مسيرة الحب
الحزاز
الرجل ذو القبعتين
مايلز سيتي، مونتانا
نوبات
القمر في حلبة التزلج بشارع أورانج
جسي وميريبيث
إسكيمو
نزعة غريبة
حلقة الصلاة
الكومة البيضاء
مسيرة الحب
الحزاز
الرجل ذو القبعتين
مايلز سيتي، مونتانا
نوبات
القمر في حلبة التزلج بشارع أورانج
جسي وميريبيث
إسكيمو
نزعة غريبة
حلقة الصلاة
الكومة البيضاء
مسيرة الحب
مسيرة الحب
تأليف
أليس مونرو
ترجمة
محمد سعد طنطاوي
مراجعة
مصطفى محمد فؤاد
إلى أختي شيلا
مسيرة الحب
تلقيت اتصالا هاتفيا في العمل، وكان من والدي. كان ذلك بعد وقت قصير من طلاقي وبداية عملي في المكتب العقاري. كان ولداي يذهبان إلى المدرسة، وكان يوما شديد الحرارة من أيام شهر سبتمبر.
كان والدي غاية في التهذيب، حتى مع أفراد العائلة. أخذ بعض الوقت في السؤال عن حالي؛ كعادة أهل الريف. يسألون أولا عن حال من يحادثونهم في الهاتف، حتى إذا كان سبب المكالمة هو أن يخبروك بأن منزلك يحترق.
أجبت: «بخير ... كيف حالك أنت؟»
رد أبي قائلا بطريقته المعهودة، التي تجمع بين الاعتذار والاعتداد بالنفس: «لا أعتقد أنني على ما يرام تماما ... أخشى أن تكون أمك قد رحلت.»
أعلم أن «رحلت» تعني «ماتت». أعلم ذلك جيدا. لكنني للحظة أو نحو ذلك رأيت أمي تعتمر قبعتها السوداء التي من القش وهي تمشي على امتداد الطريق. لم تبد كلمة «رحلت» مفعمة بأي شيء، اللهم إلا بإحساس عميق بالراحة، بل وحتى بالإثارة؛ الإثارة التي يشعر المرء بها عندما يغادر أحد ويغلق الباب، ويعود المنزل مجددا إلى حالته الطبيعية، ويتحرك في حرية في المساحة الخالية حوله. كان ذلك باديا في صوت أبي أيضا؛ وراء النبرة الاعتذارية، كان يخفي صوتا غريبا مثل نفس لاهث. لكن أمي لم تكن عبئا على أي حال - إذ لم تمرض يوما - وكان وقع الأمر على أبي قويا، ولم يكن يشعر بالراحة إطلاقا لموتها. قال أبي إنه لم يعتد قط على أن يعيش وحيدا. فانتقل بإرادته للإقامة في نزل مقاطعة نترفيلد للمسنين.
أخبرني كيف وجد أمي على الأريكة في المطبخ عندما جاء وقت الظهيرة. كانت قد قطفت بعض ثمار الطماطم، ووضعتها على حافة النافذة حتى تنضج، ثم يبدو أنها شعرت بالوهن، فرقدت. ها هو صوته الآن، وهو يخبرني بهذا، يرتعش - يتموج، مثلما قد يتوقع المرء - في دهشته. استرجعت في عقلي صورة الأريكة، اللحاف القديم الذي كان يغطيها، تحت الهاتف مباشرة.
قال أبي: «لذا وجدت أنه من الأفضل أن أتصل بك.» ثم انتظرني حتى أخبره بما يجب عليه فعله الآن. •••
كانت أمي تصلي جاثية على ركبتيها في وقت الظهيرة، وفي الليل، وعندما تستيقظ في الصباح. كان كل يوم يهل عليها هو فرصة لتحقيق إرادة الرب فيه. في كل ليلة كانت تحصي ما فعلته، وما قالته، وما حدثت نفسها به، لترى ما إذا كان يرضيه أم لا. هذا نوع كئيب من الحياة، مثلما يظن الناس، لكنهم لا يدركون كنه ذلك. فلا يمكن أن تكون هذه الحياة مملة على الإطلاق. ولا يمكن أن يقع شيء للمرء دون أن يستفيد منه. حتى إذا كانت المتاعب تسحق المرء، وكان مريضا، وفقيرا، وقبيحا، فلديه روحه ليعيش بها خلال الحياة التي هي كنز وهب إياه دون مجهود. عندما كانت أمي تذهب للصلاة في الدور العلوي بعد وجبة الظهيرة، كانت تمتلئ بالحيوية والآمال، وتبتسم في جدية.
كانت قد خلصت من خطاياها أثناء أحد الاجتماعات الدينية الخارجية عندما كانت تبلغ أربعة عشر عاما. كان ذلك في الصيف نفسه الذي ماتت أمها - جدتي - فيه. لعدة سنوات قليلة، كانت أمي تذهب إلى الاجتماعات في حضور عدد كبير من الأشخاص الآخرين الذين جرى تخليصهم من خطاياهم، وبعض الأشخاص الذين جرى تخليصهم أكثر من مرة، وخطأة قدامى متحمسين. كانت تروي قصصا عما كان يجري في تلك الاجتماعات؛ الغناء، والشكوى، والتجاوزات. تحدثت عن رجل شيخ نهض وصاح قائلا: «انزل، أيها الرب، انزل بين ظهرانينا الآن! انزل عبر السقف وسأدفع من أجل إصلاح ألواح السقف الخشبية!»
