم ألقيت مراسيك على ساحل غريب، وبعدئذ فارقك كل ما تحبين وكل ما يبعث في نفسك السرور، ونبذت من سرير الزوجية، ونفيت يلحقك العار طريدة من هذه البلاد.
الفرقة الثانية :
إن الوفاء بالعهود، والشعور بالكرامة والإخلاص، لم يعد لهما فوق بلاد اليونان الفسيحة سلطان. لقد فرا من فوق الأرض ساخطين، يقصدان السماء ويرفرفان بأجنحة خفيفة. لم يعد بيت أبيك لك بيتا، ولن تجدي هناك لك مأوى رفيقيا. وهذا الزواج الجديد يفعم قلبك بالويلات والأحزان. وهنا تسود ملكة أخرى يعلو سلطانها على سلطانك.
جيسن وميديا والجوقة
جيسن :
ليس في الأمر جديد، فكثيرا ما لاحظت من قبل أن الغضب العنيد شر مستطير لا يمكن الحد منه. كان بوسعك أن تقيمي فوق هذه البلاد وفي هذه الدار لو أنك عرفت كيف تستسلمين وتخضعين لأربابها في كياسة ورفق، ولكن لسانك المتهور يسوقك إلى المنفى. حقا إن اندفاعك في حديث متصل تصمين فيه جيسن بأنه أسوأ الرجال لا يساوي لدي جناح بعوضة، ولكن أولي الأمر هنا لا يطيقون هذا، وقد أخذتهم بك الرأفة إذ لم يوقعوا عليك عقوبة أشد من النفي على ما كلت لهم من سباب. وقد حاولت أن أخفف من غضب القائمين بالأمر، وتمنيت لو أبقوك، ولكن حماقتك لم تعرف حدا للشتائم، فأمعنت في هجاء السادة العظماء، فحق عليك النفي والتشريد. ولكني لا أتخلى عن أصدقائي من أجل هذا، وها أنا ذا آتيك كي أقدم إليك يد المعونة، حتى لا تتركي هذه البلاد مع ابنيك بغير مال أو وأنت في حاجة إلى أي شيء. إن النفي يستتبع كثيرا من الشرور، وإنك لتمقتينني، ولكني يا سيدتي لا أقابل هذا المقت برغبة في الإيذاء.
ميديا :
أيها الوغد الدنيء - وإنه ليحق للساني أن يلفظ هذه الشتائم السود لقاء وضاعتك المخنثة - ها أنت ذا تأتيني يا من تبغضك الآلهة أشد البغض كما أبغضك وكما يبغضك بنو الإنسان جميعا. ليس من الإقدام ولا من الثقة والفضيلة أن تجابه صديقة لك بعد هذا الهوان، إنما هو مرض خبيث من أسوأ الأمراض يوغر الصدور. ومع ذلك فخيرا فعلت بهذا المجيء؛ لأني حين أنفث الشتائم وأرميك بها أخفف عن قلبي وأوذيك بسماعها. والآن أعود إلى العلاقة بيني وبينك منذ نشأتها. لقد أنقذت حياتك حينما بعثت كي تخضع الثيران التي تلفظ اللهب تحت الأنيار، وكي تلقي في الأرض البذور المميتة، ويعلم ذلك كل زعيم من زعماء اليونان الذين أبحروا معك في آرجو وساهموا في هذا المشروع. ثم قتلت لك الأفعوان الذي يسهر على حراسة الفراء الذهبي ويخفيه بين طيات قشوره الغزيرة، وبذا أبقيت لك نور الحياة. ثم غدرت بأبي وببيتي وشققت معك عباب الماء إلى أيولكس، يحفزني الغرام أكثر مما تحفزني الحكمة. ثم جعلت بنات بليس يقتلن أباهن قتلة مريرة، وهكذا أنقذتك من كل المخاوف، وكان جزائي على كل هذه الهبات - يا أسفل الرجال - أن تخونني وتستمتع بزوجة جديدة بقلب طروب، وإن لك مني لأطفالا، ولو كنت عاقرا لاغتفرت لك شغفك بهذه الزوجة الجديدة . لم أعد أثق في قسمك وأيمانك؛ فلربما حسبت أن الآلهة لم تعد تحكم السماء، وأن الحكم الآن لسادة آخرين يسنون القوانين للإنسان الفاني؛ لأنك تدرك أنك حنثت في أيمانك. كم تعلقت بيدي هذه، وكم تدنست ركبتاي بمس هذا الرجل الوضيع! لم يكن هذا إلا لتخدعني. ويلي! لقد ضاعت كل آمالي! ولكني - برغم هذا - سأخاطبك كصديق كأني أؤمل لديك فضلا كبيرا. وستظهرك أسئلتي كذلك أشد وضاعة. والآن، إلى أين أتوجه! هل أعود إلى بلادي وإلى بيت أبي، وقد خفتهما من أجلك؟ أم إلى بنات بلياس؟ إنهن سيفتحن أبواب المودة لي وهن غرقى في الأحزان لأني قتلت أباهن. وهكذا ترى أني جعلت لنفسي أعداء من أولئك الذين خلقتهم الطبيعة أصدقاء لي. ولكي أظفر بعطفك قدمت لأولئك الذين لم يستحقوا مني إساءة أسبابا قوية للعداوة. ومن أجل هذا المعروف جعلتني من بين فتيات الإغريق أوفرهن سعادة، ذلك لأني ظفرت بزوج مجيد، عجيب في إخلاصه! آه، ما أشقاني! لو أني خرجت من هنا إلى منفاي طريدة شريدة، ومعي ولداك الوحيدان، وقد هجرني الأصدقاء، ذاع بين الناس أن الرجل الذي تزوج من جديد له أبناء يهيمون متسولين مع أمهن التي أنقذت حياته.
إلهي جوف! لماذا قدمت لنا الأدلة نعرف بها الذهب الزائف، ولم تدمغ معدن الرجل الوضيع بطابع يميزه، ونحن أشد ما نكون إلى ذلك حاجة.
الجوقة :
حينما يختلف الصديق مع الصديق وتشتعل بينهما نار النضال، كان غضبهما شديدا ليس له من علاج.
جيسن :
الظاهر أنه يليق بي هنا أن أصوغ كلامي بحرص شديد، وأن أكون كالملاح الماهر، أخترق الريح وأشق طريقي وسط هذه العاصفة الهوجاء من كلماتك الصاخبة. ولما كنت تجسمين معروفك إلى هذا الحد، فإني أبتهل إلى فينس - ولا أبتهل إلى سواها من آلهة أو بشر - أن تتولى في هذه الرحلة رعايتي. لقد أدليت بالحجج القوية الدامغة، ولكني لو تتبعت الأمر إلى أساسه لآثرت الشحناء إذا بينت لك أنك لم تركبي الأخطار لإنقاذي إلا بدافع الحب، ولذا فلن أزن الأمور بيد دقيقة وأقر لك أنك بحق تفخرين حين تتحدثين عن خبر أصبت بمعونتك. ولكن اذكري أنك أخذت من سلامتي أكثر مما أعطيتني، وإليك البرهان:
إنك استبدلت ببلدك الهمجي بلاد اليونان موطنا لك، فعرفت فيها ما العدالة، وعرفت قوة حماية القانون غير متأثر بالقوة الغاشمة، وأقرت لك بلاد اليونان بالحكمة، وذاع فيها اسمك، ولو أنك قضيت أيامك في الزوايا المظلمة لتلك البلاد النائية لما عرفتك الشهرة. وإني لأرغب عن الذهب يملأ داري، وأرغب عن أن أتنفس النغم الساحر الذي يفوق غناء أورفيوس، إذا لم يهيئ لي الحظ أن أعتلي مكانة أتألق فيها بوضوح وجلاء. قد حدثتك عن مشقاتي لأنك دفعتني إلى ذلك دفعا. ولما كنت قد عيرتني بلسانك، فسوف أبين لك بأن زواجي بابنة الملك قد صدرت فيه عن حكمة لا عن رعونة، وأني احتفظت فيه بمودتك ومودة ولديك. الزمي الصمت. حينما أتيت من الإلكس إلى هنا، وتلاحقت في أثري كثير من البلايا، كانت الحكمة تملي علي - وأنا طريد - أن خير الحلول أن أتزوج من ابنة ملك البلاد، وما فعلت هذا لأني عفت مضجعك، أو كرهت جوارك - وهو ما يحز في قلبك - ولم يتملكني العشق للزوجة الجديدة، ولم أشته عديدا من الأبناء؛ فأنا بولدي جد قانع، ولست من هذا أشكو، ولكن الأمر الذي يهمنا أن نعيش موفوري الكرامة، لا تذلنا الفاقة؛ لأني أعرف أن الفقر يبعد عنا الأصدقاء. ثم إني أحب أن أربي ابنيك في عزة تلائم بيتي، فإن كنت سأضم إلى ولديك إخوة لهم، فسأجعل منهم أسرة واحدة، ووحدة متآلفة، تترعرع بها حياتي. وقد تكون بك أنت كذلك بعض الحاجة إلى أبناء آخرين. وإنه ليهمني كثيرا أن أزيد من ذريتي ما استطعت. فهل أخطأت التدبير؟ فلا تلوميني إلا إن كان فراش الزوجية الجديد يحز في قلبك. ولكن بنات جنسك الجامحات، جميعا في هذا متحدات. إذا اطمأنت إحداكن على سلامة سريرها الزوجي ظنت أن كل شيء بعد هذا من حقها، فإن أصاب سريرها رزء من الأرزاء صبت مقتها على كل ما كانت تراه من قبل فاخرا وجميلا. لو كانت هناك وسيلة أخرى لتوليد البشر، وإذا لم يخلق جنس الإناث، ما ألمت بنا هذه الكوارث.
الجوقة :
حقا لقد زخرفت قصتك الباهرة يا جيسن. ولكني - برغم هذا - أراك ظالما حين غدرت بزوجتك، وإنه ليشق علي أن أقول فيك هذا.
ميديا :
إني أختلف في حكمي على كثير من الأمور عن كثير من البشر. وعندي أن الرجل المؤذي الذي ينطلق بلسانه بالفصاحة الكاذبة يستحق أشد العقاب؛ لأنه يثق بأنه يستطيع بحديثه أن يصقل أشد الفعال سوادا، فيجرؤ على اقترافها بحيلته. ولست أرى في قولك حكمة. وإنك لا تبدو لي في ألوان زاهية، وكلامك لا يقنعني؛ فأنا أستطيع بكلمة أن أنقضه، ولو لم تكن خائنا في هذا الزواج لما عقدته إلا بعد أن طلبت مرضاتي وظفرت بها، ولما أخفيته عن أصدقائك كل هذا الإخفاء.
جيسن :
لو أني أخبرتك بهذا الأمر لأديت لي فيه خدمة جليلة! فإن قلبك حتى الآن تثور فيه عاصفة لم يخف هياجها.
ميديا :
لم يكن الباعث لك ما زعمت. ولكنك أردت فراشا بربريا تنقصه الكرامة ليكون نعمة لشيخوختك.
جيسن :
كلا. لم يكن هذا. وكوني على ثقة بأني لم أرد أن أصاهر الملك من أجل ابنته! ولكنها رغبتي - كما قلت من قبل - أن أنقذك من كربتك، وأن أضم إلى ابني إخوة من أسرة مالكة أقي بهم بيتي.
ميديا :
هذا ضرب من السعادة ممقوت لا أحب أن يكون من نصيبي، كما لا أحب الثراء الذي يفتت قلبي الدامي.
جيسن :
وهل يمكن أن تكون لك رغبة أخرى، وأن تظهري أكثر من هذا حكمة؟ لا تقلبي أعظم النعم إلى أسباب الشقاء، ولا تحسبي نفسك شقية وأنت في قلب السعادة.
ميديا :
وجه إلي اللوم ما شئت؛ فقد وجدت لك في هذا المكان ملاذا. أما أنا فعلي أن أفر لأني طريدة منبوذة.
جيسن :
لقد جلبت ذلك على نفسك، فلا تلومن أحدا سواك.
ميديا :
ماذا جنيت؟ هل تزوجت وغدرت بك؟
جيسن :
إنك تصبين الشتائم الدنسة على رءوس سادتك.
ميديا :
إنما تنصب لعنات بيتك على رأسي .
جيسن :
لن أجادلك في هذا الشأن بعد هذا. ولكن خبريني إن كنت تقبلين شيئا من كنوزي لك أو لابنيك تخففين به لوعة المنفى، فإني أميل إلى العطاء بيد كريمة، وسوف أرسل إلى أصدقائي شارات تنفعك، وسوف تجدين من إنسانيتهم كل صنوف الرأفة. وإن رفضت فإني أشك في حكمتك. خففي على نفسك حدة الغضب يصلح حالك.
ميديا :
لن أستغل أصدقاءك، ولن أقبل شيئا من كنوزك. لا تعطني مثقال ذرة لأن عطايا الرجل السيئ لا تجلب معها خيرا.
جيسن :
أشهد الآلهة أني أحب أن أكون لك ولابنيك عونا في كل شيء، ولكنك ترغبين عن سخائي. ونفسك الحانقة المشتعلة تنبذ أحباءها ولن تجني من هذا إلا زيادة في الشقاء.
ميديا والجوقة
ميديا :
اغرب عني، فقد تلكأت هنا طويلا، وأنت متيم في حب عروسك الجديدة. اقترن بها، ولكن اعلم أن الآلهة تعطف علي، وسوف تعض على هذا القران بنان الندم.
الفرقة الأولى :
حينما يتدفق الحب في الصدور، ويبسط فوقها سلطانا شديدا قويا، تتلاشى كل فكرة فاضلة، ويقمع كل ما يدل على حسن السيرة. ولكن حينما فكرت فينس الفاتنة في الظهور (ونحن نقر لها بالسيادة الرقيقة)، وبسطت سلطانها الرفيق - وهي أعز ما لدينا من كل قوى السماء - جاء في أثرها كثير من النعم. فيا ملكة المرح والحبور، لا تصوبي نحوي سهامك القاتلة من قوسك الذهبي.
الفرقة الثانية :
أرجو أن يكون نصيبي الاعتدال المتواضع، فهو أنبل ما تهب السماء. وأرجو ألا تثور في نفسي العواطف الجامحة، أو يتحد في الكبرياء والبغضاء ينفثان سمومهما القاتلة، أو أن تشتعل نار الغضب ويستعر نضال الغيرة، فهما ينقصان مسرات الحياة، ويدفعان المرء إلى الانتقام إذا أسيء إلى فراشه الزوجي. رحماك يا فينس! مني علينا بالسعادة الزوجية العاجلة، فإنك سرعان ما تدركين أخطاء الحب إذا ضل السبيل!
الفرقة الأولى :
وطني العزيز! لا تجعلني أهيم طريدة من مسقط رأسي، منبوذة منك ومن أصدقائي، يحوطني الفقر في منفاي، ويتعقبني الحزن والألم الذي يلتهم النفوس، ويتأثر في الجد العاثر. كلا، بل اقذف بي فريسة إلى الموت قبل أن أشهد ذلك اليوم. إن أشد عذاب يقاسي المرء في هذه الحياة أن يبعد عن كل ما هو على نفسه عزيز.
الفرقة الثانية :
هذا الويل نشاهده الآن بعيوننا، لم نعلم به من غيرنا، ولم تجر به الإشاعات. إن وطنك ودارك لا يمهدان لك سبيل الراحة بعدما حل بك الحزن العميق. وليس من صديق يمد يد المعونة السمحة يخفف بها لوعة قلبك. إن من يضن بالمعونة على صديقه قد يموت غير مأسوف عليه، فإنه لا يقدم كنوز عقله شفقة بالفضيلة وهي تمتحن.
أيجيوز وميديا والجوقة
أيجيوز :
سلام الله يا ميديا! وسلام الله أكرم تحية نحيي بها الأصدقاء.
ميديا :
سلام الله يا أيجيوز، يا ابن باندين الحكيم! من أين أنت قادم إلى أسوار كورنث؟
أيجيوز :
أتيت قادما من لدن كاهن فيبس القديم.
ميديا :
وما الذي ساقك إلى معبد هذا الكاهن المركزي.
أيجيوز :
كنت أسأل الله أن يكون لي ولد.
ميديا :
خبرني. هل بلغت هذه السن بغير أبناء؟
أيجيوز :
هذا نصيبي، وما زلت بغير أبناء.
ميديا :
وهل لك زوج، أم هل تعيش وحيدا؟
أيجيوز :
لست وحيدا، ولدي فراش الزوجية.
ميديا :
وبماذا أجابك الإله على سؤالك؟
أيجيوز :
أجابني بكلام غامض لا يدرك كنهه عقل البشر.
ميديا :
وهل يسمح لي أن أعرف نبوءة الكاهن؟
أيجيوز :
بكل ترحاب، لأنها تتطلب الحكمة العميقة.
ميديا :
وما تلك الكلمات؟ خبرني بها إن كان يجوز لي سماعها.
أيجيوز : «لا تفرط في مؤخرة السفينة المنطلقة.»
ميديا :
حتى تفعل ماذا؟ أو حتى تبلغ أي البلاد؟
أيجيوز :
حتى أعود إلى بيت أبوي.
ميديا :
ولماذا إذن وجهت رحلتك إلى هذه البلاد.
أيجيوز :
كي أقابل ملكا يدعى بثيوز يحكم بلاد تريزين.
ميديا :
هو ابن بلبس، ويشتهر بقداسته.
أيجيوز :
سأفضي إليه بنبوءة الكاهن.
ميديا :
حكمته بالغة، وخبرته عظيمة.
أيجيوز :
هو أعز أصدقائي المسلحين.
ميديا :
بارك الله لك في كل ما يشتهي قلبك.
أيجيوز :
ولكن لماذا هذي الدموع؟ ولماذا أرى لونك الوردي شاحبا؟
ميديا :
إن زوجي يا أيجيوز أسوأ الرجال.
أيجيوز :
ماذا تقولين؟ خبريني ما يحزن قلبك؟
ميديا :
إن جيسن يسيء إلي مع أني لم أقدم للإساءة سببا.
أيجيوز :
ماذا فعل؟ حدثيني عن أحزانك.
ميديا :
اقترن بامرأة أخرى لها السيادة في هذه البلاد.
أيجيوز :
وهل جرؤ على هذا العمل الأثيم؟
ميديا :
لقد فعل. وهو يعامل أحباءه السالفين بالازدراء.
أيجيوز :
هل أغراه الحب؟ أم هل يمقت فراشك؟
ميديا :
الحب العنيف، والتذبذب السريع.
أيجيوز :
ألا رافقه سوء الحظ، فهو رجل عديم الإخلاص.
ميديا :
افتتن بمصاهرة الملك.
أيجيوز :
من أعطاه عروسا؟ حدثيني عن كل شيء.
ميديا :
كريون، سيد هذه الولاية الكورنثية.
أيجيوز :
إذا، فإنه يحق لك أيتها السيدة أن تحزني.
ميديا :
بل أكثر من هذا، لقد أبعدوني من هنا طريدة.
أيجيوز :
من أولئك؟ إن هذا يضاعف أسباب كربتك.
ميديا :
طردني كريون منبوذة من هذه البلاد.
أيجيوز :
هل يحتمل ذلك جيسن؟ إني لا أحب هذا.
ميديا :
إنه يستنكر باللفظ، ولكن ميوله في الحق تعارض مصلحتي. وإني لأستحلفك بحق لحيتك، وأجثو ضارعة عند قدميك، أن تكون بي شفيقا. كن رءوفا بامرأة بائسة، ولا ترني هكذا مهجورة هابطة إلى أسفل سافلين. استقبلني في بلادك، وهيئ لي في دارك ملجأ. وإني لأرجو لك الله أن يهبك ذرية، وأن تموت مباركا! إنك لا تدري أي خير تلاقي هنا، فإنك لن تكون بغير أبناء، ولأخلصنك من هذه الكربة، وسوف أعينك على إعقاب الأبناء؛ فإني بالطلاسم الفعالة عليمة.
أيجيوز :
إن أسبابا عديدة يا سيدتي تحفزني على أن أسدي إليك هذا المعروف؛ فتقديسي الآلهة يدفعني أولا، ثم أملي في الذرية التي وعدتني بها، ولولا وعدك لاستولى علي اليأس والقنوط. أرجو أن تكون فنونك فعالة قوية الأثر! تعالي إلى بلدي، وهناك أتلقاك لقاء كريما كما تملي بذلك العدالة. ولكن هناك أمرا واحدا لا بد لي أن أذكره؛ ذلك أني لا أحب البتة أن أستصحبك معي حين أغادر هذه البلاد؛ فهاجري بنفسك وسترحب بك داري، حيث تلبثين في أمان من العنف والقسوة، ولن أخرجك من بيتي مطلقا. ولكن غادري هذه البلاد بنفسك؛ لأني لا أحب أن أسيء إلى هؤلاء الذين يضيفونني هنا.
ميديا :
ليكن ذلك. ولو أنك وفيت وعدك لكنت نبيلا في كل أمر من أموري تعرضت له.
أيجيوز :
هلا تثقين في؟ من أين لك هذه الشكوك الجديدة؟
ميديا :
كلا، بل أثق فيك. ولكن خصومي من بيت بلياس يمقتونني، كما يمقتني كريون. ولقد أخذت على نفسك عهدا ألا تسلمني إلى هؤلاء القوم لو أنهم حاولوا أن ينتزعوني من بلادك. عدني وعدا صادقا وأقسم لي بالآلهة تكن لي حقا صديقا. ولا تهتز لرسلهم؛ فأنا مسكينة ضعيفة ولهم الثراء وسلطان الملك.
أيجيوز :
إن كلماتك يا سيدتي تنطوي على حكمة عظيمة. وإن كانت هذه رغبتك فلن أقابلها بالرفض. وإيثارا للسلامة سأقدم لأعدائك المعاذير حتى أثق من حمايتك أشد الثقة. اقترحي لي اليمين الذي أقسمه.
ميديا :
أقسم بالأرض، وبالشمس جدتي، وبكل إله يحكم في السماء.
أيجيوز :
أن أفعل، أو لا أفعل. قولي ماذا.
ميديا :
ألا تقصيني من دولتك بإرادتك، وألا ترضى بتسليمي لأعدائي إن طلبوني ما دمت حيا.
أيجيوز :
أقسم بالأرض وبتلك الشمس المشرقة، وبالآلهة جميعا، أن أنفذ كلمتك.
ميديا :
كفى، وإن حنثت في يمينك؟
أيجيوز :
لتحل بي كل نقمة تنتظر الكافرين.
ميديا :
اذهب إذن رافقتك البركات. وسأبلغ بلدك بعد زمن وجيز، بعد أن أنجز ما اعتزمت، وأظفر بما أردت.
الجوقة :
أرجو يا أيجيوز أن يهديك السبيل آمنا مطمئنا ابن مايا القائد الملكي، وأرجو أن يكلل النجاح أملك، ويتوج كل رغبة ملحة لديك؛ فإن بين جنبيك روحا كريما طيبا نبيلا.
ميديا والجوقة
ميديا :
سبحانك ربي جوف، إن انتقامك حق. سبحانك كوكب النهار الساطع! الآن يا صديقاتي سوف أجد طريقا للنصر المجيد على خصومي. وسأسير نحو الغلبة. ولي وطيد الأمل أن يحل بهم الجزاء؛ فإن هذا الرجل يبدي استعدادا لمعونتي في وقت تحدق بي فيه أشد الأخطار. وقد وجدت سفينتي لديه مرفأ، وإلى مدينة بالاس الملكية سأوجه خطاي. والآن سأحدثكم عن خططي جميعا، ولكن لا تتوقعوا مني حديثا لينا تشيع فيه نغمات البهجة والسرور. سأبعث إلى جيسن بواحد من أتباعي ، وأتوسل إليه مرة أخرى أن أراه هنا. ثم أحدثه حديثا لطيفا. سأقول له إني أوافقه على عمله، وإني أقدر الشرف الذي سوف تجلبه له المصاهرة الملكية، وأعترف له بفضل هذا الزواج العظيم، ثم أقر له أنه كان نبيلا في كل ما فعل. وسوف أضرع إليه أن يسمح لابني بالبقاء. ولست أبغي من ذلك أن أتركهما في بلد الخصوم عرضة لتلقي الإهانة من الأعداء. ولكني أرمي إلى أن تحس ابنة الملك بوجودي، ثم أميتها بفنوني. لأني سوف أبعث بهما إلى هذه الزوجة الجديدة يحملان بين أيديهما العطايا، فتسمح لهما بالبقاء ولا يبعدان من هنا. سأبعث إليها رداء موشي، وإكليلا مضفورا بالذهب تتوج به خصلات شعرها.
فإن ارتدت هذه الزينات ماتت لتوها ومات كل من يلامسها. بهذه الرقى الفعالة سوف أسخر هذه العطايا. ثم أي عمل أقوم به بعد هذا! آه، أي عمل! إن قلبي ليتفطر غما وحزنا، ابني سأقتلهما، ومن ذا الذي يستطيع أن ينقذهما مني؟ وبعدما أقضي على آل جيسن جميعا بالهلاك، أرحل عن هذه البلاد، وأفر من مقتل ابني العزيزين؛ لأن هذا العمل دنس شنيع تعافه نفسي، ولكني لا أحتمل سخرية أعدائي مني. وأي خير لي في الحياة؟ ليس لي وطن، وليس لي بيت، ولا ملاذ من الشرور والنوائب. ما كان أضعفني حينما تركت بيت أبي وقد أغراني هذا الإغريقي الخائن بالكلام المعسول. ولكن الآلهة العادلين يؤيدونني، وسوف تحل به نقمتي. ولن يرى بعد هذا ابنيه اللذين أعقبهما مني على قيد الحياة. ولن يعقب من هذه الزوجة الجديدة ذرية أخرى. ليهلكن الأشقياء، وليموتن ميتة حقيرة بطلاسمي القوية الفعالة؛ فلن أسمح لهم أن يحسبوني مسكينة محقرة مستضعفة هيابة. كلا، إن قلبي لأعدائي لا يلين، ولكنه بأصدقائي رءوف رحيم. وأمثالي يعيشون حياتهم في أعلى مراتب التكريم.
الجوقة :
ما دمت قد أفضيت لنا بمقصدك، ولما كنا نحب الخير لك، فإنا نثنيك عن هذا العمل احتراما للقانون.
ميديا :
إن عزمي ثابت، ولكني أعفو عن كلماتكن؛ فإنكن لم تحسسن بالألم الذي أحسست.
الجوقة :
وهل تحتمل الأم أن تقتل أبناءها؟
ميديا :
بهذا أبعث في زوجي أشد الأحزان.
الجوقة :
ولكن تمسين أشقى النساء جميعا!
ميديا :
ليكن هذا. إن كل ما تتوسلن به إلي لا يجدي فتيلا. فاذهبن إذن، وعدن إلى بجيسن سريعا. فإني أركن في كل الأمور إلى إخلاصكن الذي أثق فيه. واحذرن أن تتفوهن بكلمة واحدة عن خطتي، إن كنتن حقا نسوة، وإن كنتن ودودات تردن الخير بمولاتكن.
الجوقة
الفرقة الأولى :
إننا نناشدكم يا أبناء سكروبيا المباركة، الذين طار ذكركم خلال العصور المتوالية، يا من تحدرتم من نسل الآلهة، وهبطتم من أرضهم المقدسة التي لا تهزم، يا من نشأتم على أقاصيص الحكمة النبيلة، وتنفستم الهواء النقي العليل، وأشرقتم من عل على السموات الصافية حيث يقال إن ميوز في الزمن القديم - وهي عائدة مكرمة من بيريا - أقامت مقعدا ذهبيا لمحبوبتها هرمونيا.
الفرقة الثانية :
وحيث يشق سفسس له خلال الوادي طريقا متعرجا بهيج المنظر، وتثير فينس نسيما منعشا، ثم تأمر «زفيرا» المرح بالمداعبة، وأن يهز جناحيه فوق البلاد. ثم تضفر خصلات شعرها ذات الأريج التي تشبه إكليل الورد، وترسل أبناءها - وهم عصبة كريمة - قريبا من مقر الحكمة المقدسة كي يقيموا هناك ويترعرعوا على الفضيلة والكرامة.
الفرقة الأولى :
كيف تتلقاك هذه الجداول المقدسة، وهذه الولاية، وهذه المدينة التي تفتح أبواب جودها مسرعة إذا دعا داعي الصداقة؟ كيف تحميك في برجها وأوديتها وجدرانها بعد هذا العمل الدنس، وبعدما تتلوثين بدماء ولديك؟ إنا نتوسل إليك ألا تقتليهما، وألا تجعلي الدماء تسيل من صدريهما البريئين! انظري إلينا ونحن سجود عند قدميك! إياك أن تقتلي ابنيك، واستمعي لصوت الشفقة والمودة.
الفرقة الثانية :
أي تهور، وأي غضب جنوني مشتعل زج في رأسك هذه الأفكار اللعينة؟ وكيف تستطيع يداك الجريئتان أن تقوم بهذا العمل الذي جال بخاطرك؟ عجبا! كيف تقتل الأم أبناءها؟ هل تستطيعين أن تري ابنيك يتمرغان في الدماء ولا تجري الدموع من مقلتيك؟ وكيف يحتمل قلبك الجسور أن يشهد ولديك وهما يجثوان على ركبتيهما يطلبان الرحمة؟ كيف تستطيعين هذا ويداك الفظيعتان بدمائهما ملوثتان.
جيسن وميديا والجوقة
جيسن :
ها أنا ذا آتي نزولا عند رغبتك، فلست أحب أن أتخلف عنك رغم ما يثور في فؤادك من غضب. والآن دعيني أسمع ما تريدين.
ميديا :
أتضرع إليك يا جيسن أن تعفو عما بدر مني، ويحق لك أن تتحمل غضبي من أجل الدلائل العديدة للحب الذي كان بيني وبينك. وقد عاد العقل الهادئ إلى فؤادي، ولمت نفسي كثيرا وأنبتها، وقلت لها: علام هذا الشذوذ؟ ولماذا تستسلمين للجنون؟ ولم هذا الغضب؟ «إن نياتهم نحوي طيبة ودية. لقد جعلت ملك هذه البلاد عدوا لي، وكذلك الذي جعلت زوجي صنع بي معروفا عظيما حينما تزوج من هذه السيدة الملكية كي يكون لابني إخوة. خففي من ثورتك إذن. إن الآلهة بك رفيقة، فليس لديك داع للأسى. أليس لديك أبناء؟ وأنا أعلم أننا فررنا من بلادنا، وأنا بغير أصدقاء.» هكذا فكرت، وكنت جد حكيمة، وأدركت أني غضبت بغير داع. والآن أؤيدك، وأرى أن مسلكك ينم عن الحكمة وبعد النظر لأنك أتممت هذه المصاهرة من أجلنا. لقد كنت حمقاء، وكان ينبغي لي أن أعينك بالمشورة، وأن أعضدك، وأن أزين سريرك، وأن أبتهج لأن عروسك الملكية تنظر إليك بعين الهيام والغرام. ولكنا نحن النساء - ماذا أقول؟ لا أحب أن أسيء إلى بنات جنسي بالكلام. ولا تكن مثلي عنيدا، ولا تلاق الحماقة بالحماقة. إني أخضع لك، وأعترف أني أخطأت الحكم، ولكني ثبت إلى رشدي منذ حين. تعاليا ابني، اخرجا من الدار، هيا اخرجا، عانقا أباكما، ووجها إليه الخطاب معي، وشاركا أمكما في الاعتراف بفضله؛ فقد عفا عن أحبائه، وساد بيننا الوفاق، وانتهت أسباب النزاع بيننا بالاتفاق الذي يسر القلوب، مدا إليه أيديكما.
ويلي! لقد خطرت بفؤادي فكرة تنطوي على شر دفين، هل ستعيشان يا ولدي طويلا حتى تمدا أيديكما هكذا مرة أخرى. ما أشد شقوتي! لقد عرفت عيناي البكاء منذ عهد قريب، وعرف هذا القلب ما الخوف. لقد هد الزمان قواي. لقد خف غضبي على أبيكما وملأ العطف عيني بالدموع.
الجوقة :
إن دمعة حارة تتدفق من عيني كذلك، أرجو ألا ينشأ شر أشد من هذا سوءا.
جيسن :
إني عنك الآن راض، ولا ألومك على ما انقضى. ولا عجب أن تغضب المرأة إذا اقترن بغيرها زوجها ونبذها مدفوعا بالمنفعة. ولكن قلبك الآن قد هدأ وأراك قد أخذت بالرأي الصائب. إن مرور الوقت قد قاد العقل ظافرا إلى مقره، وأنت الآن تظهرين امرأة حكيمة حقا. واعلما يا ولدي أن أباكما لم يكن عديم التبصر؛ فقد فكر في أمركما أحسن تفكير، مستعينا بالآلهة الكريمة. وإني على ثقة أن ولاية كورنث سوف تراكم - أنتم وإخوة المستقبل - ذوي مراتب عالية ومجد عظيم. أرجو أن يطرد نموكما اطرادا حسنا، وسيقوم لكما أبوكما بكل ما تطلبان مستعينا بكل إله رءوف بنا رحيم. أرجو أن أراكما مترعرعين في شرخ الشباب، مدربين على كل الفضائل، تبزان فيها الأعداء! ولكن لم هذا؟ لماذا تترقرق الدمعة المبتلة في مقتليك؟ لماذا أشحت بخدك الشاحب عنا، كأنك تتقبلين كلماتي وأنت راغمة؟
ميديا :
لا شيء. إنما كنت أفكر في ابني.
جيسن :
سري عن نفسك، سعادتهم هي أهم ما يشغلني.
ميديا :
سأسري عن نفسي، وأضع ثقتي فيك، ولكني امرأة وأميل بطبيعتي إلى ذرف الدموع.
جيسن :
ولماذا تحزنين على ولديك كل هذا الحزن العميق؟
ميديا :
إني أمهما. ولما أبديت رغبتك في الإبقاء على حياتهما طرأت على خاطري فكرة شفيقة، سألت نفسي: هل يمكن هذا؟ والآن أرى أني بينت لك بعض البيان لماذا أرسلت إليك أطلب قدومك إلى هنا، وإليك بقية البيان: لما كان السادة قد عقدوا العزم على إبعادي من هذه البلاد، فقد رأيت من الحكمة ألا أقيم هنا، وأكون لك ولأصدقائك من أبناء الأسرة المالكة عقبة وقيدا؛ لأنهم يحسبونني عدوة لبيتهم. وإذن فسوف أفر إلى مكان بعيد عن هذا البلد. ولكن ارج لي الملك ألا ينفي ولدي من هنا حتى ينالا تربيتهما على يديك.
جيسن :
سأحثه على هذا، وإن كنت لا أعرف مبلغ نجاحي.
ميديا :
بل حث عروسك أن تضرع إلى أبيها ألا يطرد ولدي من هنا.
جيسن :
يسرني أن أفعل هذا، وإن ألفيتها لا تختلف عن بنات جنسها اللطيف حملتها على الإذعان.
ميديا :
سأعينك على هذا، وسوف أرسل إليها هدايا يفوق بريقها الجميل أي ضياء وقعت عليه عيون البشر. سيحمل إليها ولداي رداء دقيق التطريز وتاجا موشى بالذهب. وسيذهب الآن واحد من حشمي ويعود سريعا بهذه الحلي. ولن أبارك لعروسك مرة بل ألف مرة. إن سريرها الزوجي يشرفه زوج رفيع المقام، وسوف تتحلى بهذه الثياب الشريفة الزاهية التي خلعتها الشمس جدتي في الزمن القديم على أحفادها. تناولا ولدي هذا الثوب بين أيديكما، واحملاه هدية زواج إلى الزوجة المباركة، ابنة الملك، وما أحسبها هدية مهينة.
جيسن :
لماذا تتخلين عن هذه الأشياء؟ هل تظنين البيت المالك في حاجة إلى الثياب أو في حاجة إلى الذهب؟ كلا! احتفظي بها ولا تعطيها أحدا. إن كانت تراني ذا قيمة فستقدر كلماتي قدرا أعلى من أنفس الهدايا.
ميديا :
لا تثنني؛ فالهدايا لها سلطان على الآلهة. والكلمات المغرية لا تسحر قلوب الرجال كما يفعل الذهب. إن الحظ السعيد يلازم زوجك ويجعلها حاكمة مطلقة. هذه الملكة تتأمر علينا جميعا، وإني لأقدم كل ما أملك من ذهب، بل أهب حياتي، كي أظفر ببقاء ولدي. وإذن فلتذهبا يا ولدي؛ فالبيت المالك قريب، وتضرعا، وتوسلا إلى زوج أبيكما التي ظفر بها منذ عهد قريب، توسلا إلى سيدتي ألا ترغما على البعد من هذه البلاد، وقدما إليها هذه الحلي. وأوصيكما ألا تسلموها إلى يد غير يدها. أسرعا، حالفكما النجاح، وعودوا إلي بنبأ سار يبتهج له قلب أمكما بعدما تحققان لها رغبة في نفسها ملحة.
الفرقة الأولى :
لم يعد في حياة ولديك أمل، فهما إلى الموت ذاهبان، وسوف تتقبل العروس هذه الهدية الفاخرة وهي بها فخورة. ولكن المنية تكمن لهذه الزوجة الشقية في ثنايا الثوب المتلألئ. وسرعان ما تتحدر إلى ظلام العالم السفلي الدامس، مرتدية رداء الموت بعدما تضع يدها على هذا التاج كي تزين به الخصلات الذهبية فوق الجبين.
الفرقة الثانية :
وهذا الثوب المتألق ذو الألوان السماوية سوف يشع منه ضياء يخطف الأبصار، وهذا الذهب البراق سيجذب طرفها فتمسك بخصلات شعرها اللامعة تزينها به وهي في أوج عرسها كي تبدو جليلة في حلكة الليل. وبعدما تقع في شباك المنية يتلقفها البؤس والدمار، ولن تملك القدرة على الفرار من هذا المصير القاسي.
الفرقة الأولى :
أيها الزوج المنحوس، أين المسرات التي تتوج زواجك الجديد؟ إن رغبتك في مصاهرة الملوك ستقضي على ولديك بفعلة شنعاء، وأنت أعمى عن سوء المصير. إنك تسوق عروسك التي اقترنت بها وسط الأحزان إلى أسفل طريق موحش ينتهي إلى مقر بلوتو المظلم.
الفرقة الثانية :
وأنت أيتها السيدة التعسة، إن قلبي يتفطر شفقة عليك كما يتفطر له. فإن ابنيك سوف يتمرغان في الدماء على يديك، فإني أراك مندفعة إلى هذا العمل الشنيع، تريدين الانتقام لحب زوجك الذي لم يرع حرمته، فنكث العهد، وحبا به سرير امرأة غريبة، وأثار في قلبك عاصفة من الغضب هوجاء.
المربي وميديا والجوقة
المربي :
مولاتي! لقد تغير الحكم الذي كان يقضي على ابنيك بالنفي، وتقبلت العروس الملكية هداياك بقلب مشغوف. وبات كل شيء هنا لولديك طمأنينة وأمنا.
ميديا :
وا حسرتاه!
المربي :
ما لي أراك مضطربة والحظ لك باسم موات؟ ولماذا تشيحين بخدك الشاحب جانبا وتتلقين كلماتي بغير ابتهاج؟
ميديا :
وا حسرتاه! وا حسرتاه!
المربي :
هذا لا يتفق وما حملت إليك من أنباء.
ميديا :
وبرغم هذا، فإني أتنهد من أعماق قلبي.
المربي :
هل أتيتك - ولست أدري - أحمل سوءا؟ كنت أؤمل أن أخبرك بما يسرك.
ميديا :
لقد قلت ما قلت، ولست ألقي عليك لوما.
المربي :
لماذا تغضين الطرف، ولماذا ينحدر الدمع من مقلتيك؟
ميديا :
هناك ضرورة داعية أيها الشيخ. إن الآلهة وهمومي الثقيلة تستدعي ذلك مني.
المربي :
خففي عن نفسك، فإن آمالك تحيا بحياة ولديك.
ميديا :
سأبعث بهما أولا، آه ما أشقاني!
المربي :
لست وحدك المرأة التي تفقد أبناءها. واذكري أنك من دار الفناء، وعليك أن تتحملي البلايا بالصبر الجميل.
ميديا :
سوف أفعل. والآن ادخل الدار وأعد لولدي ما تتطلبه ظروف هذا النهار. ولدي، ولدي! إن لكما لبلدا، وإن لكما لبيتا تعيشان فيه إلى الأبد بعيدين عن أمكما؛ فإنكما سوف تهجرانها. آه ما أتعسني! سأذهب إلى بلد آخر طريدة شريدة، قبل أن أستمتع بكما وأبتهج، وقبل أن أراكما مباركين، وقبل أن أعد لكما زوجين وأزين لكما فراش الزوجية وأرفع لكما شعلة العرس. هذه نتيجة غضبي الثائر! عبثا ربيتكما ولدي، وعبثا شقيت وأفنيت نفسي بالهموم، وعبثا تحملت آلام الأمهات عند وضع الأبناء. لقد انقضى زمن كان لي فيه آمال عديدة فيكما. ما أشقاني! كنت أؤمل أن ترعيا شيخوختي بحب عميق وبعطف واهتمام، وأن تضما أطرافي برفق عند الموت، وتلك هي رغبة أبناء دار الفناء. أما الآن، فهذا الأمل البهيج قد تلاشى، ولا بد لي - بعدما أحرم منكما - أن تذوي حياتي في بؤس وهموم. ولن تريا أمكما بعد هذا بعين الشغف، فقد قدرت لكما حياة جديدة. وا حسرتاه، وا ويلتاه! لماذا تصوبان يا ولدي أعينكما نحوي في شغف؟ ولم هذه الابتسامة؟ إنها آخر البسمات، ويلي! ماذا عساي أفعل؟ إن قلبي يخور. أيتها النسوة، إني حين أرى ولدي، وحين أشهد ملامحهما الوسيمة، لا أستطيع ... كلا! وداعا أيتها الأغراض التي كنت أكن في نفسي! سأصحب معي ولدي وأفر من هذه البلاد. ماذا يجديني إن كنت أحزن أباهما بما يصيبهما من نوائب ما دام قلبي سيحس بألم الجراح مضاعفا؟ لن أفعل ما اعتزمت. وداعا لأغراضي. ولكن، لم هذا اللين؟ هل أريد أن أكون موضع سخريتهم وازدرائهم، لأني أترك أعدائي بغير عقاب؟ لا بد لي أن أقدم على العمل. إن هذه الأفكار الرقيقة إنما نشأت عن الضعف والجبن. ادخلا، ولدي. (يدخل الولدان)
ليأخذ حذره كل من يحسب وجوده حينما أضحي بولدي تدنيسا له، إن يدي لن تلين. ويلي! ويلي! لا تقدم على هذا العمل يا قلبي. كلا. أيتها التعسة، احذري أن تمسيهما، وأنقذي حياة ولديك. سيعيشان معي هناك، ويكونان لي متعة وبهجة. والآن أقسم بقوى الانتقام في الممالك السفلى، إن هذا لن يكون، لن أترك ولدي عرضة لصلف الأعداء الذميم وامتهانهم الممقوت. ولما كان لا بد لهما أن يموتا على يدي أنا التي وهبتهما الحياة - ولا مناص من موتهما - فلا مندوحة عن أن يلاقيا الموت. هذا عزمي الثابت الذي لا يقبل التحوير. إن العروس الملكية تحمل فوق رأسها التاج، وهي الآن تموت من مس الرداء. وإني على ثقة من هذا، ولا بد لي الآن أن أسير على طريق مشئوم، ولكني سأدفع بهذين إلى طريق أشد شؤما. ولكن دعوني أتحدث إليهما. مدا إلي أيديكما، عانقاني. ما أعز هذه اليد لدي! وما أعز هذه الشفاه، وهذه الهيئة، وهذا المنظر النبيل، منظر ولدي! بورك فيكما، ولكن في عالم آخر؛ لأن أباكما حرمكما كل بركة في عالمنا هذا، ما أحلى هذا العناق، وما أشد نعومة ملمسكما، وما أعطر أنفاسكما! اذهبا، ولدي اذهبا! إني لا أحتمل أن أراكما أكثر من هذا؛ فإني أخور وتغلبني النوائب، إني أعرف النوائب وأحس بالأرزاء التي يقوم عليها الآن قلبي، ولكن الغضب الذي يؤجج الآن صدري هو مبعث كل بلية يعذب بها الإنسان.
الجوقة :
كم دار بخلدي - وأنا أجادل جدالا عميقا، وأفكر تفكيرا دقيقا بعناية بالغة - هل يجوز لعقل المرأة أن يسبر غور الحقائق؟ إن «ميوز» السمحة كثيرا ما تتنازل وتقيم مع زمرة النساء، وتدرب نفوسنا على الحكمة، ولكنها لا تفعل ذلك معنا جميعا. إن نفحاتها المقدسة عبثا تنساب في أذن لا تعي. وقليل من بنات جنسنا - قليل محدود - من تقع عليه عفوا عينك الحائرة ممن يتصفن بنعمة التعقل. وإني أعلن هذا الحق على الملأ: إن الأحرار، الذين لم يتزوجوا، أولئك الذين لا يزعمون لأنفسهم لقب الأبوة، ولا يكبلهم همها، يشقون طريقهم في الحياة وهم أشد سرورا من أولئك الذين يملكون كثيرا من الأبناء. إن من لا ولد له لم يجرب ولم يعرف إن كان الأبناء يملئون القلب بالغم أم بالسرور؛ فهم خلو من أعباء الحياة، وخلو من بلبلة الخواطر التي تتردد في صدور الآباء. ولكن الذين يشهدون في بيوتهم فروعا فيحاء تترعرع حولهم نضرتها يعيشون حياتهم فريسة للهموم، ويحسون كأن نفوسهم تدمى من عديد الجراح. يساورهم القلق كيف يكونون العقول المتفتحة، وكيف يدربون بنيهم على الفضيلة، ويهتمون بجمع الكنوز وادخارها، يكرمون بها أبناءهم، بعدما يهبطون إلى العالم السفلي المظلم. وكثيرا ما تنشأ لديهم هذه الفكرة تزعجهم: هل ستضيء لهم طريق الشهرة الشريفة شعلة الفضيلة الصافية المقدسة، أم هل سوف تمسي كل همومهم وكل مشقاتهم غنيمة للرذيلة والحماقة؟ إن الجواب على هذا مغمور في الظلام. ولا بد لي الآن أن أصرح بشر واحد، هو منبع مرير للويلات، وهو آخرها وأسوءها؛ وذلك حينما يجمع الآباء أكداسا عالية من الكنوز البراقة، ويبلغ الأبناء مرحلة الشباب الفتي، وقد أترعت صدورهم بكل الفضائل، ثم تشاء إرادة القدر العاتي أن يأتي الموت ويكتسحهم في ظلام الليل بعيدا عن مرأى الآباء المحبين. عجبا لماذا تضم الآلهة إلى سلسلة الآلام الممضة هذا الألم الذي يبزها جميعا في حدته، فيذرف الآباء الدمع بقلوب متفطرة على موت الأبناء قبل أن يبلغوا سن النضج والكمال؟
ميديا والرسول والجوقة
ميديا :
إني أنتظر يا صديقاتي نبأ يأتيني من هنا وأنا مشغوفة قلقة. ها أنا ذا أرى واحدا من أتباع جيسن. إنه يقبل في عجلة تنقطع معها الأنفاس، ويبدو كأنه سيقص كارثة وقعت هناك منذ وقت قريب.
