محاضرات عن مسرحیات شوقی: حیاتہ وشعرہ
محاضرات عن مسرحيات شوقي: حياته وشعره
اصناف
فأما المصريون القدماء، فإذا صح أنهم قد عرفوا المسرح أو شيئا يشبهه، كانوا يعرضون بواسطته بعض أساطيرهم الدينية، فمن الواضح أن الصلة كانت قد انقطعت تماما، بين مصر القديمة ومصر العربية الحديثة؛ إذ طوى الزمن أهم صلة بين المصريين، وهي اللغة التي اكتشفت في العصر الحديث، وإلى اليوم لا تزال معرفة تلك اللغة محصورة، بين عدد قليل من المتخصصين في الغرب والشرق، وإذا كانت مصر القديمة قد خلفت في العقلية المصرية الحديثة بعض الرواسب، فإنها لا توجد إلا في بعض المعتقدات والخرافات والعادات، أو الأدب الشعبي الذي توارثته الأجيال المتعاقبة، عن طريق الرواية الشفوية.
ومصر الحديثة بلاد عربية في كافة مقوماتها الثقافية؛ ولذلك يكون البحث عن موقف العرب من المسرح أكثر جدية، باعتبار أن الأدب الذي تتغذى به اليوم، والذي تغذت به منذ الفتح العربي، هو الأدب العربي، والباحثون الجادون يجمعون على أن العرب لم يعرفوا المسرح ولا الأدب المسرحي في أي عصر من عصورهم القديمة، في المشرق أو المغرب؛ فالمقامات وما شاكلها من قصص أو أقاصيص نثرية أو شعرية، لا يمكن أن تعتبر أدبا مسرحيا، حتى ولو قامت على الحوار البسيط، وكذلك الأمر في المشاهد الدينية، التي تحكي على نحو بدائي، مقتل الحسين أو غيره عند الشيعة، في كربلاء أو سواها، وإنما يجري البحث في أسباب عدم معرفة العرب لهذا الفن، أو عدم اختراعهم له.
ولقد تناول هذه المشكلة عدد من النقاد والباحثين؛ ففي المجلد 22، ص563 من مجلة «المشرق»، تناول الأستاذ إدوار حنين هذه المشكلة، وحاول أن يجد لها تعليلا في طبيعة الشعر العربي القديم، وفي طبيعة العقلية العربية، ومنافاتهما لطبيعة الأدب المسرحي، فلاحظ بحق أن الشعر العربي القديم، يمتاز بخاصيتين كبيرتين؛ هما: الخطابة، الوصف الحسي الدقيق، وهذا صحيح في جملته، فنفحة الخطابة طاغية على ذلك الشعر، وأروع قصائد الأدب العربي القديم تقوم على توجيه الخطاب للإنسان أو الناقة أو الدمن والديار، ومن منا لا يذكر: «قفا نبك» و«يا دار مية» و«يا دار عبلة بالجواء تكلمي» ... إلخ إلخ. وفي الشعر العربي القديم أدق وصف وأروعه لعالمهم الحسي، وما فيه من حيوان وجماد وظواهر طبيعية، فضلا عن الإنسان، وبخاصة المرأة، ومواضع جمالها وفتنتها تبعا لذوقهم السائد، وبحكم غلبة التقليد في الأدب العربي، والحرص على عمود الشعر وقوالبه المتوارثة، ظلت هاتان الخاصيتان غالبتين على الشعر العرب في معظم عصوره، وإذا كانت قد حدثت بعض التطورات، مثل تغني الشعراء الغزليين في العصر الأموي بحبهم، وشكواهم لواعجه، فعبروا عن بعض أحاسيس النفس البشرية، ووصفوها وصفا نفسيا جميلا، وإذا كان شعر الفكرة قد ظهر عند المتنبي وأبي العلاء، فإن كل هذا لم يغير الطابع العام للشعر العربي، الذي ظل في جملته، شعر خطابة ووصف حسي.
وهاتان الخاصيتان تدلان بوضوح، على طبيعة العقلية العربية والملكات المسيطرة فيها؛ فالعربي القديم قضت حياته بأن يعتمد على النغمة الخطابية في شعره؛ كي يستثير مشاعر قبيلته، ويستنفرها للغزو أو رد الاعتداء، وكان الشعر هو لغة خطابتهم، وهو رجل شحذت حياته في المهامه والقفار في نفسه ملكة الملاحظة الدقيقة لما حوله، من إنسان وحيوان وجماد، ولم تلهب خياله جبال شاهقة ولا غابات، بل ظل بصره ينقب في جزئيات الصحراء المنبسطة أمامه، ومن المعلوم أن الأدب التمثيلي يتطلب خيالا واسعا، يخلق الأحداث والشخصيات، ويتصور المواقف وما توحي به من حوار.