كانت أنجليكانية ملتزمة عند زواجها. كانت تبلغ خمسة وعشرين عاما آنذاك، وكان أبي يبلغ ثمانية وثلاثين عاما. زوجان طويلان، حسنا المظهر، يجيدان الرقص وألعاب الورق، اجتماعيان. لكنهما شخصان جادان، هكذا سأحاول أن أصفهما. كانا يتمتعان بجدية نادرا ما تجدها هذه الأيام. لم يكن أبي متدينا مثلما كانت أمي. كان أنجليكانيا، أحد أتباع أخوية أورانج البروتستانتية، محافظا، فهو تربى لكي يكون هكذا. كان الابن الذي بقي في المزرعة مع والديه ورعاهما حتى ماتا. التقى أمي، انتظرها، وتزوجا؛ كان يظن نفسه محظوظا آنذاك أن كانت لديه عائلة يرعاها (لدي شقيقان، وشقيقة ماتت وهي طفلة). يراودني شعور أن أبي لم يضاجع أي امرأة قط قبل أمي، ولم يضاجعها هي حتى تزوجا. وكان عليه أن ينتظر؛ لأن أمي لم تكن لتتزوج قبل أن ترد إلى أبيها كل قرش أنفقه عليها منذ موت أمها. كانت قد دونت كل شيء - طاولة الطعام، الكتب، الملابس - حتى تستطيع دفع ما يقابلها له. عندما تزوجت، لم يكن لديها أي أموال مدخرة، مثلما كانت المدرسات يفعلن عادة، أو صندوق لجهاز العروس، أو ملاءات، أو أطباق. كان أبي يقول عادة، بوجه عابس مازحا، إنه كان يأمل في أن يتزوج امرأة لديها مال مدخر في البنك. قال: «لكنك إذا أردت أن تأخذ هذا المال، فعليك أن تتقبل خلقة صاحبة هذا المال ... وفي بعض الأحيان لا تكون تلك صفقة رابحة.» •••
كانت توجد غرف كبيرة وذات سقف عال في المنزل الذي كنا نعيش فيه، وكانت نوافذها مغطاة بستائر داكنة الخضرة. عندما كان يجري فتح الستائر حتى تدخل الشمس، كنت أحب أن أحرك رأسي كي أمسك بالضوء الذي كان يدخل عبر الثقوب والفجوات. كان الشيء الآخر الذي كنت أحب النظر إليه هو البقع الموجودة على المدخنة، سواء القديمة أو الجديدة منها، التي كنت أشكلها في ذهني في صورة حيوانات، ووجوه أشخاص، بل حتى مدن قصية. تحدثت إلى ولدي عن ذلك، وكان أبوهما، دان كيسي، يقول: «انظرا كيف كان والدا أمكما فقيرين جدا، حتى إنهما لم يكن باستطاعتهما شراء تليفزيون؛ لذا كانت لديهم هذه البقع على السقف، وكانت أمكما مضطرة إلى مشاهدتها!» كان يحب دوما أن يسخر مني حول فكرة أنه لا يوجد أي ميزة في كون المرء فقيرا. •••
عندما تقدم أبي في السن، أدركت أنه كان لا يكترث بقيام الناس بأشياء جديدة - طلاقي، على سبيل المثال - مثلما كان يكترث بالأسباب الجديدة التي دعتهم للقيام بها.
أحمد الرب أنه لم يسمع قط بأمر الكوميون.
كان يقول عادة: «الرب لم يرد هذا قط.» وأثناء جلوسه مع كبار السن الآخرين في النزل، في الرواق الطويل، الخافت الإضاءة خلف أجمات السبيريا، كان يتحدث عن كيف أن الرب لم يرد قط أن يتجول الناس في أنحاء البلاد راكبين الدراجات البخارية والمركبات الجليدية. وكيف أن الرب لم يرد قط أن يكون في زي الممرضات بنطال. لم تكن الممرضات يكترثن على الإطلاق بما يقوله أبي. وكن يطلقن عليه «الوسيم»، وكن يخبرنني أنه محبوب جدا بينهن، وأنه بحق رجل محترم ومتدين. كن يتعجبن من شعره الأسود الكثيف، الذي ظل كذلك حتى مماته. وكن يغسلن ويمشطن شعره على نحو رائع، ويموجنه بأصابعهن.
في بعض الأحيان، وبالرغم من جميع أشكال العناية هذه، لم يكن يشعر بالسعادة. كان يرغب في العودة إلى منزله. كان قلقا بشأن الأبقار، والسياجات، وبشأن من سينهض لإشعال نار التدفئة. توجد ومضات قليلة من الخسة، قليلة جدا. في إحدى المرات، ألقى بنظرة مختلسة، غير ودودة علي عندما دخلت، وقال: «أتعجب أن الجلد في ركبتيك لم يتقرح حتى الآن.»
ضحكت. قلت: «من ماذا؟ حك الأرضيات؟»
رد بنبرة ازدراء قائلا: «الصلاة!»
لم يكن يعلم إلى من يتحدث. •••
لا أتذكر أن لون شعر أمي كان غير اللون الأبيض. حال لون شعر أمي إلى الأبيض عندما كانت في العشرينيات من عمرها، ولم يتبق أي من شعر صباها، الذي كان بني اللون. كنت معتادة على أن أسألها أي درجة من البني كان لون شعرها. «داكنا.» «مثل برنت، أم مثل دوللي؟» كان هذان جوادين كنا نمتلكهما ونستخدمهما في أعمال المزرعة، وكانا يعملان معا كفريق واحد. «لا أعلم. لم يكن مثل لون شعر الجياد.» «هل كان في لون الشوكولاتة؟» «شيئا يشبه ذلك.» «ألم تحزني عندما حال لونه إلى الأبيض؟» «نعم. كنت مسرورة.» «لم؟» «كنت مسرورة أنني لن يصبح لدي شعر لونه مثل لون شعر والدي.»
كانت أمي تقول لي: الكراهية خطيئة في كل الأحوال، تذكري ذلك؛ فقطرة واحدة من الكراهية في روحك ستنتشر وتسبغ بلونها كل شيء مثل قطرة حبر أسود في لبن أبيض. أدهشني ذلك وكنت أنوي أن أجرب الأمر، لكنني كنت أعلم أنني يجب ألا أهدر اللبن. •••
أتذكر جميع هذه الأشياء. جميع الأشياء التي أعرفها، أو أخبرت بها، عن أشخاص لم أرهم حتى قط. كان اسمي يوفيميا، على غرار اسم جدتي لأمي. اسم رهيب، وهذا ما جعله نادرا هذه الأيام. في المنزل كانوا ينادونني بفيمي، لكنني عندما بدأت أعمل، أطلقت على نفسي اسم فايم (شهرة). كان زوجي، دان كيسي، يناديني بفايم. ثم في حانة فندق شامروك، بعد سنوات لاحقة، بعد طلاقي، وبينما كنت خارجة من عملي هناك في إحدى المرات، قال رجل مخاطبا إياي: «فايم، كنت أود أن أسألك، بم أنت مشهورة؟»
أجبته قائلة: «لا أعرف ... لا أعرف، إلا إذا كنت مشهورة بإهدار وقتي في الحديث إلى حمقى أمثالك.»