الرسول :
آه يا سيدتي. لقد فعلت فعلة ممقوتة، فاهربي يا ميديا، اهربي! وأقلعي في سفينة منشورة الشراع، أو اركبي عربة سريعة.
ميديا :
أي سبب خطير يتطلب هذا الفرار السريع؟
الرسول :
لقد ماتت ابنة الملك، وهلك كريون من أثر السحر القتال.
ميديا :
هذه أنباء جليلة، وسأعدك منذ الآن من خيار أصدقائي وأكثرهم شفقة علي.
الرسول :
ماذا تقولين؟ هل يحتفظ عقلك بتمام حكمته، أم هل أنت تهذين؟ لقد حل الدمار بالبيت المالك من فعالك، فكيف تتلقين هذا النبأ بسرور غير متأثرة بالمخاوف؟
ميديا :
أستطيع أن أقول كثيرا عن هذا، ولكن دعها تذهب، لا تنصرف من هنا مسرعا، بل خبرني كيف هلكوا، لو علمت منك أنهم ماتوا ميتة الأشقياء تضاعف سروري.
الرسول :
لما أقبل ولداك مع أبيهما إلى بيت العروس، ابتهجنا كثيرا نحن الخدم الذين كنا نحس من قبل بالأسى على آلامك. وسرعان ما ذاع النبأ السار أن العداوة السالفة بينك وبين زوجك قد زالت. فلاطفنا ولديك وقبل أحدنا أيديهما، وقبل الآخر وجناتهما المتوردة، وقدتهما بنفسي إلى غرفة النساء يحدوهما السرور. وهناك كانت مولاتنا، التي كان يتحتم علينا حينئذ أن نقدم لها الطاعة بدلا عنك. وقبل أن تقع عيناها على ولديك كانت ترمق جيسن بعين المرح والغبطة، ولكنها سرعان ما نكست طرفها وأشاحت بوجهها جانبا، وقد علاه الشحوب، لأنها نفرت من اقتراب ولديك. وحينئذ لاطفها زوجك وتوسل إليها باللفظ الرقيق ألا تستقبل أحباءه بجفاء، وأن تهدئ من سورة الغضب، وأن ترفع رأسها، وتعد أصدقاء زوجها أصدقاء لها. وطلب إليها أن تقبل هداياك، وأن ترجو أباها - إكراما لك - ألا يطرد ولديه إلى المنفى. ولما رأت الزينة الفاخرة لم يسعها أن ترفض، ووعدته بكل ما سأل. وقبل أن يبتعد زوجها وولداك عن الدار، مدت يدها إلى الثوب ذي الألوان المتعددة، وارتدته، ثم وضعت على رأسها التاج الذهبي. وبعناية فائقة صففت شعرها أمام المرآة الصقيلة، وابتسمت لمرأى خيالها الذي لا حياة فيه في المرآة. ثم نهضت من مقعدها بخطى أنيقة، وعبرت الغرفة، وقد امتلأ قلبها بالسرور بالهدايا الفاخرة. وكم مرة شمخت برأسها وألقت إلى المرآة نظرة إعجاب بنفسها. ثم تلا ذلك منظر يبعث في النفوس الفزع، لقد ذوت ورود وجنتيها، وارتعدت فرائصها، وتعثرت في خطاها وهي تسير متألمة صوب مقعدها، ثم خرت على الأرض صريعة. ثم شقت السماء بنشيد الضراعة الحزين سيدة مسنة، إحدى القائمات بخدمتها، وكانت تعتقد أن «بان» أو أن إلها آخر قد هبط من السماء غاضبا. ولما رأت الزبد الأبيض يتدفق من فم مولاتها، وأن عينيها قد جحظتا، وأن ملامحها قد تغيرت تغيرا مشينا، وأن دمها القاني قد عاد بغير لون، صاحت مذعورة بصوت يختلف عن صوت نشيدها السابق. ثم اندفعت إحدى الوصيفات إلى حجرة أبيها، واندفعت الأخرى إلى قرينها الذي تزوج منها قريبا. وساد البيت اضطراب شنيع، وسرت العلة في أطرافها متنقلة على عجل. ما أتسعها! لقد كفت عن الكلام، وأغمضت عينيها الجامدتين، وأنت أنة عميقة، وحاولت أن تنهض وهي تكافح مرضا مضاعفا. والذهب الذي يكلل رأسها ويخطف الأبصار يرسل ألسنة من النار التي لا تبقي ولا تذر. والقميص الموشى المطرز، الذي قدمه إليها ولداك، يشوي لحمها شيا. ثم نهضت من مقرها، والنار تتأجج حولها، وهزت خصلات شعرها المشتعلة، ومالت برأسها يمينا ومالت به يسارا، وحاولت أن تلقي عن رأسها التاج، ولكن الذهب الذي كان يتحوط رأسها كان شديد الالتصاق. ولما هزت رأسها ازداد لهيب النار المشتعلة واندلع لها لسانان. وأخيرا صرعتها آلامها فخرت فوق الأديم، وما أبعد الشبه بينها وبين صورتها السابقة. إن عين أبيها لا تكاد تميز ابنته. لقد انطفأ بريق عينيها، وذوى ورد خديها، وتدفقت من رأسها الدماء ممزوجة بالنار، وذاب لحمها قطرات فاسدة كقطرات الندى فوق أشجار الصنوبر، وانحل جسدها من أثر السم الزعاف، ما أروعه منظرا! وقد خشي كل امرئ أن يمس جسدها حذرا من آلامها. ولكن الأب البائس كان يجهل كل ما لحقها من شقاء، فسارع الخطى، وولج غرفتها، وانقض على جسمها يصيح صيحة الحسرة والأسى، وضمها إلى صدره، وقبلها ثم خاطبها قائلا: «ابنتي، ابنتي البائسة، أي إله قاس قضى عليك هذا القضاء؟ من ذا الذي حرمني منك فأحنى ظهري الضعيف - وأنا شيخ كبارة - ورمى بي إلى قبري؟ وا حسرتاه يا بنيتي! لا بد لي أن أموت معك!» ثم سكت عن ولولته الحزينة وحاول أن ينهض بجسمه الذي أضعفته السنون، ولكن الثوب المطرز تعلق به كما يتعلق نبات اللبلاب ويلتف حول غصون الغار. وأخذ يناضل نضالا مريعا، وحاول أن ينهض على ركبتيه. ولكن الثوب جذبه إلى الوراء. ولو أنه حاول أن يستخدم قوته بجهد عنيف لنزع الثوب لحمه المسن عن عظامه. وأخيرا استلقى في إغماء بغير حراك، ولفظ حياته البائسة، وقد أنهكته الآلام وأوهنته. وهكذا استلقت الابنة وأبوها الأشيب وقد طواهما الردى. ويا له من منظر يستدر الدموع. والآن بعدما سمعت قصتي يا مولاتي، اهربي من هنا ، واختفي، وإلا فثقي بأن الانتقام سيحل برأسك. وليست هذه أول مرة أدرك فيها أن شئون الأحياء جميعا إن هي إلا خيال، ولست أخشى أن أقول إن أولئك الذين يبالغون في الافتخار بالحكمة وبعمق البحث هم أكثر الناس ضلالا في تيه الجهل والنزق. ليس أحد من الأحياء سعيدا، وإذا كان تيار الثروة يتدفق عليه تدفقا، فقد يكون أوفر من غيره حظا، ولكنه لن يكون سعيدا.
الجوقة :
اليوم ستصب الآلهة على جيسن مختلف النقم، وهي فيما تفعل عادلة، ولكنا نرثي لك ونرثي لما حل بك من نوائب يا ابنة الملك الشقية؛ فقد انحدرت إلى دار «بلوتو» - دار الفناء - الموحشة، بعيدة عن جيسن وبعيدة عن سريرك الزوجي.
ميديا :
لقد عقدت العزم يا صديقاتي على هذا العمل، أن أقتل ولدي بأقصى سرعة، ثم أفر مسرعة من هذه البلاد. ولن أتوانى متراخية وأتركهما كي يلاقيا حتفهما بيد أكثر من يدي عداوة. ولما كان لا مفر لهما من الموت - إذ لا بد لهما أن يموتا - فليلاقيا الموت على يدي أنا التي وهبتهما الحياة. وأنت يا قلبي تسلح بالعزيمة، ولا تجعل للضعف والإحجام إليك سبيلا، ولا تؤجل عملا إن يكن مفزعا فهو ضرورة لازبة. هيا أيتها اليد الشقية، امتشقي الحسام، واقبضي عليه، وسيري بي إلى نهاية الحياة البائسة. لا تهني، ولا تفكري في ابني المسكينين. آه، ما أعزهما لدي. لا تذكري ابنيك هذا اليوم القصير، ثم استرسلي ما شئت بعدئذ في الأحزان. إني أمد يدي الآن لقتلهما، وإن كانا لدي عزيزين. حقا، إني لشقية بائسة.
الجوقة
الفرقة الأولى :
أيتها الأرض، أيتها الشمس التي تشق عنان السماء العالية بلهيبها المتوهج، أرسلي من قرصك المتألق نظرة ترمقين بها هذه السيدة الثائرة، قبل أن تطلق لنفسها العنان وتقتل ولديها، وقبل أن تلوث يديها بدم طفليها؛ فإنهما يرجعان بأصلهما العريق إلى سلالتك الذهبية. والإنسان تأخذه رهبة الدين فيكف عن إراقة الدماء المقدسة. يا إله النور، اكبح جماح هذه النفس الطائشة، وقف في سبيلها وكبلها بالقيود، واكتسب لولديها الحياة، وأبعد عن هذا البيت الدامي «أرنايز» العسوف.
الفرقة الثانية :
عبثا ما تحملت من آلام الأمهات، وعبثا ما لاقيت من هموم ومشقات. وإنك لتحملين اسم الأم سدى، وباطلا ما تزعمين من الفخر بولديك وإعزازهما. إنك قد استطعت بقلب جسور أن تجسري على عبور ذلك البوغاز الضيق حيث تصطخب الأمواج الشديدة التي تتدفق مياهها الغزيرة بين الصخور الوعرة الحالكة، فلماذا إذن أيتها الملكة البائسة يقطر فؤادك هذا الغضب الثائر؟ إن اليد القاتلة التي تدنسها دماء ذوي القربى لن تجد لها ماء نقيا يطهرها. إن هذا البيت سيحل به الخراب عما قريب، لأن الدمار أثر من آثار نقمة السماء.
الابن الأول (من الداخل) :
ماذا أصنع؟ كيف أفر من يدي أمي؟
الابن الثاني :
لست أعلم يا أخي العزيز، لا بد لنا أن نموت.
الجوقة :
هل سمعت الصياح؟ هل سمعت صوت الطفلين؟ أيتها المرأة التعسة، إنك سيئة المصير! دعوني أدخل لهما، فأنا أحسب أنه من الحق أن أنتزع الطفلين من يديها الآثمتين.
الابن الأول :
أستحلفك بالآلهة أن تمدي إلينا الآن يد المعونة، فنحن على مقربة من السيف الباتر.
الجوقة :
أيتها التعسة، هل أنت من الحديد أم من الصخر حتى تقتلي بيديك ولديك اللذين أنجبتهما؟ إن تاريخ الزمن القديم لا يسجل غير سيدة واحدة بلغت بها حدة الغضب أن تلوث يديها بدماء أطفالها الأعزاء، وتلك هي «أينو» التي طردتها زوجة جوف وشردتها من بيتها، فقتلت أبناءها وانطلقت نحو الساحل الذي تتكسر فوقه الأمواج، ثم قذفت بنفسها في اليم الذي ابتلعها في جوفه. فهل هناك ما هو أشد من هذا هولا وفزعا؟ إن فراش النساء يولد كثيرا من الشرور، وما أكثر الويلات وما أكثر أسباب الشقاء التي يجلبها للبشر.
جيسن والجوقة
جيسن :
أيتها النسوة الواقفات قريبا من هذا البيت، خبرنني هل في البيت ميديا التي قامت بهذه الأعمال المروعة، أم هل لاذت بالفرار؟ لا بد لها أن تختفي في الأعماق تحت الأرض، أو تطير بأجنحة خفيفة خلال مرتفعات الهواء، وإلا سقطت عليها النقمة شديدة من أجل البيت المالك . هل خيل لها الوهم أنها ستفر آمنة بغير عقوبة بعدما تقتل ملوك هذه البلاد؟ ولكنها لا تعنيني كما يعنيني ولداي، فإن النقمة ستحل بها من أولئك الذين أساءت إليهم. إنما أتيت كي أنقذ حياة طفلي، خشية أن يوقع أقرباء الملك على رأسيهما العقوبة من أجل جريمة القتل التي ارتكبتها أمهما التي ليس في قلبها تقوى.
الجوقة :
ما أشقاك يا جيسن، إنك لا تعرف إلى أي حد بلغت بك الأرزاء، وإلا ما قلت هذا.
جيسن :
ماذا؟ هل تقصد أن تقتلني كذلك؟
الجوقة :
لقد لقي ولداك حتفهما على يد أمهما.
جيسن :
ويلي! ماذا تقولين؟ إنك تطعنين قلبي.
الجوقة :
اعلم أن ابنيك لم يعودا على قيد الحياة.
جيسن :
وأين قتلتهما؟ هل خارج الدار أم داخل الدار؟
الجوقة :
افتح الباب تجدهما مذبوحين.
جيسن :
أيها الخدم، افتحوا الباب في الحال، واسمحوا لي بالدخول، كي أشهد هذا الشر البليغ - مقتل طفلي - ثم أقودها إلى ما تستحق من عقاب.
ميديا (في عربة يجرها أفعوانان) :
لماذا تدق الباب وتحدث هذا الضجيج؟ هل تبحث عن ولديك بعد موتهما، وعني بعدما ارتكبت الجريمة؟ أمسك عن هذه الضوضاء. وإن كان لديك معي أمر فصرح به، ولكنك لن تمسني بعد الآن. إن الشمس - أبي - قد أمدتني بعربة وقاية لي من كل بلد يعاديني.
جيسن :
أيتها المرأة البغيضة، إن الآلهة العادلة تمقتك، وإني لأمقتك كما يمقتك جميع البشر. لقد طعنت بسيفك طفليك، وأنت أمهما، كي تحرميني من ولدي. كيف تستطيعين بعد ارتكاب هذا الإثم الشنيع أن تواجهي الشمس والأرض؟ ألا سحقا لك! الآن عرفتك، وما كنت أعرفك من قبل، حينما استصحبتك من وطنك، وجئت بك إلى اليونان من بلد همجي، وأنت وحش ممقوت، غدرت بأبيك، وكنت خائنة للأرض التي فوقها ترعرعت. والآن تلقي «آلهة الغضب» المنتقمة على رأسي جزاء جرمك لأنك بعدما لوثت يديك بدماء أخيك ركبت متن آرجو الجسور، وكانت هذه مقدمة فعالك الطائشة. ثم اقترنت بي، وأمسيت معي أما، ولكنك قتلت طفليك انتقاما من فراشي الجديد، وهو عمل لا تجسر أن تحاوله أية سيدة من سيدات الإغريق. وبرغم هذا كنت أوثرك على كل ما لديهن من فتنة ساحرة، وتزوجت منك، فكان قراني بك بغيضا مهلكا لي. فما أنت إلا نمرة، ولست امرأة، في قلبك وحشية وهمجية تفوق ما عند «تسكان سكلا». ولكني لو لمتك ألف مرة ما كدرت قلبك الجامد الذي لا يحس. فاغربي عني، يا صانعة السوء الدنيء، فأنت حشرة ملوثة بالدماء، يلوثك دم ولديك. اغربي عني واهلكي، وسأبقى هنا أبكي مصيري الذي لا رجاء فيه؛ لأني لن أتذوق السعادة المرجوة من زواجي، ولن أرى ولدي على قيد الحياة، وهما أعز ما يعنيني؛ فقد فقدتهما إلى الأبد.
ميديا :
إني أستطيع أن أرد على كل كلماتك بالجواب الشافي، وأروي حديث كل ظرف سلف، ولكن جوف - الإله الأعظم - يعلم النعم التي أمطرتك بها، ويعلم أي جزاء منك لقيت. لن تقضي بعد اليوم حياتك الفاجرة في المسرات، وترى فراشي مهدر الكرامة، وتسخر من عاري سخرية وضيعة. ولن تجرؤ على مطاردتي من هذه البلاد عروسك الملكية أو كريون المتكبر الذي زوجها منك دون أن يلاقيا جزاءهما. فسمني إذن نمرة، أو إن شئت فسمني «سكلا» تنبح على سواحل «تسكان»، فحقا قد فطرت قلبك وأسلت منه الدماء.
جيسن :
وقلبك كذلك يدمى، لأنك ساهمت في هذه الشرور.
ميديا :
كن على ثقة من هذا، إني أجد في أحزاني لذة وإنك لا تستطيع أن تسخر منها.
جيسن :
ولدي، لقد وجدتما أما شريرة.
ميديا :
ابني، لقد أهلكتكما حماقة أبيكما.
جيسن :
ولكن يمناي لم تطعنهما بالسيف القاتل.
ميديا :
ولكن قلبك قد أساء، وطعنت ولديك بزواجك الجديد.
جيسن :
ومن أجل هذا الزواج قتلت ولدي؟
ميديا :
وهل تحسب هذا على المرأة ألما طفيفا؟
جيسن :
هو كذلك على المرأة العاقلة، ولكن كل شيء لديك شر.
ميديا :
لقد قضى ولداك، وسيفطر موتهما قلبك.
جيسن :
إن شبحيهما سيصبان النقمة على رأسك.
ميديا :
تعلم الآلهة العادلة أينا بدأ هذه الآثام.
جيسن :
وتعلم الآلهة قلبك اللعين.
ميديا :
أنت وحديثك المرير بغيض لدي.
جيسن :
وكذلك أنت لدي. ولا بد لهذا من نهاية سريعة.
ميديا :
وكيف ذلك؟ فإني أحب أن أتحرر من رؤيتك.
جيسن :
أعطيني ولدي كي أبكيهما وأداريهما التراب.
ميديا :
لن يكون هذا أبدا، وسأدفنهما بيدي هذه فوق التل الذي يبارك أرضه معبد «جونو»، حتى لا يصيبهما غضب الأعداء ويسيء إلى رفاتهما ويخرجهما من قبريهما. وسوف أولم فيما بعد وليمة كريمة وأقدم الضحايا لهذه البلاد كي أكفر عن هذا القتل الشنيع، وفي البلاد الحبيبة، التي كان يحكمها أركثيوز في يوم من الأيام، سأجد بيت أيجيوز بن ياندين مفتوحا يتلقاني، وإلى هناك سوف أنطلق. أما أنت فسوف تموت ميتة وضيعة تستحقها لما قدمت من سوء الفعال، وسوف يتهشم رأسك السافل تحت أنقاض سفينتك «أرجو» البالية، وسوف تشعر بهذه النهاية البائسة لزواجنا.
جيسن :
أرجو أن تهلكك «أرنايز» والدماء، كما تهلكك العدالة التي تطلب انتقاما للدماء.
ميديا :
أي إله يصغي إليك، وأي رب من أرباب الغضب؟ وأنت خائن وضيع غدرت بحقوق العشرة والإكرام؟
جيسن :
بعدا، بعدا، أيتها الحشرة الممقوتة، يا من قتلت ولديك.
ميديا :
انطلق إلى دارك، وادفن زوجتك.
جيسن :
وا حسرتاه! ها أنا ذا أذهب بعدما حرمت ولدي.
ميديا :
أرجو أن يلازمك هذا الغم حتى تبلغ أرذل العمر.
جيسن :
ولدي العزيزين!
ميديا :
كلا، بل لقد كانا لدى أمهما عزيزين، ولم يكونا كذلك لديك.
جيسن :
ومن أجل هذا قتلتهما؟
ميديا :
كي أفطر قلبك.
جيسن :
ويلي، ويلي من بائس! إني أتوق أن أقبل وجنات ابني العزيزين.
ميديا :
الآن تحب أن توجه إليهما الخطاب، وتود أن تعانقهما، وكنت بالأمس تريد أن تبعدهما عن ناظريك.
جيسن :
أستحلفك بالآلهة أن تعطيني إياهما أمس بشرتيهما الناعمتين الرقيقتين؟
ميديا :
كلا، لن يكون هذا. وليست كلماتك إلا هباء.
جيسن :
هل سمعت بهذا يا جوف. أرأيت بأي صلف وحنق نبذت، وبأية إهانة أساءت إلي هذه النمرة البغيضة التي قتلت ولديها! ولكن - برغم هذا - سأرثيهما ما استطعت وما وسعتني قواي، وسأقبع هنا وأبكيهما، وأشهد الآلهة المنتقمة على أنك بعدما قتلت ولدي أنكرت علي أن أمس جسديهما وأن أودعهما القبر. وددت لو أني لم أعقبهما حتى أراهما هكذا يقتلان على يديك.
الجوقة :
إن جوف في السموات العلا يقسم علينا مختلف المصائر. والآن تمطرنا الآلهة بالنعم التي لم تجرؤ أن تطمح إليها آمالنا، وهي الآن تكبح الشرور التي كنا نحسب ألا مناص منها، وهكذا قدر الله لهذين الزوجين عاقبة لم تدر لنا بخلد. وهذا هو مصير هذا اليوم المريع.
هبوليتس
تمهيد
قام هركيوليز على رأس حملة على أمازون، وصحبه في هذه الحملة ثيسيوز. وفي أثناء القتال التقى ثيسيوز بهبوليتا وشغفها حبا، وهامت به وهام بها، فتزوج منها وعادا معا إلى أثينا. وولدت له طفلا أسمته هبوليتس. وتولى تربية هذا الأمير بثيوز الفيلسوف، فنشأ الغلام كريما كأبيه، طاهرا كأمه، واتصف بالشجاعة، وتحلى بكل فضائل الرجولة. ولم يكن به سوى عيب واحد أودى بحياته في نهاية الأمر، كان كريما سمحا للناس جميعا، غير أنه كان يبغض النساء، ولا تجد عاطفة الحب الجنسي الرقيقة إلى قلبه سبيلا، ثم إنه يقدس الآلهة جميعا، ويخص منها بعبادته ديانا، ويستثني فينس إلهة الحب ويهملها ولا يأوي إلى معابدها، فغضبت منه هذه الإلهة وعملت على موته. ويرمي الكاتب من وراء هذا إلى استحالة إغفال الغريزة الجنسية، ويقصد أن ينبهنا إلى عدم التقصير في أية ناحية من نواحي الدين، وأن يعنى بنو وطنه بالآلهة جميعا، فيجعل فينس تقول:
أولئك الذين يقدمون لي فروض الطاعة ويعترفون لي بالسلطان ينالون مني الشرف والإكرام. أما أولئك الذين يشمخون بأنوفهم علي كبرا وصلفا، فلهم مني شديد العقاب، لأنا معشر الآلهة كبني الإنسان تبتهج قلوبنا حينما يتقدم لنا الأحياء خاضعين خاشعين.
وماتت هيوليتا وتزوج ثيسيوز من فيدرا ابنة مينس ملك كريت. وما إن وقعت عينا هذه الأميرة على الأمير الشاب - هبوليتس - حتى هامت به وشغفته حبا، ولكنها أخفت عاطفتها؛ لأنها كانت تدرك أنها عاطفة غير نبيلة، كما كانت تحس بكرامتها، وتخشى الفضيحة والعار. وحاولت أن تحكم عقلها وفضيلتها في هذه العاطفة الجامحة. ولما لم تستطع هذا عزمت أن تقتل نفسها. وهي إلى هذا الحد بريئة وإن تكن عاثرة الجد. وقد أججت هذه العاطفة في صدرها فينس انتقاما من هبوليتس الذي كانت تمقته لإهماله إياها.
وأخيرا استطاعت مربية فيدرا أن تظفر منها بالسر الذي كانت تكنه في صدرها، وأفضت به إلى الفتى رغم تحذير مولاتها الشديد. فارتاع هبوليتس لهذا النبأ وأعلن سخطه على شعور فيدرا الذي يناقض كرامة الأخلاق. وهكذا ذاع سر فيدرا، فصممت على الانتحار السريع، ولكنها أرادت أن تبرئ نفسها مما قد ينسب إليها بعد موتها، فكتبت رسالة وأمسكت بها في يدها قبل أن تموت، واتهمت هبوليتس إلى أبيه أنه اعتدى على فراشها عنوة. وهكذا تنتهي هذه المأساة التي كان مبعثها صراع بين عاطفة دنيئة وعقل نبيل؛ فقد كانت فيدرا امرأة فاضلة تخشى الفضيحة والعار، ولكنها لم تخل من حقد تحمله في قلبها لهبوليتس لإعراضه عنها وإهماله إياها. وقد أرادت باتهامها هذا الأمير الشاب أن تموت نبيلة موفورة الكرامة، وألا يلحقها العار والشنار، وألا تسيء إلى شرف أبنائها أو أهلها الأكرمين. ولكن هذا الاتهام الباطل يدل على أن الرذيلة إذا لم تقمع في أول أمرها، اشتد إلحاحها ومازجتها ثورة الغضب، وانتهت بإطفاء جذوة الفضيلة، وكانت العاقبة وخيمة وبيلة.
أشخاص الرواية
فينس.
هبوليتس.
جماعة من الخدم.
فيدرا.
المربية.
ثيسيوز.
الرسول.
ديانا.
الجوقة: وهي تتألف من بعض فتيات من تروزين.
المنظر
عند مدخل قصر بثيوز في تروزين. ***
فينس :
إني فينس إلهة جليلة الشأن في السماء، ونفوذي بين البشر عظيم، سواء في ذلك من تسقط عليهم أشعة الشمس المضيئة وراء البحار ومن يقطن فوق سواحل الأطلنطيق. أولئك الذين يعترفون بسلطاني ويبجلونني ينالون مني الإكرام والشرف. أما أولئك الذين يشمخون بأنوفهم علي كبرا وصلفا فلهم مني شديد العقاب؛ لأنا معشر الآلهة كبني الإنسان، تبتهج قلوبنا حينما يتقدم لنا الأحياء خاضعين خاشعين. والآن سأبرهن على صدق هذه الكلمات: إن ابن ثيسيوز - هبوليتس - الذي يجري في عروقه دم الأمازون، والذي تلقى العلم على بثيوز الطاهر، وحده من بين أولئك الذين يقطنون داخل جدران تروزين جميعا يتحداني ويحسبني أقل الآلهة شأنا، ويحتقر الحب ويزدري فراش الزواج، في حين أنه يرفع دعواته إلى ديانا أخت أبولو ويكرمها ويعدها أعظم الآلهة. وما زال يرافق هذه العذراء حين يرتاد الغابات الخضراء، ويطرد الوحوش من مخابئها بكلابه سريعة العدو، وقد ارتفع بطموحه إلى أعلى مما تستطيع قدرة البشر. بيد أنه لا يثير بهذا الحسد في صدري، ولست أقيم لهذا السلوك وزنا. ولكني اليوم سأصب على رأس هبوليتس نقمتي لما قدم نحو سلطاني من إهانة. وسأبذل في هذا الأمر جهدا طفيفا؛ فقد أعددت عدتي من زمان بعيد؛ ذلك أنه خرج مرة من بيت بيثيوز ليحتفل بالطقوس المقدسة ويرعاها، فرأته في أثينا فيدرا الحسناء زوجة ثيسيوز، فاشتعلت في قلبها نار الحب الملتهبة، وتلك كانت إرادتي. وقبل أن تقبل هنا إلى تروزين أقامت هناك معبدا لفينس على مقربة من صخرة بلاس التي تشرف على هذه الأرض، وقد شرد فؤادها الهوى. وستروي الأيام المقبلة أنها أقامت هذا المعبد للآلهة من أجل هبوليتس. ولما قتل ثيسيوز أبناء بلاس هجر بلاد سيركوبيا كي يكفر عما أراق من دماء، ثم أخذ سمته مع زوجه إلى هذه البلاد، مريدا لنفسه النفي حولا كاملا. حينئذ تنهدت فيدرا، وأحس قلبها بآلام الحب، ولكنها أخفت كربة نفسها، وفي الكتمان ذابت أسى وحسرة. ولم يعرف واحد من خدامها سبب علتها. إن هذا الحب لن يضيع سدى، ولسوف أطلع عليه ثيسيوز، وسوف يذاع بين الناس، وسوف يقتل الأب عدوي هذا ويصب عليه اللعنات. وقد وهب ملك البحر «نبتيون» ثيسيوز هذه المنة؛ أن يتقدم إليه بمطالب ثلاثة، ولن يخفق في تحقيقها جميعا.
1
وقد بلغت فيدرا أوج الشهرة، وبرغم هذا فسيكون نصيبها الموت معه. إني لا أعطف على حياتها عطفا يردني عن أن أصب نقمتي على خصومي كما أشاء وأهوى.
ولكني أرى الآن هبوليتس ابن ثيسيوز هذا مقبلا، وهو من الصيد عائد، وسوف أنصرف؛ لأني أرى برفقته رتلا من الشباب يرفعون عقيرتهم بالغناء اللجب لديانا. إنه لا يكاد يدرك أن أبواب جهنم مفتوحة، وأنه لن يطالع هذه الشمس بعد اليوم.
هبوليتس والخدم
هبوليتس :
اتبعوني، اتبعوني، اتبعوني، وتغنوا لديانا بالنشيد؛ فهي ربة الصيد، وتعدنا من أتباعها.
الخدم :
حياك الله يا ديانا ثم حياك، يا ربة الصيد العذراء، أيتها الملكة التي تتحلى بكل صفات النبل والكرامة، أيتها الإلهة المقدسة، يا ذات القوة والنفوذ الرهيب، يا من حملتك لاتونا لجوف، أنت أجمل العذارى اللائي يسبحن في ممالك السماء المضيئة العريضة، ويتشرف بهن بلاط جوف الذهبي.
هبوليتس :
حياك الله يا ديانا. أيتها العذراء ذات الرونق والبهاء، أبرع الحور اللائي يتألقن حسنا في السموات العلا مغمورات بضياء الجمال!
إلهتي! لقد أتيت إليك بهذا التاج تتحلين به، وقد ضفرته من مختلف الزهور التي تزين المروج المعشبة، حيث لم يجرؤ راع أن يطلق قطعانه ترعى، وحيث لم يسقط على العشب منجل. هناك يحوم النحل كيفما شاء فوق زهور الربيع التي لم تقطف، والطبيعة السمحة تجري نهرا لا يجف ماؤه، وليس للفن الزائف هناك نصيب. من هذه الزهور يستطيع الأبرياء أن يجمعوا ما شاءوا، ولكنها حرام على من لا يتصف بالنقاء. أيتها الملكة الكريمة، تقبلي هذا الإكليل من يدي النقية، تتوجين به خصلات شعرك الذهبي؛ فأنا وحدي من بين الأحياء جميعا منحت هذا الشرف، وهو أن أصاحبك، وأن أتحدث إليك حديثا حرا، وأن أستمع إلى صوتك، وإن كان لا يجوز لي أن أطالع وجهك. أرجو أن تنتهي حياتي نقية كما بدأت.
أحد الخدم :
أيها الأمير الشاب - ونحن لا ندعو غير الآلهة بالسادة - قل لي: هل تصغي إلى نصحي؟
هبوليتس :
بكل ترحاب، وإلا كنت غير حكيم.
الخادم :
هل تعرف القانون العام الذي كتب على الإنسان؟
هبوليتس :
لست أعرفه، ولا أدرك ما تعني بهذا السؤال.
الخادم :
ذلك أن المرء يمقت من يتعالون عليه ويأنفون أن يدخلوا على قلبه السرور.
هبوليتس :
وهذا حق، لأنا جميعا ينبغي أن نمقت المتشامخين.
الخادم :
وهل لدى الشخص الودود فضل؟
هبوليتس :
فضل عظيم، وهو يظفر به بقليل من العناء.
الخادم :
وهل تظن هذا يبلغ الآلهة؟
هبوليتس :
لا بد أن يكون ذلك، لأنا من الآلهة نستمد القواعد.
الخادم :
ولماذا إذا لا تخاطب هذه الربة المتعالية؟
هبوليتس :
أية ربة؟ احذر من الإساءة.
الخادم :
فينس، التي تقف عند بابك.
هبوليتس :
إني أحييها على بعد محتفظا بطهارتي.
الخادم :
ومع ذلك فهي تتعالى، وصيتها بين الناس ذائع.
هبوليتس :
كل امرئ يقدس من شاء من الآلهة ومن شاء من الرجال.
الخادم :
لو كانت آراؤك كما ينبغي أن تكون لبورك فيك.
هبوليتس :
إن الإله الذي يقدس في ظلمة الليل لا يدخل على قلبي السرور.
الخادم :
إن شرف الآلهة ينبغي أن يكون مقدسا.
هبوليتس :
اذهبوا يا رفاقي، ومروا تحت هذه القبة، وأعدوا الطعام؛ لأن المائدة الغنية بالطعام بعد الصيد مشكورة. ولا بد أن أرى خيلي مطهمة وأن أدربها - بعد أن أتناول وجبتي - على جر العربة. أما فينس، فإني أودعها هنا.
الخادم :
ولكنا يا فينس يا ربة الجلال نتقرب بدعواتنا لتمثالك ونحمل لك في أفئدتنا إجلالا يلائم مقامنا الوضيع - وما ينبغي لنا أن نتبع مثال الشباب - ويليق بك أن تعفي عنه إن كان في حديثه نزق دفعه إليه الشباب المتهور. ولتظهري كأنك لم تسمعيه، فمن اللائق بالآلهة أن يكونوا أكثر من أبناء الفناء عقلا وحكمة.
الجوقة
الفرقة الأولى :
هناك صخرة تتدفق من قاعها المنخفض الينابيع الفوارة، ومن أعلاها ندلي الجرار حتى تبلغ أسفل الجدول. ولي صديقة أتت إلى هذه الينابيع بقمصانها المحلاة باللون الأرجواني اللامع كي تغسلها هذه القطرات الندية كالبلور. ثم نشرت هذه الثياب ذات الألوان الزاهية على حافة الصخرة المرتفعة وعرضتها لأشعة الشمس الدفيئة.
الفرقة الثانية :
وهي أول من حمل إلينا هذا النبأ، وهو أن الأميرة الملكية تستلقي على فراش المرض في غرفتها في فتور ووهن، وهي تتحاشى كل العيون وترسل على رأسها الذهبي نقابا خفيفا. وقد امتنعت شفتاها الملائكيتان ثلاثة أيام عن الطعام يذيبها الأسى، وهي تشكو ألما خفيا وتنتظر الموت يفرج كربتها.
الفرقة الأولى :
أيتها الملكة التعسة، إن إلها ما قد أجج هذه النار في صدرك، فشققته أهوال بان المفزعة، أو تسلطت عليه هكيتي، أو تحكم فيه نفوذ الأم «سبل» التي تتجول فوق الجبال وهي تهذي. أو ربما أرسلت ملكة الصيد هذا الألم وقد أهملت طقوسه المقدسة، وهي تتجول على سواحل البحيرات وفوق المرتفعات وعلى متن المحيط الأجاج.
الفرقة الثانية :
أم هل انقاد مولاك الزعيم الأثيني للمتعة الضالة؟ فهل أنت من أجل هذا تسترسلين في الأحزان وترثين لفراشك الذي أسيء إليه؟ أم هل شقت عباب الماء سفينة ورست عند خليج تروزين الحبيب تحمل إليك نبأ يفطر فؤادك؟ أم هل سمعت مليكتي بحادث مؤلم وقع في كريت يفتت قلبها، فأوت إلى فراش المرض؟ (نشيد):
إن الغم الجنوني كثيرا ما يؤثر أن يستقر في قلوب النساء، فيكتئبن رعبا وفرقا؛ وذلك حينما تدور الأشهر دورتها الكامل وتنبئ بأن ساعة الوضع الأليمة تقترب. وقد عانيت هذه المخاوف وهذه الآلام من قديم. ولكني كنت دائما أضرع إلى العذراء السماوية التي تحب إرسال السهام (ديانا)، فتخف إلي ديانا وتقدم لي يد المعونة الرحيمة، وتسوق معها تلك القوى التي تقوم على رعايا سرير الزواج.
ولكن انظروا! إن المربية العجوز أمام الأبواب تسندها وهي تخرج من دارها، وإن سحابة كئيبة كثيفة تحلق فوق جبينها، وإني أحب أن أعرف ماذا عسى هذا الأمر أن يكون، ولماذا ذبلت من فوق وجنتي هذه الملكة الشقية الزهرات التي سرعان ما تزول.
فيدرا والمربية والجوقة
المربية :
أيها التعساء في دار الفناء! أفهكذا تذبل زهراتكم من أثر المرض العضال! ماذا أفعل وعن أي شيء أمتنع كي أوفر لك راحتك؟ هنا تستطيعين أن تشهدي نور السماء، وهنا تستنشقين عليل الهواء. هنا أمام الدار هات فراش المرض لأنك كثيرا ما طلبت أن تحملي إلى هنا، لتعودن إلى غرفتك سريعا لأنك متقلبة الأهواء ولا شيء يبعث في نفسك السرور. إن كل ما نقدم إليك لا يسرك، وإنك لتتوقعين الخير من عالم الغيب. إن للمريضة ميزة على من يقوم بتمريضها؛ فهي مريضة فحسب، أما الممرضة فهي بحاجة إلى انتباه الفكر كما هي بحاجة إلى العمل بيديها. غير أن حياة الإنسان كلها مليئة بالآلام، ولا تقف المشقة عند حد. وإن كان هناك ما هو أثمن من الحياة فهو مغمور في الظلام مختف وراء الغمام. ولسنا نصيب إذا كان ضياء الشمس يستهوينا حين يرسل شعاعه الذهبي فوق هذه الأرض، كما أنا لا نعلم ما يكنه لنا الغد، ولم نطلع على شيء مما تبطنه الممالك السفلى، وكل شيء تكتنفه الأساطير التي تبعث الحيرة في النفوس.
فيدرا :
احملنني يا صديقاتي، وأسندن رأسي؛ فقد خارت قواي. وأنت يا من تقومين على خدمتي أمسكي بيدي النحيلتين. ما أثقل هذا الرداء! إن رأسي يحمله بمشقة، انزعوه عني حتى تسترسل هذه الخصلات المجعدة. ويلاه!
المربية :
تشجعي يا ابنتي، ولا تضني أطرافك الضعيفة بهذه الحركة وهذا الضجر، فإنك لو استقررت في هدوء وسلحت بالصبر فؤادك، كان المرض عليك أخف وطأة. فليس في هذه الدنيا الفانية من يخلو من مكافحة الآلام.
فيدرا :
كم أتمنى أن أتجرع الماء البارد من النبع الصافي، وأن يضجع رأسي فوق الشاطئ المعشب تحت ظلال أشجار الحور.
المربية :
ماذا تعنين بهذا التمني، لا تبوحي بمثل هذه الكلمات للكثير؛ فإنها تنم عن اضطراب شديد.
فيدرا :
احملوني إلى الجبل، إلى أشجار الصنوبر؛ فإني إلى الغابة أريد أن أذهب، حيث الكلاب سريعة العدو تطارد الغزلان المرقشة. أقسم بالآلهة أني أتوق إلى تحية كلاب الصيد، وأن ألوح فوق خصلات شعري اللامعة بسهم من تساليا، وأن أمسك بالحربة المدببة بين يدي.
المربية :
من أين لك هذه الرغبة وهذا الغرام بالصيد؟ ولماذا تودين لو شربت جرعة باردة من مياه النبع الصافي؟ إن المياه الدافعة تتدفق في الجدول الدائم إلى جوار القلعة. ومن مياه هذا الجدول تستطيعين أن تروي غلتك.
فيدرا :
أي ديانا، يا إلهة البحيرة المقدسة، وسباق الفرسان! إني أتحرق شوقا إلى ترويض خيول هنشيا في حقولك.
2
المربية :
لماذا تعودين إلى هذه الكلمات الهمجية؟ إنك حتى الآن لا تتوقين إلا إلى الجبل وإلى الصيد، وإلى ترويض الخيول فوق هذه الرمال القاحلة. إن هذا الأمر لا يدرك كنهه إلا إله يتغلغل في ثنايا عقلك الهائج المضطرب.
فيدرا :
ماذا فعلت؟ حقا إني لشقية. إلى أين انحرفت عن صواب رشدي؟ إني كنت أهذي. إن إلها غاضبا قد أصابني بهذه البلية. آه، ما أتعسني! استري رأسي مرة أخرى بيدك الرفيقة، فإني أشعر بالخجل مما تفوهت به. استريني. إن دمعة تتدفق من عيني، كما أني أحس بدم الخجل الدفيء يتدفق في وجنتي. ما أشق ذلك على النفس حينما يسترد العقل سالف قدرته! إن الجنون مريع، ولكنه شر خفيف الوقع؛ لأنه يفقدنا الإحساس بالكوارث.
المربية :
ها أنا ذا أستر رأسك مرة أخرى، فمتى يستر الموت جسمي. لقد تعلمت الكثير خلال عمري المديد. إن خير ما يلائم حياة الإنسان صداقة متبادلة تقوم على أساس من الاعتدال، فلا تمتد جذورها في أعماق النفوس، محبة تنفك أواصرها في يسر، وتتوثق عراها حينما نشاء؛ لأنه عبء ثقيل على قلب واحد أن يحس بآلام اثنين. وإني لشديدة الأسف على مولاتي. إنهم يقولون إن الغرام الذي يعمر القلب طوال الحياة يجلب الألم أكثر مما يجلب السرور، كما أنه على صحة المرء حرب عوان. ولذا فإن ثنائي على المغالاة أقل من ثنائي على ما يصدر عن الاعتدال. وهذا ما يقرر الحكماء.
الجوقة :
أيتها المربية العجوز، إنك أخلصت منذ حداثتك لفيدرا ذات النفوذ والسلطان، وإنا لنشهد آلامها القاسية، ولكنا لا نرى عرضا يشف عن نوع المرض، ونحب أن نستفسر عن هذا، ومنك نريد المعرفة.
المربية :
لست في هذا الشأن على تمام الثقة، وهي به لا تبوح.
الجوقة :
ولكن ماذا عسى أن يكون السبب في آلامها؟
المربية :
لست أعرف هذا، فهي تخفي كل شيء.
الجوقة :
إنها تذوي من أثر علتها.
المربية :
لم يمس شفتيها طعام لثلاثة أيام طوال.
الجوقة :
وهل هذا من أثر المرض، أم هل اعتزمت أن تموت؟
المربية :
لا بد أن تنتهي حياتها سريعا بسبب امتناعها عن الطعام.
الجوقة :
لا شك أن هذا لا يسر مولاها.
المربية :
إنها تخفي كل شيء، ولا تتحدث عن علتها.
الجوقة :
ولكن لا بد أنه يلاحظها حينما يبصر وجهها.
المربية :
حدث أنه غائب عن هذه البلاد.
الجوقة :
هل كنت جادة حينما حاولت أن تتبيني علتها، وما يضني فؤادها؟
المربية :
حاولت ما وسعتني الحيلة، فذهبت محاولاتي أدراج الرياح. ولكني - برغم هذا - لن أخفف من حماستي لها، حتى تشهدن بأي عطف أشاطر مليكتي البائسة آلامها. بنيتي العزيزة، دعينا ننسى ما قالته كل منا، واستعيدي طبيعتك الحلوة الرقيقة، وأبعدي عن جبينك هذه السحب القاتمة، ولا تصري على ما أنت فيه. وإن كنت في أمر من الأمور لم أظهر لك الطاعة الواجبة، فلن أعارضك بعد هذا، وسأحاول جهدي أن أسمعك من الكلمات ما يبعث في نفسك السرور. وإن كانت علتك من تلك العلل التي لا يصح أن تروى، فهؤلاء النسوة على استعداد لأن يخففنها عنك. وإن كانت مما يجوز لنا أن نذكره للرجال في صراحة، فبوحي بها كي نستدعي الطبيب الماهر فيأتينا بمعونة الطب؟ لماذا أنت صامتة؟ لا ينبغي لك أن تصمتي هكذا. إن كنت قد أصبت القول فاستجيبي لي. ما بك! تكلمي وانظري إلي. ما أشقاني!
صديقاتي النسوة، إني عبثا أحاول، ولم أظفر بأكثر مما ظفرت من قبل. إن كلماتي لم تخفف من قبل عنها الألم، وهي الآن لا تعيرها الإصغاء. ولكن اعلمي أنك لو بقيت عنيدة كموج البحر، وإن أدركتك المنية، فإنك بذلك تسيئين إلى أبنائك، ولن يكون لهم نصيب في إرث أبيهم العظيم. وإني أقسم لك بالملكة الأمزونية المحاربة إني صادقة؛ لأنها خلفت ولدا سوف تكون له السيادة على أبنائك. وحقا لقد كان ابنا غير شرعي، ولكنه نبيل الفكر، وإنك لتعرفينه حق المعرفة، ذلك هو هبوليتس.
فيدرا :
ويلتاه!
المربية :
هل هذا يمس قلبك؟
فيدرا :
لقد حطمتني. وإني أستحلفك بالآلهة ألا تسمعيني هذا الاسم مرة أخرى.
المربية :
هل أدركت هذا؟ إذن لقد أصبت الحكم. فلماذا إذن لا تعملين على مصلحة أبنائك وتنقذين حياتك؟
فيدرا :
إني أحب أبنائي، ولكن عاصفة أخرى تثور فوق رأسي.
المربية :
هل يداك يا بنيتي بريئة من الدماء؟
فيدرا :
يدي طاهرة، ولكن قلبي دنس.
المربية :
هل أصابك أعداؤك بشر غريب؟
فيدرا :
إنما حطمني صديق، وكلانا لم يقصد الإساءة.
المربية :
هل آذاك ثيسيوز بإساءة ما؟
فيدرا :
وددت لو أني لا أسيء إليه!
المربية :
أي باعث مريع يجعلك تؤثرين الموت؟
فيدرا :
دعيني وخطئي، فإني لا أخطئ في حقك.
المربية :
إن هذا لا يرضيني، ولو رضيت لكنت مقصرة في واجبي نحوك.
فيدرا :
ما هذا؟ هل أنت ترغمينني؟ ولماذا تلازمينني كل هذا التلازم؟
المربية :
إني أتشبث بركبتيك، ولن أتخلى عنهما.
فيدرا :
لو علمت بآلامي لحاقت بك الشرور.
المربية :
وهل يمكن أن يحل بي من الشر ما هو أكثر من فقدك؟
فيدرا :
آلامي تحطمك، ولكنها تجلب لي المجد.
المربية :
ولماذا إذن تخفينها، إن كان فيما أسألك خير؟
فيدرا :
لأني لا بد أن أهوي من المجد إلى هوة العار.
المربية :
بوحي بها إذن، وسوف يزداد مجدك.
فيدرا :
اذهبي عني، وبحق الآلهة كفي عن هذا، واتركي يدي.
المربية :
لن أفعل هذا، حتى تجيبي لي مطلبي.
فيدرا :
إذن لأخبرنك لأني أبجل هذه اليد الضارعة.
المربية :
ومن واجبي أن أصغي إلى كلماتك وأنا صامتة.
فيدرا :
ما أشقاك يا أمي! أي حب وقعت فيه؟
المربية :
لقد أحبت عجلا، أو ماذا تقصدين؟
فيدرا :
وأنت يا أختي الشقية، يا زوجة باكس!