ومن الغريب أن العرب قد عرفوا الأوثان وتعدد الآلهة، بل وعرفوا الجن وعوالمه، ومع ذلك لم تنم عندهم الأساطير على نحو ما نمت عند اليونان مثلا، بل وعند المصريين القدماء إلى حد بعيد، في أسطورة إيزيس وأوزوريس وغيرها، مما يدعونا إلى أن نسلم بأن الناقد الكبير هيبوليت تين، لم يكن مخطئا كل الخطأ عندما جعل الجنس والبيئة من العوامل الأساسية في تمييز أدب أمة عن غيرها، ومن الممكن تدعيم هذه الحقيقة أيضا، بما نلاحظه من أن العرب قد كانت لهم أيام وحروب وغزوات، بين القبائل المختلفة، ومع ذلك لم ينشأ عندهم شعر الملاحم على نحو ما نجده في «الإلياذة والأودسا» عند اليونان، أو «الأنيادة» عند الرومان، بل وأحيانا في بعض الآداب الأوربية الحديثة، مثل ملحمة «رولان»، أو «الفرنسياد» عند الفرنسيين.
ومن العجب أن لا تخلق الحروب الصليبية عند العرب هذا الفن، كما خلقته عند الفرنسيين أو غيرهم من الغربيين، مع أن في بطولة صلاح الدين ما يبذ بروعته بطولة رولان وغيره، وإن يكن الشعب قد تدارك ما فات فصحاء الأدب، فألف في العصور المتأخرة ملاحمه الشعبية، عن عنترة وأبي زيد الهلالي وغيرهما.
وإذا كانت طبيعة الشعر العربي القديم وخصائص العقلية العربية، لم تساعدا على اختراع الأدب التمثيلي الذي يعتمد على الخيال والتشخيص وتحليل النفس البشرية، أو معالجة الصراع بين الإنسان والآلهة، أو بينه وبين قوى الطبيعة المحيطة به، أو بينه وبين القضاء والقدر، أو الزمن أو الجبر الكوني، أو بينه وبين المجتمع وضروراته وتقاليده، وأخيرا بينه وبين نفسه، إذا كان هذا هو الوضع الأصيل عند العرب، فإن الباحثين يتساءلون: لماذا لم يأخذ العرب الأدب التمثيلي عن اليونان، على نحو ما أخذوا مبادئ العلوم والفلسفة والمنطق في العصر العباسي، عندما نشأت الترجمة ، وتوثقت الصلة بين العرب والثقافات الأجنبية؟ وذلك باعتبار أن المحاكاة مدرسة حقيقية للأصالة، وقد كان من الممكن أن يلقح العرب الأدب التمثيلي بعقليتهم الشرقية الخاصة، على نحو ما لقحوا الفلسفة اليونانية.
ولقد تناول الأستاذ توفيق الحكيم هذه المشكلة في مقدمة مسرحيته عن الملك أوديب، فعالجها علاجا عاما، إلا أنه قد تضمن الكثير من الحقائق الأساسية، كما تناولها كثيرون غيره في مصر ولبنان وغيرهما من البلاد العربية.
ولا شك أن الأدب التمثيلي عند اليونان، كان وثيق الصلة بديانتهم الوثنية؛ ففي أحضان تلك الديانة نشأ، ولتشخيصها وتجسيمها وعرض مبادئها وفلسفتها وضعت أولى مسرحياته، ومن المعلوم أن هذا النوع من الأدب قد نشأ من عبادة ديونيزوس؛ أي باكوس إله الكرم والخمر، وذلك على عكس العلوم والفلسفة التي هي ملك شائع بين البشر، تستطيع أن تتمثلها كافة العقول، ولا ترتبط بأوضاع دينية أو اجتماعية خاصة، فلا تعارض بينها وبين الإسلام، بل بالعكس استخدمت في تأييد الإسلام، والمحاجة دونه بالتفكير المنطقي، والحجج والأدلة العقلية عند علماء الكلام وفقهاء الشرع، وبخاصة أورجانون أرسطو الذي طغى على التفكير العربي.
ومع ذلك فلدينا الآن الترجمة العربية القديمة لكتابي الريتوريقا؛ أي الخطابة أو البلاغة، والبويتيقا؛ أي الشعر لأرسطو، ولكنه إذا كان من الراجح أن الكتاب الأول، قد أثر تأثيرا كبيرا في وضع أسس النحو والبلاغة العربية، فإن الكتاب الثاني لم يحدث أثرا في توجه العرب نحو أدب الملاحم والأدب التمثيلي، اللذين لم يعرفهما العرب الأولون، ومن الثابت أن أعلام الفلسفة العربية أنفسهم؛ مثل: الفارابي وابن سينا وابن رشد، فضلا عن عامة العرب، لم يفهموا حديث أرسطو عن هذين الفنين، كما يتضح من شروحهم وتعليقاتهم على كتاب الشعر، وقد نشرها حديثا الدكتور عبد الرحمن بدوي، مع ترجمة جديدة لهذا الكتاب والترجمة العربية القديمة، وفيها نلاحظ كيف أن المترجمين قد أوقعوا بعض هؤلاء المفكرين الكبار في الخطأ، وترجموا التراجيديا بالمدح، والكوميديا بالهجاء، قياسا على ما كان يعرفه العرب عن هذين الفنين الشعريين، كما أنه من الثابت أيضا، أننا لم نعثر على أية ترجمة أو تلخيص أو تحليل لأية تراجيديا أو كوميديا يونانية قديمة.
نامعلوم صفحہ