بعد ذلك فكرت في تغيير اسمي كلية، إلى جوان مثلا، لكن إذا لم أكن سأنتقل من هنا، فكيف أستطيع عمل ذلك؟ •••
في صيف عام 1947، عندما كنت في الثانية عشرة، ساعدت أمي في تغطية جدران غرفة النوم الموجودة في الطابق السفلي بورق الحائط؛ غرفة الضيوف. كانت خالتي، بيرل، آتية لزيارتنا. لم تر الأختان كل منهما الأخرى منذ سنوات. وبعد موت أمهما بوقت قليل جدا، تزوج أبوهما مرة أخرى. وذهب ليعيش في مينيابوليس، ثم في سياتل، مع زوجته الجديدة وابنته الصغرى، بيرل. لم ترغب أمي في الانتقال معهم. مكثت في بلدة رامزي، حيث كانوا يعيشون من قبل. أقامت مع زوجين لم ينجبا، كانا جارين لهم. لم تلتق وبيرل إلا مرة واحدة أو مرتين منذ كبرتا. كانت بيرل تعيش في كاليفورنيا.
كان تصميم ورق الحائط عبارة عن أزهار قنطريون عنبري على خلفية بيضاء. كانت أمي قد اشترته بسعر مخفض؛ لأنه كان آخر المطروح للبيع من هذه النوعية. كان هذا يعني أننا واجهنا مشكلة إيجاد تصميمات مماثلة، وخلف الباب اضطررنا إلى لصق بعض القصاصات والأشرطة لتغطية الحائط. كان ذلك قبل ظهور ورق الحائط ذاتي اللصق. نصبنا الطاولة ذات الحوامل في الغرفة الأمامية، وخلطنا عليها عجينة اللصق، ووزعناها على ظهر ورق الحائط بفرش عريضة، آخذين في الاعتبار عدم تكتل العجينة في أي مكان. كنا نلصق ورق الحائط بينما كانت النوافذ مفتوحة، والحواجز السلكية موضوعة وراءها، والباب الأمامي مفتوحا، والباب الخارجي الشفاف مغلقا. كانت البلدة التي كنا نراها من خلال شبكة الحواجز والزجاج المموج للنوافذ القديمة تبدو غاية في الحرارة والإزهار، الصقلاب والجزر البري في المراعي، والخردل يهتز وسط النفل، وتبدو بعض الحقول كريمية اللون بسبب الحنطة التي كان الناس يزرعونها آنذاك. كانت أمي تغني. كانت تغني أغنية قالت إن أمها كانت معتادة على غنائها عندما كانت هي وبيرل بنتين صغيرتين:
كان لدي حبيب، ولم يعد لي حبيب الآن.
رحل وتركني أنتحب وأنوح.
رحل وتركني، لكنني سأكون سعيدة؛
لأنني سيكون لي حبيب آخر، أفضل منه!
كنت أشعر بالإثارة؛ لأن بيرل آتية، كزائرة، كل هذه المسافة من كاليفورنيا، وأيضا لأنني كنت قد ذهبت إلى البلدة في أواخر شهر يونيو لأداء اختبارات القبول، وكنت أترقب سماع أنباء عن أنني نجحت بتفوق. كان على كل من نجح في الصف الثامن في مدارس البلدة أن يذهب إلى المدينة لأداء هذه الاختبارات. أحببت ذلك؛ صوت خشخشة ورق الفولسكاب، الصمت المهيب، المبنى الحجري الكبير للمدرسة الثانوية، كل حروف الأسماء الأولى القديمة المحفورة على المقاعد، التي أضفى الطلاء عليها لونا داكنا. الموجة الأولى من الصيف خارج البلدة، الضوء الأخضر والأصفر، أشجار الكستناء المميزة للبلدة، وشجيرات سلطان الجبل؛ كل ذلك كان في البلدة نفسها التي أعيش فيها الآن لما يربو عن نصف حياتي. كنت أتعجب من ذلك، وأتعجب من نفسي وأنا أرسم الخرائط في سهولة بالغة وأحل المسائل الحسابية، وأعرف كما هائلا من الإجابات. كنت أظن أنني غاية في البراعة، لكنني لم أكن بارعة بما يكفي لفهم أبسط شيء؛ لم أفهم حتى أن الاختبارات لم تكن لتصنع أي فارق في حالتي؛ فلم أكن لأذهب إلى المدرسة الثانوية. كيف لي أن أذهب؟ كان ذلك قبل أن توجد الحافلات المدرسية؛ كان على المرء أن يقيم في البلدة. لم يكن أبواي يمتلكان المال لذلك. كانا يحصلان على قدر زهيد جدا من المال، مثلما كان الحال مع الكثير من المزارعين آنذاك. كانت الأموال التي يحصلان عليها من العمل في مصنع الجبن هي الأموال الوحيدة التي ترد إليهما بانتظام. ولم يفكرا في أن تمضي حياتي في ذلك الاتجاه، اتجاه الالتحاق بالمدرسة الثانوية. كانا يعتقدان أنني يجب أن أمكث في المنزل وأساعد أمي، وقد أعمل بمقابل لمساعدة النساء المريضات أو اللائي ولدن في الحي. وذلك حتى يحين وقت زواجي. كان ذلك هو ما كانا ينتظران أن يخبراني إياه عندما أحصل على نتائج الاختبارات.
ربما يظن المرء أن أمي ربما كانت تفكر على نحو مختلف؛ حيث إنها كانت هي نفسها مدرسة. لكنها قالت إن الرب لا يعبأ بأي وظيفة يشغلها أي منا أو بأي مستوى من التعليم يتلقاه. فالرب لا يكترث البتة حيال ذلك، ولا يهم سوى ما يكترث به هو.
كانت هذه هي المرة الأولى التي فهمت كيف يمكن أن يكون الرب خصما حقيقيا، وليس محض مصدر للإزعاج أو صورة ذهنية فقط. •••
كان اسم أمي وهي طفلة ماريتا. ظل هذا اسمها، بالطبع، لكن حتى جاءت بيرل لزيارتنا لم أسمع أحدا يناديها بهذا الاسم قط. كان أبي دوما يناديها ب «أمي». كانت لدي فكرة طفولية - كنت أعلم أنها طفولية - أن «أمي» كان يناسبها أكثر مما كان يناسب الأمهات الأخريات. أمي، لا ماما. عندما أكون بعيدة عن أمي، لم أكن أستطيع أن أتخيل شكل وجهها، وكان هذا يخيفني. عند وجودي في المدرسة، التي كان يفصلها تل عن المنزل، كنت أحاول أن أستجمع في ذهني صورة وجه أمي. في بعض الأحيان كنت أظن أنني إذا لم أستطع أن أفعل ذلك، فربما كان يعني هذا أن أمي ماتت. لكنني كنت أشعر بها طوال الوقت، وكان يذكرني بها أبعد الأشياء احتمالا؛ بيانو مفتوح، أو قطعة طويلة بيضاء من الخبز. كان هذا سخيفا، لكنه كان حقيقيا.