المربية :
لماذا تذكرين يا بنيتي ما يعير ذويك؟
فيدرا :
أنا ثالثة من يحل بهن سوء المصير.
المربية :
إن قلبي يخور، في أي اتجاه تسوقين الحديث؟
فيدرا :
هنا مبعث الألم الذي يسحق قلبي، وهو ليس علي بجديد.
المربية :
ولكن لم أعلم بعد شيئا مما أريد أن أسمعه.
فيدرا :
آه! هل لك أن تخبريني ماذا أقول!
المربية :
إني لا أتكهن ببواطن الأمور.
فيدرا :
آه! خبريني ما هذا الذي يسميه الناس الحب؟
المربية :
إنه أحلى المتع وأقسى الآلام.
فيدرا :
لقد علمتني الخبرة أن أحس بأحد الشقين.
المربية :
ماذا تقول طفلتي؟ هل أنت إذن تحبين رجلا من بين الرجال؟
فيدرا :
من ابن الملكة الأمزونية هذا؟
المربية :
هبوليتس.
فيدرا :
لقد سميته أنت، ولم أسمه.
المربية :
ويلي! ماذا تقولين؟ لقد جلبت على قلبي أعظم الشقاء. كلا. إن هذا لا يحتمل. صديقاتي النسوة، هل أحتمل هذا وأبقى على قيد الحياة. إن النهار بغيض على نفسي، وكذلك هذا النور بغيض. سأقذف بنفسي، وألقي بها إلى أسفل سافلين وأترك هذه الحياة. وداعا، لست بعد الآن من الأحياء؛ لأن امرأة عاقلة متواضعة وقعت في شراك الحب، وحقا إنه لشر لم ترده. أفليست فينس إذن إلهة؟ كلا. إن كان هناك ما هو أقدر من الآلهة، فتلك هي. فقد قضت على الملكة مولاتي وعلى كل من بالدار.
الجوقة :
هل سمعت هذا، هل سمعت كلاما لا يليق أن يطرق مسمعيك؟ هل سمعت السيدة الملكية تبوح بآلامها وما كان أحراها أن تخفيها بصمتها؟ وددت لو أن المنية أدركتني قبل أن تحيد صاحبتك عن الحكمة الرشيدة إلى هذا الحد البعيد. ويلتاه! أي حزن يفتت كبدي. إن الآلام حليفة حياة الإنسان. لقد حاق بك سوء المصير، كيف استطعت أن تبوحي بمثل هذه الآلام؟ ولماذا بقيت إلى اليوم على قيد الحياة؟ إن رزءا جديدا سوف يحل بهذه الدار، لأن فينس هي التي أشعلت هذه النار المهلكة. ما أنكد طالعك يا ابنة كريت!
فيدرا :
يا فتيات تروزين، يا من تقطن هذا الركن القصي من ولايات بلبس في الليل الطويل الهادئ. كم ذا جلت بفكري في فساد الحياة الإنسانية فسادا محزنا، وفي ميل البشر إلى الشر. فلم أعز ذلك إلى نقص في الطبيعة، فقد وهبت كثيرا منا الإحساس بالحق. وهدتني تأملاتي إلى هذه النتيجة: إنا نعرف الخير ونحس به، ولكنا لا نفعله. بعضنا ينقصه روح العمل من جراء التراخي، وبعضنا يؤثر المتعة المستحبة على فعل الفضيلة، وفي الحياة متع متعددة، منها الحديث المرح الذي ننفق فيه الوقت في غير طائل، والتراخي، وهو شر مستحب يجلب العار. ومتع الحياة ضربان، أحدهما ليس شرا، والآخر يؤدي بالديار إلى البؤس والشقاء. ولو أنا ميزنا هذا من ذاك في وضوح وجلاء لفرقنا بينهما ولم نطلق عليهما اسما واحدا.
كنت هكذا أهيم في بيداء الفكر العميق، وأحسب أن ليس هناك إغراء بوسعه أن يخدع عقلي، ويحمله على أن يتخلى عن مقصده النبيل. وها أنا ذا أبسط لكن ما دار بخلدي، أحسست بجراح الحب، وسرعان بعدئذ ما أخذت أفكر كيف أتحملها على خير وجه. من ذلك الحين أخفيت آلامي في طي الكتمان؛ فاللسان خداع. يسير عليه أن يقدم النصح لغيره حين يكتشف لديه الخطأ، ولكنه كثيرا ما يعود على صاحبه بالشر البليغ. ثم اعتزمت أن أحتمل جنون الحب صابرة، وأن أتغلب عليه بالعفة الصارمة. ولما لم يجد هذا في هزيمة الحب رأيت أنه أشرف لي أن أموت، ولن يلومني أحد فيما اعتزمت؛ ذلك أني ارتأيت هذا: إذا كانت فعالي فاضلة، فلا ينبغي أن تبقى مغمورة مطمورة، وإن كانت وضيعة فلا يصح أن يشهد الكثير فضيحتي وعاري. وكنت أعلم ما في هذا الهيام والغرام من فجور، وكنت أعلم أنه غرام مشين بالكرامة، ولما كنت امرأة فقد كنت أعلم أنه ممقوت مرذول. يا ليتها ماتت وعانت كل الآلام تلك التي كانت أولى من دنس سرير الزوجية بالحب الزائف! في بيوت العظماء نشأ هذا الداء، ومن هنا انتشر الوباء. وإذا لقي وضيع الفعال قبولا من ذوي المراتب العليا، عدها كل من دونهم أمورا جديرة بالمحاكاة الصادقة. وإني أمقت كذلك المرأة التي ينطلق لسانها بالعبارة الرقيقة، وهي لا تخشى أن تطوي في قلبها نية الفسق والفجور. أي فينس، أيتها الملكة، يا ابنة البحار، خبريني كيف يستطيع أمثال هؤلاء النسوة أن يجابهن أزواجهن ولا يرتعدن من الظلام الذي اتخذن منه عونا، ولا يخشين أن تجد السقوف والجدران ألسنا تذيع بها ما اقترفن من آثام؟ لن أعيش يا صديقاتي كي أجلب العار على زوجي وعلى أبنائي. كلا؛ إني أريدهم أن يعيشوا أحرارا في قلب ولاية أثينا الزاهرة، وأن يباهوا بذيوع الصيت، وأن يشتهروا بالمجد من أجل أمهم؛ لأن العقل قد ينشأ على الجرأة النبيلة، ولكنه يتخاذل مستذلا إذا أدرك ما أتت به آلام أو أتى به الأب من سيئات. والعقل الحكيم الذي يدرك قدر العدل والفضيلة يقدر الحياة الطيبة ذات الشأن الرفيع. والزمان يظهر ما يميزنا من عيوب؛ كالمرآة في يد الفتاة العذراء . وأرجو ألا أرى بين هؤلاء!
الجوقة :
ما أجمل الطهر في كل حال؛ فهو يجلب أسمى مراتب الشهرة للأحياء!
المربية :
مولاتي! لقد استولى على قلبي رعب مفاجئ، حينما سمعت أول الأمر بأحزانك. ولكني أدرك خطئي. ومن الحقائق الثابتة أن الرأي يستمد الحكمة كلما أطلنا التفكير. لا عجب ولا غرابة فيما تحسين. إن غضب الآلهة الشديد ينصب عليك انصبابا. هل تحبين؟ أي عجب في هذا! ما أكثر ما يحس بسلطان الحب. وهل أنت من أجل هذا تنبذين الحياة؟ ما أسوأ مصير من يعيش اليوم ومن يعيش في مقبل الأيام إن كان الموت منتهاهم. إن فينس - إن أقبلت بكل قواها - لا تقاوم، ولكنها رقيقة مع القلب الذي يخضع لسلطانها. أما المتكبرون الذين يتحدون نفوذها بازدراء، فهي تتملكهم وتنزل بهم شديد العقاب، وأنت بهذا جد عليمة. إنها تشق عنان السماء، وتتسلط على أمواج البحار، وكل شيء مدين لها بالوجود. إنها تبذر بذور الحب وتنبتها، وكل كائن حي على وجه البسيطة عنها نشأ. ويعلم أولئك الذين يروون تاريخ الزمن القديم، وأولئك الذين يطئون مرتاد ميوزس المقدس، كيف تعلق قلب جوف بحب سملى، وكيف مس الحب قلب أورورا الجميلة الحسناء فحملت سفلس إلى معارج السماء؟ وبرغم هذا فهما يتخذان لهما مكانا في السماء، ولم يفرا من عشرة الآلهة، بل إن هؤلاء ليعزونهما لأني أحسب أن الآلهة أنفسهم قد خضعوا لهذا السلطان، فكيف إذن لا تحتملينه أنت؟ إن أباك قد أعطاك الحياة حينما استكان للحب، فإن كنت تبغضين قيوده فالتمسي لك آلهة آخرين لهم قواعد أخرى بها يحكمون. كم رجل تظنين من أصحاب الحكمة العميقة يرى فراشه ملوثا بهذا الداء ولا يغض الطرف عنه؟ وكم والد يعين أبناءه على حب غير شريف؟ إن من الحكمة أن يمنعنا الشرف عن التصريح به. ليس من الخير للإنسان أن يسير بدقة في كل نواحي الحياة؛ فالسقوف التي أقيمت للوقاية فحسب تفتقر إلى دقة الصناعة. وكيف يبلغ شاطئ النجاة من حاقت به مثلك النوائب؟ وإن كانت الحياة قد وهبتك من الخير أكثر مما أصابتك بالشر، فهذا من فضل ربك لأنك في دار الفناء. كفي يا بنيتي العزيزة عن هذه الأفكار العقيمة، وعن هذا التأنيث؛ فإنك إن نشدت كمالا يفوق كمال الآلهة لم تبوئي بغير الملامة. وإن كان الحب قد ملك عليك قلبك فالزمي الثبات. فهذا من فعل ربة الحب، وهي على كل شيء قديرة. وإن أصابتك في الحب الآلام، فخففي عن نفسك هذه الآلام. واعلمي أن هناك طلاسم وتمائم لها قدرة عجيبة على شفاء أمراض النفوس، وسوف تظفرين من فعلها براحة الفؤاد. وما أبطأ الرجال في كشفها، ولكن ما أسرع مهارة النساء.
الجوقة :
إن ما تستحثك به يا فيدرا يسكن آلامك الحاضرة. ولكني أثني على ما سلكت، وقد يكون هذا الثناء ثقيلا على مسمعيك، وقد يبعث في نفسك ضيقا لا تبعثه كلماتها المهدئة.
فيدرا :
ما أكثر البيوت النبيلة وما أكثر المدن الآهلة بالسكان التي قوض الملق أركانها. إن المداهنة التي تسر الأسماع لا تليق بنا الآن، إنما يليق بنا ما يبعثنا على أن نعمل صالح الأعمال.
المربية :
فيم هذه النغمة المترفعة؟ ليست بك حاجة إلى الكلام المنمق، إنما أنت في حاجة إلى رجل. وسرعان ما تجدين من يعبر بلباقة عما يهمك. ولو أن هذا الداء لم يمس حياتك، ولو أن الحياء لم يستول عليك، ما سقتك إلى هذا أملا في إدخال السرور على نفسك وإشباع حبك. إنما البر أن أنقذ حياتك، فلا يلومني في هذا أحد.
فيدرا :
تبا للسانك. هلا ضممت شفتيك؟ ألا تكفين عن الدفاع عن دعواك المشينة؟
المربية :
قد تكون مشينة، ولكن فيها نصيحة لك أقيم من الشرف. إنها تنقذ حياتك وهي أهم من الاسم الذي تحبين أن تموتي من أجل كرامته.
فيدرا :
إن كلماتك مخزية وإن تكن قوية السبك، فأستحلفك بالآلهة أن تكفي عن الدفاع عن دعواك بأني أصيب لو أسلمت روحي للحب؛ لأنك لو زينت لي المسلك الوضيع بزخرف اللفظ حل بي الخزي والدمار وأنا أفر منهما.
المربية :
إن كان هذا عزمك، فما كان أحراك ألا تحيدي عن الحق. أما وقد فعلت فاقبلي حكمي، وقدمي لي على الأقل هذا الجميل. لدي في الدار عقاقير لها من نفوذ السحر ما يخفف لوعة الحب، وقد تذكرتها أخيرا، فلا تجعلي للخوف سلطانا على نفسك؛ فهي تخفف عنك عذاب الفؤاد دون أن يلحقك العار أو تؤذي في شعورك. ولكن لا بد لك أن تظفري من الشاب المحبوب بعلامة أو كلمة أو أثر من قميصه، كي نجمع بين قلبين متقاربين في حب واحد.
فيدرا :
وهل هذا الطلسم دهان أو شراب؟
المربية :
لا تطلبي المعرفة يا بنيتي، بل اطلبي لقلبك الشفاء.
فيدرا :
أخشى أن تكوني قد بالغت في الثقة بحكمتك.
المربية :
إنك لتخشين كل شيء. مم تخشين؟
فيدرا :
أخشى أن تبوحي بالسر لابن ثيسيوز.
المربية :
ضعي في ثقتك، وسأرعى هذا الأمر بعنايتي حق الرعاية. أي فينس، أيتها الملكة، يا ابنة البحار، أعينيني في هذا! ولست الآن بحاجة إلى أكثر من أن تقف صديقاتي داخل الدار على شيء مما اعتزمت.
فيدرا والجوقة
الفرقة الأولى :
أيها الحب، إنك من خلال العيون تبعث الرغبة الحارة في النفوس، كما تدخل البهجة التي تذهل الفؤاد وتسر النفس بعذوبتك. ولكن أرجو ألا تحل بقلبي وتتحكم فيه وتفلت مني الزمام وترغمني على الإذعان؛ لأن النار المشتعلة - الشمس - والشهب التي تشق بمسيرها السماء لا تستطيع أن تلاقي سهام ابن جوف حينما يرسلها من يديه بعنف في الهواء فيؤجج نيران العشق والغرام.
الفرقة الثانية :
عبثا ما يذبح الإغريق من ضحايا منذرة وما يقدمون - وهم خاشعون - من طقوس مقدسة عند جدول ألفيوس أو معبد أبولو في بثيا ذي الرونق والبهاء، فإنا بذلك لا نكرم الإله الذي يمسك في يده مقاليد الأبواب الذهبية للحب والحبور يفتحها أنى شاء، فهو إله يستبد بقلوب البشر ويعيث فسادا حيثما حل سلطانه، ويثقل الناس بالويلات فيرزحون تحت نيره الذي لا يلين.
الفرقة الأولى :
وأنت يا فخر أوكيليا وزهرتها،
3
أيتها العذراء التي لم تجرب من قبل الحب، والتي لم تسقك من قبل إلهة الزواج - هيمن - فأنت غريبة عن فراش الزوجية، عديمة الخبرة، حسناء منكودة الحظ، لقد سارعت من بيتك يملأ جوانحك الوجل الشديد، كالفتاة المجنونة التي تطير على جناح السرعة إلى بقاع باكس المتهتكة، وأسلمتك فينس إلى سرير الزواج الملطخ بالدم، بين الدماء والدخان واللهيب وأهوال القتال، وأمرت ابن الكمينا أن يتقبل الهدية الحسناء.
الفرقة الثانية :
انطقي أيتها البروج المقدسة التي تقوم لطيبة سدا منيعا. انطقي أيتها الجداول التي تتدفق من ينابيع ديرسي، وخبرينا كيف أتتك ملكة الحب، وسط النيران المشتعلة المضيئة، يقصف حولها هزيم الرعد، فقضت على سملى الذابلة بالموت، وهي الحورية المنكودة التي حملت باكس بعدما عانقها جوف، وهكذا بسطت نفوذها الطاغي فوق الجميع، وهي قلقة كالنحلة تتنقل من زهرة إلى زهرة.
فيدرا :
الزموا الصمت يا صديقاتي، إني قد تحطمت.
الجوقة :
أي سبب للفزع في بيتك يا فيدرا؟
فيدرا :
أنصتوا حتى أستطيع أن أسمع ما يقولون بداخل الدار.
الجوقة :
إن كلماتك تنذر ببعض الشر، ولكني بكماء.
فيدرا :
آه، ما أشقاني، وما أعظم بلواي!
الجوقة :
ما معنى هذا العويل؟ وأي داع لرنة الأسى في صوتك؟ خبرينا، سيدتي، ماذا سمعت حتى حل بقلبك هذا الفزع المباغت؟
فيدرا :
الدمار! الدمار! قفن لدى الباب، واستمعن إلى الضجيج الذي ثار بالبيت.
الجوقة :
أنت واقفة لدى الباب، والصوت الذي ينبعث من الدار يطرق مسمعيك. فخبريني أية نائبة مريعة حلت بها.
فيدرا :
لقد علا صوت ابن تلك الأمزونية المتوحشة، وثار غضبه الشديد في وجه خادمتي.
الجوقة :
إني أسمع صوته، ولكن كلماته لا تبلغ أذني في وضوح، ولكنها تبلغك، والأبواب تنقل إليك ما يقول داخل الدار.
فيدرا :
إنه يسميها قوادة دنيئة، ويصمها بأنها خانت سرير مولاها غدرا، هذا ما سمعت في جلاء.
الجوقة :
وا حسرتاه على هذا المصير البائس! أيتها الملكة المحبوبة، إن سرك قد فشا. أية نصيحة أقدم إليك؟ إن أسرار قلبك كلها قد أذيعت، وتحطمت حياتك، وغدر بك الأصدقاء.
فيدرا :
لقد باحت بأحزاني فحطمتني. أرادت أن تخفف عني وتشفي علة فؤادي، فدفعها الود، ولكنها سلكت مسلكا غير نبيل.
الجوقة :
أيتها التعسة التي تقاسي الآلام، ماذا عساك فاعلة؟
فيدرا :
لا أدري غير شيء واحد: الموت السريع، الموت شفاء آلامي الوحيد.
فيدرا وهبوليتس والمربية
هبوليتس :
أمنا الأرض، وأنت أيتها الشمس التي تطلع على كل شيء! ما هذه الكلمات ذات المغزى المريع التي سمعت.
المربية :
لا تنبس بكلمة أكثر من هذا، خشية أن يلحظ حديثك أحد.
هبوليتس :
كيف لا أتكلم وقد آذيت أذني بوضاعتك!
المربية :
إني أتوسل إليك بهذه اليد الحسناء ألا تفعل!
هبوليتس :
عني، وأبعدي يديك، ولا تمسي ردائي.
المربية :
إني أجثو على ركبتي ضارعة ألا تحطم حياتي.
هبوليتس :
لماذا تفعلين هذا، وقد صرحت أنك لم تبوحي بكلمة سوء؟
المربية :
إن أمورا كهذه لا يصح أن يعلمها الجميع.
هبوليتس :
العمل الشريف يمكن أن يذاع دون أن يخدش الشرف.
المربية :
لا تتهور وتحنث في يمينك.
هبوليتس :
حقا لقد أقسمت بلساني ولكني لم أقسم بقلبي.
المربية :
ماذا تريد أن تفعل؟ أن تؤدي بأصدقائك إلى الدمار!
هبوليتس :
إني أحتقرك، ولا أعقد الصداقة مع الوضعاء.
المربية :
اعف عني، فإن ضعف الإنسان كثيرا ما يسوقه إلى الزلل.
هبوليتس :
ربي جوف! لماذا أوجدت المرأة تحت ضوء الشمس الساطع، وهي ذلك الشر الذي يخدعنا مظهره؟ لأنك إن أردت أن تملأ الأرض العامرة بالبشر فلم تكن ثمت بك حاجة أن تتخذ المرأة وسيلة لذلك. ألم يكن بوسع الرجال أن يقدموا لدى معبدك الحديد والنحاس أو أكداسا من سبائك الذهب، كي يشتروا بها الأطفال، فتقدم لهم الأبناء بنسبة عطاياهم الغالية؟ إذن لاستطاع الرجل أن يعيش حرا لا يثقل كاهله عبء النساء. ولكنا الآن إن أردنا أن نسوق هذا الشر إلى ديارنا كان لزاما علينا أن نبذل ما نملك؛ ومن ثم يبدو أن المرأة للرجل شر مستطير. يأتي بها أبوها إلى الوجود وينشئها، ثم عليه بعدئذ أن يقدم لها مهرا ويبعث بها إلى بيت آخر كي يخلص نفسه من شرها. ومن عجب أن يبتهج من يحمل هذا العبء الثقيل، بل ويخلع عليها كل زينة فاخرة، ويكسو هذا التمثال الفاتن بفاخر الثياب. ما أشقاه ! إنه ينفق عليها كل ما يضم بيته من ثراء. وإن كانت المصاهرة معقودة مع بيوت النبلاء، فعليه حتما أن يحيط فراش الزوجية المضني بمظاهر البهجة الكاذبة. وإن ألفى فيمن اختار حلاوة العشرة ولكنها من بيت وضيع غير نبيل، كان لزاما عليه أن يخفي هذا النقص بالفعل الجميل. وأوفر حظا من هذا وذاك من يتحاشى هذه وتلك، ويسوق إلى بيته زوجة ساذجة بسيطة طيبة الخلق. إني أمقت المرأة المتعلمة، ولا أحب أن يضم بيتي زوجة أكثر حكمة مما ينبغي للنساء؛ لأن فينس تستطيع في يسر أن تدس الدسائس في صدور هؤلاء النساء المتعلمات، في حين أن السذاجة تبعد المرأة التي لا تستطيع بذكائها أن تدبر المكائد من أمثال هذه السيئات. ولا ينبغي أن تقوم على خدمة الزوجة خامة، بل إني لأوثر أن تقطن الزوجة مع الحيوان الذي لا يملك القدرة على الكلام، حتى لا يتيسر لها أن تجد من تتحدث إليه أو تسمع منه جوابا في حديث. والآن تدبر زوج أبي الآثمة في الدار حيلة آثمة، وهذه الخادمة السافلة تنفذ لها خارج الدار تلك الخطة الفاجرة. والآن أراك أيتها السافلة الدنيئة تأتينني كي تتاجري تجارة خسيسة بفراش أبي وهو أقدس من أن يمس. إن كلماتك القذرة تدنس أذني، ولا بد لي أن أطهرهما في الجدول النقي. كيف لي إذن أن أقترف هذا الإثم إن كان مجرد ذكره يلوثني؟ اعلمي هذا أيتها المرأة، إن تقواي تحميك، فلولا أنك فاجأتني وأنا مرتبط بعهد مقدس لما امتنعت عن الإفضاء بهذا الأمر إلى أبي، ولكني سأهجر هذا البيت في غيبة ثيسيوز عن بلاده، وسأضم شفتي، وإذا ما عاد عدت معه، وسأرى حينئذ كيف تجابهين أبي أنت ومولاتك؟ وسأعرفك وإياها بعدما تدركان ما كنتما تحاولان. قاتلكما الله! إن قلبي لن يشبع بغضا للنساء مهما عبرت عما في نفسي من ضغينة لأنهن أبدا آثمات. فإما وجدتن من يسبغ عليكن الحشمة، أو فدعوني أصب عليكن لومي دائما.
فيدرا والمربية والجوقة
المربية :
ما أتعس النساء وما أبأسهن! لقد خابت آمالنا، فأية حيلة وأية حكمة تهدينا الآن إلى إنقاذك من هذه الأحبولة الشائكة؟
فيدرا :
هذا جزاء عادل. أيتها الأرض، أيها النور! كيف أفر من مصيري، وكيف يا صديقاتي أخفي آلامي؟ أي إله يتكرم بمعونتي؟! وأي حي يحالفني، أو يؤيد عملا وضيعا. ليس لحياتي من هذه الشرور مأوى، وها أنتن ترينني أشد بنات جنسي ضيقا وأعظمهن بؤسا.
المربية :
حقا إن الدمار يحلق فوق رأسك. ولم تجد محاولات خادمتك الماكرة فتيلا، وقد ساءت أمورك جميعا.
فيدرا :
أيتها السافلة الدنيئة، إنك وضيعة مفسدة لصديقاتك. أية بلية جلبت لي؟ اللهم إني أسألك يا جوف العظيم، يا منشئ أهلي، أن ترسل عليها صاعقة من عندك وتمحوها من وجه البسيطة! ألم أكلفك - وقد أدركت مقصدك - ألا تبوحي بما أعاني الآن؟ ولكنك لم تحتملي أن تكبحي جماح لسانك. وإذن فلن أموت محاطة بالجلال. ولا بد لي الآن أن أعقد عزما جديدا؛ لأنه - بعدما ثارت حفيظته - سينفض إلى أبيه زلتي، وسيبوح لبثيوز المسن بآلامي، وينشر في أنحاء البلاد جميعا قصتي المخزية. ألا سحقا لك ولأشباهك، فإنكن تخففن إلي معونة أصدقائكن بطرق غير شريفة لا يرضون عنها!
المربية :
أقر لك يا مولاتي أنك على حق حين تلومينني على خطئي؛ لأن ما تكابدين يغلب الحكمة الرزينة. ولكني أحب - برغم هذا - أن أدافع عن نفسي بهذه الكلمات لو تسمحين. لقد ربيتك طفلة، وإن قلبي لينبض بالحب لك، ولقد كنت أبحث عن الدواء الذي يخفف عنك الآلام، ولكني بؤت بأبغض شيء إلى نفسي. ولو أفلحت لحشرتني في عداد الحكماء. حقا إن عقولنا تميل إلى الحكم بناء على مجرى الحوادث.
فيدرا :
هل من العدل أن تصلحي بمثل هذا الكلام العابث ما أفسدت، وأن تحاولي كسب قلبي بعدما صوبت إليه طعناتك؟
المربية :
لن أتمادى في دعواي، وأقر أني لم أكن حكيمة. ولكني - برغم هذا - أستطيع أن أجد لك وسيلة للنجاة.
فيدرا :
لن أصغي إليك بعد هذا. لقد نصحتني من قبل بما يخدش الشرف، وكانت محاولاتك دنيئة سافلة. اغربي عني، واعني بأمرك. أما أنا فسأفعل ما يملي الشرف. يا بنات تروزين الكريمات، امنحنني الآن مطلبا متواضعا، عدوني وعدا صادقا أن تتكتمن ما سمعتن.
الجوقة :
أي ديانا المقدسة، يا ابنة جوف، اسمعي قسمي: إنني لن أبوح بآلامك.
فيدرا :
ما أنبل ما تقولين. ولكني فكرت طويلا، فلم أجد غير سبيل واحد أخفف به هذه الهموم، وأضمن به لأبنائي حياة مجيدة، وأهون به على نفسي في هذه المحنة. إني لن أجلب العار على سلالتي الكريتية، ولن أظهر في حضرة ثيسيوز الملكية ملوثة بهذه الوصمة؛ وذلك من أجل حياة واحدة!
الجوقة :
أي عمل يائس تعتزمين؟
فيدرا :
أن أموت، ولكن كيف؟ سأفكر في هذا مليا.
الجوقة :
لا تتحدثي بهذا الطيش.
فيدرا :
ولا تقدمي لي نصيحة طائشة. لقد كتبت علي فينس السقوط، فسأسرها اليوم بمغادرة الحياة، وأسلم بالنصر للحب العسوف. ولكن موتي سيكون لغيري سببا في الألم، فيتعلم ألا يشمخ بأنفه على نائباتي كما يتعلم درسا في الإنسانية إذ يشاطرني همومي.
الجوقة
الفرقة الأولى :
آه. لو كان لي فوق التلال الوعرة مكان بين الصخور، ولو أني من هذا المكان اخترقت بجناحي الهواء مثل الطيور، إذن لحلقت عالية فوق موج الأدرياتيك الذي يصطخب على السواحل، أو فوق إلبو الذي يتدفق تياره في اكتئاب؛ حيث فيثن العزيز المفقود تبكيه أخواته وقد حركت قلوبهن الشفقة، ويتحدر دمعهن الكهرماني الصافي قطرات بغير انقطاع إلى جانب أبيهم الحزين (المحيط) ذي التيار الأرجواني.
الفرقة الثانية :
أو أطير إلى سهول هسبريا الشهيرة التي تتحلى أشجارها بثمار الذهب كي أشاطر هسبريا نغمها الحزين. إلى تلك السهول التي لم يسمح إله الموج الأرجواني بالسير إلى ما وراء شطآنها. وإنما هناك يقف أطلس ذو القامة الشامخة يتاخم السماء مريعا مفزعا، وهناك تنفجر ينابيع أمبروزيا وتروي مستقر جوف، وهناك تمد التربة الخصبة الناس جميعا بخيراتها الوافرة، فيطمئن لذلك شعور الآلهة.
الفرقة الأولى :
أيتها السفينة الكريتية! إنك بأشرعتك ناصعة البياض التي تنتشر وسط العواصف في كبر واعتزاز شققت عباب المحيط الصاخب، تحملين - وأنت ظافرة - مليكتي من مقرها السعيد إلى أقسى آلام الزواج وويلاته ؛ لأنها حينما خلفت أرض نوسيا انطلقت إلى أثينا المجيدة فوق اليم وفي إثرها نكد الطالع، يحدوها طوال الطريق نذير السوء، حتى رست عند خليج منكيا، ووطأت قدمها شواطئ أتكا.
الفرقة الثانية :
وهناك أشعلت روحها ملكة كثرا - فينس - وأضرمت نارا حامية دنسة، وأصابتها بمرض الحب العضال، وأثارت في نفسها غضبا هائجا. والآن يضيق صدرها بالشر الأليم، ويمزق صدرها اليأس والأسى، وهي تريد أن تهرع إلى الملجأ الأخير، وقد روعتها الآلهة القاسية، فأحاطت جيدها الناصع بحبل خانق؛ لأنها شديدة الرغبة في الاحتفاظ بسمعتها الشريفة. تريد أن تطفئ لهيب الحب الذي يشعل الأسى، والذي يضطرم في صدرها. إنها تريد أن تموت.
خادمة (من الداخل) :
الغوث، الغوث! ليسرع بالمعونة كل من هو من الدار قريب. إن الملكة زوج ثيسيوز قد فاضت روحها.
الجوقة :
ويلاه! لقد حم القضاء، وعقدت مولاتي الملكة حول جيدها حبلا خانقا فأدركتها المنية.
الخادمة :
هلا تعجلتم؟ هلا أتيتم بقطعة من الصلب حادة تبترون بها هذه العقدة التي تربط بها جيدها؟
نصف الجوقة :
ماذا عسانا فاعلات يا صديقاتي؟ هل نلج الدار ونفك هذا الحبل الخانق من رقبة الملكة؟
النصف الآخر :
عجبا أليس هناك من الخدم من يقوم بعمل؟ لا أحسب أن في دوام الانشغال في هذه الحياة أمنا وسلاما.
الخادمة :
مدوا هذه الجثة البائسة وترفقوا بها. يا لها من خدمة مفجعة أؤديها لسادتي!
الجوقة :
نما إلي أن السيدة التعسة قد ماتت، وأنهم الآن يطرحونها جثة هامدة.
ثيسيوز والجوقة
ثيسيوز :
هل تعرفن أيتها النسوة لماذا يرن في بيتي هذا العويل؟ إن صيحات خدمي تسمع عالية، ولا تتلطف داري فتفتح أبوابها مرحبة بعودتي ومحيية ربها. هل يعاني بثيوز العجوز ألما من الآلام؟ إني ليحزنني أن أفقده من بيتي وإن يكن قد تقدمت به السن وبلغ أرذل العمر.
الجوقة :
ليست هذه الأحزان من أجل المسنين، ولكنك يا ثيسيوز سوف تبكي على موت الشباب.
ثيسيوز :
ويلي! هل اغتصب أحد حياة أطفالي؟
الجوقة :
هم أحياء، إنما ماتت أمهم، وسوف يحزنك ذلك كثيرا.
ثيسيوز :
زوجي! هل تقولن زوجي ؟ أية كارثة ألمت بها؟
الجوقة :
عقدت حول جيدها حبلا مميتا؟
ثيسيوز :
هل غلبها الحزن، أو أصابها رزء من الأرزاء؟
الجوقة :
إني لا أعرف أكثر مما ذكرت، وقد أتيت إلى بيتك منذ عهد قريب يا ثيسيوز كي أنوح على همومك.
ثيسيوز :
ما أشقاني! ولماذا بعد هذا أتوج نفسي بهذه الغصون المشتبكة بعدما عدت من المعبد في ساعة منكودة!
4
افتحوا الأبواب يا خدامي. أسرعوا، حتى أستطيع أن أرى زوجتي المسكينة المفقودة التي جلبت لي الشقاء بموتها.
5
الجوقة :
ما أسوأ مصيرك أيتها الملكة! لقد أحاطت بك أسباب البؤس والشقاء، وعانيت عناء شديدا. إنك عملت عملا سوف ينزل بهذا البيت الاضطراب؛ وذلك حين اندفعت إلى الموت بعنف طائش، وقتلت نفسك بيدك قتلا شنيعا. ألا ما أقسى المصير الذي أظلم حياتك البائسة؟
ثيسيوز :
ما أقسى الآلام التي أحسها من أجل فقدك يا زوجتي العزيزة. إن موتك هو أسوأ ما أعاني من آلام. أيها القدر، ما أثقل البؤس الذي تسحقني به كما تسحق بيتي! هذه لوثة لا يتصورها العقل أنزلتها بنا قوة ناقمة. إن كل ما بقي لي من الحياة سيذوي من الأسى. إن بحرا من الويلات يغمرني، ولن أستطيع بعد هذا أن أنهض أو أصد تيار هذه النوائب. ما أحلك الدنيا في عيني! وبأي لفظ أخاطبك أيتها البائسة وأخاطب مصيرك القاسي، وأنا ذلك الشقي! لقد أفلت من يدي كما يفلت الطائر ولم أعد أراك، ورفرفت بجناحيك طائرة نحو العالم السفلي فجلبت الشقاء لي. الويل! الويل! إنه ويل لا يحتمل! أي إثم ارتكب أسلافي، وأية جريرة اقترف آبائي الأولون ضد الآلهة حتى تنهال علي هذه الكوارث؟
الجوقة :
إن هذه النوائب لم تحل بك وحدك أيها الملك، إنما افتقد معك زوجك المحبوبة كثيرون.
ثيسيوز :
إن ما أصبو إليه الآن أن أتخذ لي في ظلال الموت مأوى في أسفل الأرضين المظلمة؛ لأني لم أعد أستمتع بعذب حديثها. إنك حطمتني أكثر مما حطمت نفسك. أي باعث أيتها المرأة التعسة دفعك إلى هذه الفعلة الشنعاء. من أين لي أن أعرف هذا الباعث المميت؟ ليحدثني بعضكن ماذا حدث، أم هل هذا البيت المالك يأوي تحت سقفه هذا الرتل الطويل من الخدم بغير جدوى؟ آه، ما أشقاني. لقد شقيت من أجلك. وإني ليحزنني أن أرى هذه الأحزان في بيتي. إنها لا تحتمل ولا يمكن التعبير عنها! لقد فقدت كل شيء، وحل بداري الدمار، وبات أطفالي يتامى.
الجوقة :
آه يا أعز النساء، لقد خلفتنا من بعدك ثاكلات. إنك أبرع النساء حسنا، وخير من أشرقت عليه الشمس الساطعة في مسيرها، أو دار عليه القمر المضيء وهو يسبح في فلكه ليلا! أيتها الملكة المنكودة الطالع، أي ويل أصاب دارك! لقد ترقرق الدمع في عيني وفاض من أجل نكباتك. ولكني أشد فرقا من الويلات التي لا بد أن تتلو.
ثيسيوز :
صه، صه! ما هذه الرسالة التي تتدلى من يدها؟ هلا أنبأتني بخبر؟ لقد دبجت هذه الرسالة وسط أحزانها، وقد تنطوي على مطلب عزيز بشأن فراشها أو بشأن أطفالها. كوني على ثقة أن ثيسيوز لن يشرك من بعده امرأة في فراشه أو بيته. وا حر قلباه! أجل لقد قضيت، ولكن توقيعك الرسالة بخاتمك الذهبي يغريني، وإذن فلأفض المختوم وأقرأ ما كلفتني به.
الجوقة :
وا حسرتاه! وا حسرتاه! إن الله يصيبنا برزء بعد رزء. وقد أضحت الحياة شاقة على نفسي بعد الذي حدث؛ لأني أحسب - وا أسفاه - أن بيت سادتي قد حل به الدمار وانتهى به العهد. أيتها القوة العابسة، أنقذي هذا البيت إن كان ذلك مستطاعا. لا تقوضيه، واستمعي إلي وأنا أضرع إليك، واستجيبي لدعائي. غير أن قلبي المتشائم - كالكاهن - لا يتنبأ بغير النكبات.
ثيسيوز :
ما أشقاني! إن الويل يعقب الويل بقدر لا يحتمل ولا يمكن التعبير عنه.
الجوقة :
ماذا عسى هذا أن يكون؟ خبرني إن كان يجوز لي أن أعرف.
ثيسيوز :
في هذه الرسالة صيحة، ويا لها من صيحة مفزعة. آه، إلى أين أفر وأتحاشى هذا العبء من الآلام الذي يهد قواي! يا لها صيحة ترن في هذه الرسالة! ما أيئسني! ما أتعسني!
الجوقة :
يا ويلتاه ! إنك تتفوه بألفاظ تشف عن الألم.
ثيسيوز :
إن شفتي لن تسكت بعد هذا الشر الهدام الذي ليس له نظير. فاسمعي يا بلادي واسمعي! لقد جرؤ هبوليتس على أن يقرب فراشي عنوة. ولم يرع عين جوف المهابة. أبتاه! نبتيون! لقد وعدت من زمان بعيد أن تجيب لي مطالب ثلاثة، فليكن هذا أحدها: اقض على حياة ولدي، ولا تجعله ينجو بحياته من هذا اليوم، إن كنت تحب أن تفي بوعدك.
الجوقة :
والآن، بحق الآلهة أيها الملك، ارجع فيما تقول، وصدقني إنك سوف تدرك خطأك فيما بعد.
ثيسيوز :
لن أرجع فيما اعتزمت، وسأنفيه بعيدا عن هذا البلد. إن أمامه مصيرين، ولا بد أن يسحقه هذا أو ذاك، فإما أن يستمع نبتيون لدعواتي فيزج به في دار الفناء، وإما أن يحرم مسرات الحياة جميعا أو يطرد من هذي البلاد ويتشرد في بلد غريب.
الجوقة :
انظر! ها هو ذا ولدك هبوليتس يقبل في الوقت الملائم. أي ثيسيوز، أيها الملاك، خفف من حدة هذه العاطفة التي تملكتك، وتدبر خير طريق تسلك لتبقي بيتك على سعادته.
ثيسيوز وهبوليتس والجوقة
هبوليتس :
سمعت الصيحة يا أبت، وها أنا ذا أقبل مسرعا. ولكني لست أعرف لهذه الشكاة المرتفعة باعثا؟ وأريد أن أعلم منك هذا. عجبا! أي منظر أرى! إني أرى زوجتك يا أبت قتيلة. وإني لشديد العجب من هذا؛ لأني تركتها منذ عهد قريب جدا تنعم بنور الحياة الجميل. ماذا دهاها؟ كيف ماتت؟ أحب أن أعرف هذا منك يا أبتاه. إني أراك صامتا، ولكن الصمت لا يجدي في النوائب نفعا، وإن رغبة المرء في أن يلم بكل شيء لتجعله مشغوفا بأن يعلم حتى النوائب. ولا يجدر بك يا أبت أن تخفي كربة نفسك عن أصدقائك، بل ومن هم أكثر من أصدقائك.
ثيسيوز :
أيها الإنسان الضال، يا من تشغل نفسك عبثا بكثير من الأمور. لماذا تتعلم آلاف الفنون، وبفكر عميق تحتال وتدبر وتخترع. ولكن شيئا واحدا لا تعرفه ولا تحب أن تعرفه؛ وذلك أن تعلم الحكمة من لا عقل له.
هبوليتس :
إنه أستاذ سفسطائي ذلك الذي يستطيع أن يعلم الحكمة قسرا أولئك الذين ليس لديهم روح ولا عقل يدرك - بيد أن هذه المباحث العجيبة يا أبت ليست في إبانها، حتى إني لأخشى أن يزل لسانك على غير هدى من أثر الحزن العميق.
ثيسيوز :
كان من الخير للناس لو كانت لديهم إمارات خاصة يميزون بها أصدقاءهم، وتبين لهم في جلاء نفوس خلانهم؛ الصادق منهم والزائف، أو أن كل امرئ كان له صوتان؛ أحدهما ينطق عن الحق ولا شأن له بالآخر، فإن انطوى الكلام على السوء أو كانت هناك ظلامة دنيئة انبرى صوت الحق لبيان الزلل، فلا ينخدع بعدئذ إنسان.
هبوليتس :
هل غابني لديك صديق خائن؟ إني لا أحس بجرم ارتكبته. وإني لفي عجب شديد لأن كلماتك التي تحيد كثيرا عن الحكمة المتزنة تذهلني.
ثيسيوز :
إلى أي حد يبلغ جنون الإنسان! وأنى تنتهي جرأة الإنسان الآثمة؟ لو أن كل جيل جديد يزداد شرا ويتضاعف ما فيه من لؤم دنيء حتى يفوق آخر الأجيال كل ما سلف من جرائم، لكان جديرا بالآلهة أن يضموا إلى هذا العالم عالما آخر يكون مأوى صالحا لسكنى هذا الجنس البشري السافل الوضيع. وجهوا أبصاركم إليه. إنه ولدي، ومع ذلك فقد اعتدى على فراشي، وهذه القتيلة الملقاة تثبت عليه دناءته. وهل تستطيع بعد هذه الجريمة التي لا تغتفر أن تقابل أباك وجها لوجه؟ وكيف تتحدث إلى الآلهة كأنك إنسان ذو مزايا رفيعة؟ هل أنت طاهر الذيل؟ وهل لم تلوثك الجريمة؟ إن هذا التظاهر بالكبر لا يخدعني، وإلا فإني أتهم الآلهة بالجهل والعمى. والآن اشمخ بأنفك، أو ازعم لنفسك قدرا لا تستحقه، أو تناول الخضر طعاما كي لا تلوث يديك بدماء الحيوان، أو خذ عن أورفيوس
6
حكمته، أو اتبع شعائر باكس، أو أثر حول نفسك دخانا خادعا من العلم الغزير؛ لقد افتضح أمرك.
إني أحذركم جميعا أن تتحاشوا صحبة أمثال هؤلاء؛ فإنهم بزخرف اللفظ يوقعوننا في الشراك، ويخفون نواياهم الدنيئة. لقد ماتت، وظننت أن في موتها سلامتك. ولكن اعلم أيها الوغد الدنيء ، أن جرائمك قد اتضحت في جلاء بعد موتها. أي قسم وأي كلمات لديك أقوى من هذه الرسالة تثبت بها براءتك، ولكنك سوف تقول: «إنها تمقتني.» وتدعي كراهية زوج الأب للابن الذي ولد في فراش غير فراشها. غير أنك لا تنكر أنها صفقة خاسرة لها إن كانت لبغضها إياك تبيع حياتها وكل ما هو عزيز لديها. أجل، إن الرغبات الدنيئة لا تصم قلوب الرجال، وإن كانت تسيطر على قلوب النساء وتتحكم فيها، ولكني - برغم ذلك - عرفت كثيرا من الشبان الذين زلوا كما تزل النساء حينما أشعلت فينس النار في دمائهم، غير أن لديهم دعوى جريئة تنفعهم، وتلك أنهم رجال. ولكن لماذا أسرف في اللفظ مع وغد كمثلك؟ اغرب عني وارحل من هذا البلد طريدا، ولا تجرؤ بعد اليوم أن تطأ بقدمك أرض أثينا التي بناها الآلهة، ولا شواطئ البلدان التي تعترف بنفوذي الملكي. إني إن حركت قلبي الشفقة عليك بعد الذي قدمت إلي من إساءة أنكر سنس الإسميائي أني جندلته صريعا، وذهب كل ما أفخر به هباء منثورا، وصمتت صخور سكيرون الوعرة التي يرتطم فوقها الموج عن التصريح بما أنزلت بالسفلة الأدنياء من شديد النقم.
الجوقة :
إني لا أعرف من بني الإنسان فردا أستطيع أن أسميه سعيدا، فمن كان كذلك بالأمس يقلب الدهر له اليوم ظهر المجن.
هبوليتس :
إن هذا العنف فظيع وهذه الثورة النفسية مفزعة. بيد أن هذه التهمة التي تقوم عليها الأدلة العديدة ظاهرا لو فض مكنونها لظهر بطلانها. إني لا أملك القدرة على أن ألقي على الجماهير خطابا مزينا، ولكني أفصح بيانا حين أتحدث إلى قرنائي أو إلى عدد من الناس قليل، وهذه ميزة عندي؛ وذلك لأن المرء إن كان على باطل وكان عديم القيمة بين الحكماء، تدفق لسانه الثرثار الذي تعود أن يفتن الجماهير. ولكني لا بد لي في هذا الشر المستطير أن أفض شفتي. وبماذا أبدأ سوى بالتهمة التي طعنتني بها، وحسبت أني لا بد بعدها أن أهوي بغير معذرة؟ أرأيت إلى هذا الضوء ، وإلى هذه الأرض؟ ليس فيهما رجل أكثر مني صفاء مهما رفعت صوتك بالإنكار. احترام الآلهة أول معارفي، وأصدقائي أعاملهم بالرأفة، ولا أطوي بين جنبي سوءا، وتواضعي يمنعني من التفكير في الشر، أو أن أعين أحدا على عمل وضيع، ولا أسخر سخرية لا مبرر لها من أولئك الذين يبادلونني الحديث. أصدقائي سواء لدي، من غاب منهم ومن حضر. وأنا بريء طاهر من هذا الذنب الذي تحسب الآن أني اقترفته، ولا يخامرك في ذلك شك، فإني إلى هذا اليوم غريب عن فراش الحب، ولا أعلم من طقوسه أكثر مما تروي القصص أو يرسم المصور للعيان، وحتى هذه الصورة لا أحدق فيها بعين الغرام، لأن عقلي عفيف عفة العذراء. ولكن ربما كان تواضعي النقي الطاهر لا يقنعك، وإذا فيجدر بك أن تبين لي ذلك الباعث القوي الذي أغواني. هل كانت في جمالها وفتنتها تفوق بنات جنسها؟ أم هل كان بوسعي أن أقطن في بيتك وأشاطرك الفراش؟ إنما هذا باطل لا معنى له. وإن سلطان الملوك يفتن حتى الحكماء، غير أنه لا يسحرني لأنه يفسد أولئك الذين به يفتتنون. كنت أحب أن أكون في الطليعة وأتفوق في كل عمل من أعمال الرجولة يمارسه أبناء اليونان، وأن أكون بين أصدقائي في هذه الولاية في المرتبة الثانية، وهم جميعا رجال ذوو عقول راجحة نبيلة؛ وذلك كي أكون سعيدا؛ لأن ذلك هو سبيل السعادة، وإذا عاش المرء في مأمن من المخاطر ظفر بسعادة روحية دونها سحر الملك وفتنته. ولدي دعوى أخرى لم أفصح عنها بعد، وقد أسمعتك كل ما عداها. لو كان عندي من يشهد لي من أنا، وإن كانت زوجك تعود إلى نور الحياة وأنا أدافع عن نفسي هذا الدفاع العادل، تبين لعقلك المرتاب من الذي أساء. والآن أقسم لك بجوف الذي تشهد قدرته على صحة الأيمان، وأقسم لك بهذه الأرض العتية: إني لم أمس فراشك، ولم أشتهه، ولم تدر الفكرة بخلدي. ألا فلأهلك هلاكا مذموما، ولأفقد حسن السيرة، ولتفقدني بلادي ويفقدني بيت آبائي، ولأحي طريدا شريدا. ألا لا ضمني بحر ولا أرض بعدما يفارق نفس الحياة هذا الجسد إذا كنت ملوثا بإثم. ولست أدري إن كانت قد قضت على نفسها خوفا وفرقا. وحسبي ما ذكرت. أرادت زوجك أن تكون عفيفة فلم تستطع، وكانت العفة ديدني ولكنها لم تجدني فتيلا.
الجوقة :
حسبك ما قلت لتبرأ من تهمتك، وقد أيدت القول بقسم مقدس.
ثيسيوز :
أفلا يؤمن بالطلاسم والرقى الكاذبة، ومن ثم كان على ثقة من إقناعي بعد الذي قدم إلي من إساءة بيمين ظاهره الصدق؟
هبوليتس :
إني لأعجب منك في هذا يا أبت. لو كنت أباك وكنت ابني لقتلتك، وما اكتفيت بإقصائك في المنفى لو أنك جرؤت على أن تمس زوجي.
ثيسيوز :
عدلا ما تقول، وقد أصدرت على نفسك حكم القانون، ولكنك لن تلقى حتفك هكذا؛ لأن المنية العاجلة برد وسلام على من يعذبه الضمير. سوف تقضي حياتك التعسة شريدا في بلد غريب طريد الأوطان، وهذا جزاء السافلين.
هبوليتس :
ماذا أنت فاعل؟ ويلي! هلا تريثت حتى تظهر الأيام إلى نور الحق ما يؤيد دعواي؟ وهل تريد أن تتهور وتطردني من الوطن؟
ثيسيوز :
إني لأمقتك أشد المقت، وإن سلطاني ليمتد إلى ما وراء البحار وما وراء الأطلنطيق.
هبوليتس :
هل ستطردني بغير محاكمة غير مقتنع بقسم أو إخلاص أو دليل من قول كاهن؟
ثيسيوز :
هذه الرسالة تدينك حقا، وليست بحاجة إلى إثبات رسمي. إني لا ألتفت إلى الطيور التي تشق بجناحها السماء فوق رءوسنا.
هبوليتس :
عجبا! أيتها الآلهة! أليس لي أن أفتح شفتي وقد حطمت حياتي برغم تقديسي إياك؟ كلا، لن أنبس ببنت شفة، ولن أحاول أن أقنع أولئك الذين ينبغي لي أن أقنعهم أني لا أحنث في يمين مقدس.
ثيسيوز :
لا أستطيع أن أحتمل هذا التظاهر بالإيمان. اغرب عني، واغرب على عجل من هذا البلد.
هبوليتس :
إلى أين؟ ويلاه! أي بيت كريم يقبلني وأنا طريد بسبب هذا الاتهام؟
ثيسيوز :
يقبلك من يسره أن يأوي أولئك الذين يعتدون على فراش الزواج. إن اللئيم يأنس إلى اللئيم.
هبوليتس :
ويلتاه! إنه ليفتت كبدي ، ويستذرف دمعي، أن تحسبني لئيما.
ثيسيوز :
كان ينبغي لك أن تتأوه وأن تتدبر هذا الأمر من قبل، حينما جرؤت على أن تعتدي على زوجة أبيك.
هبوليتس :
أيتها الدار، هلا انبعث منك صوت! هلا تنطقين، وتشهدين أني لم أقترف إثما!
ثيسيوز :
هل تستغيث بشاهد لا ينطق؟ هذه الرسالة - وإن كانت لا تتكلم - تثبت ذنبك في جلاء.
هبوليتس :
وددت لو استطعت أن أخرج من إهابي وأشهد نفسي، إذن لأبكتني هذه النوائب!
ثيسيوز :
لقد اعتدت أن تقدر نفسك قدرا كبيرا أكثر مما اعتدت أن تقدس والديك وأن تكون عادلا.
هبوليتس :
ما أشقاك يا أمي! لقد كان مولدي مدعاة للرثاء! اللهم احفظ أصدقائي من زوجات الآباء.
ثيسيوز :
اعتلوه من هنا أيها الإماء. ألم تسمعوا ما أمرت به من زمان بعيد، وذلك ألا يجد له هنا مرفأ؟!
هبوليتس :
لن يمسني أحد إلا وتقطرت منه الدموع. فاطردني بنفسك من هنا، إن كان هذا ما تريد.
ثيسيوز :
سأفعل، إن كنت لا تصدع بما أمرتك، فإنني لا تأخذني الرحمة إذ أقصيك.
هبوليتس والجوقة
هبوليتس :
أراه لا ينثني عن عزمه، وا شقوتاه! حقا إني لأعرف مصيري، ولكن لا سبيل لي إلى الإفصاح. يا ابنة لاتونا الطاهرة، إنك أعز الآلهة لدي، فرافقيني حيثما حللت، ورافقيني في منفاي، فلا بد لنا أن نهجر بروج أثينا الشامخة. وداعا أيها المكان الذي كان أركثيوز يحكمه في يوم من الأيام. وداعا أيها الوطن الحبيب. وداعا تروزين، أيها البلد الذي يغص بالمتع التي تستهوي شبابنا الغض وتحببنا في الإقامة بين ظهرانيك. لن أراك بعد اليوم، ولن أوجه إليك بعد اليوم خطابا. تعالوا أيها الشباب، يا رفاق لهوي إبان مقامي هنا، تعالوا ودعوني الوداع الأخير وسددوا خطاي فوق أراضيكم، فإنكم لن تروا من بعدي رجلا أطهر مني قلبا، وإن كان أبي يرى غير ذلك.
الجوقة
الفرقة الأولى :
إذا ركب «سوء الحظ» العاتي سنانا لقناته كي يجرح بها قلبي، هرعت إلى قدرة الله الواقية بفؤاد ضارع وفكر عميق، وتلاشت بعدئذ كل أحزاني. وبهذه العقيدة المقدسة التي عليها نشأت يمد الأمل إلي يده التي تبعث في النفس السكون. ولكن إذا مثلت مناظر الحياة الحقة قوية أمام عيني، خارت قواي وتلاشت عزيمتي. إن الحظ والقدر - كالريح المتقلبة - يلعبان بالمرء ويبعثان في نفسه اليأس والضجر.
الفرقة الثانية :
إني أضرع إليكم أيها الآلهة فاستجيبوا لي: أرجو أن أكون سعيدة رقيقة الحال لا تعرف حياتي الغنى والثراء. أرجو ألا أشكو ظلما، وألا تتقدم بي السن وسط الأحزان، وألا تصيبني تلك الآلام التي تهلك الجسم في تؤدة وتوان. أرجو ألا تفتتن أذناي بالمجد والجلال، وأن يكون اسمي بين الناس قليل الذكر، بعيدا عن الإثم وبعيدا عن اللوم والعتاب. أرجو أن أبتعد عن نضال لا يجدي، وألا توغر صدري الإحن، وأن يمن الله علي بخلق طيب وحياة مطمئنة هادئة.
الفرقة الأولى :
ولكن هذا الهدوء قد غادر هذا المكان، وفقدت الأمل وفقدت هدوء النفس؛ ذلك أن نجم اليونان الساطع قد هوى من سماء أتكا كي يشرق فوق بلاد نائية قاصية، فغاب عن عيني. إن غضب أبيه لشديد، إنك يا هبوليتس لن تطارد الصيد بعد اليوم على سواح لتروزين ذات الرمال وفوق المرتفعات التي تغطيها الغابات، ولن تدخل السرور على قلبك وقت الصيد دكتنا الفتاة الصائدة حينما تنطلق كلابك سريعة العدو وتشق بطن الوادي.
الفرقة الثانية :
ولن تدرب بعد اليوم جيادك الهنشية وأنت في خيلاء الشباب، وتتحكم فيها، وتملك زمامها الشديد، وتعلمها أن تسير برأس مرفوع حول الحلبة وهي تجر العربات السريعة. ولن تسيرها عند حافة البحيرة الخضراء، وتقودها بخطو متزن. ولن تترنم بعد اليوم ميوز في بيت أبيك بصوت عذب الرنين. ولن تنتثر أكاليل الزهر عند مقر ديانا الظليل كي تزين طريق عودتها السندسي الأخضر. (نشيد):
وعند رحيلك اليائس ستتنهد الحور، ويزول كل ما بينهن من نضال التنافس؛ فقد فقدتك الأعين التي تشتهيك. وسأذرف عليك الدمع مدرارا، وتمس الشفقة بيدها الرقيقة قلبي على مصيرك. أيتها الأم الشقية! إن كل ما عانيت من ألم وأنت تخرجين ابنك هذا إلى نور الحياة قد ذهب هباء منثورا. إني على الآلهة ساخطة. يا ربات الجمال، يا ذوات الصوت العذب، لماذا أقصيته من هذا الوطن الحبيب؟ إن ضعة النفس لم تجد إلى قلبه سبيلا، وعرفته الفضيلة ابنا من أبنائها. لماذا أقصيته قسرا من أرض الوطن؟
انظروا! إن خادم هبوليتس يقبل بخطى سريعة، والحزن مرتسم على جبينه.
الرسول والجوقة
الرسول :
أين أجد الملك ثيسيوز؟ خبروني أيتها النسوة، هل رأيتنه داخلا من هنا؟
الجوقة :
انظر، ها هو ذا خارج من الدار كما تريد.
ثيسيوز والرسول والجوقة
الرسول :
ثيسيوز! إني آتيك بنبأ يدخل الحزن الشديد على قلبك وعلى قلوب رعيتك، سواء منهم من كان من أثينا أو من ولاية تروزين.
ثيسيوز :
وماذا عسى هذا أن يكون؟ هل وقع شر مفاجئ يزعج هذه المدن المجاورة؟
الرسول :
أوجز القول فأقول: إن هبوليتس قد مات أو هو يشهق آخر نفس قصير من نسيم الحياة.
ثيسيوز :
متى كان هذا؟ وهل هو انتقام من زوج أساء إليه في زوجته كما أساء إلى أبيه فاعتدى عليه عنوة؟
الرسول :
أهلكته عربته، كما أهلكته دعواتك ولعناتك التي استنزلتها على ولدك من أبيك ملك البحار.
ثيسيوز :
أيتها الآلهة! أي نبتيون، لقد برهنت حقا أنك أبي، وقد استجبت لدعائي بالحق، ولكن قل لي كيف هلك؟ كيف سحقه صولجان العدالة لما قدم إلي من سوء؟
الرسول :
وقفنا على حافة الساحل الذي يرتطم عنده الموج، وأمسكنا خيله وسرحنا شعر عرفها المرسل ونحن نبكي؛ لأن رسولا أتى إلينا بنبأ يقول إن هبوليتس لن يطأ بقدمه هذه الأرض بعد اليوم، وسيخرج من هنا طريدا شريدا بحكم منك شديد. ثم أتانا بنفسه عند الشط وأنبأنا بهذا الحكم المحزن ذاته، ولم يكن بغير حاشية، فإن رتلا كبيرا من الشباب - زملائه المحبين - كان يتبعه. وبعد برهة تغلب على حزنه ونطق، ولكن ماذا يجدي العويل؟ قال: «لا بد من طاعة ما أمر به أبي. خدمي، هيا اربطوا الجياد إلى العربة على عجل؛ فهذه المدينة حرام علي بعد اليوم.» وأسرع كل منا إلى عمله، وسقنا الجياد مطهمة إلى مولانا في لحظة واحدة . وجذب العنان من العجلة ووثب إلى مقعده. ثم رفع كفيه إلى الآلهة وقال: «اللهم يا جوف، إن كانت وضاعة النفس قد لوثت قلبي، فلا تنفست بعد اليوم نسيم الحياة، وليعلم أبي كما أساء إلي، سواء مت أو شهدت عيناي نور السماء.» ثم ألهب جياده بالسوط، وسرنا في إثر مولانا قريبا من عنان الخيل وأخذنا سمتنا على الطريق المؤدية إلى آرجس وإلى أبدورس ولما بلغنا الأرض الصحراوية حيث ترتفع سواحل بلادنا إزاء خليج سارونيا، سمعنا فوق الأرض دويا عظيما، مرتفعا كصوت جوف، مسمعه يبعث الفزع. ومالت الجياد برءوسها إلى أعلى، ورفعت آذانها نحو السماء، فارتعدت صفوفنا كالأطفال، وتعجبنا من أين مبعث الصوت، وصوبنا أبصارنا نحو الشاطئ الذي يرتطم فوقه الموج، ورأينا موجة هائلة تعلو حتى تكاد أن تبلغ السماء، حتى إن صخور سيزن المرتفعة اختفت عن أنظارنا، واختفى البرزخ، واختفت صخور أيسكيولابيوس. وعلا الموج ثم علا واستدار وارتطم زبده الصاخب، واندفع التيار المرتفع حتى بلغ الساحل قريبا من العربة التي يشدها الخيل. ومن هذا الفيض المتدفق المتدافع انطلق إلى الأمام ثور، وهو حيوان وحشي ضخم. ورن خواره المريع فوق الأرض التي أصابها الفزع. ولم تحتمل الأعين هذا المنظر البغيض. واستولى الفزع المرعب على الجياد المروعة. وصاحب الجياد مدرب على ركوب الخيل، فأمسك في قبضته القوية بالزمام. وكالرجل الذي ينحني إلى الوراء وبيده المجداف، أنحني إلى الوراء وجذب الزمام المستقيم. ولكن الخيل أخذت تقرض جديد اللجام، وانطلقت مندفعة ثائرة. لا تأبه بيد تقود، أو زمام مشدود، أو عربة كاملة الإعداد. فإذا ساق هبوليتس عجلته إلى السهل المنبسط ظهر أمامه الثور ورده إلى الوراء راغما وروع الجياد المجنونة. وإذا انطلقت فوق الصخور الوعرة وهي تعدو في وحشة وجنون، رافق العربة عن كثب وفي صمت، حتى ارتطم على صخرة مرتفعة. وطارت العجلة بعد الصدام إلى أعلى وطرحته من مقعدة رأسا على عقب. وبعدئذ ساد الاضطراب. وشقت العجلة المحطمة أجواز الفضاء، وتخلخل محور العجلة. من مكانه. والشاب المنكود مكبل بين الأزمة المعقدة بصورة تدق على الأفهام. ثم ارتطم رأسه العزيز فوق الصخر، وتمزق لحمه، وسمعناه يخاطب الجياد بصوت يدعو إلى الرثاء ويقول: «قفي يا جيادي، واذكري أني بيدي هاتين أطعمتك في الإصطبل، فلا تحطميني. ما أروع دعوات أبي! أليس هنا أحد قريب مني، أليس هنا أحد ينقذ رجلا بريئا لم تلوثه الآثام؟» وكم منا من رغب في إنقاذه، ولكنا كنا متخلفين، سيرنا بطيء مهما أسرعنا. وأفلت من يده الزمام الممزق ولا أدري كيف هوى، ولكنه كان يلفظ بعض أنفاس الحياة. واختفى الثور المنحوس. ولا أدري أين توارى بين الصخور القائمة في ذلك المكان. ولست في بيتك أيها الملك سوى عبد مسكين. ولكني لا أعتقد في أعماق نفسي أن ابنك كان دنيئا، ولن يقنعني بذلك أحد حتى إن خنقت أنفسها نساء الدنيا جميعا، وإن امتلأت أشجار أيدا كلها بالأدلة المكتوبة؛ لأني أعلم أنه طاهر بريء.
الجوقة :
وا حسرتاه، وا حسرتاه! لقد بلغت هذه الكوارث الجديدة الذروة، ولا مفر من القضاء، ولا بد مما ليس منه بد.
ثيسيوز :
لقد كنت أمقت أشد المقت هذا التعس الذي عانى هذا العناء. وإن كلماتك لتثلج صدري، ولكني الآن أقدر الآلهة قدرها، وأقدره لأن كان ولدي. ومن ثم فإن هذه البلايا لا تبعث في سرورا ولا حزنا.
الرسول :
إنا لا نحب أن نؤذيك، فخبرنا إلى أين نحمل هذا الشاب الشقي وأي واجب نؤدي له، وكم أحب أن تكون على ابنك عطوفا وهو يكابد هذه الآلام.
ثيسيوز :
ائتوني به، فإني أريد أن أراه. والآن بعدما أنكر اعتداءه الدنيء على فراشي فسوف أثبت عليه بالبرهان تهمة الاعتداء الدنيء، بعدما اقتنعت بهذا الانتقام من الآلهة.
الجوقة :
عليك يا فينس أن تكبحي جماح النفس العنيدة الأبية. وإن الآلهة والناس ليعترفون بسلطانك. وابنك يحلق فوق الأرض وفوق البحر الصاخب وهو يعرض ريشه ذا الألوان في زهو وخيلاء، ويطير بخفة ويرفرف بأجنحته الخفيفة مداعبا. وحيثما سار «إله الشهوة» المتألق نشر سلطانه الظافر. نشره فوق الجبل الوعر حتى يعترف الوحش بقوة الحب. ونشر سلطانه على كل من يرتاد الأدغال، أو يثب في الماء. كل من أشرقت عليه أشعة الشمس اللامعة، وكل امرئ يحس بنفوذك يا فينس، فأنت إلهة مهابة، والكل يؤدي واجب الطاعة لسلطانك.
ديانا وثيسيوز والجوقة
ديانا :
يا ابن إيجيوز النبيل، إني آمرك أن تصغى لي ابنة لآتونا العذراء، ديانا، تتحدث إليك. ثيسيوز، أيها الشقي، لماذا تبتهج لهذه الحوادث؟ إنك لم تكن عادلا حينما قتلت ولدك، إنما خدعك نفاق زوجتك. التهمة غامضة، ولكن خسارتك الفادحة واضحة. إن الخزي يبعث في نفسك الضيق، فهل تخفي وجهك في أعماق الظلام السفلي، أم هل تتخذ لنفسك جناحين وتركب متن الهواء فرارا من هذا الدمار المشئوم؟ إنك لا تستطيع بعد اليوم أن تتبادل الحديث مع الرجال الطيبين. استمع إلي يا ثيسيوز أقص عليك من أي لون نوائبك. إن كلماتي لن تجديك نفعا، ولكنها سوف تبعث في نفسك الأحزان. إنما أتيت كي أخبرك أن ولدك قلبه طاهر، وأنه هلك لإحساسه بالكرامة، وأن زوجك قد ثارت نفسها إلى حد الجنون، وإن يكن في قلبها شيء من كرم الطباع. أشعلت قلبها فينس، وهي أبغض الآلهة عندي وعند المتواضعين الطاهرين، فأحبت ولدك. وحاولت أن تتغلب على حبها بالعقل، ولما فشا سرها على رغم منها اختارت أن تموت؛ وذلك لأن مربيتها الماكرة فضحت عاطفتها لابنك الشاب بعدما قيدته بقسم. ولكنه ثبت على الفضيلة فلم يعرها أذنا مصغية، وقد أساءت إليه كثيرا، ولكنه لم يحنث في يمينه احتراما للآلهة. وخشيت أن يفتضح عارها، ولكي تستره كتبت هذه الرسالة الزائفة التي ظفرت منك بالتصديق السريع. وبهذه الحيلة المزيفة قضت على ولدك.
ثيسيوز :
ما أشقاني!
ديانا :
هل يكدرك هذا إذا يا ثيسيوز؟ ليس هذا كل ما في الأمر. أنصت واستمع لي. تعلم حق العلم أن أباك قد أجازك ثلاثة مطالب. وقد نفذ واحد منها حينما استنزلت النقمة على رأس ولدك. إنك أكثر الرجال شرا. وما كان أجدرك أن تبقي على هذا الجزاء لواحد من أعدائك. أجاب مطلبك ملك البحر لأنه مرتبط بوعد، وإن يكن لم يرد لك غير الخير . غير أنه يحسبك الآن - كما أحسبك - بعيدا عن الخير؛ لأنك لم تستمع إلى عقيدة أو صوت كاهن أو دليل، ولم تتريث قليلا لتفكر، وإنما دعوت بالنقمة على ولدك بعجلة لا تليق، فقضيت على حياته.
ثيسيوز :
آه لو هلكت معه أيتها الملكة العذراء!
ديانا :
لقد أتيت شيئا إدا. ولكنك قد تظفر بالعفو عما قدمت؛ ذلك لأنها كانت إرادة فينس حينما اشتعل قلبها غضبا. وهذا القانون سائد بين الآلهة: لا يحب أحدها أن يعترض مقصدا عزيزا على الآخر، وإنما يرضخ كل منا لإرادة صاحبه. وإن لم يكن هذا فكن على يقين أني لولا خشية جوف ما تحملت هذا العار الشنيع، وما رضيت أن يموت أحب الأحياء إلى نفسي من بين الجنس البشري بأجمعه. ولكن جهلك شنيع لخطئك، وذنبك خلا من الحقد والضغينة. كما أن زوجك بموتها قد قضت على كل دليل لفظي يقدم ضدها؛ وذلك كي تظفر منك بالتصديق. هذه المصائب تنفجر أولا فوق راسك، ولكنها تجلب لي الحزن كذلك؛ لأن الآلهة لا تسر حين يسقط الصالحون، ولكنا نودي بالمذنبين إلى الدمار ومعهم أبناؤهم وديارهم.
الجوقة :
انظروا! ها هو الشاب الشقي يقبل، ولحمه وشعره الذهبي كله ممزق. ما هذا الحزن الذي ضرب بجرانه فوق هذا المكان؟ إن غما مضاعفا أرسلته الآلهة قد استولى على هذا البيت المحزون.
ديانا وثيسيوز وهبوليتس والجوقة
هبوليتس :
يا لي من بائس! إني ممزق جريح من أثر ذلك الدعاء بالسوء الذي دعا علي أبي المؤذي به. ما أشقاني! إني أموت. إن ألما مضنيا يدق رأسي دقا عنيفا. ومخي قد تهشم - مهلا! مهلا! - إني أريد أن أريح أعضائي المنهوكة قليلا - إن تلك العربة الممقوتة، وتلك الجياد التي أطعمتها بيدي قد قضت علي وقتلتني، آه، بحق الآلهة أضرع إليكم أن تمسوا جسمي الممزق برفق، تلك اليد الخشنة لمن تكون؟ إنها تؤذي جنبي. احملوني برفق، وسيروا إلى الأمام ببائس منحوس نزلت به اللعنة لخطأ من أبيه، سيروا بي إلى الأمام سيرا هادئا وئيدا. رباه يا جوف، هل أنت تشهد هذه الأمور ؟ إن احتشامي واحترامي الآلهة لم يجدني فتيلا. كنت أعف البشر وها أنا ذا أفقد حياتي، وأهوى - على مرأى منك - إلى عالم الموت المظلم. إن أعمال البر التي أحسنت بها على الناس لم تنفعني. الألم الشديد يضنيني، اتركوني، ولا تمسوني، ودعوا الموت يأتي كي يخفف عني ويلاتي. إنكم تعذبونني. آه لو كان لدي سيف ذو حد باتر أقضي به على حياتي، وأستلقي مستريحا! وا أسفاه! إن لعنة أبي المروعة، وكل ما اقترف أسلافي الملوثون بالدماء من إثم في غابر الزمان يحل الآن بي، وكل ما يستحقون من عقوبة ينزل على رأسي. ولكن لماذا تحل بي، وأنا لم يكن لي يد في تلك الآثام؟ ويلي، ماذا عساي قائل؟ كيف أنقذ حياتي من هذه الآلام الشديدة التي لا دواء لها؟ آه لو أن الموت الأسود الذي لا مفر منه. ولو أن الليل البهيم حل ببائس معذب مثلي فأراحه!
ديانا :
أيها الشاب الشقي، أية كارثة حلت بك! إن قلبك الكريم قد عاد عليك بالدمار.
هبوليتس :
إن رائحة سماوية تشيع من حولي. إني أدركك بكل حواسي رغم ما يحيق بي من كروب. إن محضرك يخفف عني بعض الألم. هل ديانا بالدار؟
ديانا :
قريبا منك تقف ربتك المكرمة أيها الشاب المسكين.
هبوليتس :
هل ترين أيتها الملكة ما أعاني من شقاء؟
ديانا :
إني أرى. ولكن لا ينبغي أن تنحدر دمعة واحدة من عيني.
هبوليتس :
إن صائدك ورفيقك لم يعد على قيد الحياة.
ديانا :
أجل، إنه يفارق الحياة بيد القدر القاسية.
هبوليتس :
إن تماثيلك وجيادك لم تعد بعد موضع عنايتي.
ديانا :
لقد دبرت هذا فينس التي تحب فعل الشر.
هبوليتس :
ويلتاه! إني أحس بسلطانها، لقد حطمتني.
ديانا :
إنها تحسب أنك بعفتك قد أهدرت كرامتها.
هبوليتس :
هذه الإلهة القاسية قد حطمت ثلاثتنا.
ديانا :
أنت وأباك وزوجته المنحوسة.
هبوليتس :
إني أرثي لبؤس أبي.
ديانا :
لقد خدعته الإلهة المحتالة.
هبوليتس :
وا أسفاه يا أبت، ما أشد ويلاتك!
ثيسيوز :
إنها تهدني. الحياة يا بني شاقة على نفسي.
هبوليتس :
إني أرثي لخطئك أكثر مما أرثي لنفسي.
ثيسيوز :
وددت لو مت عوضا عنك يا بني.
هبوليتس :
إن ما وهبتك أمك فيتيون من عطايا مهلك مميت.
ثيسيوز :
وددت لو أن هذه الرغبة لم تخرج من بين شفتي.
هبوليتس :
وإذا لم يكن كذلك، فقد كان غضبك شديدا يحفزك على قتلي.
ثيسيوز :
لأن الآلهة قد حرمتني قوة الإدراك.
هبوليتس :
آه ما أشد نقمة الآلهة على الأحياء!
ديانا :
حسبك هذا. إن هذه الثورة القاسية العنيفة من فينس التي سحقتك لعفتك وعزمك الصادق لن تهوي في وهدة النسيان المظلمة بغير انتقام. كلا، إن هذا لن يكون؛ فسوف تحل نقمتي بضربة لازبة على واحد من أتباعها له في قلبها أعز مكانة بين البشر. وسوف ينالك مني أيها البائس العاني شرف رفيع في تروزين من أجل هذه الآلام. من أجلك سيقص العذارى - أجيالا طويلة - خصلات من شعر رءوسهن يهدونكها قبل ساعة القران، ويذرفن الدموع باكيات على مصيرك. ومن أجلك سوف تتغنى رفيقاتهن المتواضعات بالنشيد الحزين. ولن ينسى حب فيدرا أو يضيع بغير ذكر. وأنت يا ابن إيجيوز العجوز، خذ ولدك بين ذراعيك وعانقه؛ فقد قتلته بخطئك لا بإرادتك. والإنسان الفاني لا بد أن يخذل إن كانت هذه مشيئة الآلهة، وأنت يا هبوليتس كف عن بغض أبيك؛ لأن موتك على هذه الصورة من قضاء الله. والآن أودعك، لأني لا يجوز لي أن أرى الموتى أو من هم على أبواب الموت، فذلك يدنس عيني. وأنت قريب من الضربة القاضية.
هبوليتس :
ووداعا يا ديانا. اذهبي أيتها العذراء، بورك فيك. ولا تحزني لأن حديثنا الطويل قد بلغ في هذا المكان نهايته. وغضبي من أبي قد تلاشى نزولا عند إرادتك؛ فقد كنت أبدا أصدع بما تأمرين. إن الظلام يقبل على عيني. خذني يا أبتاه، خذني وضم أطرافي.
ثيسيوز :
وا حسرتاه يا بني. إنك تجعلني من البائسين!
هبوليتس :
إني أموت، وتتفتح لي أبواب بلوتو (عالم الفناء).
ثيسيوز :
وتخلفني بذنب لا يغتفر؟
هبوليتس :
كلا، فإني أبرئك من موتي.
ثيسيوز :
ماذا تقول؟ هل تعفيني من تهمة إراقة الدماء؟
هبوليتس :
اشهدي على ما أقول يا ربة القوس الذي لا يخطئ.
ثيسيوز :
بني العزيز، ما أكرمك مع أبيك!
هبوليتس :
وأنت يا أبت كذلك وداعا، وكن سعيدا!
ثيسيوز :
ما أطيب قلبك يا بني، وما أتقاه!
هبوليتس :
ارج الله أن يهبك أبناء مثلي كرام المولد.
ثيسيوز :
لا تهجرني يا بني، واحتفظ بقواك.
هبوليتس :
لا أستطيع بعد هذا أن أحتفظ بقواي. إني أموت. أسدل على وجهي قناعا، احجبه بقميصي (يموت) .
ثيسيوز :
يا ولايات بالاس، ويا بروج أثينا الشاهقة، ما أشد خسارتك بحرمانك من مثل هذا الرجل! وا شقوتاه! إن عقلي يا فينس سوف يذكر هذه الآلام في كثير من الأحيان!
الجوقة :
لقد حل هذا الحزن العام بأهل المدينة جميعا على غير انتظار. وسيذرف في سبيله الدمع الغزير؛ لأن نهاية العظماء التي تستحق الأحزان تصيب القلب في الصميم.
أفجنيا
تمهيد
كان أجاممنن الميسني ملكا على آرجس، وأخوه منلايوس بحق زواجه من هلن ابنة ليدا وتندارس - أو ابنة زيوس نفسه كما جاء في بعض الأساطير - ملكا على أسبرطة. وقد تزوج أجاممنن من كليتمنسترا شقيقة هلن عنوة واقتدارا. أما هلن فقد اختارت منلايوس بعلا لها من بين مئات الخاطبين الذين يطلبون يدها. وقد أقسم الخاطبون الذين لم يظفروا بالاقتران بها أن يقبلوا على معونة زوجها المختار إذا اعتدى عليها معتد أو خطفها خاطف. وذات يوم تمكن بارس بن بريم ملك طروادة من إغراء هلن بالفرار معه إلى أسبرطة. حينئذ هب منلايوس يطلب النجدة ممن تعهدوا بها فلبوا نداءه طائعين. وتجمعوا في أولس وعهدوا بالقيادة إلى أجاممنن أقواهم جميعا. ولكن الريح تراخت ولم يتمكن أسطولهم من التحرك إلى بلد العدو؛ وذلك لأن أجاممنن كان قد نسي عهدا أخذه على نفسه للآلهة عند زواجه بكليتنمسترا وذلك رغم اعتقاده في الآلهة وتقواه. وإلى أن يفي بهذا الوعد ويضحي بابنته أفجنيا لآلهة الصيد لن ترسل الآلهة الريح التي تدفع أسطوله إلى طروادة. وقصة التضحية بأفجنيا للآلهة هي موضوع المسرحية الأولى «أفجنيا في أولس».
وأقلع أجاممنن إلى طروادة وقاتل عشر سنوات متتابعات ظفر بعدها بالنصر المبين، ولكن زوجه كليتمنسترا لم تنس قط تضحيته بابنتها، فأحبت غيره في غيبته انتقاما منه. فلما عاد من القتال اشتركت مع زوجها الجديد في قتله. وأبعدت ابنها أرستيز شقيق أفجنيا إلى فوكس يتلقى تربيته الأولى هناك. وجاءت الأنباء الكاذبة بموته في المنفى، فاحتفلت الأم وزوجها بخلاصهما منه. ولكن أرستيز عاد إلى آرجس مع صديقه بلديز شابا فتيا، والتقى بأخته ألكترا، وقتل أمه وزوجها انتقاما لأبيه. ثم لاذ بالفرار، وظل ينتقل من بلد إلى بلد يؤنبه ضميره على قتل أمه رغم أنه كان في ذلك ينتقم لأبيه، ولكنه في خلال تجواله التقى بأخته الكبرى أفجنيا؛ وذلك لأن الآلهة كانت قد أنقذت أفجنيا من الموت واحتفظت بها في مكان بعيد.
وكان في لقاء الأخ بأخته راحة نفسية لأرستيز وخلاص لأفجنيا من بعد النوى، واستحوذ أرستيز على تمثال الآلهة أرتيمز، فأزال ذلك عنه لعنة الأرباب.
ولقاء أرستيز بأفجنيا هو موضوع المسرحية الثانية: «أفجنيا في تورس». وأصبح أرستيز بعدئذ ملكا على ميسيني وآرجس، وتزوج من ابنة عمه منلايوس وخلفه في الملك على أسبرطة بعد وفاته. وظل يحكم هذه الولايات الشاسعة حتى تقدمت به السن ولدغته أفعى فمات.
أفجنيا في أولس
مسرحية ألفها يوربديز (480-405ق.م)، ومثلت لأول مرة في أثينا عام 405ق.م
أشخاص المسرحية بترتيب ظهورهم
أجاممنن:
ملك ميسيني وآرجس، ابن آتريوس (أتريديز). وهو رجل طويل القامة، أسمر اللون، ذو لحية، في مقتبل العمر. يرتدي أول المسرحية معطفا طويلا وعباءة، ثم يظهر فيما بعد في عدة حربية كاملة.
رجل عجوز:
كان فيما سلف عبدا لتندارس الأسبرطي، وهو الآن في خدمة أجاممنن، رمادي الشعر، كث اللحية، يرتدي معطفا وعباءة خشنين، لونهما عسلي.
الجوقة:
وتتألف من ست فتيات من كالكس - وهي مدينة بجزيرة يوبيا - يرتديان القمصان والملاءات ذوات الأحجام والألوان المختلفة، غير أنها متشابهة الرسم. (يمكن أن يحل أي عدد من الفتيات من أربع إلى أربعين محل الجوقة الإغريقية القديمة التي تتألف من ثلاثين إلى أربعين راقصة ومغنية.)
منلايوس:
ملك أسبرطة، أخو أجاممنن، وزوج هلن، ذو شعر ذهبي، متورد، ضخم، لا تبلغ قامته قامة أخيه، يرتدي معطفا قصيرا وعباءة قصيرة، ثم يتسلح تسليحا كاملا فيما بعد.
رجل من ميسيني:
في خدمة كليتمنسترا، يرتدي معطف العبيد ذا اللون البراق.
كليتمنسترا:
ابنة تندارس، أخت هلن، وزوجة أجاممنن، وهي امرأة في الثلاثين من العمر، ذات مظهر يأخذ بالألباب، ترتدي قميصا طويلا وملاءة فضفاضة، تغطي رأسها وجسمها حتى ركبتيها، عليها رسوم ذات ألوان براقة على لون أبيض.
أرستيز:
صبي صغير، أصغر أطفال أجاممنن وكليتمنسترا، وابنهما الوحيد، يرتدي معطفا قصيرا وعباءة.
أفجنيا:
فتاة ما بين الثالثة عشرة والرابعة عشرة من عمرها، وهي كبرى بنات أجاممنن وكليتمنسترا، شقراء الشعر، ترتدي قميصا ساذجا وعباءة عليها رسوم ساذجة على لون أبيض.
حاشية كليتمنسترا:
رجال يرتدون معاطف قصيرة وعباءات خشنة، ونساء يرتدين قمصانا وملاءات ساذجة.
إكليز:
ابن بيليوس (بيليديز)، قائد الميرميدون أهل فنيا، شعره طويل مجعد ذهبي، ذو لحية قصيرة، مثال الرجل الرياضي، يظهر في أول المسرحية قليل التسليح، ثم يتم تسليحه فيما بعد.
جندي من آرجيف:
رسول من أجاممنن إلى كليتنمسترا. يتدرع بعدة حربية وخوذة من الجلد، ويمتشق سيفا قصيرا ورمحا، ويحمل ترسا مستديرا.
مقاتلون من إكيا مسلحون.
موكب التضحية:
كالكاس العراف - ويرتدي معطفا طويلا وعباءة طويلة وقبعة عالية - داوديسيوس، وقواد آخرون من إكيا في عدة حربية كاملة.
المنظر
لا يتغير من أول المسرحية إلى آخرها.
أولس تقع على البحر، إلى اليسار المدخل إلى بيت أجاممنن، وهو عبارة عن حائط به باب كبير يتألف من كتلتين عظيمتين من الحجر تميلان إلى الداخل وتعلوهما ثالثة، وباب من الخشب مغطى بالجلود ومرصع بمسامير من البرنز. وإلى اليمين قليل من الأشجار الملتوية تؤدي إلى غابة أرتيمي. وإلى الخلف أرض صخرية ترتفع من ساحل مضيق يوريس الذي تقع أولس على شاطئه الغربي، وعلى الشاطئ المقابل تقع كالكس (أي على الجانب الآخر من النظارة). الوقت قبيل الفجر، ويخرج أجاممنن من البوابة. ***
أجاممنن :
اخرج يا صديقي العزيز، واترك الباب.
الرجل العجوز (بعيدا) :
ها أنا ذا آت يا سيدي ، إني آت أي أجاممنن الملك. ماذا عسى أن تكون تلك الهموم والآلام التي يمكن أن توقظ ملكا وتؤرقه؟
أجاممنن :
ستعرف عما قريب.
الرجل العجوز (بعيدا) :
سآتيك مسرعا. (ثم يدخل)
لقد بلغت من العمر حدا لا أستطيع معه النوم، غير أن بصري ما يزال حادا.
أجاممنن :
خبرني، أي نجم ذلك الذي يتلألأ لامعا في زرقة السماء الدكناء؟
الرجل العجوز :
إنها الشعرى، ارتفعت خلال الليل وسارت إلى جانب «السبعة».
أجاممنن :
الطيور ساكنة، والبحر هادئ صامت، وحتى النسيم فوق بوريس قد تراخى هبوبه.
الرجل العجوز :
ومع ذلك فإن أجاممنن يترك داره وسريره، والنوم العميق يستولي في دعة على أولس، والحراس ما يزالون يرقبون ويخفرون في صمت وسكون. هيا بنا ندخل!
أجاممنن :
إني أغبطك حظك أيها الشيخ، وإني لأغبط كل من يقضي حياته في أمن مصونا من الخطر، مختفيا عن الدنيا، لا تعرفه الشهرة. إن هموم الملوك لا تشتهى.
الرجل العجوز :
الملكية كنز ثمين، ومكانة شريفة.
أجاممنن :
مكانة مزعزعة، تكدر صفوها المنافسة. إن في طلب المجد متعة وفي الظفر به ألم واضطراب. إن الآلهة لا تعفو عن الإهمال، وفي قضائها الهلاك، ومطالب الرجال العنيفة تبدد ساعات العمر ولا تترك العقل مطمئنا في سلام.
الرجل العجوز :
إن هذه الكلمات لا تليق بشرف الملوك. إن ابن آتريوس لم يولد ليعيش في سلام ورفاهية لا يشوبها كدر. أنت رجل، ولا بد أن تتلقى السرور والأحزان كما تأتيك. فغض الطرف عما تريد لأن إرادة الله لا تتغير. لقد رأيتك تشعل المصباح وتكتب تحت ضوئه خطابا ما زلت تحمله في يدك. ولقد كتبته مرتين، وختمته مرتين، ولكنك عدت ففضضته، ثم ألقيته إلى الأرض، وأخذت تبكي كأنما غلبك الحزن. أي سيدي المليك، ماذا عسى أن يكون الهم الذي تحمله بين جنبيك؟ حدثني بصراحة، فإنني رجل محنك مخلص، أرسلني تندارس منذ سنين مضت مع زوجك إلى ميسيني.
أجاممنن :
أجل، لقد أتيت مع زوجي ابنة ليدا، وكان لها أختان، فيبي وهلن، وقد تعشق هلن كل الأمراء، وتوعدوا بالانتقام إذا ذهب عشقهم هباء . ولم يعرف تندارس كيف يختار لها زوجا، فطلب إلى الأمراء أن يقسموا يمينا ويعقدوا الأيمن وهم يصبون النبيذ على نيران التضحية. فأقسموا لو أن إنسانا تجاسر أن يقبض على العروس ليقدمن لزوجها جميعا يد المعونة، وليقبلن شاكين السلاح ويجعلن بلد الغاصب حطاما وآكاما. وبعدما أقسموا اليمين جميعا، أمر تندارس ابنته أن تختار من تحب، فاختارت منلايوس، ويا ليتها ما فعلت!
ثم قدم إلى أسبرطة بارس الفريجي الذي يقضي - كما يقولون - بين جميلات ألمبس، متزينا بالذهب وأصباغ الشرق، يبهر العين برشاقته وسذاجته. وغازل هلن، وقبلته، فحملها إلى غابات أيدا النائية. لقد سرق هلن الحسناء في غيبة زوجها. فهام منلايوس على وجهه في آكيا، وأهاب بملوك هلاس أن يوفوا بوعودهم وينتقموا للإساءة التي لحقته، فأجاب أهل أرجيف بحشد كبير من الرجال والعربات والسفن، وتجمعوا هنا في أولس، واختاروني قائدا لهم، أنا أجاممنن الميسيني ابن آتريوس، كي أرد شرف أخي منلايوس. وكم تمنيت لو وقع اختيارهم على غيري!
وها نحن أولاء نقيم في أولس، ننتظر عبثا أن تقلع السفن. والقواد يتميزون غيظا في أماكنهم، وقلوبنا قد خارت من الفهم والكآبة. والآن يعلن كبير الكهنة كالكس أن أرتيمس إلهة هذه البلاد تطلب التضحية، وأن الضحية يجب أن تكون كبرى بناتي أفجنيا. وبعدئذ تتلطف الرياح وتحملنا سريعا فوق البحر إلى طروادة التي سوف تنهار بروجها أمام قوتنا. ولو رفضنا تقديم التضحية حرمنا هذه الثمار. وقد أمرت ثالثيبيس المنادي أن يدق طبله ويعلن بين الجند أمرا بالتسريح والعود إلى بلادهم لأني لن أقتل ابنتي. كلا، لن أفعل هذا لأي إله. ولكن أخي توسل إلي، وأغريت باقتراف الفظائع، فكتبت كتابا وأرسلته إلى زوجي، وطلبت إليها أن تبعث بابنتها إلى هنا - إلى أولس - كي تزف إلى إكليز، وأثنيت أعطر الثناء على ابن ثيتس، وزعمت أنه لن يبحر معنا إلى طروادة حتى يؤتى له بعروسة إلى هنا. وسرعان ما صدقت زوجي أكذوبة زواج ابنتها، ولم يعلم بكلمة من هذا سوى كالكس ومنلايوس وأودسيوس (يبدو الخوف على أجاممنن)
في هذا الخطاب (يظهر المخطوط الذي بيده)
الذي شهدتني وأنا أكتبه الآن أنقض ما أمرت به، وأبطل - على مضض - ما أغروني بعمله. خذ هذا الخطاب واذهب على عجل إلى آرجس. ولما كنت مخلصا لزوجي وصادقا معي فسأتلو عليك الرسالة.
الرجل العجوز :
اتلها يا سيدي كي تطابق كلماتي ما كتبت.
أجاممنن (يقرأ) : «ابنة ليدا، لا عليك مما أمرتك به في رسالتي السابقة؛ فإني أرجوك ألا تبعثي بابنتك إلى أولس في يوبيا؛ فإن زواجها لن يحتفل به قبل أن ينقضي عام آخر.»
الرجل العجوز :
ولكن إكليز سوف يغضبه أن يفقد عروسه الموعودة، أفلا تخشى ذلك.
أجاممنن :
إننا لم نعد أن استغللنا اسمه؛ فإن إكليز لم يسمع كلمة واحدة عن زواجه من ابنتي.
الرجل العجوز :
إيه يا ملك الرجال! ألم يكن من التهور والخطر أن تذكر اسم ابنتك كعروس موعودة لإكليز كي تستهويها إلى هنا ثم تضحي بها من أجل آكيا؟
أجاممنن :
إن الجنون يستولى علي، وإنه لجنون جهنمي! هيا اذهب، وانس شيخوختك، وكن سريعا.
الرجل العجوز :
إني ذاهب يا مولاي.
أجاممنن (مشتت الذهن) :
لا تتلكأ في الطريق كي تشرب أو تستظل أو تنام.
الرجل العجوز :
حاشا لله!
أجاممنن :
وعندما يتفرع الطريق انظر حواليك وافتح عينيك خشية أن تمر بك العربة السريعة التي تحمل ابنتي إلى أساطيل آكيا دون أن تراها.
الرجل العجوز :
لن أقصر في هذا.
أجاممنن :
وإذا التقيت بهم فرد خيولهم إلى ميسيني. هيا انطلق، ولا تلبث هنا بعد هذا.
الرجل العجوز :
كيف أستطيع أن أحمل زوجك على تصديقي؟
أجاممنن :
خذ الخاتم الذي طبعت به الخطاب. وهيا انطلق؛ فإن ضوء الصباح الناصع يبشر بمقدم جياد النهار المتقدة. وهل لك أن تعينني في حاجتي! (قانطا)
إن الإنسان لا يسعد إلى النهاية، فلكل فرد ساعته المؤلمة. (ينطلق الرجل العجوز مسرعا إلى اليمين فوق المسرح وأجاممنن يلفظ الكلمات الأخيرة. ويتحول الفجر إلى رمادي إلى وردي. ثم يعود أجاممنن إلى بيته، ويتحول اللون الوردي إلى لون ذهبي.) (وتدخل الجوقة من الركن الأيمن، وهي تتألف من بضع فتيات من كالكس، وقد نزلن عند ساحل البحر المجاور من وقت قريب. ويقبلن في مرح فرادى ومثنى، وقد أرخين ذيول أرديتهن التي يتسترن بها. وهن ينزلن من الزوارق، وأخذن يصلحن من زيهن. وقد أتين لمشاهدة الجيوش المحتشدة في آكيا، وتتولى قيادتهن واحدة منهن.)
أولى أفراد الجوقة :
والآن يا رفيقاتي الطروبات، إننا نطأ أرض أولس التي طهرتها مياه البحر وغمرت رمالها الشمس. لقد اجتزنا مضيق يوربس الضيق وخلفنا وطننا كالكس هناك (مشيرة نحو المستمعين)
حيث يتدفق نحو الشاطئ نهر أريثيوسا الفضي.
الثانية :
عجبا! أين مضرب خيام الأبطال، وأين السفن الحربية المحتشدة؟
الثالثة :
هذه ألوف السفن في خليج أولس تنتظر أن تقلع صوب طروادة، (تشير أمامها إلى اليسار)
وهؤلاء رجال مدججون بالسلاح أقبلوا من كل أنحاء آكيا، ويقول أزواجنا (مشيرة يمينا ويسارا)
إن أجاممنن الملك يقودهم لينتقم لأخيه منلايوس ذي الشعر اللامع من أجل اختطاف عروسه هلن ذات الشعر الذهبي.
الأولى :
لقد سرقها بارس وفر بها. أعطته إياها أفروديت هدية له. إن هري ملكة السماء وبلاس وسيبرس قد تنازعن من أجل جائزة الجمال على سفوت أيدا عند حافة النبع الندي. وكان بارس كلما يبنهن، وتنافس الآلهات - وقد شع منهن نور السماء - كل منهن ترجو رضاء هذا الراعي. وقد فازت سبيرس في هذا النضال، فمنحت بارس «هلن» هدية له، ففر بها.
الرابعة :
إني أبحث عن غاية أرتيمس المقدسة، حيث تتدفق في ضوء البدر وماء الضحية التي قدمت قربانا ل «الصائدة العذراء». هيا بنا نعبرها مسرعين.