كانت ماريتا، في ذهني، منفصلة عن أمي الناضجة. كانت ماريتا لا تزال تجري في حرية هنا وهناك في بلدتها رامزي، على ضفاف نهر أوتاوا. في تلك البلدة، كانت الشوارع مليئة بالجياد وبرك المياه الصغيرة الموحلة، وكان يخيم عليها جو من الكآبة بسبب الرجال الذين كانوا يأتون إليها من الغابة في عطلات نهاية الأسبوع؛ الحطابون. كان يوجد أحد عشر فندقا في شارع المدينة الرئيسي، حيث كان يمكث الحطابون ويسكرون.
كان المنزل الذي كانت ماريتا تسكنه يقع في منتصف شارع شديد الانحدار يرتفع تدريجيا من جهة النهر. كان منزلا مزدوجا، له نافذتان مشرفتان في الواجهة، وكانت توجد تعريشة خشبية تفصل بين الشرفتين الأماميتين. كان الزوجان ساتكليف يعيشان في النصف الثاني من المنزل، وهما الزوجان اللذان كانت ماريتا تعيش معهما بعد موت أمها وبعد مغادرة أبيها البلدة. كان السيد ساتكليف رجلا إنجليزيا، عامل تلغراف. وكانت زوجته ألمانية. كانت تصنع القهوة دوما بدلا من الشاي. كانت تصنع حلوى السترودل. كانت عجينة السترودل تتدلى من حواف المنضدة مثل مفرش رقيق. كانت تبدو بالنسبة لماريتا في بعض الأحيان مثل الجلد.
كانت السيدة ساتكليف هي من أقنع أم ماريتا بعدم شنق نفسها.
كانت ماريتا في إجازة من المدرسة ذلك اليوم؛ لأنه كان يوم السبت. استيقظت متأخرة وكان الصمت يخيم على المنزل. كانت تشعر بالخوف دوما من ذلك - المنزل الصامت - وكانت بمجرد أن تفتح الباب بعد الرجوع من المدرسة تنادي قائلة: «ماما! ماما!» لكن لم تكن أمها تجيب عادة، غير أنها كانت موجودة. كانت ماريتا تسمع في ارتياح صوت صلصلة شبكة الموقد أو الصوت الرتيب لضربات المكواة.
في ذلك الصباح، لم تسمع أي شيء. نزلت إلى الطابق السفلي، وأخذت شريحة من الخبز، وأضافت عليها الزبد والعسل الأسود، وطوتها وأكلتها. فتحت باب القبو ونادت على أمها. ذهبت إلى الغرفة الأمامية وأطلت عبر النافذة، خلال نباتات السرخس. رأت أختها الصغيرة، بيرل، وبعض أطفال الجيران الآخرين يتدحرجون على المساحة المغطاة بالحشائش المفضية إلى الممشى الجانبي، ثم ينهضون ويتدافعون إلى أعلى نقطة ثم يتدحرجون مجددا.
نادت ماريتا: «ماما!» سارت عبر المنزل إلى الفناء الخلفي. كان الوقت في نهاية الربيع، وكانت السماء ملبدة بالغيوم، والجو معتدلا. في بساتين الخضراوات اليانعة، كانت الأرض رطبة، وبدت الأوراق على الأشجار مكتملة فجأة، وأخذت تسقط قطرات من المياه التي تخلفت من أمطار الليلة السابقة. «ماما!» هكذا نادت ماريتا تحت الأشجار، تحت حبل الغسيل.
يوجد في نهاية الفناء مخزن صغير، حيث يحتفظون بخشب التدفئة، وبعض الأدوات والأثاث القديم. يمكن رؤية مقعد، ومقعد خشبي مستقيم الظهر، عبر الباب المفتوح. على المقعد، رأت ماريتا قدمي أمها، وحذاءها ذا الأربطة السوداء، ثم زي الأعمال المنزلية الصيفي القطني المطبوع الطويل، والمريلة، والأكمام المطوية، ثم ذراعي أمها البيضاوين اللامعتين، ورقبتها، ووجهها.
وقفت أمها على المقعد ولم تجب. لم تنظر إلى ماريتا، وإنما ابتسمت وقرعت بقدمها المقعد، كما لو كانت تقول: «ها أنا ذا. ماذا ستفعلين حيال ذلك؟» كانت على غير ما يرام، بخلاف وقوفها على مقعد وابتسامها على هذا النحو الغريب المتحفظ. كانت تقف على مقعد قديم تختفي منه روافده الخلفية، مقعد كانت قد جذبته إلى منتصف أرضية المخزن، حيث كان يتأرجح على الأرض غير المستوية. وكان ثمة ظل على رقبتها.
كان الظل عبارة عن حبل، أنشوطة في نهاية حبل تتدلى من أحد العوارض في الأعلى.
تقول ماريتا في صوت أكثر خفوتا: «ماما! ماما، انزلي، من فضلك.» كان صوتها واهنا؛ لأنها تخشى أن يفضي أي نداء أو صراخ إلى تحرك أمها فجأة، فتنزلق عن المقعد وتقع بكامل وزنها على الحبل. لكن حتى لو أرادت ماريتا أن تصرخ، لما استطاعت. لم يتبق لها سوى هذا الخيط الواهن المثير للشفقة من الصوت، مثلما في أحد الأحلام عندما يقترب منك بشدة حيوان ضخم أو آلة مخيفة. «هيا اذهبي وأحضري والدك.»
كان ذلك هو ما أخبرتها به أمها أن تفعله، وأطاعتها ماريتا. كانت تعدو، والرعب باد في رجليها. كانت تعدو، في رداء نومها، في منتصف صبيحة يوم سبت. جرت مارة ببيرل والأطفال الآخرين، الذين كانوا لا يزالون يتدحرجون على الأرض المنحدرة. جرت على الممشى الجانبي، الذي كان في ذلك الوقت ممشى خشبيا، ثم على الشارع غير المرصوف، الذي كان ممتلئا ببرك مياه صغيرة موحلة جراء أمطار الليلة السابقة. كان الطريق يتقاطع مع قضبان سكك حديدية. عند سفح التل، كان الشارع يتقاطع مع الشارع الرئيسي للبلدة. كان يوجد بين الشارع الرئيسي والنهر بعض المخازن ومبان خاصة بشركات تصنيع صغيرة. كان ذلك حيث توجد ورش صناعة العربات التي يعمل بها أبوها. كانت عربات النقل والعربات الصغيرة والزلاجات تصنع هناك. في حقيقة الأمر، كان والد ماريتا قد ابتكر نوعا جديدا من الزلاجات لحمل الأخشاب من الغابة، وحصل على براءة اختراعه. كان لا يزال في بداية حياته العملية في رامزي. (لاحقا، في الولايات المتحدة، صنع ثروة كبيرة. كان رجلا مغرما بالذهاب إلى حانات الفنادق، ومحلات تصفيف الشعر، وبسباقات عربات الخيول، وبالنساء، لكنه كان يقدس العمل، وهو ما جعله يستحق الثناء.)