الخامسة :
إني أحس بالدم الحار يسرع إلى وجنتي، إنه فرح الشباب، وإني لأتحرق شوقا لرؤية صفوف الخيام، والخوذات المرتفعة، والجياد وهي تصهل، والمقاتلين وهم يفخرون.
السادسة :
في كنف إحدى الخيام يجلس آجكس بن أويليوس إلى جوار أحلس العملاق ابن تلمن، وهما يلعبان «الداما» مع بروتسلاوس.
الرابعة :
وبلاميديز - وهو من أهل بوزايدن - يقذف القرص مع ديومد. يا لها من قذفة تلك التي شهدت! وها هو ذا مرين ينضم إليهما، إنه لبطل صنديد جميل المحيا رشيق الحركة .
الخامسة :
وذلك أودسيوس أمير أثكا التي تلقي شطآنها الصخرية ظلالها فوق البحر، وهنالك يجري نيريوس أجمل رجال أرجيف.
الثانية :
وإكير، الذي حملته الآلهة ثيتس، إكليز تلميذ كيرن العجوز القنطورس
1
يتذرع بعدة الحرب الصقلية، ويسرع نحو الشاطئ. وذلك يوملس الفيري يسوق أمامه عربة حربية، وأنى يهيب بالجياد المطهمة. إن أطراف لجمها مزركشة بالذهب، وتلك التي تحمل الغير رمادية اللون رقطاء، وذلكما الجوادان الجانبيان اللذان يحملان العنان بياضهما ناصع أشهب. وبيليديز أسرع في عدوه من العربة، والحوافر والعجلات تقذف بالحجارة إلى أعلى، ولكن إكلير، وهو يتألق في عدته الحربية النحاسية يجري إلى جوارها.
الثالثة :
إنني ألتفت فأرى السفن ذات الأطراف المدببة في الخليج، وإنه منظر رائع عظيم. وعلى اليمين تسير خمسون سفينة جريئة تحمل فوق مقدماتها شارة إكليز المصنوعة من الذهب المنحوت، ذلك هو أسطول الميرميدون قادم من بلاد فثيا النائية.
الأولى :
وسفن آرجس - التي ترينها إلى جوار هذا الأسطول - تبلغ مثل هذا العدد. ثم تتلوها قوات تليديز وستلس الجسور المقدام. ووراءها سفن أثينا، وعددها ستون، وهي تحت قيادة ابن ثيسيوس، وفوق مقدمة كل سفينة ينتصب تمثال لبلوس متألقا في ألوان زاهية.
الرابعة :
وقد أتى محاربو بيوشيا في خمسين سفينة، تحمل كل منها فوق مقدمتها تمثالا لكادمس من الذهب بين يديه أفعوان. وقائدهم لايتس الذي بنيت أسلافه جميعا مسلحين من بطن الأرض ذات الأخاديد.
الثالثة :
وهذا أسطول من فوكس، وهنالك صفوف آجكس بن أويليوس وقد أتى رجاله من لاكرس، من سهل ثونين الشهير.
السادسة :
آه! انظرن. ها هو ذا أتيريديز يسير على رأس قواته قادما من بروج ميسيني الشامخة التي رفع أسوارها سيكلبس. كم عددها؟ أقسم أنها مائة.
الخامسة :
وقد شهدت زعيم أسبرطة المضام إلى جوار أخيه تسود بينهما المودة. شهدت منلايوس، الذي خدعته هلن، والذي سوف تنتقم له آكيا.
الثانية :
وتلك السفينة التي نحتت على مقدمتها صورة عجل، والتي تبدو كأنها لا تعبأ بالرمال، تقود أسطول بلس؛ تلك البلاد التي يحكمها نستر العجوز المشهور ملكا عليها. والسفن الاثنتا عشرة التي ترسو إلى جوار هذا الأسطول قادمة من ساحل إيذيا الذي اكتسحته الزوابع. ووراءها زعماء إيلس. أهل أبيا الشجعان.
الأولى :
وإلى جوارها سفن تيفس التي يقودها ميجيز. إنهم ملاحون ماهرون أولئك الذين يبحرون إزاء ذلك الساحل الخطر.
الرابعة :
وفي المؤخرة تمخر عباب الماء زوارق آجكس السلاميس السريعة. إنها تركب متن الموج في عظمة وأبهة.
الخامسة :
لو أن ذلك البربري جرؤ على أن يقابل صفوف آكيا الحربية، فسوف يغرق مهشما تحت مياه إيجيا الزرقاء، ولن يعود جنوده المحاربون إلى شواطئ ترولس.
السادسة :
لقد سمعت، ولقد شهدت، ولن تغيب عن ذاكرتي ساعة من ساعات هذا اليوم، ولا نبرة، ولا منظر، بعدما أعود ثانية إلى كالكس وأبلغ أرض الوطن. (يدخل من اليمين منلايوس والخادم العجوز مكافحا في سبيل خطاب أجاممنن، ويصطف أفراد الجوقة في نصف دائرة ويقفن وقفة طبيعية بمقدار ما يستطعن.)
الرجل العجوز :
إنك تسيء إلي أيها الملك منلايوس، إنك تسيء إلي.
منلايوس :
ويحك! ينبغي لك أن تخلص لسادتك.
الرجل العجوز :
الإخلاص موضع شرفي وافتخاري، فلا تلمني على التقصير فيه!
منلايوس :
ولو قصرت في واجبك فسوف تندم.
الرجل العجوز :
لا ينبغي لك أن تستولي على الخطاب الذي أودعه مليكي تحت رعايتي.
منلايوس :
وأنت لا ينبغي لك أن تحمل خطابا يغدر بنا جميعا.
الرجل العجوز :
هذا ليس من شأني. ناولني الرسالة.
منلايوس :
لن أفرط فيها.
الرجل العجوز :
ولن أتنازل عنها.
منلايوس :
سأهشم رأسك بعصاي.
الرجل العجوز :
ما أعذب الموت في سبيل الأمانة!
منلايوس :
اغرب عني! هل ينازع عبد ملكا! (أجاممنن يخرج من البيت.)
الرجل العجوز :
مولاي! لقد أسيء إلينا. إنه انتزع رسالتك مني عنوة، يا له من رجل لا يخجل!
أجاممنن :
ما معنى هذه الضجة الذميمة عند بابي؟
الرجل العجوز :
استمع إلي يا مولاي، فإنني على حق.
أجاممنن :
لماذا يا منلايوس أنت معه عنيف إلى هذا الحد؟
منلايوس :
جابهني إن جرؤت، وبعدئذ أحدثك.
أجاممنن :
إن أجاممنن بن آنريوز لا يخشى النظر إلى أحد.
منلايوس (مظهرا المكتوب) :
أفلا ترى هذا المكتوب الذي يحتوي على أوامر تنطوي على الخيانة؟
أجاممنن :
نعم أراه، سلمه بغير توان!
منلايوس :
لن أفعل هذا حتى يعلم أهل آكيا أجمعين ما سطر فيه.
أجاممنن :
هل فضضته، وعلمت ما لا ينبغي لك أن تعلم؟!
منلايوس :
هل القول يفضحك ويظهر ضعتك الخائرة.
أجاممنن :
من أين سرقته؟ وحق زيوس إنك لا تخجل.
منلايوس :
كنت أرقب الطريق من آرجس منتظرا مجيء ابنتك.
أجاممنن :
أفتتجسس! ولا تخجل؟
منلايوس :
إني أفعل ما أريد، فلست من عبيدك.
أجاممنن :
أفتريدني أن أستأذنك في أمر آمر به أهل بيتي؟
منلايوس :
إنك لا تعرف ما تريد، وتتغير مع كل لحظة زائلة.
أجاممنن :
حقا إن لديك للسانا لبقا، ولكن صدقني إن لسان الأفعى ممقوتة كالطاعون.
منلايوس :
إن العقل المتردد علامة الجبان ونذير لأصدقائه. إني سوف أكشف عن سريرتك، ولو حاولت - كبرا وصلفا - أن تحيد عن الحق، فلن يكون نصيبك من الثناء إلا قليلا. ألا تذكر كيف أنك - وأنت تطمع في تولي قيادة جند آكيا جميعا - تظاهرت بأنك لا تأبه بالقيادة، في حين أنك كنت بها جد مشغوف؟ كم كنت متواضعا! تحيي الناس أجمعين، وتفتح باب بيتك وخوانك للعظيم والحقير على السواء، وتخاطب بعذب اللفظ كل فرد، حتى إن كان المستمع لا يحب أن يتحدث إليك. لقد ظننت أنك تستطيع باللطف واللين أن تشتري ما يصبو إليه قلبك. وما إن ظفرت بالقيادة العليا ... آه ... حتى غيرت من طبعك، فلم يلق منك أصدقاؤك غير النذر اليسير من الود، بل كثيرا ما أنكر عليهم وجودك. (أجاممنن ينهض ويهم بالانصراف، وكان قد تراجع أمام هذا السيل الدافق من الكلمات الغاضبة)
وهل يجدر برجل شريف أن يسلك هذا السلوك! الرجل الشريف حين يظفر بالنفوذ ينبغي له أن يكون أكثر قربى إلى أصدقائه؛ لأنه يستطيع حينئذ أن يكون أكثر نفعا لهم. وهذه هي تهمتي الأولى التي أدل بها على ضعتك. لقد أتيت إلى أولس، حيث تجمع أهل آرجيف جميعا تحت إمرتك، وكلهم مدجج بالسلاح. وضنت علينا الآلهة بنسيم يملأ قلاعنا ويدفع فلكنا إلى طروادة. حينئذ تضاءلت حتى تلاشيت، وتوسل إليك المحاربون أن تفرق السفن . ولا تبقي عليها هنا متراخية لا تتحرك، ولكنك أبيت كل الإباء، وغضبت أشد الغضب! إنك لو فعلت لفقدت تأمرك على ألف سفينة حربية. ولما تزعمت صفوف المعركة فوق سهول إلين! حينئذ أتيت إلي - أنا أخوك - باكيا وسألتني: «ماذا عساي أفعل، وأية خطة أتبعها حتى لا أفقد هذه القيادة العليا، وأحرم من هذا الشرف الرفيع؟» فصرح كالكس - بعد تكهنه المقدس - أن أرتيمس المهابة، ربة هذه الغابة، تتطلب التضحية بفتاة عذراء في سن الزواج، وتلك هي ابنتك أفجنيا. بعدئذ يستطيع جيش آكيا أن يبحر في عرض بحر إيجيا. فما كان أشد سرورك!
أجاممنن (مقاطعا) :
كلا.
الجوقة :
عجبا!
منلايوس :
إنك وعدت بالضحية راغبا!
أجاممنن (مقاطعا) :
كلا، كلا بل أرغمت.
منلايوس :
برضاك لا برغمك، لا تقدم هذه المعذرة، برضاك بعثت برسالة إلى زوجك وطلبت إليها أن ترسل ابنتك إلى هنا زاعما أنها ستزف إلى إكليز، ولم تنقض بضع ساعات حتى أسفت - لما في طبيعتك من تردد - على هذا العمل، فقمت سرا بتحرير خطاب آخر تنقض به ما جاء في الخطاب الأول؛ لأنك الآن - وايم الحق - لا تحب أن تكون قاتل ابنتك. والله الذي يعرف عنك كل هذا على ما أقول شهيد. إن مثل هذا قد حدث من قبل للألوف، يقسمون بشرفهم متهورين، ثم يتراجعون عن الأمر خجلين، يلحقهم الخزي من لوم زملائهم، ويحكم عليهم العدل بالإدانة، لأنهم قد أحسوا - عند الاختيار - بعجز قواهم عن حفظ العهود. إنني أبكي مصير آكيا بكاء مرا! سرعان ما تجمع أبطال الولايات ليصبوا النقمة على رءوس البرابرة، أولئك البدو الرحل المتوحشين، والآن يتفرقون إلى أوطانهم، ويصبحون سخرية أعدائهم من جرائك وجراء ابنتك. لن ينتخب بعد اليوم ملك أو قائد للثورة وحدها. إن من يحكم الدولة أو يحمل عصا القيادة لا بد أن يكون حكيما. الزعيم ينبغي أن يكون عاقلا في مشورته.
أولى أفراد الجوقة :
ما أشد فزع المرء حينما يستمع إلى أخوين يتنازعان.
الثانية :
إني أخشى أن تؤدي أمثال هذه الكلمات المريرة إلى الشجار.
أجاممنن :
إنني أرفض حكمك، وسأحاول أن أؤنبك ولكن بغير صلف، وسوف أتوخى الاعتدال ما استطعت؛ لأنك أخي، والرجل الشريف قد يزل زللا يسيرا. أرجو أن تخبرني لماذا تثور هكذا محتدا غاضبا؟ لماذا تقلب عينيك الملتهبتين حانقا؟ من آذاك؟ ماذا فقدت؟ هل تتوق إلى زوجة، هل تتوق إلى زوجة شفيقة غنية؟ إني آسف إذ ليس في وسعي أن أمنحك مثل هذه الزوجة. ولكنك فرطت في الحرص عليها، فهل لا بد لي - وأنا بريء من كل خطأ في هذا - أن أكابد المشقة من أجل تقصيرك في رعايتها؟ وهل يمزق الحسد قلبك من أجل ألقاب الشرف التي تنهال علي انهيالا؟ إن اشتهاءك زوجة حسناء يعدو كل حدود العقل والحشمة. إن مسرات الرجل الوضيع دنيئة. لماذا تتهمني بضعف الحكم إذا كنت - وقد أقررت قرارا خاطئا - أرجع عن مقصدي بعد التفكير السديد، إنما يعدم سداد الرأي رجل فرت منه زوجه، ثم يتحرق شوقا إليها غير عابئ بالهوان والعار. اعلم أن طالبي الزواج من هلن حينما أقسموا يمينهم لتندارس في نزوة طيش، إنما فعلوا ذلك أملا في العروس الحسناء وغيرة عليها، لا من أجل سحرك وقوتك. فادعهم الآن وسر بهم إلى القتال، وستعلم - حينئذ - قيمة الوعود العاجلة. إني لن أذبح ابنتي من أجلك. وهل من العدل أن أقتلها كما تريد لكي تلقى زوجتك الآثمة عقوبتها؟ إني لو أسأت إلى أطفالي لذابت ليالي وأيامي في الدمع المرير. هذه قضيتي في إيجاز، فإذا كنت تصم أذنيك عن العقل والمنطق، فسأصدر أوامري في شئوني.
ثالثة أفراد الجوقة :
يا له من رجل مسكين! إن فؤاده يعذب.
الرابعة :
إن حزنه أعظم من غضبه.
منلايوس :
لعنة الله علي. إنني رجل بغير صديق.
أجاممنن :
لقد حطمتهم جميعا.
منلايوس :
هل يمكن أن نكون - أنت وأنا - من أب واحد؟
أجاممنن :
إنك لمجنون، ولكني أنا سوف أفعل الصواب.
منلايوس :
إن الأصدقاء المخلصين يقتسمون ساعة الحزن.
أجاممنن :
وإذن فكن صديقا لي، ولا تكن حمما من الجحيم.
منلايوس :
ينبغي لك أن تحمل عبء أحزانك من أجل آكيا.
أجاممنن :
وهل أصاب الله آكيا بالجنون كما أصابك!
منلايوس :
إن همك الوحيد هو عرشك، ولكنك لأخيك خائن. سأبحث عن وسائل أخرى وأصدقاء آخرين. (يدخل رجل من ميسيني جاريا.)
الرجل :
مولانا الملك، لقد أتيت بابنتك أفجنيا آمنة إلى أولس. وبعد غيابك الطويل عن بيتك ستقر عينك مرة أخرى عند رؤية ابنك أرستيز والملكة زوجك كليتمنسترا التي أتت إلى هنا لرعاية كبرى بناتها. إنهم الآن ينفضون وعثاء السفر الشاق الطويل ويريحون أطرافهم المنهوكة تحت الظلال العطرة على شاطئ النهر الدافق، بينما تقبل الخيول في نهم على الحشائش النضرة ترعاها بعدما أزيلت عن كواهلها الأنيار، وقد سبقتهم جاريا حتى لا يصلوا بغير إعلان أو ترحيب. وقد سمع المحاربون في أرجاء المخيم أن أفجنيا قد أقبلت. وانتقل الخبر في سرعة البرق من جماعة إلى جماعة، والكل يسارع كي يظفر بنظرة إلى الأميرة؛ لأن العظيم يبدو - في عين الحقير - كأنه يشع نورا سماويا. وهم يتساءلون: هل أتت إلى أولس لزفافها؟ ويقول آخرون إن الملك أجاممنن قد أرسل في طلب ابنته حبا فيها وشغفا بها ورغبة ملحة في رؤياها. وهناك - برغم هذا - إشاعة سائدة أنها سوف توهب إلى أرتيمس إلهة غابة أولس. أين العروس أيها الملك؟ أعد الطقوس، وتزين بتيجان الذهب وبالزهور، وجهز يا سيدي منلايوس حفلات العرس، ولتردد قاعات أولس صدى النغم الطروب والرقص البهيج؛ فهذا يوم الأيام في حياة الفتاة العذراء.
أجاممنن :
حسنا فعلت، وأنا لك على هذا شاكر. أرجوك أن تدخل الدار. كل ما يريده الله حسن (يدخل الرجل من الباب الكبير) . أما عني، فماذا عساي أن أقول؟ من أين أبدأ؟ لقد أوقعتني الأقدار في الشباك، والله - وهو أحكم مني في الخطط العابثة التي أرسمها - أحكم حولي حبائلها. وددت لو لم أكن ملكا؛ فالرجل من عامة الناس يستطيع أن يبكي ويولول على نكبته، ولا يستطيع هذا من كان ذا مولد كريم. إن الكبر يتحكم فينا ويجعل منا عبيدا لإخواننا من بني الإنسان. إني أشعر بالخزي لو رآني أحد والدمع يترقرق في مقلتي، ولكني بيني وبين نفسي أخجل من جفاف عيني في مصيبتي. والآن ماذا عساي أقول لكليتمنسترا؟ كيف أستطيع الترحيب بها؟ كيف أقابل عينيها؟ لماذا أتت ولم آمرها بالمجيء، فتضاعف من بلواي؟ من الطبيعي أن ترافق ابنتها، ومن اللائق أن تكون هنا كي تحتفل بزواج ابنتها، ومن الصواب أن تبارك في العرس وهكذا وقعت في الشراك. وستكون ابنتي المنكودة الحظ في القريب عروسا «للموت». إن قلبي يتفطر من أجلها.
وإني لأسمعها تصيح أمامي وتقول: «أي أبي، أفتقتلني؟ وهل هذا هو الزواج الذي أعددته لي؟ أرجو الله أن يمتعك وكل من تحب بعناق الموت!» وسيبكي أرستيز الصغير بصوته الناعم على فقدان أخته. يا إلهي، إلى أي دمار ساقني بارس بن بريام! بارس الخائن وهلن الغادرة!
أولى أفراد الجوقة :
إن الدموع تنحدر على وجنتي. وإني - وإن كنت غريبة - لأحس كأن هذه القصة المحزنة تقطع نياط قلبي.
منلايوس :
أخي، مد إلي يدك واعف عني!
أجاممنن :
ها هي ذي، لك النصر مهما كلفني.
منلايوس :
وحق بيلبس، سيدنا العظيم، إن الألفاظ لتخرج حارة من قلبي بغير رياء وأنا أشهد الدمع في عينيك يا أخي، وتنبعث مع كلماتي الزفرات على حزنك. تناس كل ما طلبت إليك، تناس كلامي المرير. يجب ألا تذبح ابنتك لتحقق لي رغبتي. لماذا يقاسي أبناؤك ويعيش أبنائي؟ ألست أستطيع أن أجد لي زوجة أخرى، إن كان هذا هو ما أريد؟ وهل لا بد للظفر بهن أن يدفع أخي الثمن بتحمل المصائب؟ ما كان أشد جنوني وقسوتي حينما رغبت في موت فتاتك العذراء! وإنه لمما يدعو إلى الحسرة أن تذبح ابنة الأخ لاسترداد زوجة آثمة. ما لأفجنيا ولهلن؟ ألا فليتفرق جند آرجيف من أولس. لا تحزن بعد هذا يا أخي، فأحزانك أحزاني. ولنصم آذاننا عن الكاهن الذي حكم على ابنتك بالفناء! سوف أؤيدك، وسوف ترى كيف أنكر ما بدر مني من عنف. أليس من الصواب أن أبدل منطقي من أجل حبي أخي؟ لا تحسبني عبدا للشهوة الدنيئة.
أولى أفراد الجوقة :
يا لها من كلمات نبيلة جديرة بتانتلس بن زيوس! حقا إنك ابن قومك.
أجاممنن :
منلايوس، أشكرك على ما قلت. إنها مفاجأة مشكورة، ولكنها جديرة بأخي المخلص. عجبا كيف يفرق الزواج بين الأخوين فيتحول حب القربى إلى رابطة بغيضة؟! ولكني لا أرى طريقا لإنقاذ ابنتي من المذبح الملطخ بالدماء.
منلايوس :
ماذا! ومن ذا يستطيع أن يرغمك على ذبحها؟
أجاممنن :
جيوش آكيا المتحدة.
منلايوس :
أعدها إلى ميسيني.
أجاممنن :
يمكن هذا سرا، ولكن لا نستطيع أن تفر من النتائج.
منلايوس :
أي نتائج؟ لا تخش الجماهير!
أجاممنن :
إن كالكس سيعلن كهانته أمام الجمهور.
منلايوس :
لن يفعل هذا إذا لحقه الموت أولا، وهذا أمر يسير.
أجاممنن :
الكهان قوم يصنعون السوء ويتصفون بالطمع.
منلايوس :
وليس من ورائهم خير ولا نفع حيثما كانوا.
أجاممنن :
وهناك ما هو أسوأ من هذا.
منلايوس :
لا أستطيع أن أتكهن ماذا عسى ذلك أن يكون.
أجاممنن :
يعرف ذلك ابن سسفس.
منلايوس :
ماذا يستطيع أودسيوس أن يفعل بك أو بي؟
أجاممنن :
أخشى مكره، فهو يصانع الجمهور لينال حظوته.
منلايوس :
لقد أصابه الله بنقمة الطمع.
أجاممنن :
ألا تراه واقفا بين جند آرجيف يعلن ما أجاب به كالكس، ويخبرهم كيف وعدت أرتيمس بتضحية ثم خدعتهم؟ إن الجمهور سوف يتبعه، ويقتلنا، ويسوق الفتاة إلى الموت. ولو فررنا فسيجتاحون آرجس، ويدكون أسوار سيكلبس، ويقضون على ميسيني. ماذا عساي أفعل؟ أية لعنة حلت بي! أي منلايوس، افعل هذا على الأقل من أجلي، راقب كليتمنسترا حتى لا تسمع بكلمة واحدة من هذا حتى تتم التضحية، واعفني من دموع الأم! وأنتن يا نساء كالكس، والزمن الصمت. (يخرج أجاممنن ومنلايوس ويختفيان خلف البيت من اليسار.)
أولى أفراد الجوقة :
سعيد من يعتدل في عبادة أفروديت! فالاعتدال يعفي المرء من عذاب تلك العاطفة الثائرة التي توخز الضمير.
الثانية :
أجل، إن أيرس ذو الشعر المجعد الأشقر يطلق من قوسه سهمين أحدهما يجلب السعادة الهادئة، والآخر يصيب الحياة نفسها بجرح أليم.
الأولى :
قيني، أفروديت، من مثل هذا الويل! وامنحيني الوفاق في حياتي الزوجية! هبيني جمالا متواضعا، وأوحي إلي بالمحبة المعتدلة! إلهتي، امنحنيني الحب ، ولا تمنحينني إياه في إفراط.
الثالثة :
إن أخلاق الرجال ووسائلهم تختلف، ولكن المستقيم العادل منهم واضح بين الجميع دائما. إن التربية الحسنة تدريب على الفضيلة.
الرابعة :
من الحكمة أن نقدس المظاهر، والسير على طريق الحق سار، والشهرة الطيبة التي يجلبها الحق تاج على الرأس لا يزول مدى الحياة.
الثالثة :
إن اتباع الفضيلة بين النساء منبع للسعادة لا ينفد، واتباعها بين الرجال زينة للعقل تؤدي إلى جلال المنصب وبعد الصيت بين الناس.
الخامسة :
أي بارس، يا من كنت ترعى الماشية البيضاء على منحدرات أيدا. أي بارس، يا من ترنمت بأنغام أولمبس في مزمارك - الذي قد من بوص فرجيا - والثيرة الصابرة ترعى. أي بارس، يا قاضي الجمال، إنك حينما أرسلت إلى قاعات أسبرطة العاجية، بعثت جنون الحب في عيني هلن، وأصابك أيرس بجرح دام.
الأولى :
وجلبت الحرب على طروادة، فها هم جنود آكيا يتجمعون بعجلاتهم ورماحهم وفلكهم ليحيلوا حقول ترواس الخصيبة يبابا بلقعا.
السادسة :
انظرن أفجنيا ابنة الملك العظيم وأمها الملكة كليتمنسترا ابنة تندارس النبيل تقتربان. ما أعظم بركات الأمجاد! وما أقدر الآلهة الذين يوزعون القوة بين الأحياء!
الأولى :
دعونا بنات كالكس نقف هنا، ونتناول يد الملكة النبيلة وننزلها من عربتها. امددن أيديكن الرقيقة وخاطبنها مترفقات خشية أن تفزع ابنة أجاممنن الحسناء. (تتجه الجوقة نحو اليمين، وتتقدم زعيمتهن للقاء كليتمنسترا أرستيز وأفجنيا.)
كليتمنسترا (من بعد) :
أرجو أن تمددن إلي يد المعونة حتى أستطيع أن أهبط من مقعدي (تدخل من اليمين)
إن ترحيبكن الودي الشفيق فأل حسن يبعث في الأمل في أن يكون زواج ابنتي التي أرافقها الآن من أجله سعيدا (تدخل حاشية محملة بالصرر)
احملوا الهدايا إلى البيت باعتناء. وأنت «أفجنيا»، يا ابنتي، اهبطي من العربة، وسيعاونك على النزول هؤلاء الفتيات؛ فأعضاؤك ما زالت متوترة منهوكة. (تدخل أفجنيا)
قفي إلى جانب رأس الجواد؛ فأعصابه متوترة إلى حد يفوق التصور. خذي أرستيز ابن الملك أجاممنن! إنه ما يزال صبيا صغيرا (تحمل الفتاة السادسة من أفراد الجوقة أرستيز فوق ذراعيها) . عجبا! إنه نائم، لقد أنهكته الرحلة وهدهده ترنح العربة حتى نام. تيقظ، بني، تيقظ وكن سعيدا لأن أختك ستزف اليوم إلى رجل كريم المحتد تجري في عروقه دماء نيريوس. (يدخل أجاممنن من اليسار إلى الخلف.)
تعالي، بنيتي، وقفي إلى جوار أمك، وأري هؤلاء الغريبات كيف بارك الله لي فيك! حيي أباك (إلى أجاممنن):
مولاي أجاممنن، نحن هنا إطاعة لأمرك.
أفجنيا :
هل تأذنين لي يا أماه أن أسارع إلى تقبيل أبي؟
كليتمنسترا :
أي ملك آرجيف، وسيد ميسيني، ومولاي الكريم، ها نحن قد أتينا إلى أولس إطاعة لأوامرك المكتوبة.
أفجنيا :
أبي، عزيزي، هل تأذن لي أن آتي وأمنحك قبلة؟ فإني جد مسرورة لأن أرى أبي مرة ثانية. لا تغضب مني!
أجاممنن :
تعالي عزيزتي، إنك من بين أبنائي أكثرهم حبا لأبيك.
أفجنيا :
لقد انقضى وقت طويل، وتصرمت أيام وأسابيع منذ رأيتك آخر مرة. ما أشد سروري للقائك مرة ثانية!
أجاممنن :
وما أشد سروري يا حبيبتي!
أفجنيا :
لقد أصبت الرأي حينما بعثت في طلبي.
أجاممنن :
لا أستطيع أن أقول كم في هذا من خير.
أفجنيا :
لماذا تعلوك الكآبة وأنت تراني ثانية؟
أجاممنن :
إن الملك وقائد الحرب لديه أسباب كثيرة للهم والاكتئاب.
أفجنيا :
الآن أنت لي، أبعد عنك كل همومك.
أجاممنن :
سوف أكون بكليتي لك يا عزيزتي؛ فإن كل فكرة في رأسي تتجه إليك.
أفجنيا :
دعني أبسط هذه التجاعيد، وأرسم البسمات على ثغر أبي.
أجاممنن :
إن مرآك سعادة لي، وهي سعادة بمقدار ما يمكن أن يكون لمثلي.
أفجنيا :
إن دمعة تنحدر على وجنتك!
أجاممنن :
لا بد لي أن أفقدك وأن ننفصل أمدا طويلا.
أفجنيا :
كلا، كلا، يا أبت، إن هذا لن يكون.
أجاممنن :
إن كلماتك البريئة تثير في قلبي حسرة عظيمة.
أفجنيا :
إذا كان حديثي يخفف عنك عبء همك، فدعني أتكلم وأحدثك عن ألوف الأشياء.
أجاممنن (جانبا) :
إني أبكم. (إلى أفجنيا) : لك شكري يا عزيزتي.
أفجنيا :
تعال يا أبت إلى بيتك في ميسيني والبث هناك مع بناتك الصغار ومع أرستيز.
أجاممنن :
آه لو استطعت!
أفجنيا :
تخل عن هذه الحرب الممقوتة، إنها لأسبرطة وحدها .
أجاممنن :
أعرف أهوالها كما يعرفها الآخرون.
أفجنيا :
تصور كم لبثت هنا في أولس!
أجاممنن :
إن إلها يبقينا هنا ويحجز الجيش بأسره.
أفجنيا :
خبرني في أي جهة يقطن أهل فرجيا.
أجاممنن :
هنالك بنيتي، وددت لو أن زيوس لم يهيئ لبارس بن بريم السكنى هناك.
أفجنيا :
وهل الرحلة طويلة إلى هناك؟ وهل ستقصيك بعيدا عني؟
أجاممنن :
إني وإياك نقصد هدفا واحدا.
أفجنيا :
آه لو استطعت أن أتشرف بالإبحار معك!
أجاممنن :
سوف تبحرين يا عزيزتي إلى ساحل تذكرين عنده أباك.
أفجنيا :
وهل أنا ذاهبة وحدي، أم هل ستبحر أمي معي؟
أجاممنن :
وحدك، لن يرافقك أبوك ولا أمك.
أفجنيا :
هل سترسلني إلى بيت رجل آخر؟
أجاممنن :
لا تسألي عن هذا؛ فالعذارى ليس لهن أن يعرفن هذه الأمور.
أفجنيا :
أسرع عائدا إلى دارك بعد غزو طروادة.
أجاممنن :
ولكن يجب أولا أن أقدم ضحية في هذا المكان.
أفجنيا (في شغف شديد) :
وهل ستعد الطقوس في حفل كامل يصحبه الكهان؟
أجاممنن :
إنك سوف تحضرين وتقفين إلى جانب حوض الماء المقدس.
أفجنيا :
وهل سنغني ونرقص حول المذبح؟
أجاممنن (جانبا) :
ما أسعد الجهال، وما أسعدك يا أفجنيا! (إلى أفجنيا) : اذهبي الآن إلى الدار وحيي الفتيات. (أفجنيا تلتفت متجهة نحو الباب الكبير) ، قبليني ثانيا يا بنيتي. (جانبا) : هذا العناق العزيز، ما أعزه وما آلمه لأب يوشك أن يفقد ابنته! ويلي، ما أجمل هذين الخدين المتوردين، وهذه الخصل اللامعة! ما أشد الحزن الذي جلبه لنا فرجيا وهلن الغادرة! إنني لا أستطيع أن أقول أكثر من هذا؛ فإن دمعي ينهمر وأكاد أختنق وأنا أمسك. (إلى أفجنيا) : ادخلي بنيتي (تخرج أفجنيا من اليمين) . (إلى كليتمنسترا) : هيه يا ابنة ليدا، أسألك العفو عن حزني على فقد ابنتي، فسأهبها إلى إكليز، إنه ليوم سعيد للأب حين يسلم ابنته للزواج، ولكن هذا البيت سيكون بغيرها خلاء.
كليتمنسترا :
ألا تحسب أني كذلك أحس بهذا؟ لا أريدك أن تخبرني بالأحزان وقد أتيت بالفتاة هنا إلى عرسها. إن التعود والزمان كفيلان بتخفيف الأحزان. زدني حديثا عن هذا الزوج، إني أعرف اسمه، فحدثني عن أسرته.
أجاممنن :
كانت إيجينا ابنة أسوبس.
كليتمنسترا :
ومن تزوج منها، إله أو إنسان؟
أجاممنن :
زيوس نفسه. وكان لهما ابن اسمه إياكس دعته أوينون مولاها.
كليتمنسترا :
وأي ابن خلف أياكس.
أجاممنن :
بيليوس الذي تزوج من إلهة البحر نيريوس.
كليتمنسترا :
عنوة أم برضا الآلهة؟
أجاممنن :
سلمها أبوها برضا من زيوس.
كليتمنسترا :
وأين عقد الزواج؟ في كهوف المحيط العميقة؟
أجاممنن :
بل فوق مرتفعات بيلين ذات النسيم العليل، حيث يقيم كيرين.
كليتمنسترا :
هناك يقال إن جماعة القنطورس تتجول.
أجاممنن :
إن الآلهة جميعا باركوا في الزواج بمحضرهم.
كليتمنسترا :
ومن قام بتربية إكليز أبوه أو أمه ثيتس؟
أجاممنن :
لا هذا ولا تلك، إنما علمه كيرن حتى لا يعرف شيئا عن شرور الأشرار.
كليتمنسترا :
المعلم عاقل، ومن كلفوه بالمهمة عاقلون.
أجاممنن :
هذا هو الرجل الذي قدره الله لابنتك.
كليتمنسترا :
ليس لدي ما يدعو إلى الرفض. أين مملكته من آكيا؟
أجاممنن :
حيث يتدفق نهر أبداس خلال فنيا.
كليتمنسترا :
وهل سيقود ابنتنا إلى هناك؟
أجاممنن :
هذا أمر يهمه حينما تكون له.
كليتمنسترا :
بارك الله فيهما! ومتى يكون الزفاف؟
أجاممنن :
عندما يتم القمر دورته.
كليتمنسترا :
وهل ستنحر ضحية من أجل العروس أولا؟
أجاممنن :
بغير توان، وها أنا ذا ذاهب لأعد الضحية الآن.
كليتمنسترا :
وبعدئذ تقيم وليمة العرس.
أجاممنن :
بعدما ينال الآلهة ما يستحقون.
كليتمنسترا :
وأين يقيم النساء وليمتهن؟
أجاممنن :
هنا حيث الأسطول الباسل يركب متن الخليج.
كليتمنسترا :
أعد كل ما يتطلبه هذا الظرف إعدادا وافيا.
أجاممنن :
والآن اسمعي ما أريد منك وأطيعيني.
كليتمنسترا :
إنني كنت دائما أقدم لك الطاعة.
أجاممنن :
سنذهب إلى حي العريس.
كليتمنسترا :
بغيري! بغير الأم! إنه حقي.
أجاممنن :
وسأسلم ابنتي في حضرة جند آرجيف المتجمعين.
كليتمنسترا :
وماذا عساي أصنع خلال ذلك؟
أجاممنن :
عودي إلى آرجس، واعني بشئون البيت.
كليتمنسترا :
وأترك ابنتي؟ ومن ذا الذي يرفع مشعل العرس؟
أجاممنن :
سأحمل بنفسي المشعل في الحقل.
كليتمنسترا :
هذا يخالف عاداتنا جميعا، ولا يتفق وآداب اللياقة، ولا أظنك تحسب هذا صوابا.
أجاممنن :
كما أنه ليس من اللياقة أن تسيري بين الجند المسلحين.
كليتمنسترا :
إن الأم دائما ترافق ابنتها.
أجاممنن :
عودي إلى الدار لصغرى بناتك.
كليتمنسترا :
إنها تلقى رعاية طيبة وحراسة متينة في ميسيني.
أجاممنن :
أرجوك أن تذهبي.
كليتمنسترا :
كلا، وحق هري العظيمة ملكة السماء وربة آرجس. إن الأمور خارج الدار من شأنك، ولكنها داخل الدار من شأني، وأنا وحدي سأعد ابنتي للزفاف. (كليتمنسترا تدخل البيت.)
أجاممنن :
كل الأمور تسير باعوجاج! وددت لو أني استطعت أن أبعد زوجتي! عبثا ما ندبر، ولا خير فيما نفكر، فكل الأمور تسير باعوجاج! سأبحث عن كالكس العراف، فسيخبرني بما يريد أرتيمس. الحزن لي والأسى لآرجس. إن الرجل الحكيم يطلب الزوجة الرقيقة المؤدبة أو لا يتزوج مطلقا (يخرج اليسار) .
أولى أفراد الجوقة :
والآن سوف يسير ملوك آكيا بأساطيلهم الجرارة حتى شواطئ سمويس الفضية، ثم يضربون في سهول إلين - الأرض العزيزة على فيبس - يحملون دروعا من النحاس الأصفر اللامع، وستحمل كسندرا عقدة شعرها الأصفر البراق، وتنثر إكليل النار الأخضر بعدما يحل فيها روح الله وتتملكها حماسة الكهان.
الثانية :
وسوف يحتشد أبناء دار دانس في بروج طروادة الشامخة وفوق أسوارها المنيعة، كما ينطلق آرياس - ابن البحر - في درع من البرنز فوق أمواج سمويس في سفن مرتفعة. ويقبل «المنتقم» في طلب أخت ديسكيوراي السماوية، في طلب هلن، يريد ردها إلى أرض آكيا بقوة السيوف والرماح.
الثالثة :
وستجري الدماء في بروج برجامس المشيدة بالحجارة، وسوف تغص شوارع طروادة بالقتلى الذين طاحت رءوسهم، وسوف تذرف بنات بريم دمعا أجاجا، وتنتحب هلن الذهبية على هجرها منلايوس.
الرابعة :
اللهم لا تكتب علي سوء المصير الذي تتحدث عنه نساء ليديا الثريات وزوجات فرجيا الخصيبة وهن يرتعن أثناء العمل في المنوال. اللهم لا تكتب علي أن يجرني من شعري غزاة بلدي بأيديهم الخشنة!
الخامسة :
الويل لطروادة من أجل هلن التي حملتها ليدا لجوف كما يروى في القصص، ما لم تكن هذه القصص عبثا باطلا وحكايات غير مقبولة يرويها الرجال. (يدخل إكليز من اليسار.)
إكليز (مناديا) :
هيا! هل قائد الحرب داخل الدار؟ هيا ، يا حارس الباب، قل لمولاك إن إكليز بيليديز ينتظره عند الباب. (يناجي نفسه) : ليس من العدل أن نحجز هنا جميعا على شواطئ يوربس بغير عمل؛ فإن بعضنا ممن يتلكئون هنا على الساحل لما يتزوج، وقاعاتنا المهجورة خالية، وبعضنا خلف وراءه زوجه وبنيه. إن الآلهة قد أصابت ملوك آكيا بجنون الحماسة. والآن أريد أن أصرح برأيي بالنيابة عمن أقود وبالأصالة عن نفسي، وليفعل الآخرون ما يشاءون. إني أتسكع هنا بعيدا عن فرسيليا وعن أبي بيليوس، رهين النسيم الفاتر الذي يهب على يوربس. إن المرميدون أتباعي يتململون قائلين: «إكليز، ماذا نحن منتظرون؟» «إكليز، حتام نبقى في طريقنا إلى طروادة؟» «إكليز، هيا بنا نعمل ما تركنا ديارنا من أجله.» أو يقولون: «عد بنا إلى فنيا، ولا تلبث بعد هذا، واترك أبناء آتريوس متخلفين.» (تدخل كليتمنسترا مقبلة من الدار.)
كليتمنسترا :
إن صوتك يا ابن ثيتس السماوية قد بلغني وأنا جالسة داخل الدار.
إكليز :
احتراما أيتها الملكة! أية سيدة أرى هنا - ملكة الجمال؟
كليتمنسترا :
لا عجب أنك لا تعرفني ما دمت تراني الآن لأول مرة، إني أتقبل احترامك وأقدر آدابك.
إكليز :
من ذا عسى أن تكوني حتى تجرئي على السير بين جيوش آكيا المحتشدة، سيدة كريمة المحتد بين جند مسلحين؟
كليتمنسترا :
أنا ابنة ليدا، واسمي كليتمنسترا، وزوجي أجاممنن ملك الرجال.
إكليز :
خير الكلام ما قل ودل، إنه لا يحق لي أن أتبادل الحديث مع النساء النبيلات.
كليتمنسترا :
البث هنا ولا تتجنبني، واعقد يمناك في يمناي تفاؤلا بالزواج السعيد.
إكليز :
ماذا أسمع؟ وما هذه الكلمات؟ هل أمد يدي؟ إنني لا أفكر في مثل هذه الإساءة إلى أجاممنن.
كليتمنسترا :
ليس في هذا إساءة يا ابن ربة البحر. إنه لا شك عمل مشروع ما دمت ستتزوج من ابنتي.
إكليز :
أتزوج من ابنتك! إن الدهشة تعقد لساني، إنك لا تعرفين ما تقولين، لا بد أن تكوني معتوهة.
كليتمنسترا :
إن الخجل والحياء صفتان تدعوان إلى الإعجاب في الشاب، ولكنك تبالغ فيهما أشد المبالغة.
إكليز :
إنني لم أطلب قط - أيتها الملكة - يد ابنتك، ولم أتبادل مع آتريديز كلمة واحدة بشأن الزواج.
كليتمنسترا :
إنني لست أفهم. ما معنى هذا؟ إنك لا تستطيع تفسير كلماتي، كما أن كلماتك مبهمة لي.
إكليز :
لا بد من حل اللغز، كلانا يقول صدقا.
كليتمنسترا :
عار علي أي عار أن أتحدث عن زواج ليس له وجود!
إكليز :
لقد خدعنا ووقعنا في حيرة. أرجو ألا يحزن فؤادك.
كليتمنسترا :
وداعا! إني لن أجرؤ بعد اليوم أن أقابلك وجها لوجه. يا للعار!
إكليز :
وداعا، أيتها الملكة! إني أطلب لقاء أجاممنن في داره.
الرجل العجوز (من الداخل) :
أيها الصديق، يا ابن إيكس، انتظر، انتظر بيليديز، وأنت كذلك يا ابنة ليدا انتظري.
إكليز :
من ذا الذي ينادي خلال الباب المفتوح؟ أية كارثة تنم عنها نغماته المرتعشة. (يأتي الرجل العجوز إلى الباب الكبير.)
الرجل العجوز :
إني عبد.
إكليز :
عبد من؟ لست عبدي؛ فإني لا أعرفك. عبد أجاممنن؟
الرجل العجوز :
إن ملك تندارس قد وهبني لابنته هذه التي تقف أمام الباب.
إكليز :
لقد ناديتنا أن نبقى، وها أنا ذا منتظر.
الرجل العجوز :
هل أنت وحدك؟
كليتمنسترا :
نحن وحدنا، تقدم.
الرجل العجوز :
اللهم احفظ أعزائي يا رب السماء ويا علام الغيوب.
إكليز :
ماذا تخشى؟ وأي خطر يهددنا، ومن ذا يهددنا؟
كليتمنسترا :
لا تتوان أكثر من هذا، بل أفصح عما تريد.
الرجل العجوز :
إنك تعرفينني أيتها الملكة، خادم يوثق فيه، مخلص لك ولأبنائك.
كليتمنسترا :
أعرف أنك خادم عجوز في بيتي.
الرجل العجوز :
كنت قد أرسلت إلى أجاممنن جزءا من مهرك.
كليتمنسترا :
أتيت معي إلى آرجس، وكنت ملكا لي منذ ذلك الحين.
الرجل العجوز :
هذا حق. وعلي أن أخلص لك، وأن أكون لزوجك أقل إخلاصا.
كليتمنسترا :
إذن فلتفض دون تردد بالسر الذي يجثم فوق صدرك.
الرجل العجوز :
إن الأب يعتزم أن يقتل بيديه ابنتك!
كليتمنسترا :
ويحك! يا لها من قصة أيها الرجل العجوز! هذا خبر لا يصدق، وإنك لمعتوه.
الرجل العجوز :
سيطعن العذراء الشقية بسكين في حلقها الأبيض.
كليتمنسترا :
ويلي، هل جن زوجي؟
الرجل العجوز :
كلا، لم يصبه جنون إلا فيما يتعلق بك وبابنتك، وهو في هذا الأمر مجنون.
كليتمنسترا :
لماذا؟ لماذا؟ أية «ربة غاضبة» من تارترس استولت عليه؟
الرجل العجوز :
هو الكاهن، هو كالكس؛ وذلك لكي يستطيع الأسطول أن يقلع.
كليتمنسترا :
يقلع؟ إلى أين؟ أي مصير سيئ هذا الذي حكم علي به! آه يا ابنتي، يا من يريد أبوك أن يقتلك!
الرجل العجوز :
إلى طروادة دردانين كي يرد هلن إلى منلايوس.
كليتمنسترا :
وهل لا بد من موت أفجنيا لاسترداد هلن؟
الرجل العجوز :
لا مناص، سيضحي بها لأرتيمس.
كليتمنسترا :
وهل لم يكن هذا الزواج إلى تعلة لاجتذابنا من دارنا؟
الرجل العجوز :
كي يؤتى بابنتك في مرح كعروس من نصيب إكليز.
كليتمنسترا :
لقد جيء بك إلى الموت يا ابنتي، وجيء بأمك معك!
الرجل العجوز :
قلبي لك ولابنتك في محنتكما الشديدة. حقا إن خطة أجاممنن لفظيعة.
كليتمنسترا :
ما أشد مصيبتي، دعني أبكي!
الرجل العجوز :
حينما يحيط الموت بالطفل يمسي حزن الأم كوقع السيف المسموم.
كليتمنسترا :
أيها الرجل العجوز، كيف علمت بهذه الخطة المريعة؟
الرجل العجوز :
كنت أحمل إليك رسالة ثانية.
كليتمنسترا :
رسالة تنهاني أو تأمرني بإحضار ابنتي إلى موتها؟
الرجل العجوز :
بل تنهاك؛ فإن قلب زوجك قد تغير.
كليتمنسترا :
ولماذا لم أتسلم هذه الرسالة؟
الرجل العجوز :
اغتصبها مني منلايوس، أس كل هذا البلاء.
كليتمنسترا (لإكليز) :
أي بيليديز، يا ابن الآلهة، هل سمعت؟
إكليز :
سمعت بكربتك، وإني لضعيف الاحتمال لما يمسني.
كليتمنسترا :
سيذبحون ابنتي بعدما أتيت بها إلى هنا بزعم زواجها منك.
إكليز :
على زوجك تقع الملامة، وأنا، ابن بيليوس، ألقي عليه اللوم.