لم تجده ماريتا في العمل ذلك اليوم. كان المكتب خاليا. عدت مسرعة إلى الفناء حيث كان الرجال يعملون. تعثرت في نشارة الخشب. فضحك الرجال وهزوا رءوسهم قبالتها. لا. ليس هنا. ليس هنا الآن. لا. لماذا لا تحاولين الذهاب إلى نهاية الشارع؟ انتظري. انتظري دقيقة. ألم يكن يجدر بك أن ترتدي بعض الملابس أولا؟
لم يقصدوا مضايقتها. لم يشعر أي منهم بأنه لا بد أن هناك مشكلة ما. لكن ماريتا لم تتحمل رؤية الرجال وهم يضحكون. كانت توجد أماكن تكره دوما المرور عليها، ناهيك عن الدخول إليها، وكان ذلك هو السبب. مجموعة من الرجال يضحكون. لهذا السبب، كانت تكره محلات تصفيف الشعر الخاصة بالرجال، كانت تكره رائحتها. (عندما بدأت في الذهاب إلى حفلات رقص لاحقا مع أبي، كانت تطلب منه ألا يضع أي شيء على رأسه؛ لأن الرائحة كانت تذكرها بهذا.) كانت مجموعة من الرجال تقف في الشارع، خارج فندق، تبدو لها مثل كتلة من السم. يحاول المرء ألا يسمع ما يقولون، لكنه يكون متأكدا من أنهم يقولون أشياء خسيسة. إذا لم يقولوا أي شيء، فإنهم يضحكون والخسة تفوح منهم - السم - بنفس الطريقة. لم تستطع ماريتا أن تمر عليهم إلا بعد تخلصها من خطاياها. مسلحة بحماية الرب، كانت تسير وسطهم ولم يكن شيء يؤذيها، أو يزعجها؛ كانت آمنة مثل النبي دانيال.
استدارت وعدت، في نفس المسار الذي جاءت منه؛ أعلى التل، وصولا إلى المنزل. كانت تعتقد أنها ارتكبت خطأ لأنها تركت أمها. لماذا طلبت منها أمها أن تذهب؟ لماذا كانت تريد أباها؟ من الجائز جدا حتى تستقبله بمشهد جسدها الدافئ المتأرجح في طرف الحبل. كان ينبغي على ماريتا البقاء. كان ينبغي عليها البقاء وإقناع أمها بالعدول عن ذلك. كان ينبغي عليها أن تعدو إلى السيدة ساتكليف، أو إلى أي جار، وألا تهدر الوقت على هذا النحو. لم تكن قد فكرت فيمن يستطيع أن يقدم المساعدة، من يستطيع حتى تصديق ما كانت تتحدث عنه. كانت تعتقد أن جميع العائلات باستثناء عائلتها كانت تعيش في سلام، وأن هذه المخاطر والمصائب لم تكن موجودة في منازل الآخرين، ولم يكن من الممكن شرحها لهم.
كان يوجد قطار قادم إلى البلدة. اضطرت ماريتا إلى الانتظار. كان الركاب ينظرون إليها من نوافذ القطار. انفجرت صارخة في وجه هؤلاء الغرباء. عندما مر القطار، واصلت طريقها أعلى التل، يا له من مشهد! بنت بشعرها غير الممشط، وقدميها العاريتين، المتسختين، مرتدية لباس النوم، ووجهها مهوش ومبتل. عند بلوغها فناء منزلها، على مرمى البصر من المخزن، كانت تصرخ قائلة: «ماما! ماما!»
لم يكن هناك أحد. كان المقعد موجودا مثلما كان من قبل تماما. كان الحبل متدليا خلف المقعد. كانت ماريتا متأكدة أن أمها مضت في تنفيذ ما كانت عازمة عليه. ماتت أمها بالفعل، تم إنزالها وحملت للداخل.
لكن يدين بدينتين دافئتين استقرتا على كتفيها، وقالت لها السيدة ساتكليف: «ماريتا. كفي عن هذا الضجيج. ماريتا. طفلتي. توقفي عن البكاء. هيا ادخلي. إنها بخير يا ماريتا. ادخلي وسترين بنفسك.»
نطقت السيدة ساتكليف اسم ماريتا «ماريتشا»، مضفية على الاسم ثراء وأهمية أكبر. تصرفت بشكل متعاطف قدر ما استطاعت. وعندما عاشت ماريتا مع آل ساتكليف لاحقا، كانوا يعاملونها باعتبارها ابنة في المنزل، وكان المنزل هادئا ومريحا مثلما كانت تتخيل المنازل الأخرى. لكنها لم تشعر أنها ابنة هناك قط.
في مطبخ السيدة ساتكليف، جلست بيرل على الأرض تأكل كعكة محلاة بالزبيب وتلعب مع القط ذي اللونين الأسود والأبيض، الذي كان يسمى ديكي. جلست أم ماريتا إلى المائدة، أمامها قدح من القهوة.
قالت السيدة ساتكليف: «كانت سخيفة.» هل كانت تعني أم ماريتا أم ماريتا نفسها؟ لم تكن تعرف الكثير من الكلمات الإنجليزية لتصف الأمور.
ضحكت أم ماريتا، وسقطت ماريتا مغشيا عليها؛ فقدت الوعي، بعد العدو كل تلك المسافة أعلى التل، في الصباح الدافئ الرطب. كان الشيء التالي الذي أدركته بعد أن استردت وعيها أن السيدة ساتكليف كانت تسقيها بالملعقة قهوة سوداء محلاة. حملت بيرل ديكي إلى أعلى عن طريق رجليه الأماميتين وقدمته إليها كهدية لإسعادها. كانت أم ماريتا لا تزال تجلس إلى المائدة. •••
كان قلبها محطما. كان هذا هو ما سمعت أمي تقوله دوما. كان هذا هو نهاية الأمر. أسدلت تلك الكلمات الستار على القصة ولم تفتح ثانية. لم أسأل قط، من حطمه؟ لم أسأل قط، ماذا كان حديث الرجال المسموم؟ ماذا كانت كلمة «خسيس» تعني؟
ضحكت أم ماريتا بعد أن شارفت على شنق نفسها. جلست إلى مائدة مطبخ السيدة ساتكليف وضحكت. كان قلبها محطما.
كان يراودني دوما شعور، من خلال حديث أمي وقصصها، بوجود شيء كبير وراءها. مثل سحابة لا يستطيع المرء الرؤية عبرها، أو يبلغ نهايتها. كانت ثمة سحابة، سم، قد لامست حياة أمي. وعندما كنت أغضبها، أصير جزءا من هذا الشيء. ثم كنت ألقي برأسي على بطن أمي وصدرها، وجسدها الممشوق ، سائلة إياها الغفران. كانت أمي تخبرني أن أسأل الرب الغفران. لكن لم يكن الرب، بل أمي التي كان يجب أن أصلح أموري معها. بدا الأمر كما لو كانت تعرف شيئا عني أكثر سوءا، أكثر سوءا بكثير، من الأكاذيب، والخدع، والأخطاء العادية؛ كان هذا الشيء هو عارا مثيرا للغثيان. كنت ألقي برأسي على جسد أمي لأجعلها تنسى ذلك.
لم يكن أخواي ينزعجان لكل هذا. لا أعتقد هذا. بدوا لي مثل شخصين همجيين مرحين، يلهوان في حرية، دون أن يكون عليهما معرفة الكثير. وعندما رزقت بولدين أنا الأخرى، دون البنات، شعرت كما لو أن شيئا ما يمكن أن يتوقف الآن، القصص، الأحزان، الألغاز القديمة التي لا يستطيع المرء مقاومة عدم التفكير فيها أو حلها. •••
طلبت الخالة بيرل ألا يناديها أحد بخالتي. «لست معتادة على أن أكون خالة أحد يا حبيبتي. لست حتى أما لأحد. أنا كما أنا. ناديني بيرل.»
كانت بيرل قد بدأت حياتها كاتبة اختزال، ثم صار لها عملها الخاص في مجال الكتابة على الآلة الكاتبة ومسك الحسابات، وكانت توظف لديها الكثير من الفتيات. كانت قد جاءت بصحبة صديق، اسمه السيد فلورنس. كان خطابها قد أشار إلى أنها ستأتي بصحبة أحد الأصدقاء، لكنها لم تذكر هل كان الصديق سيمكث أم لا. لم تذكر حتى هل كان الصديق رجلا أو امرأة.
كان السيد فلورنس سيمكث بمنزلنا. كان رجلا طويلا، نحيفا، وجهه طويل مائل إلى السمرة، عيناه لونهما فاتح جدا، وثمة ارتعاشة عصبية في جانب فمه ربما تكون ابتسامة.
كان هو من نام في الغرفة التي وضعنا أنا وأمي ورق حائط فيها؛ لأنه كان الغريب، وكان رجلا فاضطرت بيرل إلى النوم معي. في البداية، كنا نظن السيد فلورنس فظا جدا؛ لأنه لم يكن معتادا على طريقة حديثنا ولم نكن نحن معتادين على طريقة حديثه. في صباح اليوم الأول، قال أبي للسيد فلورنس: «حسنا، آمل أن تكون قد نعمت ببعض النوم على ذلك الفراش القديم هناك؟» (كان فراش غرفة الضيوف رائعا، بغطاء من الريش .) كانت هذا الإشارة التي دفعت السيد فلورنس إلى القول بأنه لم ينم قط أفضل من ذلك من قبل.
ارتعش وجه السيد فلورنس كعادته، وقال: «نمت على ما هو أسوأ من ذلك.»
كان المكان المفضل لديه هو سيارته. كانت سيارته ماركة كرايسلر لونها أزرق أرجواني، واحدة من ضمن أولى السيارات التي أنتجت بعد الحرب. داخلها، كان غطاء التنجيد والأرضية وبطانة السقف والأبواب جميعها باللون الرمادي اللؤلئي. احتفظ السيد فلورنس بأسماء تلك الألوان في ذهنه، وكان يصحح من يقول «أزرق» أو «رمادي» فقط.
قالت بيرل ضاجة: «يبدو اللون لي مثل لون الفأر ... أقول له إنه مثل لون الفأر!»
كانت السيارة منتظرة إلى جانب المنزل، تحت أشجار الخرنوب. كان السيد فلورنس يجلس في الداخل والنوافذ مغلقة، يدخن، وسط الرائحة الفخمة للسيارة الجديدة.
قالت أمي: «أخشى أننا ليس لدينا الكثير لنقدمه حتى نرحب بصديقك.»
قالت بيرل: «لا تقلقي بشأنه.» كانت دائما ما تتحدث عن السيد فلورنس كما لو كان ثمة مزحة عنه لا يفهم معناها إلا هي. تساءلت بعد ذلك بكثير إذا كان يحتفظ بزجاجة خمر في التابلوه ويتناول رشفة من وقت إلى آخر حتى يظل في حالة معنوية مرتفعة. كان يعتمر قبعته طوال الوقت.
تسلت بيرل بما يكفي للترفيه عن شخصين. فبدلا من أن تمكث في المنزل وتتحدث إلى أمي، مثلما تفعل عادة السيدات الزائرات، كانت تطلب أن ترى كل شيء يمكن رؤيته في المزرعة. كانت تقول إن علي اصطحابها لرؤية الأشياء في المزرعة وتقديم شرح واف لها، وأن أحاول أن أجعلها لا تسقط في أي كومة روث.
لم أكن أعرف ما الذي أريها إياه. اصطحبت بيرل إلى مخزن الثلج، حيث كانت ترقد وسط نشارة الخشب كتل من الثلج في حجم أدراج التسريحة، أو أكبر. كل بضعة أيام، كان أبي يقطع قطعة من الثلج ويحملها إلى المطبخ؛ حيث كانت تذوب في صندوق من الصفيح وكانت تستخدم في تبريد اللبن والزبد.
قالت بيرل إنها لم تكن تعرف أن الثلج يجئ في صورة قطع بمثل هذا الحجم الكبير. بدت مصممة على أن ترى الأشياء غريبة، أو مريعة، أو مضحكة. «من أي مكان تحصلون على قطع بهذا الحجم من الثلج؟»
لم أستطع أن أحدد ما إذا كانت هذه مزحة أم لا.
قلت: «من البحيرة.» «من البحيرة! هل لديكم بحيرات هنا يوجد بها ثلج طوال الصيف؟»
أخبرتها كيف يقطع أبي الثلج من البحيرة كل شتاء ويحمله إلى المنزل، ويدفنه وسط نشارة الخشب، وهو ما كان يحفظه من الذوبان.