كليتمنسترا (تخر جاثية على ركبتيها أمام إكليز) :
إني أجثو على ركبتي أمامك بغير خجل، فلست سوى امرأة فانية لدى قدمي رجل من نسل الآلهة. لقد انتزع مني كبريائي، ومصير ابنتي يعذبني. امدد يدك فوقي يا ابن ثيتس، وق أما عاجزة، وأنقذ الفتاة التي سميت عروسك! من أجلك ضفرنا الأكاليل الزاهية وتوجناها بها كي نقودها إلى بيتك عروسا لك. وها هي ذي الآن تقاد فريسة التضحية. امنحها رعايتك حتى لا يعيرها أحد بأنها التمست منك الرعاية بغير جدوى وأنت بعلها المرتقب. إني أدعوك بحق لحيتك وبحق يمناك وبحق أمك التي حملتك. إن اسمك قد أتى بنا هنا للكارثة. ليكن اسمك وقاية لنا في مصيبتنا. ليس لي مأوى سوى موطئ قدميك؛ فقد هجرني الأصدقاء جميعا. لقد سمعت بالخطط اليائسة القاسية التي دبرها أجاممنن، وإليك وحدك بين أساطيل آكيا هذه المحتشدة أهرع طلبا للمعونة، وأنا امرأة عاجزة بين جند عابثين يميلون إلى الشر أو إلى الخير كما تسيرهم الأهواء. امدد يدك فوق رأسي المطأطئ إن كنت تريد معونتنا، وإلا فقد هوينا.
أولى أفراد الجوقة :
ما أعظم حب الأمهات. إن زيوس قد وهب قلوب النساء للأبناء.
الثانية :
إن روحه الطموح ينفذ خلال المستقبل الغامض، ويبكي ويلات الآخرين، ويبتهج لحظهم السعيد، وإنه ليفعل ذلك بالقسطاس؛ فالعقل وصدق الحكم يتحكمان في أعماله. وبرغم هذا، فإن هناك من الأوقات ما تحمد فيه الحكمة، كما أن هناك من الأوقات ما يحسن فيها ألا يغالي المرء في العقل.
إكليز :
سأطيع أبناء آتريوس حينما يأمرون بالعدل، فقد علمني كيرن أشد الأحياء استقامة بساطة الأخلاق. فإن كان أجاممنن على خطأ فلن أقدم إليه خدماتي، ولن أخضع حياتي لأمر مشين. وسواء هنا أو في ترواس فإن روحي الطليق سيخدم آرس بكل ما أستطيع من قوة. وإني لأمد يمناي فوق رءوسكم وأقدم كل حماية بوسع الشاب أن يقدمها، لكم أنتم يا من تنشأ أحزانكم الشديدة من جراء أفعال أولئك الذين كان ينبغي لهم أن يكونوا حماة لكم؛ فإن الشفقة تمس قلبي. إن الأب لن يذبح الفتاة التي دعاها عروسي، وليس لي أن أعير اسمي في أي وقت من الأوقات لمثل هذه الخيانة، ومع ذلك فإن اسمي الآن هو قاتل ابنتك، ولو أن يدي لن تمس السكين. إن زوجك هو الباعث على كل هذا، ولكني كذلك أؤخذ بجريرته إذا كانت هذه الفتاة البريئة - باسم زواجها المزعوم مني - ستلقى حتفها بمثل هذه الطريقة الشنعاء التي يفزع من هولها الآلهة . وإني لأعد نفسي أسفل من في آكيا، رجلا لا قيمة له، - اللهم إن كان منلايوس لا يزال يسمى رجلا - ولا أكون ابن بيليوس الصادق الأمين، بل ابن شيطان رجيم، لو أنهم باسمي قتلوا ابنتك. كلا وحق نيريوس ربة أعماق البحار، إن أجاممنن لن يمد يده إلى ابنتك، ولن يمس رداءها. وإلا فإن سيبلس أرض المتوحشين التي منها جاء جنسه تصبح بلدا عظيما وتنسى أرض فثيا المجيدة. إن كالكس الكاهن يقرأ التعاويذ على الأوراق والأقداح لأغراض دنيئة. من هو الكاهن؟ إنه رجل ينطق عن قليل من الصدق، وكثير من الأكاذيب، كما تسيره المصادفات، ويقيس الناس قيمته بمقدار ما ينال من حظ. لا تحسبي أني أقدم إليك المعونة من أجل هذا الزواج، فكم من فتاة عذراء ترحب بالاقتران بي. ولكن الملك أجاممنن أمعن في الإساءة لي، وكان ينبغي له قبل أن يستخدم اسمي فخا يوقع فيه ابنته أن يبادلني المشورة. ولو أن كليتمنسترا النبيلة وهبتني فتاتها ما ضننت بها على آكياد لو أن إقلاع الأسطول كان يتوقف على هذه التضحية، وما كنت لأتخلف عن زملائي وقت الحاجة. إن هؤلاء الملوك ينظرون إلي كرجل بغير قيمة، ولا يكترثون أقل اكتراث إن كانوا يسيئون معاملتي أو يحسنونها. ولكن سيفي سوف يكون في الأمر فيصلا، وقبل أن أبلغ طروادة سألطخه بالدماء حتى مقبضه لو حاول أي امرئ أن ينتزع مني ابنتك. وسوف يكون غضبي حاميا لك كالإله، وإن لم أكن إلها - وزيوس على ذلك شهيد! - غير أن الظرف يلهم ذراعي بالقوة.
رابعة أفراد الجوقة :
أحسنت الكلام يا بيليديز، وإنك لجدير بشهرتك وبثيتس ابنة ابنة البحر التي نقدسها.
كليتمنسترا :
لقد انعقد لساني فلا أجد الألفاظ أثني بها على فضلك. لا تسخر من قولي؛ فهذا حق لك. إني أستحي أن أزعجك بأحزاني الخاصة؛ لأن مثل آلامي قد تكون تافهة لديك أيها البطل الشاب. إن الأمير الكريم يظفر بالثناء بين الرجال إذا مد إلى النساء يد المعونة في محنتهن. وإذا فلتكن بنا شفيقا؛ فإن بلوانا تستحق الشفقة؛ فقد أتيت إلى هذا المكان كي أجد لابنتي بعلا، فإذا بي أتعلق عبثا بالأمل. كن بي شفيقا! إنها علامة شؤم ممقوتة أن يستعاض بقتل ابنتي عن زفافك. كن بها شفيقا! ولتكن نبيلا في عملك كما أنت نبيل في قولك؛ فإن في هذا نجاتها. هل لا بد لها أن تخرج من البيت وتتعلق بقدميك متوسلة متضرعة؟ إن هذا لا يليق بالعذارى، ومع ذلك فسوف تفعله إن كان في هذا العمل حكمة نبيلة. ولو أشفقت عليها لأبقيتها داخل الدار وتقدمت إلى معونتها دون أن تراها.
إكليز :
لا تدعي ابنتك أيتها الملكة، لا تفعلي شيئا تدفعين به ألسنة الجهال إلى الثرثرة بالسوء والفضيحة؛ فنحن بين الجنود، وسأفعل ما أستطيع. ولست أعدك وعدا لا طائل منه، وليكن جزائي الموت إذا كنت من الكاذبين! اللهم امدد في حياتي حتى أنقذ الأميرة.
كليتمنسترا :
بارك زيوس فيك، يا منقذ المكروبين!
إكليز :
لنتشاور معا ونرسم خطة للنجاح.
كليتمنسترا :
إني أنتظر ما تقترح في شغف عظيم.
إكليز :
يجب أن نحمل أباها على أن يسلك مسلكا أحكم من هذا.
كليتمنسترا :
إنه جبان ويخشى الجيش.
إكليز :
قد يتغلب الحب على الخوف.
كليتمنسترا :
هذا أمل ضعيف. ماذا عساي أن أفعل؟
إكليز :
تضرعي إليه، وتوسلي ألا يذبح ابنته. فإذا لم يستمع إليك أرسلي في طلبي، وإذا أذعن لك فهي آمنة، وليست حينئذ إلي حاجة. وأستطيع أن أبقى حليفا لأجاممنن، ولا يسع أهل آرجيف عندئذ أن يرفعوا عقيرتهم بالشكوى مني. وسنبلغ مأربنا بالحكمة لا بالقوة. وسيكون هذا خيرا لك ولأصدقائك حتى إذا لم تكن بك حاجة إلى معونتي.
كليتمنسترا :
مشورتك حكمة، ويجب أن تتبع. أين أستطيع أن أجدك إن فشلت؟ ماذا عساي أفعل في مصيبتي كي أظفر بمعونتك؟
إكليز :
سألبث على أهبة قريبا منك حتى لا يرمقك أحد وأنت تتخللين صفوف الجيش في هلع؛ فإن في ذلك عارا على أبيك تندارس الذائع الصيت. (يختفي إكليز إلى اليسار.)
كليتمنسترا :
ليكن ذلك! ولسوف أصدع بما أمرت، وجزاؤك عند الآلهة إن كان هناك آلهة! وإن لم يكن هناك آلهة فإن عناءنا لن يذهب سدى. (تدخل كليتمنسترا الدار.)
أولى أفراد الجوقة :
إن الهواء الصافي قد ترددت فيه موسيقى الناس والقيثار والمزمار في نغم مؤتلف فضي الرنين، وفوق قمة بيرين الشامخة وطأت الأديم بخفة «البيرديز» ذات الشعر الطويل بأخفافها الذهبية وهي ترقص في حفلة زفاف تينس إلى بيليوس أمام حشد من الأرباب. وكانت وهي تقص تغني، تغني نشيد زواج ثيتس من بيليوس فوق تلال القنطورس في غابة بيلين الكثيفة.
الثانية :
وقد ملأ الأقداح بالنبيذ جانميد الفريجي بن دردانس المحبوب لدى زيوس وهي - البيرديز - تغني. وفوق الشطآن الرملية وقفت بنات نيريوس في حلقة ترقص في حفلة زواج بيليوس من ثيتس.
الثالثة :
واحتشدت القناطرة
2
تهرول نحو وليمة الآلهة، ونحو دن ديونيسس وهي تهز أغصان الصنوبر الضخمة، وتتزين بأكاليل الزهر الخضراء.
الرابعة :
وصاح كيرن الكاهن العجوز صياحا عاليا، وقد ألهمه أبولو قائلا: «يا ابنة نيريوس، يا أميرة البحار، إنك سوف تحملين ولدا، وسيكون فخر نسلي. وسوف يقود ابنك حملة الحراب من أهل فثيا ليدكوا حقول طروادة ويغنموا كنوز بريم. وسوف يتدرع بعدة حربية طرقها هنايستس الحداد المقدس، هدية من الأم التي حملته.»
الخامسة :
هكذا احتفلت الآلهة بقران بيليوس بثيس أميرة البحر، ولكن جند آرجيف سيأتون إلى أفجنيا بإكليل كذلك الذي يوضع فوق جدي من الجبال، فلن يغني لها الراقصات على أنغام الناس والقيثار، وإنما سوف تذبح كما يذبح العجل عند المذبح.
السادسة :
إن الشر يسود والخير مهزوم. الشر يسود والعدل منبوذ. ولا سبيل إلى الفرار من غضب الآلهة. (تدخل كليتمنسترا من الباب الكبير.)
كليتمنسترا :
لقد طال غياب زوجي عن الدار فخرجت خارج الأبواب أبحث عنه. إن ابنتي التعسة تذرف الدمع ويفنيها العويل منذ علمت بالموت الذي حكم عليها أبوها به. انظروا! ها هو ذا أجاممنن يقبل، هذا الرجل الكافر قاتل بنيه. (يدخل أجاممنن من اليسار.)
أجاممنن :
لقد قادتك الصدفة يا ابنة ليدا إلى الباب لأني أريد أن أتحدث إليك في أمور لا يليق بفتاة عذراء أن تصغي إليها في ليلة الزفاف.
كليتمنسترا :
وما تلك؟ اغتنم الفرصة.
أجاممنن :
كلي ابنتك لرعاية أبيها. إن أحواض الماء المقدس قد أعدت، والكعك المملح قد أعد ليقذف به في النار المتوهجة، وهناك العجول التي لا بد أن تتدفق دماؤها في أنهار سوداء من أجل أرتيمس ربة الغابة الطاهرة.
كليتمنسترا :
إن أقوالك لتبدو جميلة، ولكني لا أعرف كيف أثني على أفعالك لو ذكرتها. (تلتفت إلى البنت) : اخرجي بنيتي؛ فأنت تعرفين ما يدبر أبوك، واستصحبي معك أرستيز مدثرا في عباءته. (تخرج أفجنيا وأرستيز.) (إلى أجاممنن) : انظر! ها هي ذي تطيع أمرك بغير توان. والآن اسمح لي أن أقول كلمة عن حقها وعن حقي.
أجاممنن :
ابنتي تبكي؟ ما أشد الكآبة والشحوب يعلوان وجهك الذي تخفينه خلف ملاءتك! خبريني عن شجونك!
أفجنيا :
شجوني؟ من أين أبدأ الحديث عن شجوني؟ إن أول أحزاني هو آخر الأحزان.
أجاممنن :
لماذا تتكأكئون كأن فزعا قد أصابكم؟
كليتمنسترا :
هل تصدق الجواب لو سألتك؟
أجاممنن :
تكلمي وسوف أجيب.
كليتمنسترا :
هل حكمت على ابنتك وابنتي بالموت؟
أجاممنن :
يا له من سؤال! ويا لها من ريبة بغيضة!
كليتمنسترا :
لا تتحاش السؤال، وأجب عنه.
أجاممنن :
اسألي فيما يليق، وسأجيب في أسلوب حكيم.
كليتمنسترا :
هذا وحده ما أسأل عنه، فأجبني.
أجاممنن :
يا لسخرية القدر! ويا لسوء مصيري!
كليتمنسترا :
ومصيري ومصيرها، وهي أشد ثلاثتنا بؤسا.
أجاممنن :
أي خطأ ارتكبت؟
كليتمنسترا :
وهل تسألني هذا؟ بل أي صواب فعلت؟
أجاممنن :
لقد غدر بي غادر، وتسربت أسراري.
كليتمنسترا :
سمعت بخططك جميعا. إن صمتك وإشاراتك تفضحك، وليس ثمت داع إلى الاحتجاج.
أجاممنن :
إني أصغي صامتا. ولن أضم إلى آلامي عارا جدا بباطل الكلمات.
كليتمنسترا :
والآن يا أجاممنن، استمع إلي، فسأفضي بما في قلبي في عبارة صريحة. لقد تزوجت مني رغما عن إرادتي؛ فقد ذبحت بيدك زوجي الأول، وانتزعت من بين أحضاني ابني الربيع وقذفت به فوق الصخور حتى قضى، وكان بوسع إخوتي أبناء زيوس مروضي الخيول أن يقتلوك بأسلحة لامعة، لولا أن أبي قد أنقذك بعدما انكفأت على وجهك عند ركبتيه متوسلا متضرعا. هكذا كان زواجك مني . وبرغم هذا فسوف تشهد بنفسك أني كنت لك زوجا لا لوم علي ولا تثريب، حريصة على اسمك وسمعتك، خادمة دقيقة لبيتك، حتى كان العود إلى البيت مسرة لك ومتعة. إن الزوجة إذا كانت كما كنت لك هدية نادرة يبحث عنها طويلا في البلاد النائية. وقد ولدت لك ثلاث بنات وابنا وحيدا. ثم تريد أن تنزع من بين ذراعي كبرى بناتي وتسوقها إلى الموت! يا ويلتاه! بماذا تجيب؟ لماذا تريد أن تقتل ابنتك؟ هل أخبرك لماذا؟ كي يرد منلايوس أهله إلى حوزته. سندفع ابنتنا ثمنا له يشتري به عودة زوجته الفاجرة. لا بد لنا أن نفتدي بالأبرياء الذين نحب من نمقت ونزدري أشد المقت والازدراء. سوف ترحل بعيدا إلى طروادة، قائدا على جيش عرمرم، وسوف أعود وحيدة إلى آرجس، وسيخلو مقعد ابنتي، وسيخلو سريرها، وسوف تغرورق عيناي بالدمع، وسوف أبوح حينما أجلس وحدي! «لقد ذبحك أبوك يا بنيتي، وقتلك بيده من وهبك الحياة، ولم يقتلك عدو. هذه هي البركات التي تحل بدارنا!» آه، إني أتوسل إليك ألا تفعل شرا، أتوسل إليك بكل الأرباب ألا تنزل بنا شرا. دعني وبناتك نرحب بعودتك بالسرور الذي يليق بنا. أفتضحي بابنتك؟ أي دعاء سوف تدعوه وأنت تضحي بها؟ وأية بركة تستنزلها على هذه الضحية يا قاتل ابنتك؟ أي توفيق سيعود به هذا العار على الحرب المشئومة التي سوف تقلع في سبيلها؟ هل تحب أن أدعو لك الله؟ بماذا تحكم على الآلهة لو آثرت بعطفها قاتلا يلغ بيديه راغبا في دم ابنته؟ وهل تحسب أنك ستعانق ابنتك وبناتك عند عودتك إلى آرجس؟ لن يكون لك الحق في هذا. لن يتطلع إلى وجهك ثانية ابن من أبنائك بعدما تذبح ابنتك؛ فإنك سوف تذبحها عن قصد وعمد بغيض. لو استدعاك الله وحدك كي تحمل عصا القيادة الحربية وتسير على رأس الجيوش، فسيكون من واجبك أن تناشد أهل آرجيف. «هل في عزمكم أن تعبروا بحر إيجيا وتبلغوا شواطئ فرجيا؟ إذن فلترموا القداح لنرى بأية فتاة عذراء ينبغي أن نضحي .» هذه - على الأقل - هي العدالة، وإلا فليذبح منلايوس - الذي من أجله نشب هذا النزاع - ابنته هرميوني فداء لأمها. ولا أحرم - وأنا، تلك الزوجة المخلصة - من ابنتي كي تحمل تلك المرأة السيئة رضيعها وتعود به إلى أسبرطة وتسعد. أجبني إن كنت مخطئة، أما إن كانت كلماتي على حق، فلا تذبح ابنتك وابنتي.
الجوقة :
أصغ إليها يا أجاممنن، وليتحكم الحب في قلبك؛ فإن حماية الأبناء من واجب الآباء.
أفجنيا :
يا أبت، إني لا أملك صوت إرفيوس الذهبي الذي سحر به الأشجار والصخور، وإلا لاستخدمته، ولكني أملك الدموع، والدموع حيلتي الوحيدة. (ترتمي عند قدميه وتتعلق بركبتيه)
إني أتعلق بركبتيك، وأجثو ضارعة عند قدميك، لا تقتلني قبل أن تحين ساعتي! لا تبعدني عن ضوء النهار الجميل! لا تسقني إلى ظلام الموت، ولا تسلمني إلى غموض القبر المجهول. كنت أدعوك أبي، وكنت أقف عند ركبتيك مرحة ضاحكة أمام وجه أبي الباسم. ألم تقل لي: «بنيتي الصغيرة، هل لي أن أراك سعيدة في بيت زوج نبيل تنعمين برفاهية بما تليق بكرامتي؟» وألم أجبك وأنا أمسح بيدي لحيتك كما أفعل الآن قائلة: «وماذا عساي حينئذ أن أفعل لك؟ هل آويك في شيخوختك في عقر بيتي الودود كي أرد لك جميل رعايتك الرقيقة لطفولتي؟» هذه الكلمات منقوشة في قلبي، ولكنك يا أبت لم تأبه بها، وتريد الآن أن تخرج بي في براثن الموت. باسم مولاك بيلبس، وبحق ذكراك لأبيك أتريوس، أتوسل إلك شفقة بأمي المسكينة التعسة ألا تقضي على حياتي! ما لي وللحب الذي بين الإسكندر بارس وهلن؟ وهل ولدا للقضاء علي؟ انظر إلي يا أبت بعين العطف، وهبني ابتسامة وامنحني قبلة أحملها معي إلى دار الفناء ذكرى محبتك. تعال يا أرستيز وكن البطل الصغير المدافع عن أختك. (يركع أرستيز ويتعلق بركبتي أبيه وهو يبكي)
استمع إلى نشيجه أبت، إن طفليك يتوسلان عند قدميك أن تكون بي رفيقا. بحق رجولتك وبحق أبوتك نتضرع إليك، صبي صغير وفتاة عند قدميك. إن نور الحياة عزيز على أعين الأحياء، ولا يحب الموت إنسان عاقل. إن الحياة مهما تجلب من شر لعزيزة، وإن الموت ليبعث في الوجل.
أولى أفراد الجوقة :
إن حبك يا هلن المشئومة قد أنزل الكوارث بأبناء أتريوس.
أجاممنن :
إن لي لقلبا كقلوب الرجال، وفي قلبي تكمن الشفقة والمحبة، وإن الفزع ليستولي علي حينما أفكر في الخطة التي رسمت. أفزع من الإقدام وأفزع من الإحجام. ولكن مشيئة الله لا بد أن تنفذ مهما تكن الآلام التي يجلبها التنفيذ. إنكم جميعا ترون ألوف السفن الحربية، وتستطيعون جميعا أن تشهدوا ملوك هلاس المحتشدين وهم في أزيائهم البراقة. إن الكاهن كالكس الذي ينطق عن إرادة الآلهة يصرح أن هؤلاء الملوك لا يستطيعون أن يبرحوا هذه السواحل إلى طروادة حتى يضحي لأرتيمس. إن هذا الجيش العظيم المحتشد هنا لغزو طروادة والذي يتوق إلى الإقلاع. ويتململ من التأخير، والذي يكاد يجن من الحماسة المشتعلة للقتال، لا يمنعه عن الانطلاق إلا فتاة. فإذا لم أصدع بأمر الآلهة، فإن هؤلاء الرجال المتعطشين للدماء سيقتحمون آرجس، ويذبحون بناتي، ويذبحونك أنت يا مليكتي، ويقتلون ابني. لم يكن منلايوس هو الذي أخضع روحي لإرادته إنما هي آكيا. وسواء أردت أو لم أرد فإن الآلهة تتطلب مني أن أضحي يا بنتي من أجل آكيا. وإني عاجز ولا بد لي أن أخضع. إن آكيا لا بد أن تحرر. هذا واجبنا يا بنيتي، حق عليك وحق علي. لا ينبغي لآكيا أن تجثو على ركبتيها أمام رجل بربري، ولا يصح لرجل من فرجيا أن يسرق زوجات آكيا ولا يناله عقاب. (يذهب أجاممنن إلى الغابة يمينا، وتميل الشمس إلى الغروب.)
كليتمنسترا :
أي بنيتي! إننا هنا غرباء! ولقد حلت بنا نقمة الله. إن أباك قد تخلى عنك وتركك للموت. لقد قضى عليك.
أفجنيا :
أماه، أماه، ما أبأسني! إنني لن أرى الشمس بعد هذا، ولن أشهد الفجر، أو أرقب الشمس وهي تهبط خلف التلال سأموت عاجلا.
كليتمنسترا :
إن بريم نبذ ابنه ليموت فوق منحدرات أيدا الوعرة؛ لأن الولد قدر له أن يجلب الكوارث لطروادة. وقد وجد الرعاة الطفل وربوه كأنه من أبنائهم وأسموه أيديوس. آه لو لم يترك الملك ابنه الصغير بين بنات الخزامى البري على سفوح أيدا! وبينا كان الرعاة واقفين إلى جوار النبع الفوار أقبلت ملكة السماء كما أقبلت بلاس برمحها، وأفروديت ربة الجمال. ثم تقدمت ثلاثتهن المقدسة للحكم أمام الرعاة السذج، وفي معيتهن هرمين رسول زيوس.
أفجنيا :
إنهن هبطن من أولمبس للحكم وقضين علي بالموت. إذن فسوف أموت في سبيل آكيا وأجلب لها المجد إلى الأبد.
أولى أفراد الجوقة :
إن أرتيمس تتقبل الأميرة كأولى الضحايا جميعا. وبعدئذ سينفخ النسيم أشرع سفننا، وستنحني إلين الشامخة إجلالا عند مرأى مقدمات السفن.
أفجنيا :
إن أبي يخونني ويهجرني في أحزاني. أماه، إن مصيري مريع؛ فقد تخلى عني أبي الذي كنت أحسب أنه يحبني. أي هلن المشئومة، إن حبك قد جلب الموت في ذيوله، الموت لي. إن دمي سوف يلطخ سيف التضحية. وسوف تدنس يد أبي حينما تتدفق دمائي فوق الرمال الملوثة بالسواد. لماذا أتت السفن الحربية إلى خليج أولس؟ ولماذا لم يرسل زيوس ريحا ملائمة تهب نحو آسيا. إن العواصف الهوجاء تكتسح يوربش. طوبى لأصحاب السفن التي يدفع أشرعتها الخفاقة نسيم رقيق، والتي تمخر قيعانها المسرعة الموج الأزرق الداكن وهي تركب متن البحر فخورة مختالة! أما غيرهم فنصيبهم الحاجة الماسة والألم، يقضون الحياة القصيرة متوجعين، ويحيط بهم سوء الحظ من كل جانب.
خامسة أفراد الجوقة :
وا حسرتاه! أي شقاء جلبت هلن لآكيا! إنا نبكي لك أيتها الفتاة الحسناء وقد انهالت عليك الكوارث. ما أقسى القدر.
أفجنيا :
أماه، أي جيش من الرجال مدجج بالسلاح يأتي تجاه الساحل!
كليتمنسترا :
إن ابن ثبتس يقودهم، إكليز، الذي كنت أحسب أني سوف أشهد زفافك إليه.
أفجنيا :
أفسحن الطريق أيتها النسوة، ودعوني ألج البيت (تلتفت لتدخل البيت) .
كليتمنسترا :
من ذا تخشين رؤيته؟
أفجنيا :
إكليز.
كليتمنسترا :
لماذا؟
أفجنيا :
هذا العرس المنكود الطالع يجللني بالعار.
كليتمنسترا :
البثي بنيتي، ليس هذا وقت الخجل؛ إن جلال مصيبتك يرجح كل شيء آخر. (يدخل إكليز يتبعه جماعة من المحاربين بأسلحة مسلولة.)
إكليز :
ابنة ليدا . ما أسوأ الحظ.
كليتمنسترا :
لا شيء سوى سوء الحظ.
إكليز :
ما أشد ضجيج جند آرجيف!
كليتمنسترا :
ضجيجهم، ماذا ...
إكليز :
إن ابنتك ...
كليتمنسترا :
عجبا! ماذا قالوا؟
إكليز :
لا بد أن تذبح، وتكون فريسة للتضحية.
كليتمنسترا :
ألم يعترض على ذلك أحد؟
إكليز :
عبثا فعلت؛ فقد هددوا بذبحي كذلك.
كليتمنسترا :
أفتقول هددوا، أيها الغريب؟
إكليز :
بالحجارة.
كليتمنسترا :
لأنك تريد إنقاذ ابنتي؟
إكليز :
أجل؛ لأني أريد إنقاذها.
كليتمنسترا :
ومن ذا جرؤ على مس بيليديز؟
إكليز :
جند آرجيف.
كليتمنسترا :
ألم يؤيدك المرميدون أتباعك؟
إكليز :
كانوا أول الغاضبين.
كليتمنسترا :
وا ضيعتنا يا أفجنيا.
إكليز :
صاحوا قائلين إني انهزمت أمام امرأة.
كليتمنسترا :
وبماذا أجبت؟
إكليز :
لن يمسوا عروسي المقبلة.
كليتمنسترا :
قول عدل.
إكليز :
لقد وهبني إياها أبوها.
كليتمنسترا :
وأتى بها إلى هنا من ميسيني.
إكليز :
عبثا تكلمت؛ فقد أسكتوني بصياحهم.
كليتمنسترا :
الرعاع السفلة!
إكليز :
لن أقصر في معونتك.
كليتمنسترا :
ولكنك وحيد بين الجند.
إكليز :
لست وحيدا، هؤلاء خلاني مسلحون.
كليتمنسترا :
كتب الله لك التوفيق!
إكليز :
سوف أوفق.
كليتمنسترا :
ولن تذبح ابنتي؟
إكليز :
لن تذبح بإرادتي.
كليتمنسترا :
وهل سوف لا يأتي أحد إلى هنا لينتزع الفتاة؟
إكليز :
كثيرون، ومن بينهم أودسيوس، إنه سوف يأخذها.
كليتمنسترا :
ماذا؟ ابن ليرتيز؟
إكليز :
هو بعينه.
كليتمنسترا :
بإرادة منه أم بضغط من الجنود؟
إكليز :
اختير برضا منه.
كليتمنسترا :
ما أسوأ الاختيار، أفيتلوث بالدم البريء!
إكليز :
سأحميها منه.
كليتمنسترا :
وهل سينتزعها من بيت أبيها رغما عنها؟
إكليز :
سيجذبها من خصلها الذهبية.
كليتمنسترا :
ماذا عساي أن أفعل؟
إكليز :
كوني ثابتة، وشدي أزر ابنتك.
كليتمنسترا :
وهل ستقف بينها وبين القاتل؟
إكليز :
حتى لو أتى أودسيوس، فلن أخشاه.
أفجنيا :
أصغي إلي يا أماه. لا تحنقي على زوجك! فالحنق لا يجدي؛ لأن القوة ستفعل ما تشاء غير آبهة بنضالنا. وإنا لنقدم الشكر من قلوبنا لهذا الغريب النبيل لحسن نيته الكريمة. سيدي! لا تسمح للمقاتلين أن يصبوا عليك اللوم؛ فإني أخشى أن ذلك لن يجدينا نفعا وأن يعود عليك بالشر الوبيل. لقد فكرت في تؤدة بمقدار ما استطعت، لقد حكم علي بالموت، فلأمت شريفة وأتغلب على الخوف والخور. إن ولايات آكيا تشخص إلي اليوم ببصرها، وترى في موتي إبحار الأسطول وسقوط إلين. إن هزيمة أهل فريجيا معناها الحرية لأهل آرجيف والأمان لملكاتنا من أن يخطفهن البرابرة المتوحشون. إن اللهب سيسود أسوار إلين انتقاما لفقدان هلن التي اختلسها بارس. وموتي سيؤدي إلى هذه النتائج، وسوف يكرم اسمي حيثما أبحرت سفن آرجيف. إن هلاس ستتحرر عن طريقي. أماه، إنك لم تحمليني لنفسك وحدها ولكن لآكيا. هل يمتشق ألوف الرجال أسلحتهم النحاسية ويهزون الرماح والدروع حينما يناديهم الوطن، هل يقبض ألوف الرجال على المجاديف ويجرءون على الموت من أجل آكيا بعزيمة لا تلين؟ وهل تقف في سبيلهم حياتي، حياتي أنا وحدي؟ هل هذا من العدل؟ بماذا نجيب؟ وهل يناضل هذا الأمير وحده المحاربين من بلادنا؟ وهل لا بد له أن يموت، وأن يموت في سبيل امرأة؟ كلا إن حياة البطل تقوم بألف فتاة. وهل إذا طلبت العذراء المقدسة التضحية بي أجرؤ - أنا الفانية الضعيفة - أنا أعترض إرادتها؟ يا لها من فكرة فارغة عابثة! إني أهب حياتي لآرجس. فليذبحوني ولتهلك طروادة! وسوف يكون النصر تذكاري، وسوف يكون أهل آرجيف أبنائي، وسيبقى مجدي أمدا طويلا.
الجوقة :
إنك لفتاة كريمة نبيلة، وما أغلظ النسيج الذي تحيكه لك «ربات الفناء».
إكليز :
ما كان أسعدني يا ابنة أجاممنن لو أن زيوس سمح لي بالاقتران بك. وما أحسب إلا أن آرجس سعيدة بأميرتها. إن كلماتك النبيلة جديرة بمسيني الذهبية. إنك بإبائك أن تكافحي قدرة أرتيمس المقدسة تحسنين صنعا وتقدمين خيرا. إني أبجلك أيتها الأميرة؛ فقلبك قلب ملكة عظيمة، وعروس جديرة بملك من الملوك. وإني لأتوسل إليك أن تتدبري الأمر؛ فإن رغبتي الحارة هي أن أقودك إلى بيتي عروسا. إني لا أستطيع أن أعود إلى أمي ثيتس إذا لم أنقذك من أهل آكيا. تدبري الأمر، فالموت شيء مخيف.
أفجنيا :
إن الموت والألم الشديد يسيران في أثر هلن لا تمت من أجلي أيها الرجل الغريب العظيم ، ولا تلوث سيفك بالدماء من أجلي. إني ذاهبة لإنقاذ بلادي إن كانت هذه هي إرادة الله!
إكليز :
ما أعذب هذه الروح المجيدة! ليس لدي ما أقول في وجه هذه الإرادة الكريمة. وإذا أسفت على هذه الكلمات أو أحسست بوهن في عزيمتك، فاعلمي أني سوف أقف إلى جوار المذبح وإلى جانبي هذا السلاح. وإذا ندمت على هذا العمل حينما يتألق السيف الماضي أمام رقبتك فإني - حتى ساعتئذ - لن أتركك وسوف يكون هذا الصدر وهذا الدرع وهذا الحسام حائلا يقي عروسي من الجنود جميعها. إني ذاهب كي أنتظر قدومك، ذاهب إلى غابة آرتيمس المقدسة. (يخرج إكليز من اليسار.)
أفجنيا :
لقد تبللت وجنتاك بالدمع يا أماه.
كليتمنسترا :
لأن الباعث قاس مرير سحيق الغور.
أفجنيا :
آه، لا تبك خشية أن تهن عزيمتي أو تخور.
كليتمنسترا :
لن يقول أحد أني أسأت إلى ابنتي في يوم من الأيام.
أفجنيا :
أتوسل إليك يا أماه ألا تقصي من أجلي خصلات شعرك فوق الجبين، أو تلبسي ثوب الحداد، أو ترثي لي.
كليتمنسترا :
ماذا تقولين يا بنيتي؟ هلا أرثي لك بعد موتك؟
أفجنيا :
لن أموت، بل سوف أحيا. وسوف يذيع اسمك طويلا بسببي.
كليتمنسترا :
هلا أرثى لموتك يا بنيتي؟
أفجنيا :
كلا، لأني لن يقام لي قبر.
كليتمنسترا :
هل لا تقام القبور للموتى؟
أفجنيا :
مذبح أرتيمس مقبرتي.
كليتمنسترا :
كلماتك من لفظ السماء العالية، ولا بد لي أن أطيع.
أفجنيا :
أجل، واعلمي أني سعيدة لأني أموت في سبيل آكيا.
كليتمنسترا :
وماذا أقول لأختيك؟
أفجنيا :
لا ترثيان لي.
كليتمنسترا :
وأية تحية أحملها للعذارى.
أفجنيا :
وداعي الأخير، واجعلي من أرستيز رجلا صادقا.
كليتمنسترا :
إنك لن ترينه بعد هذا، عانقيه عناقا شديدا!
أفجنيا (لأرستيز) :
أخي الصغير، إنك كنت بطلي، وقد قدمت المعونة لأصدقائك بكل ما وسعت.
كليتمنسترا :
وما الذي يسرك أن أفعله في آرجس؟
أفجنيا :
لا تحملي لأبي ضغينة، ولا تحقدي على زوجك.
كليتمنسترا :
لا بد له إعزازا لك أن يكابد ساعة مريرة.
أفجنيا :
إنه يسلمني لآكيا بحزن عميق.
كليتمنسترا :
إنه وضيع، نذل ماكر، غير جدير بجنسه.
أفجنيا :
من سيرافقني ويقودني إلى المذبح حتى لا أجذب إلى هناك من شعري.
كليتمنسترا :
سوف أرافقك.
أفجنيا :
كلا يا أماه، إن هذا لا يليق.
كليتمنسترا :
سأتعلق بذيل ردائك.
أفجنيا :
أذعني لي يا أماه، والبثي داخل الدار. هذه رغبتي، وهي من حقي، وليقدني واحد من رجال أبي هؤلاء إلى الطريق الظاهر في غابة آرتيمس المقدسة التي سوف أموت ضحية لها.
كليتمنسترا :
هل أنت ذاهبة الآن يا بنيتي؟
أفجنيا :
إلى غير عودة.
كليتمنسترا :
وهل سترحلين عن أمك؟
أفجنيا :
كما ترينني، وإن كنت لست أهلا لهذا.
كليتمنسترا :
لا تهجريني!
أفجنيا :
سأذهب بغير دمعة. أيها العذارى، رتلن لموتي نشيد آرتيمس ابنة زيوس العظيم، وغنين «التوفيق لآكيا» متفائلين متشجعين. (يسير موكب التضحية من اليسار إلى اليمين ينشد في وقار وقد ارتفع البدر في السماء.)
أفجنيا :
ابدءوا الطقوس، املئوا السلة المباركة، وأشعلوا النار المقدسة، وتصدقوا بكعك الطهارة. إن أبي الملك العظيم سوف يضع يمناه على المذبح؛ لأني - كما ترون - قد أتيت لأجلب الحرية لآكيا والنصر لآرجيف. أرشدوني إلى سفح المذبح. سيكون لي فخر تحطيم إلين. إن بروج طروادة الشامخة سوف تنهار. زينوا جبيني العذري بالأكاليل وتوجوا خصلات شعري بالزهور. املئوا أواني النحاس اللامعة بماء نقي من الجدول، واحملوها مطوفين بالمكان المقدس، وارفعوا عقيرتكم بالنشيد لآرتيمس، العذراء المقدسة! إن رسل الموت تناديني، وها أنا ذا أهب دمي وحياتي.
الجوقة (لكليتمنسترا) :
أيتها الأم العزيزة الموقرة، إن قلوبنا مثقلة بالدموع، ولكن الطقوس المقدسة لآرتيمس يجب ألا تقاطع بالعويل.
أفجنيا :
إن المقاتلين من آلنا ينتظرون، وهم يتحرقون شوقا للسير إلى القتال غاضبين، ولموتي كي يطلق سراحهم من أولس (تجهش بالبكاء) ، أي بلادي التي ولدت فيها! (للجوقة) : إني آمركن أن ترفعن أصواتكن بالنشيد لآرتيمس ملكة كالكس وأولس (تجهش بالبكاء)
أي ميسيني!
الجوقة :
لماذا تنادين مدينة برسيوس التي بنى أسوارها سيكليس؟
أفجنيا :
خلف تلك الأسوار قضيت أيامي، والآن أرحل إلى ظلام الليل بإرادتي.
الجوقة :
وسيتغنى آلك باسمك من أجل هذا إلى الأبد.
أفجنيا :
أي فيبس المشرق، يا ابن الإله، يا نور النهار الصافي، لن تراك عيناي بعد هذا. وداعا أيتها الشمس الدفيئة، وداعا أيها النهار الجميل! (تخرج من اليمين.)
أولى أفراد الجوقة :
إنها تقبل على الموت كي تنهار فرجيا.
الثانية :
والقواد والجنود يقفون مسلحين عند الغابة.
الثالثة :
وبعد قليل يتوجون جبينها بالأكاليل.
الرابعة :
ويصبون المياه الطاهرة.
الخامسة :
وبعدئذ يغيب الكاهن في عنقها السكين، وتتدفق الدماء سيولا فوق المذبح.
السادسة :
لقد أمر بذلك أبوها.
الأولى :
كي تتمكن جيوش آرجس من السير إلى إلين.
الثانية :
هيا بنا نغني نشيد الابنة الإله - «العذراء» - كي تتوج ملوك آكيا بالظفر والشهرة.
جميعا (يغنين) :
أيتها «العذراء» المهابة، إليك نقدم عهودنا، ونرجو أن تقر عينك بدماء الفتاة! أرسلي ريحا تدفع سفن القتال إلى شواطئ طروادة! أعيني هؤلاء المقاتلين! واكتبي النصر لرماح جند آرجيف! وامنحي أجاممنن العظيم تاج النصر الذي لا يزول! (تعتم الأضواء تدريجا ثم ترفع.) (يدخل رسول من اليمين.)
الرسول :
هيه أيتها الملكة كليتمنسترا! إني أقف خارج الأبواب أحمل نبأ. (تخرج كليتمنسترا من الأبواب.)
كليتمنسترا :
لقد سمعتك، وها أنا ذا آتية وأنا أرتعد خشية أن تنبئني بشرور أخرى.
الرسول :
لدي نبأ عجيب مريع.
كليتمنسترا :
لا تتوان!
الرسول :
مصير ابنتك النبيلة.
كليتمنسترا :
تكلم!
الرسول :
سأخبرك بكل شيء من البداية إلى النهاية. ولكن حواسي أيتها الملكة، مضطربة لأن الأمر كان مريعا. أتينا إلى الطريق المزهر بغابة أرتيمس المقدسة، وهناك اصطفت جيوش آكيا المسلحة في وقار. وقدنا الأميرة إلى حيث كان يقيم محاربو آرجس. وما إن رأى الملك أجاممنن ابنته وهي تعبر الغابة بخطاها حتى علا أنينه وتدفقت دموعه وانصرف مرتديا عباءته وهو يجهش بالبكاء. وتقدمت إليه العذراء، وقالت: «أبي، ها أنا ذا أهب نفسي راضية ضحية لأرتيمس من أجل آرجس وآكيا. دعهم يسوقونني إلى المذبح. لتكن مشيئة «ربات القضاء»! وكن سعيدا في كل شأن يتوقف علي، فسوف تكون لك ثمرة النصر. وإني لأرجو أن تعود آمنا إلى ميسيني ذات الأسوار العظيمة الضخمة! لا تطلب إلى رجل من آكيا أن يقبض علي، فسأقدم رقبتي للسكين بروح لا تتزعزع.» هكذا تكلمت فأعجب الجميع بهذه الكلمات التي تنم عن البطولة، وبموقف الأميرة الذي لا يدل على خوف. وأمر تالثبيس المنادي الجند أن يلزموا الصمت. وعندئذ استل كالكس الكاهن سيفه المقدس من غمده وألقاه في سلة من الذهب، وتوج راس الفتاة بالأكاليل المقدسة، ودار بيليديز وهو يحمل السلة والقدح دورة حول المذبح وصاح «ابنة زيوس يا أرتيمس، يا من تحبين الصيد، وتقتلين الوحوش الضارية، وتعبرين السماء الزرقاء ليلا في فضة متلألئة. تقبلي هذه الضحية تقدمها إليك ولايات آكيا المتحالفة وأجاممنن قائدنا المختار. وإذا ما سالت الدماء الطاهرة من هذه الفتاة العذراء أرسلي ريحا ملائمة تدفع أسطولنا في عرض البحر حتى ندك بسلاحنا أسوار طروادة ذات البروج العديدة دكا.» ووقف على الجانبين أبناء أتريوس، وتناول الكاهن السلاح الماضي ورفع كفيه بالدعاء، وصوب المحاربون العابسون أنظارهم نحو الأرض مشفقين، وأمسك كالكس بمقبض السيف ولمح بعينيه المكان الذي سوف يضربه وعندئذ ضاق صدري بقلبي وأظلمت عيناي من الشر المرتقب. ثم في طرفه عين شهدنا المعجزة - رأينا الضربة وسمعنا وقعها، غير أن أحدا لم يستطع أن يقول أين كانت العذراء! فصاح الكاهن صياحا عاليا، وشق الجند الهواء بصيحات العجب. لقد قدم الله آية معجزة عجب لها الجميع وفاقت كل تصديق؛ ففوق الأديم شهدنا غزالا يلهث ذا حجم كبير وصورة فائقة، وتلطخ مذبح الربة بدمائه المتدفقة. وعندئذ صاح كالكس في غبطة وسرور: «انظروا إلى هذه الضحية يا زعماء جيوش آكيا المحتشدة. إن الآلهة ذاتها قد أتت بغزال جبلي ووضعته أمام مذبحها، فهي تتقبله عوضا عن الفتاة العذراء، ولن يتلطخ المذبح المهاب بسيل من الدم الملكي العزيز. إن أرتيمس قد قامت بهذه الأعجوبة برغبتها وبفضلها. وها هي ذي الريح الملائمة - التي سوف تنفخ الأشرعة وتحمل حرب الغزو إلى طروادة - تهز الأشجار، فانهضوا جميعا وتشجعوا! اهبطوا إلى السفن؛ فاليوم سنرحل عن خليج أولس الذي يأوينا ونضرب في عرض بحر إيجيا.»
والتهمت النار المقدسة الذبيحة، وتفوه الكاهن بالدعاء يرجو أن يشق الأسطول العظيم طريقا آمنا فوق الأمواج. وأرسلني أجاممنن أحمل إلى مليكته هذه الأنباء معلنا عن الحظوة التي خصته بها الآلهة والمجد العريض الذي سوف يكون لآكيا فيكون له. وقد شهدت كل ما رويت. كوني على ثقة أيتها السيدة النبيلة أن ابنتك مع الآلهة. لا تندبي بعد اليوم ولا تحملي ضغينة لمولاك؛ فكثيرا ما تمنح الآلهة للأحياء نعما لا يتوقعونها. إنهم ينقذون من يحبون. فهذا اليوم قد شهد نجاة ابنتك بدلا من أن يشهد ذبحها.
أولى أفراد الجوقة :
ما أشد سروري لسماع هذه الأنباء! إن ابنتك حية، أيتها السيدة الكريمة، وهي حية بين الأرباب.
كليتمنسترا :
وهل ارتفعت الآن يا بنيتي بين الخالدين؟ كيف لي إذن أن أوجه إليك الخطاب؟ أم هل لا بد لي أن أحسب هذه القصة كلها كلمات مجردة يواسونني بها، وأنباء كاذبة يخففون بها لوعتي؟
الرسول :
الملك أجاممنن مقبل، وسوف يؤيد كل نبأ من روايتي. (يدخل أجاممنن من اليمين يصحبه منلايوس وقواد الجيش.)
أجاممنن :
أي كليتمنسترا، ينبغي أن نحسب أنفسنا أسعد من عامة الناس بابنتنا؛ لأنها تعيش الآن بين الآلهة، وجنود الولايات يسيرون بحماسة نحو السفن يتعجلون الإبحار، وآرجس تستدعيك مع ابننا الصغير. وداعا! فإن تحياتي من طروادة قد تكون من شقة بعيدة. بارك الله فيك، وداعا!
أولى أفراد الجوقة :
ابتهج يا أتريدز وكن على حذر في الطريق! ولتطأ قدمك ساحل فرجيا ظافرا منتصرا، ولتعد في عز إلى آرجس محملا بغنيمة الظافر من طروادة. (ستار)
أفجنيا في تورس
مثلت لأول مرة في أثينا عام 410ق.م
أشخاص الرواية بترتيب ظهورهم
أفجنيا:
ابنة أجاممنن، ملك آرجس وميسيني، وهي الآن كاهنة أرتيمس. فتاة شقراء تناهز الثلاثين من العمر، وترتدي قميصا فضفاضا بغير هندام.
أرستيز:
ابن أجاممنن الوحيد، شاب طويل القامة قوي البنية، أسمر البشرة، في أوائل عقده الثالث، يرتدي معطفا قصيرا ويتسلح بسيف صغير.
بلديز:
ابن ستردفيس، والي فوكس، أصغر من أرستيز بسنوات قلائل، أشقر الشعر والبشرة، يماثل أرستيز في زيه.
الجوقة:
تتألف من الرقيق الذين يخدمون بمعبد أرتيمس، وهن بنات من آرجيف يرتدين قمصانا وملاءات بسيطة.
الراعي:
شاب يرتدي قميصا من جلد العنز وقبعة من اللباد ويحمل عصا غليظة.
حرس:
من البرابرة يرتدون ثياب أهل سكثيا (ويتألف من سروال فضفاض مربوط فوق العقبين، ومن سترة فضفاضة مشدودة بنطاق حول الخصر، وقبعة عالية مدببة الرأس)، ذوو لحى كثة، يحملون قسيا قصيرة وجعبات مملوءة بالسهام مدلاة فوق ظهورهم.
ثواس:
ملك تورس، رجل في منتصف العمر، ربعة أسمر اللون يرتدي ثيابا براقة تتألف من معطف طويل، وعباءة ضيقة طويلة، وقبعة مدببة، وحذاء مرتفع.
حارس.
بلاس أثيني:
إلهة عذراء، ربة الحرب والحكمة، ترتدي عدة حربية كاملة فوق قميص فضفاض.
وتقع حوادث الرواية بعد قصة «أفجنيا في أولس» بمدة تتراوح بين سبعة عشر عاما وعشرين عاما.
المنظر
فناء معبد أرتيمس في تورس. ويظهر المذبح خلف المسرح ومن ورائه مدخل المعبد. ويبدو بسيطا خشنا مقبضا. ويرى عدد من الخوذات والدروع والسيوف وغيرها مدلاة فوق الحائط.
الوقت
الصباح الباكر. *** (تدخل أفجنيا قادمة من المعبد.)
أفجنيا :
في سباق العربات السريعة انتصر بيلبس من تانتلس وظفر بيد أميرة بيزا، وكان له منها ابنة أتريوس الميسيني. وكان لأتريوس ابنان؛ منلايوس وأجاممنن، وأنا ابنة أجاممنن. وفي أولس المعروفة في القصص عند يوربس الذي تعصف بمياهه الفوارة الزوابع ضحى بي أبي من أجل هلن.
وإلى خليج أولس أقبلت ألف سفينة ملبية نداء أجاممنن، وقد تجمعت لهزيمة طروادة وللانتقام لمنلايوس. وفي خليج أولس لبثت السفن ساكنة تمنع مسيرها الرياح العصية حتى استشار كالكس الكاهن الآلهة واستطلع الغيب وقال: «أي قائد هذا الجيش العرمرم، إن سفنك لن تقلع عن هذه السواحل حتى تستقبل أرتيمس ابنتك أفجنيا ضحية لها؛ لأنك نذرت لربة النور أجمل ما أنتجه العام من مخلوقات. وفي ذلك العام حملت لك زوجك كليتمنسترا ابنة هي آية في الجمال، فعليك الآن أن تضحي بها.»
واحتال علي أورسيوس فانتشلني من جوار أمي في ميسيني، واستهواني إلى أولس كي أزف إلى إكليز. وهناك في الغابة المقدسة رفعت فوق المذبح العالي، وسلمت السكين لقتلي. ولكن أرتيمس اختطفتني. ومات مكاني فوق مذبح أهل آكيا ظبي صغير. وطارت بي أرتيمس تعبر السماء الصافية، وهيأت لي في تورس موئلا، حيث يتأمر على البرابرة ثواس، البربري ثواس سريع العدو، الذي يركض كما تركض الطير. والآن أنا كاهنة أرتيمس في معبدها، حيث لا يكرم أحد سواها، فالحمد والتقديس لها!
وقد اعتاد أهل تورس زمنا طويلا أن يضحوا على مذبح «العذراء» بأي امرئ من آرجيف تطأ قدماه هذا الساحل. ومن واجبي أن أعد الضحية، ولكن ذبحها يكون على أيدي سواي.
وفي داخل هذه الجدران المقدسة تتردد رؤى عجيبة، وقد شهدتها منذ عهد قريب، بل شهدتها هذا المساء. وسأروي ما تقع عليه عيناي للسماء عسى أن يكون من وراء ذلك خير. رأيتني بعيدة عن هذه البلاد، نائمة فوق سريري في آرجس، في غرفتي الخاصة في بيتي، وإذا بالأرض تهتز بعنف مريع، ففررت. وعند فراري هوت الجدران وهبط سقف البيت، واندك البناء كله سوى عمود واحد تطايرت من رأسه خصلات من الشعر صفراء وانبعثت من أحجاره الأصوات. وبوصفي كاهنة نثرت هذه الخصلات الصفراء فوق مذبح أرتيمس كأن صاحبها قد كتب عليه الموت. وتحدر الدمع من عيني. وعلمت من حلمي هذا أن أخي أرستيز قد مات؛ لأن الأبناء هم عمد بيت أبيهم، وأولئك الذين أصب عليهم الزيت المقدس مقضي عليهم بالفناء.
ولذا ففي نيتي أن أسكب الماء المقدس من أجل أخي، رغم انفصاله بعيدا عني، ورغم بعدي عن أرض الوطن، وسوف ينضم إلي في صلاتي هؤلاء الأسرى من أهل آكيا الذين وهبهم إياي الملك خدما لي. وسأدعوهم من مسكننا إلى هذا المكان (تخرج من اليمين) . (يدخل أرستيز وبلديز خلسة من اليسار.)
أرستيز :
انتبه يا بلديز خشية أن يأتي من هذا الطريق أحد.
بلديز :
إنني يقظ، ولست أرى شيئا وقد تلفت في كل اتجاه.
أرستيز :
هل تظن يا بلديز أن هذا المكان قد يكون معبد الإلهة الذي دفعنا إليه فلكنا من أرجس؟
بلديز :
أظن أنه المعبد. ولا شك أنك لا تداخلك الريبة.
أرستيز :
وإذن فهذا هو المذبح الذي يلاقي فوقه رجال آرجيف حتفهم.
بلديز :
انظر إن قمته ملوثة كلها بالدماء.
أرستيز :
ولاحظ شارات النصر فوق جدران المعبد.
بلديز :
لقد انتزعت من الضحايا المقتولين.
أرستيز :
كن يقظا؛ فالخطر يحدق بنا من كل جانب. (يصلي) : أي فيبس، لماذا أوقعتني مرة أخرى في الشباك؟ إنني قد ائتمرت بأمرك وانتقمت لمقتل أبي فذبحت أمي. ثم دفعت بي «ربات الغضب» إلى المنفى بعيدا عن أرض الوطن، ولاحقني الدمار من بلد إلى بلد. وأخيرا عدت إليك أطلب الخلاص من الجنون والألم. وقد أمرتني أن أدخل إلى تورس هذا البلد النائي؛ حيث تقام الصلوات لأختك أرتيمس. وطلبت إلي أن أسرق تمثال الإلهة، الذي يزعم البرابرة أنه نزل من السماء، وأن أحمله إلى أثينا لينال التكريم. هذا ما أمرتني به، ولم تزد عليه شيئا. فإن قضيته ظفرت براحتي، وإلى هنا أتيت طائعا لأمرك. (إلى بلديز) : بلديز، يا رفيقي وقت الضيق، ماذا ينبغي لنا أن نفعل؟ إن جدران المعبد عالية، فهل نجرؤ على تسلقها؟ وهل نستطيع أن نفعل ذلك دون أن نرى؟ وهل نحطم مفاصل الباب النحاسية؟ وأنى نجد القضبان التي نقتحم بها الجدران؟ إننا إذا شوهدنا ونحن نشق طريقنا إلى داخل المعبد عنوة فمصيرنا الموت بكل تأكيد. أليس من الخير لنا أن نعود إلى سفينتنا والفرار ما يزال ممكنا؟
بلديز :
الفرار لا يحتمل، وهو ليس من طبيعتنا، وإرادة الله لا بد أن تطاع. دعنا نترك هذا المعبد ونختفي في كهف على شاطئ البحر، كهف تستره الأمواج المظلمة وينأى عن سفينتا. فإذا شوهد زورقنا وأخذ حكام هذا البلد يبحثون على طول الساحل عن قوم أغراب، لم يعثروا بنا ولن نقع في أسرهم، وإذا حل الغسق وأقبل الليل بعينه القاتمة فتحنا هذا المعبد عنوة وتجاسرنا على حمل التمثال المصقول والفرار به. وجه بصرك إلى تلك الطنف وانظر تحتها، ألا ترى فرجة نستطيع أن نزحف خلالها؟ لسنا جبناء فنتراجع الآن، وإنما تملأ قلوبنا الشجاعة، ولا تعوزنا الصلابة نواجه بها خطر المغامرات.
أرستيز :
نعم ما فكرت فيه. وسنفعل بما تشير. فلنبحث الآن عن مكان نستطيع أن نتوارى فيه بحيث لا يرانا أحد. إن وعد الله لن يكون بغير جدوى، والشباب لا ينال خيرا من الأحزان (يخرجان من اليسار) . (تدخل خادمات أفجنيا، وهن نساء من آرجيف وقعن في أيدي البرابرة من أهل تورس، ويقبلن من اليمين.)
أولى أفراد الجوقة :
أنصتوا يا ساكني الصخور التي يتكسر فوقها الموج. أنصتوا!
الثانية :
هيه يا ابنة لاتونا، أنت يا دكننا يا ساكنة الجبل. إلى معبدك ذي الأعمدة المحلى بالذهب وإلى بلاطك المقدس أتيت، وأنا أمة من إماء الكاهنة المقدسة، وها أنا ذا أقف خاشعة على قدمي الغضتين.
الثالثة :
إن بروج آرجس، ومراعي آكيا المشهورة بخيلها، والحدائق المعطرة على ضفاف يورتاس، موطن آبائي، قد طال بعدها عن ناظري. (تدخل أفجنيا من اليمين.)
الرابعة :
ها نحن أولاء، ما الخبر؟
الخامسة :
أي حزن جديد تخبئه لنا الأقدار.
السادسة :
لماذا دعوتنا إلى المعبد يا ابنة الملك الذي قاد أبناء أتريوس الذين ساروا في ألوف السفن إلى أسوار طروادة؟
أفجنيا :
وا حسرتاه! إن قلبي ينبض بويلات الألم العظيم، وفؤادي يعذبه اضطراب تعجز عن الإبانة عنه أوتار القيثار. إن ظلمة الليل لم تكد تنقشع من فوق الأرض حتى عرتني رعدة حين ذكرت الحلم العابس الذي رأيت. وإني لأضيق ذرعا بالنائبة التي حلت ببيتي وأخشى أن تكون المنية قد أدركت أخي. وا ضيعتاه! لقد انهار بيت أبي وانطفأ نور الحياة في أهل أسرتي. وا حسرتاه على الويلات التي حلت بآرجس! ويلي منكم يا «أرباب الموت». إنكم نزعتم أخي مني والآن تحكمون عليه بلقاء حتفه لقاء «هيدز». (تلتفت إلى الجوقة) : إني من أجله قد أعددت هذه القرابين، وهذه الكأس التي هي من نصيب الموتى في هذه الدار الفانية، وهذا اللبن الذي أتيت به من ماشية الجبل، وعصير العنب وعسل النحل الذي لفحته الشمس. لقد أصبحت هذه العطايا الآن من نصيب الأموات. أعطوني كأسا ذهبية أصب منها الماء المقدس فوق «هيدز». (تصلي) : إنك يا ابن بيت أجاممنن ترقد الآن في قبرك، وإليك - بعد موتك - أقدم هذه الأشياء. فتقبلها؛ لأني قد لا أستطيع أن أنثر فوق قبرك خصلة من خصلات شعري اللامع، أو أذرف دمعة من عيني ما دمت بعيدة عن بلادي يحسبني الناس في عداد الأموات ضحية «لآكيا».
أولى أفراد الجوقة :
مولاتي، سنغني معك نشيد الموت.
الثانية :
ونولول كما يفعل أهل آسيا.
الثالثة :
ونغني للموتى أغنية حزينة.
الرابعة :
ونتوجه إلى «رب العالم السفلي» بنشيد كئيب.
الخامسة :
وا حسرتاه، إن ضوء ملوك بيت آتريوس آخذ في التلاشي!
السادسة :
والصولجان يسقط من أيدي ملوك آرجس الأمجاد.
الأولى :
لقد حلت بأهلينا كارثة إثر كارثة.
الثانية :
وأشاحت عنا الشمس بوجهها.
الثالثة :
وتوالت النكبات التي أتى إلينا بها «الكبش الذهبي».
الرابعة :
وتعاقبت جرائم القتل والأحزان.
الخامسة :
وحلت اللعنة بأبناء ثنتالس.
السادسة :
والهلاك المحتوم يدركنا سراعا.
أفجنيا :
يا شؤم اليوم الذي تزوجت فيه أمي؛ فقد قضى علي «أرباب الموت» بحياة الشقاء. إن أبي قد ظفر بابنة ليدا من بين العدد العديد من النبلاء الذين تقدموا يطلبون الاقتران بها. ولكنه - برغم هذا - أقسم ليقدمني - وأنا أول من أعقب - ضحية لأرتيمس، ويا له من قسم دنس! وفوق رمال أولس انطلقت عربتي تحملني عروسا لإكليز، بل تحملني إلى موت مريع.
وها أنا ذا الآن أعيش طريدة فوق شاطئ بحر لا يرحم، ليس لي زوج ولا ولد. ولا وطن ولا صديق. وصوتي لا يرتفع تكريما «لهري الأرجيفية» ولا تنسج أصابعي على المنوال صورا براقة لبلاس أثيني وتبتن. إنما واجبي أن أقوم بالشعائر المقدسة عند تقديم الغريب إلى الموت، وأن أشهد دماءه تتدفق فوق المذبح وهو يصيح مجلجلا بصوته. إن الدمع المرير يحرق عيني. دعوني أبعد عن ذهني هذه الخواطر؛ لأني الآن أبكي موت أخي الذي ذبح في آرجس، أبكي أرستيز الصغير، أخي الطفل. لقد أرضعته أمي بلبنها، ولعب في حجرها، وهو أمير يجري في عروقه دم آرجس الملكي.
أولى أفراد الجوقة :
إن راعيا يقبل من شاطئ البحر راكضا. (يدخل الراعي من اليسار.)
الراعي :
استمعي إلى قصتي يا ابنة أجاممنن وكليتمنسترا.
أفجنيا :
لماذا تقاطعنا بهذه الخشونة؟ ما وراءك؟
الراعي :
إن شابين قد نجوا من مخاطر الصخور ، وهما الآن فوق شواطئنا. لقد أتت بهما أرتيمس إلى هنا ضحية مقبولة. أعدي الماء المقدس أيتها الكاهنة وتأهبي لأداء المشاعر.
أفجنيا :
خبرني عن بلدهما؟ أي لباس يرتديان؟
الراعي :
لباسهما أرجيفي، ولا أستطيع أن أخبرك بأكثر من هذا.
أفجنيا :
ألم تسمع باسميهما؟
الراعي :
أجل، سمعت أحدهما ينادي الآخر باسم بلديز.
أفجنيا :
وما اسم رفيقه؟
الراعي :
لم نسمع قط بهذا.
أفجنيا :
كيف استطلعت مكانهما وقبضت عليهما؟
الراعي :
وجدتهما حيث تتكسر الأمواج المزبدة فوق الصخور الغليظة.
أفجنيا :
وماذا تفعل قطعان البقر عند ساحل البحر الملح؟
الراعي :
سقنا بقرنا إلى هناك لنغسلها في ماء البحر.
أفجنيا :
خبرني دون كبير عناء كيف قبضت عليهما، بأية حيلة؟ إن مذبح الإلهة لم يتلطخ بدماء آكيا من زمن بعيد.
الراعي :
كنا نسوق ماشيتنا من مراعيها في الغابة إلى البحر الذي يتدقق في سمبلجديز. وهناك في صخرة مرتفعة مغارة نحتتها الأمواج التي لا تنقطع، وإلى هذا المكان يأتي قوم يجمعون الصبغة الأرجوانية. وفي هذه المغارة تطلع صبي منا وعاد على أطراف أصابعه ينادينا قائلا: «ألا ترونهم هناك داخل الغار؟ إلهان يجلسان فوق الصخور.» ورفع آخر - وهو رجل تقي - كفيه بالدعاء وفي عينيه نظرة الورع قال: «يا ابن ربة البحر الطاهر المقدس، يا ولي الملاحين، يا بليمن المبجل، كن بنا رءوفا! هل هما ابنا ديسكيوراي أو ابنا نيريوس؟» وتهكم على دعائه ثالث، وهو رجل ساخر داعر وقح وقال إنهما ملاحان تحطمت سفينتهما فاختبئا في تلك الهوة خشية قانون بلادنا الذي يأمر بالتضحية بالأغراب لآرتيمس. وحسبناه صادقا في قوله، وعقدنا العزم على أن نقبض للإلهة على ضحيتها.
ولما اقتربنا من هذين الغريبين نهض أحدهما من فوق الصخور وهز رأسه ورفع عقيرته بالعويل، وأشار بأصابعه المرتعشة وصاح قائلا: «انظر يا بلديز هذه شيطانة من جهنم ذات جناحين، وتلك أخرى مثلها، كلتاهما مسلحتان بالأفاعي التي تتلوى حول جسميهما إنما تريدان أن تقضيا علي. وتلك ثالثة تلفظ اللهب وتقطر دما، تهبط تجاهي، وأمي بين ذراعيها. أين أتوارى؟ إنها سوف تدركني.»
ولكنا لم نر شيئا . فهل خيل له أن غثاء ماشيتنا ونباح كلابنا هي أصوات «ربات الغضب»، وعرانا الخوف والخور فلزمنا الصمت. ولكنه سل سيفه وانقض على عجولنا بالضرب المبرح حتى جرى البحر بالدماء وصاح قائلا إن «ربات الغضب» قد طارت منه شعاعا. ولما رأينا قطعاننا ذبيحة تسيل منها الدماء، تناول كل منا ما استطاع من سلاح، ورمينا أصداف القواقع نستدعي بها رفاقنا؛ لأنا أدركنا أن رعاة البقر المساكين قليلو الجدوى أمام المحاربين المسلحين. ولم ينقض وقت طويل حتى تجمع عند الساحل عدد عديد وحينئذ هدأت من الأجنبي سورة الجنون وسقط فوق الأديم خائرا ينقط الزبد من فيه. ولما رأيناه صريعا انقضضنا عليه ورميناه بالحجارة وانهلنا عليه ضاربين. عندئذ تقدم رفيقة لمعونته ومسح وجهه، وواراه عن الضربات والحجارة حتى أدرك سوء حاله لأنا لم نكف عن قذفهما بالحجارة من كل جانب. فصاح مرعوبا وقال: «لا مناص من الموت يا بلديز، وإذن فلنمت مكرمين، فسل سيفك واتبعني!» فلذنا بالفرار في الأخاديد المنحدرة ذعرا من أسلحتهما اللامعة، ورماهما بالحجارة من تخلف وراءهما. فلما التفت إليهم المحاربان هاجمهما بدورهما أولئك الذين فروا منذ لحظة هاربين، ولكن حياتهما كانت مصونة بالتعاويذ، فلم نستطع أن نصيبهما بأذى. وأخيرا انتزعنا من أيديهما السيوف، وضربناهما حتى خرا إلى الأرض، ثم أتينا بهما إلى الملك مكبلين. وسيرسلهما إليك أيتها العذراء للتطهير والتضحية. ادعي لنا الله أيتها الكاهنة أن يقع بين أيدينا الكثير من أمثال هذه الضحايا ليكفر «هلاس» عن رغبته في قتلك فوق مذبح غابة أولس.
أولى فرقة الجوقة :
ما أعجب وما أروع ما ترويه عن هذا الرجل الذي دفع به البحر القاسي من آكيا.
أفجنيا :
لتكن مشيئة زيوس! اذهبوا وأتوني بهذين الغريبين وسأقوم بواجبي. ما أتعس القلب الذي ينبض بين جنبي! لقد كان فيما مضى مطمئنا حينما كان يحس بالشفقة على التعساء من أهل آرجيف أبناء جنسي الذين كانوا يوضعون بين يدي للتضحية بهم، ولكن رؤياي قد أدخلت على قلبي القسوة. وكلما فكرت في أن أرستيز لم يعد حيا تلاشت من نفسي كل رحمة.
ما أشد مرارة التعساء نحو السعداء! إن زيوس لم يسخر الريح لتدفع إلى هذا البلد سفينة تحمل هلن، آفة حياتي، أو منلايوس. إذن لانتقمت منها، ولكان في التضحية بهما هنا انتقام من التضحية بي في أولس، حيث كان «الدنان» متأهبين لقتلي، كما تقتل العجول، في حضرة أبي أجاممنن، الملك الكاهن.
يا ويلتاه! إني لا أستطيع أن أنسى الآلام التي تكبدتها حينذاك ... لقد تعلقت بركبتي أبي، وأمسكت لحيته، وتضرعت إليه قائلة: «أبتاه، لأي عرس مشئوم أتيت بي؟ وأي أناشيد الزواج ستتغنى بها أمي ونساؤها في آرجس؟ وأي الأغاني سيتردد صداها في قصر أتريوس؟ لأني سأموت على يديك. وسوف يصبح «هيدز»
3
لي قرينا، أما ابن بيليوس فلن يكونه. لقد أمرتني أن آتي ليكون إكليز لي زوجا، وانظر! لقد حملتني العربة إلى الموت بالتضحية، ولما تركت آرجس نكست طرفي تحت نقابي الرقيق، ولم أودع شقيقتي، ولم أعانق أخي الصغير أرستيز، أرستيز الذي أصبح اليوم بين الأموات؛ فقد كنت أحسب أني سوف أعود إلى ميسيني قبل أن ينقضي وقت طويل. آه يا أخي الشقي، إن كنت اليوم ميتا، فمن أي مركز سام سقطت! لقد سقطت من جلال عرش آبائك!»
إن سلوك الآلهة فوق ما تدرك العقول، فهي تحرم مذبحها على أي إنسان تلطخت يداه بالدماء، بينا يسرها هي أن يضحي من أجلها البشر. ولكن لاتونا، زوج زيوس، لم تتصف بمثل هذا التناقض، كما أن تانتلس ما كان ليقدم للآلهة لحم أبنائه ليسرهم به. ولكن البرابرة سكان هذي البلاد يشتهون دماء البشر وينسبون إلى الآلهة هذا الإثم الذميم. إني لا يسعني إلا أن أعتقد أن الآلهة تميل إلى الخير. (يخرج الراعي من اليمين.)
أولى أفراد الجوقة :
إن المياه مظلمة حيث تتجمع أمواه الفيضان. وما أشد ظلمة ذلك التيار الذي عبرت مياهه أيو التعسة من أوربا إلى آسيا وهي تفر من آرجس بعدما لدغتها ألوف ذباب المواشي.
الثانية :
أيها البحر القاتم، من أولئك الرجال القادمون من يورناس المعشبة النائية ذات الأنهار الفضية أو من آبار ديرسي المقدسة؟ من أولئك الذين هبطوا على هذا الساحل حيث تكرم أرتيموس ابنة زيوس في المعابد ذات الأعمدة الكثيرة عند المذابح التي اكتست حمرة من دماء البشر؟
الثالثة :
إن صفين من مجاديفهم الصنوبرية كانا يتلألآن في ضوء الشمس، كما انتفخت أشرعتهم بالنسيم وهم ينزلقون فوق الموج. وكانت قلوبهم متعلقة بجمع الثروة لبيوتهم وهم يشقون عباب الماء.
الرابعة :
الأمل آفة الأحياء، يدفعهم من شاطئ وحشي إلى آخر يحدوهم رجاء مبهم. إنهم لا يفترون عن طلب الثراء، وبعضهم تفوته فرصة النجاح من سوء التقدير، وبعضهم يدرك النجاح بغير انتظار.
الخامسة :
كيف نجوا من الصخور الوعرة؟ وكيف اجتازوا مخاطر شطآن فنيوس؟ هناك فوق لجج آمفترايت ترقص بنات نيريوس بأقدام متألقة وهن يتغنين بالأناشيد.
السادسة :
إن الرياح التي تملأ الأشرعة دفعتهم إلى هنا، وقد أخذت دفاتهم الثابتة تصر والريح تهب جنوبا وتهب غربا حتى مروا بأرض تتردد عليها الطيور، وبالساحل الأبيض، مندفعين فوق البحر الذي لا يرحم، كما كان إكليز يندفع في السباق.
الأولى :
آه لو أن هلن ابنة ليدا الحسناء طارت إلى هنا من أسوار طروادة الشاهقة! آه لو أجيب دعاء مولاتي! إذن لماتت الأسبرطية فوق المذبح، وابتلت خصلات شعرها بقطرات الدماء. إنها لتموتن بيد مولاتي، وحينئذ يكون الانتقام لآلامي.
الثانية :
ما أشد سرورنا لو أقبلت علينا سفينة آكيا المشمسة وأنقذتنا من الأسر المنحوس! آه لو عدت إلى وطني القديم، ولو في الحلم، ووطأت الطرقات في مدينة آبائي، وأصغيت إلى الموسيقى في قاعات الأميرة!
الثالثة :
ها هما الأسيران يقبلان، تكبل معاصمهما الأصفاد، ليضحى بهما للآلهة، أنصتوا جميعا!
الرابعة :
صدق الراعي. إن أبناء هلاس يقتربون من المعبد.
الخامسة :
أيتها الآلهة، أيتها العذراء المقدسة! لو كانت مثل هذه الأمور مما تحبين، فتقبلي هذه الضحايا التي تقدم لك علانية كما هي عادة هذه البلاد، وإن يكن ذلك يوصم بالدنس بين أهل آرجيف. (يدخل من اليسار أرستيز وبلديز مكبلين بالسلاسل بين حارسين.)
أفجنيا :
لن يهمني الآن أن تؤدى واجبات الإلهة بغير توان. (للحراس) : فكوا إسار أيدي هذين الغريبين؛ إذ إنهما بعد أن باتا ضحيتين مقدستين لم يعودا أسيرين بعد هذا. (توجه الخطاب إلى بعض الخدم الذين يلجون المعبد) : ادخلوا المعبد، وأعدوا كل ما نحتاج لشعائر التضحية
ما أشد حزن الأم التي حملتك! من كان أبوك؟ وهل لك أخت؟ إنها ستفقد بفقدك أخوين! من ذا الذي يستطيع أن يتكهن بالكارثة المقبلة؟ إن إرادة الآلهة تسير في طريق لا يدركه الإنسان، ومصباح «الأمل» مغواة في المستقبل المظلم. أيها الغريبين التعسين، من أين أتيتما؟ ما أشأم اليوم الذي أبحرتما فيه إلى هذه البلاد، ولسوف يطول غيابكما من أرض الوطن، ولسوف تعانيان النفي أبدا في ظلمات الموت.
أرستيز :
لماذا تتفوهين بكلمات الرثاء وتحزنين لمصيرنا أيتها العذراء، ومن ذا عسى أن تكوني؟ إني أعتقد أن الرجل الذي تواجهه المنية فيجاهد أن يستثير العطف ويثرثر باللفظ خشية الموت لا يستحق الثناء، إنما هو يضاعف سوء حظه، وجدير به أن يتصف بالحماقة؛ لأنه ملاق حتفه برغم هذا. لا مفر مما في طي القدر، لا تذرفي من أجلنا الدموع؛ فنحن نعرف عادة التضحية في هذه البلاد.
أفجنيا :
خبرني أولا أيكما يدعى بلديز؟
أرستيز (مشيرا إلى بلديز) :
هو ذا، إن كان يسرك أن تعرفي.
أفجنيا :
من أي ولاية في آكيا أتيت؟
أرستيز :
ماذا يعود عليك من العلم بهذا أيتها الكاهنة؟
أفجنيا :
هل أنتما شقيقان، ولدتكما أم واحدة؟
بلديز :
لسنا شقيقين، ولكنا صديقان.
أفجنيا :
بماذا سماك أبوك؟
أرستيز :
كان الأجدر به أن يسميني منحوس الطالع.
أفجنيا :
لا أسألك عن هذا، إن نصيبك قد قدرته لك «ربات القضاء».
أرستيز :
إذا متنا مجهولين فلن يسخر منا أحد.
أفجنيا :
هل بلغ بك الكبر ألا تبوح باسمك؟
أرستيز :
تستطيعين أن تضحي بجسمي دون اسمي.
أفجنيا :
لا أقل من أن تخبرني ببلدك؟
أرستيز :
وماذا يجدي هذا رجل مقضي عليه بالموت؟
أفجنيا :
لماذا ترغب عن أن تصنع لي هذا الجميل؟
أرستيز :
آرجس موطني.
أفجنيا :
هل صحيح أنك من آرجس أتيت؟ وهل يمكن أن يكون هذا صحيحا؟
أرستيز :
أتيت من ميسيني التي كانت في يوم من الأيام تدعى بحق «الأرض السعيدة».
أفجنيا :
وهل دفعت على أن تقلع من بلدك طريدا؟ وإلا فأي مغامرة أتت بك إلى هنا!
أرستيز :
قد يقال إني طريد، رغما عني، وبإرادتي.
أفجنيا :
مرحبا بمقدمك!
أرستيز :
ولكني لا أرحب به، فلتهنئي أنت به إن كان يسرك.
أفجنيا :
هل تتفضل فتخبرني عن أشياء أحب أن أعرفها؟
أرستيز :
إن هذا لا يزيد شيئا من نكبتي الراهنة.
أفجنيا :
لعل لك بطروادة علما، واسمها يتردد على كل الشفاه.
أرستيز :
وددت لو لم أسمع بها حتى في أحلامي!
أفجنيا :
يقولون إنها تلاشت من الوجود، وإن الحرب قضت عليها قضاء مبرما.
أرستيز :
هذا صحيح، ولم يكذبوك الخبر.
أفجنيا :
وهل عادت هلن إلى بيت منلايوس؟
أرستيز :
أجل، وهذا من سوء حظ رجل من أقربائي.
أفجنيا :
وأين هي الآن؟ إن بيننا دينا قديما لم نسوه.
أرستيز :
إنها تسكن في أسبرطة مع زوجها الأول.
أفجنيا :
عليها لعنة أهل آكيا جميعا لا لعنتي أنا وحدي.
أرستيز :
وأنا كذلك عانيت من هذا الزواج.
أفجنيا :
وهل عاد كل أهل آرجيف كما يشاع.
أرستيز :
يتضمن هذا السؤال كل سؤال آخر دفعة واحدة.
أفجنيا :
أحب أن أعلم الكثير قبل موتك.
أرستيز :
إذا، سليني أجبك، ما دمت في هذا ترغبين.
أفجنيا :
وهل عاد من طروادة عراف اسمه كالكس؟
أرستيز :
يقولون إنه مات في ميسيني.
أفجنيا :
حمدا لإلهتي! ما أعدلها! وما أخبار ابن ليرتيز؟
أرستيز :
لم يعد إلى الوطن بعد، غير أنهم يقولون إنه ما زال حيا.
أفجنيا :
أرجو أن يلاقي حتفه بعيدا عن وطنه!
أرستيز :
لا تتمني له شرا، ويكفيه عبثا ما يتحمل من مشاق.
أفجنيا :
وهل ابن بيريد ثيتس ما يزال حيا.
أرستيز :
كلا، بل مات، وكان زواجه في أولس أجوف.
أفجنيا :
يقرر العارفون أنه كان زواجا كاذبا.
أرستيز :
من أنت؟ إنك تسألين عن شئون آرجيف سؤالا دقيقا.
أفجنيا :
أتيت من آكيا، وتحملت النائبات وأنا ما زلت طفلة.
أرستيز :
الآن فهمت اهتمامك بما يجري هناك.
أفجنيا :
خبرني ماذا حدث لذلك الملك الذي يحسبه الناس جميعا رجلا سعيدا؟
أرستيز :
من ذا تعنين؟ إنني لا أستطيع أن أذكر أحدا جديرا بهذا اللقب.
أفجنيا :
كان هناك سيد يدعى أجاممنن بن أتريوس.
أرستيز :
لا أستطيع أن أخبرك، ولا تسأليني بعد هذا.
أفجنيا :
لا بد أن أعرف أيها الغريب، أرجو أن تخبرني.
أرستيز :
لقد مات هذا الرجل الشقي، وجلب موته الدمار للآخرين.
أفجنيا :
هل قلت إنه مات؟ وكيف مات؟ ما أشد أحزاني!
أرستيز :
لماذا يحزنك هذا؟ هل أنت من أسرته؟
أفجنيا (مترددة) :
إنما أرثي لفقد أبهته.
أرستيز :
لقد مات، ذبحته امرأة ذبحا مشينا.
أفجنيا :
وا حسرتاه على القاتلة والمقتول.
أرستيز :
لا تسألي عنه أكثر من هذا.
أفجنيا :
أرجو أن تأذن لي بسؤال آخر. هل لا تزال زوجة هذا الرجل الشقي حية؟
أرستيز :
فارقت الحياة، فقد ذبحها ابنها وفلذة كبدها.
أفجنيا :
يا لها من أسرة حاقت بها النكبات العابسة! ماذا عسى أن يكون الحافز الذي دفعه إلى هذا؟
أرستيز :
كي ينتقم لموت أبيه.
أفجنيا :
يا للهول! عمل عادل، ولكنه عمل أثيم. وقد كان أداؤه حقا.
أرستيز :
كان العدل إلى جانبه، ولكن الآلهة لم تكن به رحيمة.
أفجنيا :
وأي أبناء أجاممنن الآخرين على قيد الحياة؟
أرستيز :
ابنة واحدة فحسب، هي إلكترا العذراء.
أفجنيا :
ابنة واحدة فحسب! وما مصير الأخرى، تلك الابنة التي ضحى بها؟
أرستيز :
إنها لم تعد تشهد ضوء النهار بعد موتها.
أفجنيا :
ما أتعس هذه الابنة، لقد قتلها أبوها الشقي؟
أرستيز :
لقد ماتت في قضية سوء، قضية امرأة فاجرة.
أفجنيا :
وهل لا يزال في آرجس ابن ذلك الرجل المقتول؟
أرستيز :
ما أتعس هذا الرجل. أين يا ترى يكون؟ إنه في كل مكان، وفي غير مكان.
أفجنيا (جانبا) :
ألا بعدا للرؤيا الكاذبة! لقد كانت جوفاء بغير معنى.
أرستيز :
إن الآلهة الذين يحسبهم الناس بكل شيء عليمين ليسوا أكثر صدقا من الأحلام العابرة. لقد صور الإنسان الله على صورته فجلب لنفسه آلاما لا تحد. إن كلمة واحدة من كاهن تودي به إلى الدمار، وكم من رجل لقي هذا المصير.
أولى أفراد الجوقة :
وا حسرتاه! وا حسرتاه! أي قضاء حم بآبائنا. من ذا يستطيع أن يخبرنا؟
أفجنيا :
أنصتوا! لدي خطة تعود عليكما أيها الغريبين كما تعود علي بالنفع في آن واحد. وأرجح أن تنجح الخطة نجاحا باهرا، ما دامت تفيد كل من له بها صلة. هل توافق - إذا أنقذت حياتك - أن تتوجه إلى آرجس وتحمل رسالة إلى أصدقائي هناك؟ سأعطيك خطابا تحمله، كتبه أسير في هذا المكان، وقد أشفق علي لأنه اعتقد أنه يموت وفقا لقانون هذه البلاد ولم يعتبرني قاتلة. إني لم أجد أحدا يذهب إلى آرجس ليسلم هذا الخطاب، فأرجوك أن تقوم لي بهذا، ولست وضيع المولد، وإنك بميسيني لعليم، كما أنك تعرف الأصدقاء الذين أحب أن يصلهم هذا الخطاب. فكن لي رسولا واغنم جزاء حسنا، وذلك الجزاء هو حياتك. وما دامت تورس في حاجة إلى ضحية، فليقدم هذا الغريب الثاني وحده ضحية «للعذراء».
أرستيز :
إن خطتك أيتها الفتاة المجهولة محكمة التدبير إلا في شيء واحد، وذلك أنه يحزنني أن يضحى بهذا الرجل؛ لأني أنا الحافز على هذه المغامرة، وإن هو إلا رفيقي وشريك متاعبي. وليس من العدل في شيء أن أتكرم عليك وأنجو بحياتي على حساب حياة هذا الرجل. وإذا فلتكن الخطة كما يأتي: سلمي خطابك لهذا الرجل الذي سوف يحمله إلى آرجس وينفذ مشيئتك. واحتفظي بي هنا للتضحية. إني لا أحسب أن هناك فكرة أشد وضاعة من أن أشتري نجاتي بحياته وأنا الذي أوقعته في هذه الكارثة. إنه صديقي، وأحب له أن يستمتع بنور النهار كما أحب لنفسي.
أفجنيا :
ما أعظم قلبك! حقا إنك لمن أسرة نبيلة. أنت رفيق صادق، شديد الشبه بآخر أقربائي. إنني لست بغير شقيق، وإن تكن عيناي لا تقع عليه. وما دامت هذه إرادتك، فليحمل هذا الآخر رسالتي ولتمت أنت، فهل أنت مشغوف بلقاء مصيرك؟
أرستيز :
من ذا الذي سيضحي بي؟ ومن ذا يجسر على هذا العمل المريع؟
أفجنيا :
أنا، لأني كاهنة الإلهة.
أرستيز :
إني لا أحسدك على هذا الواجب الممقوت.
أفجنيا :
الحاجة تتحكم فينا جميعا، ولا مفر لنا منها.
أرستيز :
ولكن هل تقتلين الرجال بالسيف أيتها المرأة؟
أفجنيا :
كلا، كلا. سأصب فوق رأسك ماء التضحية.
أرستيز :
ومن الذي سيقتلني، إن كان يجوز لي أن أسأل هذا السؤال؟
أفجنيا :
في هذا المعبد رجال سيكون هذا واجبهم.
أرستيز :
وأي قبر سيتلقف جسدي بعد الموت؟
أفجنيا :
إن نارا مقدسة تحترق داخل أخدود في الصخور فسيح، وسوف يكون هذا جدثك.
أرستيز :
ما أشد حسرتي لأن يد أختي لا تفحص عيني!
أفجنيا :
هذا دعاء باطل لأن بيتها ناء عن هذه الأرض الوحشية. سأفعل كل ما تستطيع الأخت أن تفعله؛ لأنك أيضا من آرجيف. سوف أزين قبرك وأطفئ رماد جسدك بالزيت الأصفر، وأصب فوق كومة الحطب التي ستحرق لها جثتك الرحيق العذب يمتصه نحل الجبال الذهبي من المراعي الشاهقة. (تدخل أفجنيا المعبد.)
أولى أفراد الجوقة (إلى أرستيز) :
نحن نبكيك لأن الموت المقدس حتم عليك.
أرستيز :
لا تشفقن علي أيتها النسوة بل ابتهجن لي!
ثانية أفراد الجوقة (إلى بلديز) :
نحن نبتهج معك لأنك سوف تشاهد شواطئ موطنك مرة أخرى وتطأ بقدميك أرض بلادك ثانية.
بلديز :
لا تبتهجن لي. ليس من السرور أن يموت صديقي.
الثالثة (إلى بلديز) :
إنك ستعود إلى الوطن ولكن بقلب حزين!
الرابعة (إلى أرستيز) :
مقضي عليك بالموت، وا حر قلباه!
الخامسة :
إن قلوبنا تتمزق من أجلكما أيها الشقيان.
السادسة :
لأيكما نرثي؟ (إلى أرستيز) : لك، أو (إلى بلديز) : لك؟
أرستيز :
خبرني يا بلديز، ألا تحس بما أحس؟
بلديز :
لا أستطيع أن أجيبك عن هذا، إنه سؤال لا يجاب عنه.
أرستيز :
من ذا عسى أن تكون هذه العذراء؟ عجبا، إنها تسأل كما تسأل فتاة من آرجيف عن طروادة، وعن عودة الهلينيين، وعن كالكس العراف الحكيم وعن إكليز. ومن عجب كذلك أنها تشفق على أجاممنن وتتلهف على أخبار زوجه وبنيه! لا بد أن تكون من آرجيف، وإلا فلماذا ترسل خطابا إلى هناك وتسأل سؤالا دقيقا عن شئون آرجيف؟ لا بد أنها قد أتت من آرجس .
بلديز :
إنك تعبر عن آرائي بدقة. غير أنا ينبغي ألا ننسى هذه الحقيقة، وهي أن الناس جميعا قد سمعوا بمصير زعمائنا. ولكن هناك يا أرستيز شيئا واحدا تحدثت عنه يشغل خاطري.
أرستيز :
وما ذاك؟ لعلك إذ تفضي به تخفف عن نفسك.
بلديز :
هل هويت إلى الحضيض فأحيا وتموت؟ أنت إنما قمت بهذه المغامرة كي أشاطرك كل مخاطرك. ولذا فلا بد لي أن أموت معك. فلو أني عدت وحدي لوصموني بالجبن في آرجيس وفوكس. سيقول الناس - وهم قساة - إني عدت وحدي إلى أودية الوطن العزيزة. وحيدا آمنا وبيتك مغمور بالنكبات. ولا شك أنهم قائلون إني دبرت موتك كي أظفر بالعرش من بعدك فأنا زوج أختك. أي عار يكون هذا؟ إني لأخشاه. وأنا فوق ذلك صديقك، وسألفظ النفس الأخير إلى جانبك، وأقتل معك، ويختلط رماد جسدينا في نار واحدة.
أرستيز :
صه، صه! لا بد أن أتحمل وحدي سوء طالعي، ولا أضم ويلات غيري إلى ويلاتي. أفتقول: «إنه عار شديد»؟ ماذا عسى أن يكون مصيري إذا تركتك تموت وأنا أس هذا البلاء؟ إن ضيعتك كبيرة يانعة، وبيتك سعيد لم يتلطخ بالجرائم الشنيعة. فلماذا إذا تلاحقك اللعنات؟ إنك إن فررت وتزوجت من أختي التي وعدتك إياها فسيخلد اسمك في بنيك ويبقى بيت آبائي قائما. وها أنا ذا أمد إليك يمناي لتعاهدني أن تقيم لي بعد عودتك إلى آكيا قبرا تضم في جوفه بعض آثاري. وهناك تبكيني شقيقتي وتلقي فوق الحجر خصلات شعرها المقصوصة، وخبرهم جميعا كيف وقعت بين يدي امرأة من آرجيف ضحت بي للإلهة بعدما غمرتني بماء الموت المقدس، ولا تهجر قط أختي فليس لها حام آخر.
والآن وداعا يا أعز أصدقائي ويا أعز رفاق الصيد. لقد كنا معا طفلين وغلامين! لم تبتعد عني قط، وكنت دائما تحمل معي عبء أحزاني. إن فيبس الكاهن الكاذب قد خدعنا، وبالوعود الماكرة نفاني بعيدا من هلاس خشية أن يلحقه العار من نبوءاته الكاذبة؛ فقد أغراني باللفظ حتى قتلت أمي، ثم سلمت له كل ما أملك، والآن ها أنا ذا أموت بعدما أغراني بالرحلة إلى هنا.
بلديز :
سيكون لك قبر. ولن أغدر قط بأختك يا صديقي الشقي. وسوف تكون أعز لدي ميتا منك حيا. ولكن لا تقل إن الكاهن قد ساقك إلى الدمار وإن كنت تقف من الموت قاب قوسين أو أدنى. إن الدهر قد يقلب لنا ظهر المجن إذا كانت هذه هي مشيئة زيوس.
أرستيز :
إن كلمات فيبس لم تعد علي بخير. انظر، ها هي ذي الكاهنة تعود من المعبد.
أفجنيا (إلى الخدم) :
اتركونا واعملوا كل ما يحتاجه أولئك الذين سوف يقدمون الضحية. (إلى أرستيز وبلديز) : ها هو ذا الخطاب أيها الغريبان، ولكن استمعا إلى ما أريد منكما، ليس من إنسان لا يقع في المخاطر، وما يصرح به وهو خوف الموت ينساه بعد زوال الخطر. كيف لي أن أعرف أن رسالتي قد بلغت بعدما ينأى الرسول عن هذه البلاد؟
أرستيز :
ماذا تريدين؟ ليطمئن قلبك.
أفجنيا :
إذن فليقسم لي أنه سوف يحمل هذا المكتوب إلى آرجس في أمان وفي غير توان، أو أنه سوف يسلمه ليد من وجه إليه الخطاب.
أرستيز :
وأي شروط تقدمينها له؟
أفجنيا :
أي شروط؟ ماذا تعني؟
أرستيز :
أعني أن تضمني له نجاته من هذا البلد الوحشي.
أفجنيا :
وكيف بغير ذلك يستطيع أن يحمل الرسالة؟
بلديز :
وهل يوافق على هذا حاكم هذا البلد؟
أفجنيا :
أجل، وأنا أتعهد بإقناعه، وسأرى بنفسي أن الرسول يقلع في سفينتكم.
أرستيز :
أي يمين يقسمه لك وتقسمينه له؟
أفجنيا (إلى بلديز) :
كرر بعدي هذا القول: «سأسلم هذا الخطاب لأصدقائك في أمان.»
بلديز : «سأسلم هذا الخطاب لأصدقائك في أمان.»
أفجنيا :
وسأرسلك آمنا بعيدا من صخور كينيا.
بلديز :
أي الآلهة تدعين شاهدا على قسمك.
أفجنيا :
أرتيمس؛ فأنا كاهنتها.
بلديز :
أقسم بزيوس، ملك السماء المهاب.
أفجنيا :
وإذا حنثت في يمينك وأسأت إلي؟
بلديز :
لا كانت عودتي إلى آكيا! وماذا إذا لم تنقذيني أنت؟
أفجنيا :
لا وطأت قدمي أرض آرجس.
بلديز :
لقد نسينا أمرا واحدا.
أفجنيا :
وما ذاك؟
بلديز :
هبيني استثناء واحدا للعهد، إذا فقدت السفينة في عاصفة هوجاء وفقد معها الخطاب ولم أنج بغير نفسي فكيف أبلغ الرسالة؟
أفجنيا :
بالفطنة تتغلب على المجهول. سأخبرك بما يتضمن الكتاب حتى تستطيع أن تعيده على مسامع أصدقائي، وبعد هذا نكون آمنين من كل جانب. إذا أنقذت الخطاب سلمته، وإن فقدته احتفظت بكلماتي.
بلديز :
نعم ما قلت. والآن خبريني لمن في آرجس أحمل هذا الخطاب، وماذا ينبغي أن أقول له؟
أفجنيا :
اذهب إلى أرستيز بن أجاممنن، وقل له: «إن أفجنيا، التي حسبتم أنكم ضحيتم بها في أولس، وأنها الآن من الأموات، تبعث إليك بهذه الرسالة.»
أرستيز :
وأين هي؟ هل عادت إلى الحياة من الموتى؟
أفجنيا (إلى أرستيز) :
هي التي تتحدث إليك. لا تبلبل خواطري بالمقاطعة. (إلى بلديز) : قل له: «إنها تبعث إليك بهذه الرسالة: أخي، أعدني إلى آرجس من هذا البلد الوحشي قبل أن أموت، وخلصني من خدمة الإلهة التي يجب علي أن أقدم لها الضحايا من الرجال.»
أرستيز :
بلديز! ماذا أسمع؟ وماذا أقول؟ هل نحن في حلم؟
أفجنيا :
قل له: «وإذا لم تحاول أن تنتشلني يا أرستيز، فسأكون على بيتك نقمة تتردد إلى أبد الزمان.» والآن سمعت اسمه مرتين، فلا تنسه.
بلديز :
يا ألله!
أفجنيا :
لماذا تبتهل إلى الآلهة؟
بلديز :
أرجو أن تواصلي الحديث كأن شيئا لم يحدث.
أفجنيا :
أخبره أن الإلهة أرتيمس قد أنقذتني من سيف الكاهن، وأن ظبيا ذبح عوضا عني، وأني أتيت إلى هنا. هذا هو ما يحتويه هذا الخطاب.
بلديز :
إنك حين أقسمت مخلصة أن تنقذيني قيدتني بيمين يسير علي أن أبر بها. انظري، إني أؤدي الآن واجبي. (إلى أرستيز) : إني أحمل إليك خطابا من أختك فتسلمه.