قالت بيرل: «هذا مدهش!»
قلت: «حسنا، لكن الثلج يذوب قليلا.» كنت أشعر بخيبة أمل كبيرة في بيرل. «هذا مدهش حقا.»
جاءت بيرل معي عندما ذهبت لجلب الأبقار. خيال مآتة في بنطال فضفاض أبيض (هكذا كان أبي يصفها بعد ذلك)، تعتمر قبعة بيضاء مربوطة تحت ذقنها عن طريق شريط أحمر زاه. كانت أظافر يديها وقدميها - كانت ترتدي صندلا - مطلية بنفس لون الشريط. كانت ترتدي نظارة شمسية صغيرة داكنة، كان الناس يرتدونها في ذلك الوقت. (ليس الناس الذين أعرفهم؛ فهؤلاء لم يكونوا يمتلكون نظارات شمسية.) كانت تمتلك فما أحمر كبيرا، ضحكتها رنانة، شعرها بلون غير طبيعي ذي لمعة عالية، مثل لون خشب شجر الكرز. كانت صاخبة ومتألقة أكثر مما ينبغي، وكانت ترتدي ملابس فاتنة جدا، حتى كان من الصعب تحديد ما إذا كانت جميلة، أم سعيدة، أم أي شيء آخر.
لم نتبادل أي حديث أثناء السير على ممر سير الأبقار؛ نظرا لأن بيرل كانت تمشي بعيدا عن الأبقار وكانت منشغلة بالانتباه إلى خطواتها. وبمجرد أن قيدت جميع الأبقار في مرابطها، اقتربت أكثر. أشعلت سيجارة. لم يكن أحد يدخن هنا. كان أبي والمزارعون الآخرون يمضغون التبغ هنا بدلا من ذلك. لم أعرف كيف أطلب من بيرل أن تمضغ التبغ.
قالت بيرل: «هل تستطيعين حلبها أم يجب على أبيك أن يفعل ذلك؟ ... هل هذا أمر صعب؟»
حلبت بعض اللبن من درع البقرة. جاءت إحدى القطط وانتظرت. ضخخت سيلا رفيعا من اللبن في فمها. كنت والقطة نستعرض قدراتنا.
قالت بيرل: «ألا يؤلم ذلك؟ فكري لو أنك كنت مكانها.»
لم أفكر قط في أن يكون درع البقرة مناظرا لأي جزء من جسدي، وصدمت لعدم لياقة الإشارة إلى ذلك. في حقيقة الأمر، لم أستطع أن أمسك بدرع دافئ، وملئ بالبثور على هذا النحو من القوة والعفوية مرة أخرى. •••
كانت بيرل تنام في ثوب نوم من الرايون، مشمشي اللون ومطرز بزخارف بأربطة باللون البيج. كان لديها روب يتماشى مع هذا الثوب. كانت حريصة في الإشارة إلى اللون «البيج» مثلما كان السيد فلورنس حريصا في الإشارة إلى اللونين الأزرق الأرجواني والرمادي اللؤلئي.
استطعت خلع ملابسي وارتداء ثوب نومي دون أن يتعرى أي جزء من جسدي. مسألة مزعجة. لم أخلع سروالي الداخلي، وأملت أن تكون بيرل قد فعلت المثل. كانت فكرة مشاركتي الفراش مع شخص بالغ مسألة صعبة بالنسبة لي. لكني استطعت أن أرى محتويات ما كانت بيرل تطلق عليه أدوات تجميلها. دوارق زجاجية مطلية يدويا تحتوي على قطع من القطن الطبي، وبودرة تلك، وغسول لبني، ومستحضر قابض بلون أزرق ثلجي. أوعية صغيرة من طلاء الشفاه الأحمر والموف، يبدو دهنيا نوعا ما. أقلام زرقاء وسوداء. مبرد أظافر، حجر خفاف، طلاء أظافر له رائحة موز نفاذة، بودرة وجه في صندوق من السليولويد على شكل صدفة، باسم أحد أنواع الحلوى، أبريكوت ديلايت.
كنت قد سخنت بعض المياه على موقد الكيروسين الذي كنا نستخدمه في وقت الصيف. أزالت بيرل المكياج من على وجهها حتى صار نظيفا، وكان ثمة تغيير هائل لدرجة أني توقعت أن أجد بعض آثار المكياج تظهر في الحوض في صورة كتل، مثل ورق الحائط القديم الذي كنا قد غمرناه بالماء وقشرناه. صار لون بشرة بيرل شاحبا الآن، تغطيها بعض الشقوق الدقيقة، تشبه نوعا ما الطين اللامع في قاع برك المياه الصغيرة التي تجف في أوائل الصيف.
قالت: «انظري ماذا حدث لبشرتي. إنها الحمية الغذائية. كنت أزن مائة وتسعة وستين رطلا، ثم تخلصت من هذا الوزن سريعا، فتأثرت بشرتي بشدة. لكني حصلت على هذا الكريم. إنه مصنوع من تركيبة سرية ، ولا تستطيعين حتى شراءه من أي مكان. تشمميه. أترين، ليست رائحته عطرية، بل حادة جدا.»
كانت توزع في خفة الكريم على وجهها باستخدام قطع القطن الطبي، حتى تختفي أي آثار له على بشرتها.
قلت: «تبدو رائحته مثل شحم الخنزير.» «يا إلهي، آمل ألا أكون قد دفعت كل هذا المال حتى أضع شحم خنزير على وجهي. رجاء لا تخبري أمك.»
صبت ماء نظيفا في كوب الشرب وبللت مشطها، ثم مشطت شعرها وعقصت كل جديلة بأصبعها، شابكة الجديلة المعقوصة في رأسها عن طريق دبوسي شعر متشابكين. فعلت مثلها، لكن بعد ذلك بعامين.
قالت بيرل: «دائما مشطي شعرك وهو مبلل، وإلا فلن يجدي تمشيطه على الإطلاق. ولفيه إلى أسفل دوما حتى لو كنت تريدين أن يصفف إلى أعلى. أترين؟»
عندما كنت أمشط شعري لأعلى - مثلما كنت أفعل لسنوات - كنت أفكر في ذلك في بعض الأحيان، وكنت أعتقد أن من بين جميع النصائح التي تلقيتها من الآخرين، كانت هذه النصيحة هي النصيحة الوحيدة التي كنت أتبعها تماما.