أرستيز :
إني أتقبله، ولكني لن أفض ختمه الآن، ولن أظهر سروري بمجرد الكلمات. أي شقيقتي العزيزة، إن الدهشة تعقد لساني، وإني حين أضمك بين ذراعي لا أشك في هذه المعجزة، وإن قلبي لينبض بالسرور.
أولى أفراد الجوقة (تظهر عند باب المعبد) :
أيها الغريب المتهور، أيها الرجل الذي لا يرعى الحرمات. كيف تجسر أن تدنس ثياب كاهنة أرتيمس المقدس بيدك الملوثة ؟
أرستيز :
لا تنبذيني يا أختاه، فنحن من أب واحد وأم واحدة. أنا أخوك، وإن كنت لم تتوقعي هذا.
أفجنيا :
أفحقا أنت أخي؟ إنه في آرجس، وقد يكون في نوبليا.
أرستيز :
كلا أيتها الأخت التعسة، إنه ليس هناك.
أفجنيا :
هل كانت الأسبرطية ابنة تندارس أمك؟
أرستيز :
أجل لقد كانت، وأبي هو حفيد بليس.
أفجنيا :
هل تستطيع أن تبرهن على ما تدعي؟
أرستيز :
أجل، أستطيع. سلي ما شئت عن بيت آبائنا.
أفجنيا :
كلا. ليس علي أن أسأل، إنما عليك أن تخبر.
أرستيز :
لقد أخبرتني ألكترا بهذه الأمور، وسأبدأ بذكرها: هل تعلمين بالنضال القائم بين الأخوين أثريوس وثيستيز؟
أفجنيا :
أجل، إنه نضال بشأن الكبش الذهبي.
أرستيز :
حسنا. إنك إذن لم تنسي كيف نسجته بمهارة على المنوال.
أفجنيا :
آه يا أخي العزيز، إنك تمس أمورا عزيزة ماضية.
أرستيز :
وعلى المنوال كذلك نسجت خيوط الشمس.
أفجنيا :
أجل، لقد نسجت ذلك أيضا، وقد أحسنت نسجه.
أرستيز :
وفي أولس قامت لك أمنا باستحمام العرس.
أفجنيا :
إني لم أنس هذا وما حرمته.
أرستيز :
وقطعت خصلة من شعرك لأمك تحتفظ بها.
أفجنيا :
أجل، ولقد كانت ذكرى مماتي لا ذكرى زفافي.
أرستيز :
والآن سأحدثك عن أشياء شهدتها بنفسي. إن الرمح القديم الذي كان بليس يلوح به حينما ذبح أينمايوس وظفر بهبداميا البيزية عروسا له معلق في حجرتك.
أفجنيا :
كفى، كفى، أنت أخي. وأنت الآن بين ذراعي يا أرستيز يا أخي العزيز بعيدا عن آرجس وعن أرض الوطن.
أرستيز :
وأنت كذلك يا أختاه بين ذراعي، وقد ظن الناس جميعا أنهم ضحوا بك. إن الدموع التي ليست بالدموع وبكاء الفرح يبلل وجنتيك كما يبلل وجنتي.
أفجنيا :
أخي، لقد تركتك في رعاية مربيتك صبيا يافعا في أبهاء ميسيني، وأنا الآن سعيدة بك سعادة يعجز عنها اللفظ. ماذا أقول؟ إن ما حدث يفوق العجب والعقل.
أرستيز :
أرجو أن يعود لنا المستقبل بالسعادة في رفقتنا!
أفجنيا (إلى الجوقة) :
ما أشد سروري أيها الأصدقاء! إني لأخشى أن يفلت من بين يدي ويفر في الهواء ويختفي في السماء. إني لأشكر وأشكر الموقد الذي بناه السيكلوب، وأشكر ميسيني، على هذا، على حياة أخي. أشكرها على شبابه وعلى تربيته حتى يقف هنا الآن نور أسرتنا.
أرستيز :
قد نكون بأسرتنا سعداء. ولكن النوائب يا عزيزتي قد ألمت بحياتنا وأشقتنا.
أفجنيا :
وهل أجهل هذا؟ إن أبي في جنونه قد هوى على نحري بسكينه.
أرستيز :
يا للفزع! يبدو لي أني أشهد ذلك أمامي.
أفجنيا :
زعم أني سأزف عروسا لإكليز محفوفة بالتكريم وبأناشيد العرس. ولشد ما كانت دهشتي حينما حملت إلى المذبح محفوفة بالدموع والرثاء، وصب فوقي الزيت المقدس لتضحيتي.
أرستيز :
ما أشد رثائي للعمل الذي جرؤ عليه أبي؟
أفجنيا :
لقد أعطاني القدر أبا ليس كالآباء، ولكن مشيئة زيوس أن البلية تجر في ذيلها بلية أخرى.
أرستيز :
ما كان أشد حزنك لو أنك قتلت أخاك.
أفجنيا :
أي حزن مفزع! أخي، ما أروع الفعال التي أقدمت عليها. وما كان أقرب أن تحدث على يدي! كيف ينتهي كل هذا؟ وماذا يخبئ لي القدر؟ كيف أستطيع أن أدبر فرارك من هنا إلى وطننا آرجس وأضعك بعيدا عن منال السيف؟ ويلي، ويلي، كيف تستطيع أن ترحل برا وتخترق مخاطر الطرق المجهولة والقبائل المتوحشة؟ كلا. إنك لا نستطيع أن نسير إلا بطريق البحر، آرجس وأضعك بعيدا عن منال السيف؟ ويلي، ويلي، كيف تستطيع أن ترحل برا وتخترق مخاطر الطرق المجهولة والقبائل المتوحشة؟ كلا. إنك لا تستطيع أن تسير إلا بطريق البحر، خلال صخور كيانيا وهو طريق طويل. ما أشد شقوتي! خبرني أيها التعس أي إله وأي إنسان وأية فرصة تدلك على المخرج من هذا الخطر، وتخلصك من ملمة قد تحل بأبناء أزيوس الأحياء؟
أولى أفراد الجوقة (إلى الثانية) :
إن رؤيتي هذا العجب بعيني أمر يذهل العقول.
الثانية (للأولى) :
لو أن إنسانا أخبرني بمثل هذا لما صدقته.
بلديز :
والآن يا رفيقي من الطبيعي أن يتحرك قلباكما بعد هذا الفراق الطويل، ولكن لنطرح جانبا سرورنا وعواطفنا ونفكر في هدوء في سبيل الهرب المرغوب، وكيف نستطيع أن ننجو من هذا البلد القاسي. ولا شك أننا أحكم من أن ننسى المستقبل في مسرات الحاضر الزائلة.
أرستيز :
أصبت القول يا بلديز. لا بد أن تكون لدى زيوس خطة لنا؛ فهو في عون من يعينون أنفسهم.
أفجنيا :
حدثني أولا عن إلكترا. كل أهلي أعزاء لدي.
أرستيز :
إنها ستتزوج من هذا الرجل، بلديز، والسعادة تنتظرها.
أفجنيا :
وماذا تعرف عنه؟ خبرني عن بلده، وابن من يكون؟
أرستيز :
هو من فوكس، وأبوه ستروفيس.
أفجنيا :
وإذا فهو ابن ابنة أتريوس، وابن عمي.
أرستيز :
ابن عمنا وصديقي.
أفجنيا :
لم يكن قد ولد حينما تركت آرجس.
أرستيز :
لبث ستروفيس زمنا بغير أبناء.
أفجنيا :
مرحبا بزوج أختي.
أرستيز :
هو أعز من أي قريب، هو حافظي.
أفجنيا :
وكيف استطعت أن تقترف ما فعلت بأمنا.
أرستيز :
أحب ألا نتكلم في هذا. لقد انتقمت لأبي.
أفجنيا :
ولماذا قتلت زوجها؟
أرستيز :
لا تتحدثي أكثر من هذا عن سلوك أمنا، فإنه لا يليق بك أن تسمعيه.
أفجنيا :
لن أسأل بعد هذا عنها. ألا تتطلع آرجس إليك حاكما عليها؟
أرستيز :
منلايوس يتولى الملك هناك، ونحن منفيون.
أفجنيا :
هل انتزع العرش منك عنوة؟
أرستيز :
كلا، لم يكن هذا. إنما طردني أهل أرنايز من بلدي.
أفجنيا :
وذلك إذا سبب الجنون الذي حدثني عنه الراعي، الجنون الذي استولى عليك عند الشاطئ.
أرستيز :
لم نهاجم أول الأمر إلى هذا الحد.
أفجنيا :
لقد فهمت. إن أهل أرنايز هاجموك بسبب أمنا.
أرستيز :
وفلوا من سرعتي بقيد ملطخ بالدماء.
أفجنيا :
ولماذا قصدت هذا الساحل؟
أرستيز :
وجهني كهان فيبس إلى هذا المكان.
أفجنيا :
وماذا كانوا يبتغون؟ هل لك أن تكشف لي عن السر، أم لا بد أن يبقى الأمر في طي الكتمان؟
أرستيز :
لا يخفى عليك سر. إنها قصة طويلة وكلها مشاق. ولن أخبرك بشيء عن الشرور التي تمس أمنا سوى أني قد أرغمت على اقترافها. طاردتنا من آرجس بهجماتها المتلاحقة «أرباب الغضب» الذين لم تلن قلوبهم، بل ظلوا يتابعونني من بلد إلى بلد حتى بعث بي أبولو إلى أتينا كي أقدم إلى المحاكمة أمام الآلهة الذين لا يجوز لي أن أتفوه بأسمائهم. وهناك فوق تل آريز محكمة قديمة مقدسة أنشأها زيوس لمحاكمة آريز الملوث بالدماء. ولما وطأت قدماه أتينا لم يستقبلني أحد من أهلها بالترحاب؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن السماء قد أنزلت علي لعنتها. ولكن بعضهم - احتراما لبيتي وشفقة بحالي - قدم لي طعاما على مائدة منفصلة وحرم علي الحديث مع أي من أهل البيت، وأبعدوني عن طعامهم وشرابهم وحديثهم وشئون حياتهم اليومية، وكانوا حينما يديرون الراح مرحين يقدمون لي كأسا فريدة في صمت وسكون. ولم يكن من اللائق أن ألوم من أضافوني، فكتمت غيظي، وتظاهرت بأني لا أكترث للعار الذي لحقني، ثم توجهت إلى تل «إله الحرب»، ووقفت للمحاكمة وحيدا منعزلا. وقام باتهامي أكبر أهل أرنايز سنا، وشهد لي فيبس مدافعا عني. ثم وقف بالس موقف الحياد وعد الأصوات معي وضدي فكانت متساوية، وبرئت من جريمة القتل. ولكن أهل أرنايز انقسموا على أنفسهم، واتخذ أولئك الذين أيدوا القرار مقاما لهم عند تل «إله الحرب»، وأما أولئك الذين عارضوا الحكم فظلوا يطاردونني من مهجر إلى مهجر حتى ألفيت نفسي مرة أخرى فوق أرض مقدسة لدى فيبس، فارتميت عند مذبحه، وامتنعت عن الطعام بتاتا، وأقسمت أن أستلقي هناك حتى أموت، اللهم إلا إن ارتأى إنقاذي الإله نفسه الذي قضى على كهنته. وصعد صوت فيبس من مثواه الذهبي ذي الثلاثة أرجل وأمر أن أقلع إلى تورس، وأن أحمل من هذه الأرض تمثال أرتيمس الذي سقط من السماء، ثم أقيمه في أثينا. فعاونينا أختاه على أن نظفر بالسلامة التي وعدنا إياها الله. وإذا ما تملكنا التمثال تخلى عني الجنون. وستبحرين أنت كذلك في سفينتنا ذات المجاديف الكثيرة، وسنحملك في سلام إلى ميسيني. لقد فقدتك طويلا يا أختي، وها أنا ذا أجدك الآن، فخلصي بيت آبائنا! ويا ضيعتاه لي ولكل أبناء بليس إذا لم نحصل على تمثال «العذراء»!
الجوقة :
ما أروع غضب السماء، فقد أهلك جيلا بعد جيل من أبناء تانتلس.
أفجنيا :
كم كنت أتوق يا أخي أن أعود إلى آرجس وأطالع وجهك مرة أخرى! والآن لست أرغب في شيء أكثر من أن أنقذك من ويلاتك. إن الرجل الذي أراد قتلي قد مات، فلست أحمل له الآن في نفسي حقدا ولا ضغينة. ولكني أحب أن أنهض بيته من الدمار. لن أرى يدي ملطختين بدماء تضحيتك، بل سأفعل ما أستطيع لإنقاذ أسرتنا من الهلاك. غير أني أخشى أن تعوق سبيلنا الآلهة، وأن يلحظ الملك اختفاء التمثال قبل أن نلوذ بالفرار، فهل لا يحكمون علي بالموت؟ أي تبرير أتقدم به؟ لا تختلس التمثال وحده وتحمله إلى سفينتك السريعة، بل عليك أيضا أن تأخذني معك. أي شيء لا أضحي به في سبيل الحرية؟ ولكني إن لم أستطع أن أنجو مع التمثال، فلا مناص من الحكم علي بالهلاك، أما أنت فإن استطعت أن تشق طريقك إلى الوطن حاملا معك التمثال فسوف تنجو من أهل أرنايز. إني لا أتراجع عن ركوب الأخطار - حتى وإن كان فيها موتي ميتة شنعاء - إذا استطعت أن أظفر ببعدتك آمنا؛ فالرجل عماد البيت، أما المرأة فقليلة الخطر.
أرستيز :
إني لا أحب أن تفقدي حياتك على يدي كما فقدت أمي حياتها، ويكفي إراقة دم امرأة واحدة. دعيني أشاركك الحياة، وإن مت فلألاق الموت معك. أما إن استطعت أن أفر من هذا البلد بأية وسيلة، فسآخذك معي ونعود إلى الوطن. فإن لم تستطيعي الفرار فسوف أموت معك. أنصتي لما أقول: إذا كان اختلاس التمثال لا يرضي أرتيمس، فكيف أمرني فيبس أن أحمله إلى مدينة بالس؟ كلا، بل لقد أتى بي إلى هنا لأشهد وجهك مرة أخرى. وانظري يا أختاه، ها نحن أولاء مجتمعين مرة ثانية. لا شك أن زيوس سوف يمن علينا برحلة آمنة إلى الوطن.
أفجنيا :
كيف نستطيع أن نحاول اختلاس التمثال ونتحاشى أعين الرقباء والموت؟ هذه هي المشكلة التي لا بد من التغلب عليها قبل أن نستطيع الإقلاع إلى هلاينت.
أرستيز :
هل من سبيل إلى قتل الملك؟
أفجنيا :
إنه لعمل شنيع أن أقتل مضيفي .
أرستيز :
ذلك كي ننجو معا .
أفجنيا :
لا أستطيع أن أفعل هذا، وإن كنت أعجب بجرأة الفكرة.
أرستيز :
إذا فلتخبئيني سرا في هذا المعبد.
أفجنيا :
هل تقصد أن نستغل الظلام ونلوذ بالفرار ليلا؟
أرستيز :
الليل وقت اللصوص، وفي النهار يحصحص الحق.
أفجنيا :
يقوم على المعبد حراس لا نستطيع أن نتحاشاهم.
أرستيز :
إن قضيتنا تبعث على اليأس. ماذا ترين؟
أفجنيا :
أظن أني وجدت خطة معقولة؟
أرستيز :
وما تلك؟ إن النساء ماكرات لا يعدمن الحيلة.
أفجنيا :
سأتخذ من متاعبك مكيدة.
أرستيز :
ألم أقل لك هذا. ليست بالمرأة من تعدم الحيلة.
أفجنيا :
سأعلن أنك قتلت أمك في آرجس.
أرستيز :
قولي ما تشائين إن كان في ذلك تحقيق السلامة.
أفجنيا :
ثم أصرح أنه لا يجوز شرعا أن نقدمك إلى الآلهة.
أرستيز :
لماذا؟ آه! إني أدرك ما تقصدين.
أفجنيا :
لأنك لست طاهرا، فلست أستطيع أن أضحي إلا بالطاهرين.
أرستيز :
وكيف يعيننا هذا على الظفر بتمثال الآلهة؟
أفجنيا :
سأقرر أن البحر وحده يستطيع أن يطهره.
أرستيز :
ولكنا - برغم هذا - لن نظفر بالتمثال الذي أبحرنا من آرجس في سبيله.
أفجنيا :
سوف يحتاج هذا إلى التطهير كذلك، سوف ندعي أنك لمسته بيدك الدنسة.
أرستيز :
وإلى أين نذهب للطهارة؟ هل إلى خليج قريب من خلجان البحر؟
أفجنيا :
إلى حيث ترسو سفينتك موثوقة بالساحل بالحبال الغليظة.
أرستيز :
ومن الذي سيحمل التمثال أنت أم من غيرك؟
أفجنيا :
سأحمله أنا؛ لأني أنا وحدي أستطيع أن أمسه.
أرستيز :
وبلديز؟
أفجنيا :
إنه يشاركك الدنس.
بلديز :
وهل سنقدم على هذه الخطة دون أن يعلم الملك؟
أفجنيا :
لا بد لي أن أخدعه أول الأمر؛ لأنا لا نستطيع أن نفر بغير رقابة.
أرستيز :
إن سفينتنا السريعة بانتظارنا ودفعة واحدة قوية بالمجاديف السريعة تحقق لنا السلامة.
أفجنيا :
هذا يا أخي من شأنك.
بلديز :
هناك أمر آخر. لا بد أن يحتفظ هؤلاء النسوة بخططنا سرا. فهل تثقين بهن؟ توسلي إليهن أن يلتزمن الصمت. إن المرأة تعرف كيف تستثير الشفقة، ثم يسير كل شيء بعد هذا على ما يرام.
أفجنيا (إلى الجوقة) :
إني أتطلع إليكن للمعونة أيتها النسوة العزيزات. مصيرنا بين أيديكن، وبوسعكن النفع والضرر. تستطعن أن تقفن في سبيلنا وتحرمنني من رؤية بلادي مرة أخرى ومن لقاء أختي. كما تستطعن أن تنتزعن مني أخي العزيز. أتوسل إليكن أن تستمعن إلى ضراعتي، نحن نسوة، والنسوة يأتلفن، ويوثق بهن في إخفاء سرهن المشترك عن الرجال الغرباء. الزمن الصمت من أجلنا وافعلن ما بوسعكن لمعونتنا على الفرار؛ فالشرف من حق أولئك الذين يتحكمون في ألسنتهم. تصورن كيف أن زلة واحدة قد تقضي على ثلاثة أشخاص كل منهم عزيز لدى الآخرين. وإذا لم نستطع الفرار فقد قضي علينا بالموت. (إلى أولى أفراد الجوقة) : كوني على ثقة أني إن نجوت لن أنساك، بل سأرسل سفينة تعود بك إلى آكيا. (إلى الثانية) : وبك. (إلى الثالثة) : وبك. (إلى بقية أفراد الجوقة) : وبكن جميعا. وإني أقسم لكن بيميني، وأتوسل إليك بيمناك، وإليك بوجهك الجميل، وإليكن جميعا بكل ما هو عزيز لديكن، وإن لكن لآباء وأمهات واحدة وأزواجا وبنين. أتضرع إليكن ألا تتكلمن. عاوننا، وإنكن سوف تفعلن، ومن ذا الذي لا يسعه أن يفعل؟ فإن أبيتن فقد ضعنا ولا مناص من الموت.
أولى أفراد الجوقة :
هوني من روعك أيتها السيدة الكريمة، وليطمئن قلبك. كل ما ذكرت سيبقى سرا في صدورنا، وزيوس على ما نقول شهيد.
أفجنيا :
بورك على هذه الكلمات! وإني لأرجو أن يكون الحظ السعيد أبدا حليفك! (إلى أرستيز وبلديز) : والآن عليكما أن تلجا المعبد؛ لأن الملك سيأتي بعد قليل ليسأل إن كانت التضحية قد أنجزت. (يدخلون المعبد)
أي أرتيمس، أيتها العذراء المقدسة! إنك أنقذتني في غابة أولس من يد أبي، فأنقذيني الآن وأنقذي هذين الرجلين كذلك! ولا تكوني سببا في أن نكذب كلمات أبولو أخيك. أرجو لك التوفيق، وأتمنى أن تغتبطي برحيلك من هذا البلد، وتتخذي أثينا لك مقاما! لا يليق بك أن يكون مسكنك هنا بين قوم متوحشين، في حين أنك تستطيعين أن تتقبلي العبارة من مدينة أنعم عليها بالحظ السعيد (تدخل المعبد) .
أولى أفراد الجوقة :
تحت الصخور الكئيبة تنوح القاوند (طائر مائي) على مصيرها، موقعة نواحها على أنغام البحر الذي لا يهدأ، وهي تبكي زوجها المفقود بالمراثي التي لا تنقطع.
الثانية :
ونحن نضم رثاءنا إلى رثائها ونبكي من فقدنا، ونحن أسرى ليست لدينا أجنحة نطير بها.
الثالثة :
إن قلوبنا تنبض لأعياد آكيا، وتحن لأن ترى ثانية أرتيمس المباركة التي تسكن فوق تل كنيا.
الرابعة :
حيث تنمو أشجار النخيل وينشر شجر الغار أغصانه، وتلقي أشجار الزيتون القاتمة - التي تقدسها لأتونا وهي في آلامها - ظلالها المشتبكة.
الخامسة :
حيث ترتفع فوق البحيرة الأمواج المتلاطمة، ويعلو صوت التم بالغناء الشجي تكريما لميورس.
السادسة :
لقد قدت الدموع الأخاديد في وجنتي منذ اليوم الذي دك فيه العدو أسوارنا، وانتزعت من وطني، وحملت فوق متن البحر في سفن المتوحشين.
الأولى :
وباعوني رخيصة في مساومة وضيعة، وأصبحت رقيقا في مملكة نائية. رقيقا لكاهنة «الصائدة» المقدسة، رقيقا لدى مذبح احمر من دماء مواطنينا.
الثانية :
لطالما حسدت حظ المرأة الملعونة التي حلت بها الكوارث، فلم تبد تألما رغم طول بقائها تحت نير الأحزان. إن سوء الحظ مر المذاق حين يأتي في أعقاب الرفاهية!
الثالثة :
أيتها السيدة الكريمة، إن سفينة من آرجيف ستحملك إلى وطنك يدفعها خمسون مجدافا. وسيعزف بان فوق جبله أنشودة سارة على مزاميره الطويلة المصنوعة من الغاب، وسيدفع المجدفون سفينتهم مبتهجين وهم يستمعون إليها. وسيغني فيبس بعيد النظر على قيثارته ذات الأوتار السبعة وأنت تقتربين من آتكا المحبوبة.
الرابعة :
وسوف نبقى هنا وزورقك يشق عباب الماء، وسوف تنغمس المجاديف الطويلة في الموج الأزرق الغزير، وتنتفخ الأشرعة ممتلئة بالنسيم، وأنت تشقين الطريق مسرعة.
الخامسة :
وددت لو استطعت أن أتابع الطريق البراق الذي تسلكه الشمس النارية اللامعة يوما بعد يوم! إذن لرفرفت أجنحة كتفي العريضة ولا تكل حتى أسقط صوب الأرض فوق سقف البيت.
السادسة :
وكم أتمنى أن آخذ مكاني في الرقص كرفيقة للعروس حينما تزف أميرة إلى أمير، ثم ندور في جماعات متألفة من الرفاق والمتنافسين والأصدقاء يجللنا البهاء والرونق، وتزين ثيابنا الصوفية الرقيقة المشابك الذهبية والحلى الأنيقة، الأقنعة الفضفاضة الطويلة شعورنا المتموجة بعض الحجاب. (يدخل ثواس من اليسار يتبعه الخدم.)
ثواس :
أين الأرجيفية، حامية هذا المعبد؟ هل ضحي بالرجلين الغريبين؟ وهل يحترق جسداهما في لهب الهاوية؟
الجوقة :
أيها الملك، ها هي ذي مقبلة، وستخبرك عن كل شيء بنفسها. (تظهر أفجنيا عند مدخل المعبد وبين يديها تمثال أرتيمس.)
ثواس (منزعجا) :
آه! لماذا تحملين بين ذراعيك تمثال الآلهة؟ لماذا تنقلينه من مقره المقدس المصون؟
أفجنيا :
أيها الملك، لا تتقدم أكثر من هذا فوق أرض المعبد!
ثواس :
ماذا حدث يا أفجنيا؟
أفجنيا :
زيوس يحفظنا! حوادث مشئومة!
ثواس :
ما هذا؟ خبريني بوضوح.
أفجنيا :
إن الرجلين اللذين أسرتهما ليضحى بهما لم يكونا طاهرين بل هما دنسان يا ثواس.
ثواس :
كيف عرفت هذا؟ هل الأمر حدس أم أكبر؟
أفجنيا :
إن تمثال الآلهة ولاهما ظهره.
ثواس :
ماذا؟ وهل فعل ذلك من تلقاء نفسه أم هل هزه زلزال!
أفجنيا :
من تلقاء نفسه، ثم أغمض عينيه.
ثواس :
لماذا؟ ما الذي استطاع هذان الغريبان أن يفعلا؟
أفجنيا :
فعلا أكثر الأمور دليلا على الكفر.
ثواس :
متى؟ وكيف؟ هل قتلا شخصا ما على الساحل؟
أفجنيا :
إنهما متهمان بقتل شخص من أسرتهما.
ثواس :
ومن الذي قتلاه؟ لا بد أن أعرف هذا.
أفجنيا :
طعنا سيفهما في صدر أم.
ثواس :
يا أبولو! إن أحدا هنا لا يجسر على مثل هذا العمل.
أفجنيا :
وطردا من كل مدينة في هلاس من جراء جريمتهما.
ثواس :
وهل تحملين التمثال خارج المعبد من أجل هذا؟
أفجنيا :
أجل، حتى يطهره هواء السماء النقي.
ثواس :
وكيف علمت بدنس هذين الرجلين؟
أفجنيا :
لما ولاهما التمثال ظهره سألت هذين الغريبين سؤالا دقيقا.
ثواس :
إن آرجس قد نشأتك امرأة ذكية فاستطعت أن تكشفي عن هذه الآثام.
أفجنيا :
إن الخبر الذي أتوني به كان شراكا لروحي.
ثواس :
جاءوك بخبر يغرونك به على لقاء أصدقائك في آرجس.
أفجنيا :
أرستيز أخي سعيد بخير.
ثواس :
إنهم يكذبونك كي ينقذوا حياتهم.
أفجنيا :
وأبي حي موفق.
ثواس :
إنك تعرفين واجبك نحو الآلهة.
أفجنيا :
أجل ، وإني لأكره آكيا التي قضت علي بالهلاك.
ثواس :
وماذا عسانا بهذين الغريبين فاعلون؟
أفجنيا :
يجب أن نعاملهم وفقا للقانون.
ثواس :
أليس لديك الماء النقي والسيف؟
أفجنيا :
ينبغي أولا أن يطهرا من كل إثم.
ثواس :
أفي ماء النبع الصافي أم في ماء البحر الأجاج.
أفجنيا :
البحر يطهر الناس من كل الشرور.
ثواس :
وهل تقبل الآلهة التضحية بهما بعد هذا؟
أفجنيا :
هذه هي الطريقة الصحيحة لإعدادهما.
ثواس :
إن أمواج البحر ترتطم فوق جدار المعبد.
أفجنيا :
ولكن لا بد من أن يتم هذا العمل في عزلة لا يراها أحد.
ثواس :
اذهبي حيث شئت، إني لن أتطلع إلى منظر محظور.
أفجنيا :
والتمثال كذلك لا بد أن يطهر.
ثواس :
لا جدال في هذا ما دام قاتل أمه قد دنسه.
أفجنيا :
وإلا لما حركته من مكانه.
ثواس :
إن تقواك دليلك الصائب.
أفجنيا :
ولكن هناك أمرا واحدا لا بد أن نقوم به لهذين الرجلين.
ثواس :
اذكريه.
أفجنيا :
كبل هذين الغريبين بالسلاسل.
ثواس :
وأنى لهما أن يفرا من حارسك، إن استطاعا الفرار؟
أفجنيا :
لا تثق في شخص من هلن.
ثواس (إلى أحد حراسه) :
أسرع وهات الأصفاد لهذين السجينين.
أفجنيا :
أصدر أمرك بإحضار الغريبين من هذا الطريق (تشير إلى اليسار) .
ثواس :
سيكون ذلك.
أفجنيا :
وينبغي أن يغطى رأساهما بالعباءات.
ثواس :
كي نخفي وجهيهما عن الشمس.
أفجنيا :
أرسل بعض حراسك معي.
ثواس :
سيقوم على خدمتك بعضهم.
أفجنيا :
وابعث رجلا ينذر المدينة.
ثواس :
بماذا؟
أفجنيا :
ينذر أهلها بأن يلزم كل منهم داره.
ثواس :
كي يتجنبوا الدنس من غير الطاهرين!
أفجنيا :
أجل؛ لأن ذلك أمر دنس.
ثواس (إلى أحد الحراس) :
اذهب وأعلن هذا الإنذار.
أفجنيا :
وحذر أصدقاءك جميعا.
ثواس :
ولماذا يخصني هذا أكثر مما يخص الآخرين؟
أفجنيا :
لا يجوز لأحد أن يكون على مرأى.
ثواس :
إنك تفكرين في المدينة.
أفجنيا :
أليس لدي سبب معقول؟
ثواس :
ولدى المدينة سبب معقول لإعجابها بعنايتك.
أفجنيا :
ستبقى أيها الملك هنا في المعبد لخدمة الآلهة.
ثواس :
وماذا أفعل؟
أفجنيا :
تطهر الفناء بالنار.
ثواس :
كي تعودي إلى حرم طاهر.
أفجنيا :
أنصت. وحينما يخرج الغريبان من المعبد تلقي على عينيك عباءتك.
ثواس :
وبهذا أتقي الدنس؟!
أفجنيا :
لا يهمك أن يستغرق التطهير أمدا طويلا.
ثواس :
وإلى متى أظل في انتظار؟
أفجنيا :
لا تقلق مهما يحدث من الأمر.
ثواس :
قومي بالشعائر اللازمة للآلهة بالوقار الواجب.
أفجنيا :
وددت لو أفلح هذا التطهير كما أريد!
ثواس :
وضمي دعائي إلى دعائك. (يدخل أرستيز وبلديز بين الحراس، ويتبعهما خدام المعبد وهم يحملون زينات المذبح والتمثال، كما يحملون حملانا للتضحية وما إلى ذلك. وكل من ليس بالموكب يغطي رأسه بعباءته أو بطرف ردائه ويقف جانبا.)
أفجنيا :
ها هما ذان الغريبان يقبلان من المعبد، لا بد أن تطهر زينة الآلهة بالدماء؛ إذ بالقتل والنار والماء تمحو أثر القتل.
وإني أنذر كل من بالمدينة أن يبتعد عن هذا الدنس، وإن كان هناك حارس على معبد أو عريس في طريقه إلى الزفاف، أو زوجة توشك أن تكون أما، فليبتعد عن الدنس إن أرادوا أن يحتفظوا بطهارتهم.
أيتها العذراء السماوية، يا ابنة زيوس ولاتونا، إذا أنا أزلت في مياه البحر الطاهرة ما اقترف هذا الرجلان من إثم، وإذا قدمنا الضحية في المكان الذي أرشدنا إليه، فسوف تقطنين بعد هذا أيتها الملكة في معبد طاهر، ويباركنا الحظ السعيد، وكل ما ينبغي أداؤه بعد هذا معروف للآلهة المقدسين ولك يا أرتيمس. (تقود أفجنيا أرستيز وبلديز ومعهما الحراس والخدم إلى الخارج ناحية اليمين ويدخل المعبد ثواس والآخرون ما عدا الجوقة.)
أولى أفراد الجوقة :
إنا نحمد ابن لاتونا الذي تتألق خصلات شعره لامعة كالذهب.
الثانية :
لقد حملته أمه في الوادي الضاحك فوق دلس. وهو ماهر في العزف على القيثار بأنامله، كما يفخر بأن ضربه بالنبال مميت.
الثالثة :
لقد هجر الجزيرة الجميلة التي ولد فيها، وعبر ظهر الماء الذي لا يحده شاطئ، حتى بلغ بارناسيس.
الرابعة :
وفوق قمة بارنارس يقيم ديونيسس مآدب الطرب، وتحت ظلال الغار تكمن أفعى في الظلام ضخمة كثيرة الألوان هي من ذرية هذه الأرض، وهي تقوم على حراسة منبع المعرفة.
الخامسة :
ولم تكد يا فيبس تنزل عن ذراعي أمك - وأنت ما تزال طفلا صغيرا - حتى قتلت الأفعوان واحتسيت من نبع المعرفة.
السادسة :
ثم اتخذت لك مكانا فوق العرش الذهبي الذي لا يسمح بالخداع، وشرعت تجيب على أولئك الذين يسألونك وهم على ضفاف أنهار كاستليا الشذية، وهي مركز موطن الإنسان.
الأولى :
ويا عجبا! إن «الأرض» كي تنتقم لابنتها ثيمس - التي زج بها فيبس في الظلام - أرسلت للناس خلال ساعات الليل المسحورة الأحلام المفزعة. ورفعت النقاب الذي يحجب الماضي والمستقبل.
الثانية :
وأرادت «الأرض» الغاضبة أن تحرم الإله الصغير شرفه، ولكن «أمير الرماة» أسرع إلى أوليمس بخطا حثيثة. ووضع يديه على عرش أبيه، وتوسل إليه أن يمحو غضب «الأرض» ويضع حدا للأحلام التي تأتي في الظلام.
الثالثة :
وضحك زيوس العظيم حين وقعت عيناه على الطفل جاثيا عند قدميه فوعد أن يكون معبد بثيا لفيبس ذاته تنقطع الرؤى والأحلام ستنقطع، وابتسم الإله العظيم وهو ينحني دليلا على الموافقة.
السادسة :
ومنح الشرف مرة أخرى للكسياس الذي ينطق بالتكهنات، فأخذت الجماهير تقصد عرشه. (يدخل أحد الحراس الذين كانوا يرافقون أرستيز وبلديز.)
الحارس :
يا سدنة المعبد! يا كهنة المذبح! خبروني أين أجد ثواس ملك هذي البلاد، افتحوا أبوابكم ونادوا الملك.
الرابعة :
هل لي أن أعرف ما الخبر؟
الحارس :
إن ابنة أجاممنن المحتالة قد فرت مع الشابين، وحملوا معهم التمثال المقدس في سفينتهم.
الخامسة :
هذه قصة لا تكاد تصدق. إن الملك قد رحل.
السادسة :
أجل، لقد غادر المعبد.
الحارس :
وإلى أين ذهب؟ وفي أي طريق سار؟ لا بد أن نخبره.
الأولى :
لسنا نعرف. ينبغي لك أن تجده سريعا وتخبره بهذا الخبر الخطير.
الحارس :
إنكن جميعا خائنات، ونسوة غادرات. لكن جميعا ضلع في هذه المؤامرة.
الثانية :
أنت مجنون. ما شأننا وفرار هذين الغريبين؟
الثالثة :
اذهب إلى القصر الملكي بأسرع ما تستطيع؛ فالملك هناك بكل تأكيد.
الحارس :
لن أبرح مكاني حتى أعرف أن الملك في المعبد أم لا. (يطرق باب المعبد.)
يا من بداخل المعبد! افتحوا الباب، وأسقطوا المزلاج! وأخبروا مولانا أني هنا رسول الويل. (يخرج ثواس من المعبد، وفي معيته بقية حراسه وكهنة المعبد.)
ثواس :
ما هذا الضجيج الذي لا يليق بحرم الآلهة المقدس؟ ومن الذي جرؤ على أن يأتينا صائحا ويقرع الأبواب؟
الحارس :
هؤلاء النسوة زعمن أنك لست هنا وحاولن أن يبعدنني عن المعبد، وها أنت ذا موجود.
ثواس :
ولماذا ترتاب فيهن في هذا الشأن؟
الحارس :
سأخبرك فيما بعد لم فعلن هذا. واستمع أولا إلى الخبر السيئ الذي آتيك به. تلك الشابة التي كانت كاهنة لدى هذا المذبح - أفجنيا - فرت وغادرت البلاد وبصحبتها الرجلان الغريبان والتمثال المقدس ولم تكن قصة التطهير إلا حيلة.
ثواس :
ماذا تقول؟ أرجو أن تهب عليها ريح مضادة وتعيدها إلى هنا!
الحارس :
إنها أرادت أن تنقذ أرستيز، وإنه لأمر عجب.
ثواس :
ومن هو؟ لا بد أن يكون ابن كليتمنسترا.
الحارس :
هو الرجل الذي كان سيقدم ضحية للآلهة.
ثواس :
إني لا أعرف فيم أفكر.
الحارس :
أصغ إلي، ثم خبرنا كيف نقبض على الغريبين.
ثواس :
قص قصتك. ليست لديهم وسيلة سريعة يفرون بها من سلطاني.
الحارس :
لم نكد نبلغ الشاطئ حيث ترسو سفينة أرستيز بعيدة عن الأنظار حتى أشارت الكاهنة ابنة أجاممنن إلينا - نحن الذين أرسلت معهم لنحمل قيود الغريبين - أن نبتعد لأنها ستقوم بشعائر التطهير بالماء والنار. ثم أخذت بين يديها أطراف السلاسل، ورافقت الغريبين إلى الساحل. وكان من الجائز أن نرتاب يا مولاي حينئذ، ولكن الشك لم يتطرق بكلمات بعد إلى أذهان جندك. وبعد برهة سمعناها ترفع صوتها وهي تتغنى بكلمات لم نستطع لها فهما حسبناها طقوسا سحرية تمحو بها جريمة القتل. وبعدما جلسنا هناك فترة لم نستطع أن نشهد فيها ما كانوا يفعلون، خشينا أن يقتل الغريبان الكاهنة ويحاولا الفرار. ولكن خوفنا من أن تقع أعيننا على المحظور ألزمنا الصمت. وأخيرا اتفقنا أن نهبط إلى البحر رغم تحريمها ذلك علينا. ولما بلغنا المكان الذي ذهبوا إليه رأينا هيكل سفينة من آرجيف بها خمسون من المجدفين، والمجاديف معدة في أماكنها، والغريبين طليقين من الأصفاد. وقد أخذ الملاحون عند مؤخر السفينة يجرون الحبال، وبعضهم يوجه مقدام السفينة بالساريان، وبعضهم الآخر ينزل السلاليم الخشبية في البحر. ولم نعبأ بتهديدهم وقبضنا على الكاهنة وأمسكنا بحراس المؤخرة وارتمينا في البحر، وحاولنا أن نسحب المجاديف التي تسير السفينة والدفة تتحرك وصحنا بهم قائلين: «من أنتما، وأي حق تملكان لاختلاس الكاهنة وتمثالنا المقدس؟ من أي جنس أنتما يا من تحاولان تهريب هذه المرأة من بلادنا؟» فأجابنا أحدهما: «أنا أرستيز شقيق هذه المرأة وابن أجاممنن. أنصتوا إلي جميعا! إني معيد إلى الوطن أختي التي فقدتها منذ سنوات عديدة.» ولم نكترث له، ولبثنا قابضين على الكاهنة، وحاولنا أن نجذبها من السفينة عنوة. فكان أن أصبنا بهذه الضربات الشديدة على وجوهنا. وكانوا عزلا كما كنا بغير سلاح في أيدينا، فقاتلنا بقبضات أيدينا، وضربنا المحاربان الشابان ضربا مبرحا، فسلمنا، وولينا أمامهما الفرار برءوس تدمى وأعين تعمى. ووقفنا فوق الصخور المرتفعة وأمطرناهم وابلا من الحجارة. وفي خلال ذلك أتى لهما الرجال الذين كانوا على ظهر السفينة بالقسي فدفعنا إلى الوراء بأسراب من السهام. وارتفعت مياه البحر وما فتئ الموج المتلاطم يدفع السفينة صوب الصخور. وكانت الشابة تخشى أن تبتل قدماها، فرفعها أرستيز الرجل، وحملها على كتفه، وخاض في البحر الهائج، وسار بها إلى السلم. ثم وثب على السفينة التي أحسن تجديفها، يحمل معه أخته وتمثال أرتيمس الذي سقط من السماء من زمان بعيد. وارتفع من وسط السفينة صوت عظيم وصاح قائلا: «يا ملاحي آكيا، أمسكوا مجاديفكم وشقوا الزبد الأبيض، فقد ظفرنا بالأشياء التي عبرنا من أجلها يوكسين ومررنا بسمبلجديز.» فصاح المجدفون صيحة عالية ووقعوا المجاديف في الماء الأجاج، وانطلقت السفينة في الخليج. ولكنها ما كادت تخرج من ثغر المرفأ حتى ارتطمت بالموج المتلاطم فارتدت بالمؤخرة قبل المقدمة، ودفعتها عاصفة هوجاء صوب الشاطئ. وجاهدوا جهاد العمالقة، ولكن الموج المرتفع ظل يقذف السفينة ويقربها من الصخور شيئا فشيئا، فنهضت ابنة أجاممنن ودعت قائلة: «يا ابنة لاتونا، أتوسل إليك أن تحملي كاهنتك إلى آرجس سالمة من هذا البلد الوحشي ، وباركي لنا في سرقاتنا، فكما أنك تحبين أخاك أيتها الآلهة فكذلك أحب أخي.» وعقب الملاحون على دعاء العذراء بنشيد تغنوا به وقد انحنت ظهورهم العارية فوق المجاديف. وبرغم هذا أخذت السفينة تقترب من الصخور شيئا فشيئا، حتى وثب في الماء رجل وأنزل الآخر عقدا ملفوفة من الحبال. وحينئذ بعثت لأحمل إليك الخبر أيها الملك. فأسرع الآن يا مولاي، وهيا بنا نحمل الحبال والقيود إلى الساحل؛ فإذا لم تتراخ العاصفة ويهدأ البحر ويستقر فلن تتهيأ للغريبين فرصة الفرار. إن بوزايدن العظيم، إله البحر، كان صديقا لطروادة وعدوا لأبناء بليس، وسوف يضع الآن بين يديك ابن أجاممنن وأخته الكاهنة الغادرة التي نسيت كيف نجت من الموت في أولس.
أولى أفراد الجوقة :
يا أفجنيا الشقية، لقد سقطت تحت رحمة البرابرة مرة أخرى، ولسوف تموتين ميتة أليمة.
ثواس :
اذهبوا سريعا إلى الساحل يا سكان تورس، واقبضوا واستولوا على حطام هذه السفينة الأرجيفية، وبمعونة آلهتنا جندلوا هؤلاء الرجال الذين لم يراعوا الحرمات، ولينزل بعضكم في الزوارق السريعة فسوف نقبض عليهم بحرا وبرا وسوف يموتون جميعا لأننا سنقذف بهم من فوق حافة الصخرة المرتفعة أو نحشر فيهم الأوتار. (إلى الجوقة) : أما أنتن أيتها النسوة، وقد ساهمتن في هذه المؤامرة فسوف نعاقبكن على مهل. والآن، هيا بنا نسرع ولا نطيل التأجيل. (تظهر بالس أثيني في الهواء خلف المسرح ويغطي الجميع رءوسهم المنكسة.)
بالس :
قف أيها الملك ثواس! استمع إلى كلمات أثيني التي تقف أمامك! لأي غرض أصدرت أوامرك بالمطاردة؟ كف عن استعدادك، واستدع رجالك المسلحين ثانية! واعلم أن أرستيز قد جاء إلى هنا بأمر من أبولو كي يتحاشى سوء نية «ربات الغضب»، وكي يبحث عن أخته ويعيدها إلى وطنها، وكي يحمل التمثال المقدس إلى مملكتي. هذا ما نأمرك به. ومن العبث أن تحلم بالقبض على أرستيز على حافة الماء وبإنفاذ الموت فيه؛ فإن بوزايدن قد هدأ البحر من أجلي وهيأ له تيارا ملائما. (تتحدث إلى أرستيز وهو بعيد): أرستيز، لقد سمعت أوامري؛ لأن صوت الإله يسمع مهما كان بعيدا. ارحل وخذ معك أختك والتمثال. وحينما تبلغ مدينة أثينا الإلهية مرة ثانية، ستجد هناك مكانا مقدسا عند أقصى حدود المملكة مقابلا لصخرة كاريستس، يسميه أهل بلدي هالي؛ أقم هناك معبدا تحفظ فيه تمثال أرتيمس المقدس، وأطلق على المعبد اسم تورس ذكرى لأحزانك ومغامراتك حينما طاردك حقد أرنايز خلال آكيا. وليتغن الناس بالأناشيد في هذا المعبد لأرتيمس ثورولكس، وعليك أن تنشئ هذه العادة شكرا على نجاتك من الموت؛ وذلك أن تؤدب وليمة كلما وضع السيف على نحر إنسان، وأريقت الدماء للإلهة العذراء، وقدم لها الشرف اللائق بها.
وأنت يا أفجنيا، اتخذي لك فوق منحدرات برورن المقدسة مقاما، وكوني حافظة على هذا المعبد الذي ستدفنين فيه بعد موتك. وإليك تهدى ثياب الزوجات اللائي يقضين نحبهن وهن يلدن.
وهؤلاء النسوة الأرجيفيات لا بد من إعادتهن إلى أوطانهن؛ فبهذا تقضي العدالة. وأنت يا أرستيز، لقد أنقذتك مرة فوق تل «إله الحرب» حينما عددنا الأصوات لك وعليك فكانت متساوية، فأعطيتك صوتي، وبهذا قررت أن تكون العادة في البلاد أن يظفر بالبرابرة من تتعادل له الأصوات عند محاكمته. احمل أختك يا ابن أجاممنن سريعا من هذا البلد، وأنت يا ثواس اكتم غضبك.
ثواس :
ليس لي أيتها الملكة أثيني أن أعصي أوامر الآلهة، ولست أحمل لأرستيز ضغينة، وإن يكن قد حمل أخته وتمثال أرتيمس المقدس وفر بهما. ماذا يفيد الإنسان في نضاله مع الآلهة الجبارة؟ ليرحلوا إلى بلدك لا يعوقهم أحد، وليقيموا التمثال بالتكريم اللائق والبشرى الطيبة. وسوف أبعث كذلك بهؤلاء النسوة إلى آكيا السعيدة وفقا لأمرك. وسوف أغمد الرمح الذي رفعت وأوقف المجاديف التي حركت ضد هؤلاء الأغراب؛ فهذه مشيئتك أيتها الإلهة.
بالس :
نعم ما قررت. فلتكن الضرورة رائدك كما هي رائد الآلهة في السموات العلا. أيتها النسمات! هبي وادفعي ابن أجاممنن إلى أثينا. وسوف أرافقكم إلى هناك كي أحرس تمثال أختي المقدس. (إلى الجوقة) : وأنتن أيتها النسوة المخلصات، أسرعن إلى آكيا، وليكتب لكم «القدر» النجاح والفلاح.
أولى أفراد الجوقة :
أي بالس أثيني، يا من يبجلك الآلهة والناس، أمرك مطاع.
الثانية :
لقد طرقت مسامعنا كلمات في طيها النجاة لم يكن لنا فيها أمل.
الثالثة :
أيها الظفر المقدس! أرجو أن تكون حياتي أبدا تحت رعايتك، وأن يكلل هامي بتاجك.
نامعلوم صفحہ