أطفأنا المصباح وخلدنا إلى الفراش، وقالت بيرل: «لم أكن أعرف أن الظلام سيسود على هذا النحو. لم أر ظلاما على هذا النحو من قبل.» كانت تتحدث همسا. فهمت في بطء أنها كانت تقارن بين ليالي الريف وليالي المدينة، وكنت أتساءل عما إذا كان الظلام في مقاطعة نترفيلد يمكن أن يكون أفضل مما عليه في كاليفورنيا.
همست بيرل قائلة: «حبيبتي؟ هل توجد أي حيوانات في الخارج؟»
قلت: «أبقار.» «حسنا، لكنني أعني هل توجد أي حيوانات متوحشة؟ هل توجد دببة؟»
قلت: «نعم.» كان أبي قد وجد ذات مرة آثار أقدام وروث دببة في الغابة، وكان التفاح قد انتزع من شجرة تفاح برية. كان ذلك منذ سنوات مضت، عندما كان شابا.
تنهدت بيرل ثم ضحكت بصوت عال قائلة: «تصوري لو أن السيد فلورنس ذهب إلى الخارج ليلا ووجد دبا فجأة!» •••
كان اليوم التالي يوم أحد. أوصل السيد فلورنس وبيرل أخوي وإياي إلى مدرسة الأحد في السيارة الكرايسلر. كان ذلك في الساعة العاشرة صباحا. ثم رجعا في الساعة الحادية عشرة لاصطحاب والدي إلى الكنيسة.
قالت بيرل لي: «هيا اركبي.» وللصبيين: «وأنتما أيضا. سنذهب في نزهة.»
كانت بيرل مرتدية ثوبا لامعا عاجي اللون عليه نقاط حمراء، وكان ثمة ثنيات باللون الأحمر عند منطقة ردفيها، وكانت ترتدي حذاء أحمر اللون، مرتفع الكعب. كان السيد فلورنس يرتدي بدلة صيفية بلون أزرق فاتح.
قلت: «ألن تذهبا إلى الكنيسة؟» كان ذلك هو السبب الذي من أجله يرتدي الناس أفضل الثياب، حسبما كنت أعرف.
ضحكت بيرل. «حبيبتي، السيد فلورنس ليس من هذا النوع من الناس.»
كنت معتادة على الذهاب مباشرة من مدرسة الأحد إلى الكنيسة، وكنت أمكث فيها ساعة ونصف. في الصيف، كانت النوافذ المفتوحة تسمح بدخول رائحة أشجار الأرز الآتية من الجبانة والصوت المزعج لسيارة مندفعة في الطريق في بعض الأحيان. في ذلك اليوم، قضينا هذا الوقت نجوب الأنحاء التي لم أكن قد رأيتها من قبل قط. لم أكن قد رأيتها من قبل، على الرغم من أنها كانت تبعد أقل من عشرين ميلا عن المنزل. كانت شاحنتنا تذهب إلى مصنع الجبن، وإلى الكنيسة، وإلى البلدة في ليالي السبت. كانت أطول مسافة تقطعها هي حين كانت تذهب إلى المستودع. كنت قد رأيت الطرف القريب من بحيرة بيل؛ نظرا لأن ذلك كان المكان الذي يقطع أبي منه الثلج في الشتاء. لم يكن ممكنا الاقتراب من البحيرة في الصيف؛ إذ كان شاطئ البحيرة ممتلئا بنباتات الديس. كنت أظن أن الطرف الآخر من البحيرة سيبدو جميلا بالمثل، لكننا عندما ذهبنا إلى هناك اليوم، رأيت أكواخا، وأحواض قوارب، وقوارب، ومياها داكنة تعكس صورة الأشجار. كل هذا لم أكن أعرف عنه شيئا من قبل. كانت هذه، أيضا، بحيرة بيل. كنت مسرورة أنني رأيتها أخيرا، لكنني لم أكن مسرورة تماما للمفاجأة.
أخيرا، ظهر مبنى أبيض، به شرفات وزهور في أصص زرع، وبعض أشجار الحور المتلألئة في الواجهة. فندق وايلدوود. اليوم، غطي المبنى بالجص وتمت إعادة بنائه على دعامات على طراز تيودور، وأصبح يطلق عليه هايداواي. وقد قطعت أشجار الحور لعمل مكان لانتظار السيارات.
عندما ذهبنا لاصطحاب والدي، اتجه السيد فلورنس إلى المزرعة المجاورة لنا، التي كان يملكها آل ماكالستر. كان آل ماكالستر كاثوليكيين. كانت العائلتان تتوادان لكن ليس على نحو حميم.
قالت بيرل لأخوي: «هيا، أيها الصبيان، انزلا.» ووجهت حديثها إلي قائلة: «ليس أنت. امكثي حيث أنت.» ساقت الصبيين الصغيرين إلى الشرفة الخارجية، حيث كان بعض أفراد عائلة ماكالستر يرقبون. كانوا يرتدون ثياب المنزل البالية؛ لأن كنيستهم، أو القداس، أو أيا ما كان، انتهى مبكرا. خرجت السيدة ماكالستر ووقفت تستمع، مشدوهة جدا، إلى حديث بيرل المضحك.
عادت بيرل إلى السيارة بمفردها. قالت: «ها هم، سيلعبون مع أطفال الجيران.»
يلعبان مع آل ماكالستر؟ فضلا عن كونهم كاثوليكيين، جميع الأطفال بخلاف الطفل الرضيع كانوا فتيات.
قلت: «لا يزالون يرتدون ملابسهم المهندمة.» «وماذا في هذا؟ ألا يستطيعون قضاء وقت طيب وهم يرتدون ملابس مهندمة؟ إنني أفعل ذلك!»
أصابت الدهشة والدي أيضا. خرجت بيرل من السيارة وطلبت من أبي أن يركب في المقعد الأمامي؛ نظرا لوجود مساحة كافية يستطيع وضع قدميه فيها. انتقلت إلى الخلف، مع أمي ومعي. توجه السيد فلورنس مرة أخرى إلى طريق بحيرة بيل، وأعلنت بيرل أننا جميعا ذاهبون إلى فندق وايلدوود لتناول الغداء.
قالت: «ترتدون جميعا أجمل الثياب، لم لا ننتهز هذه الفرصة؟» ثم قالت مؤكدة على أن ذلك بمنزلة مصدر متعة لهما دائما، هي والسيد فلورنس: «أوصلنا الصبيين إلى منزل جيرانكم. أعتقد أنهما أصغر من أن يستمتعا بوقتهما معنا. كان الجيران سعداء بوجودهما معهم.»
قال أبي: «حسنا، لكن،» ربما لم يكن يملك خمسة دولارات في جيبه. «حسنا، لكن، هل يسمحون بدخول المزارعين هناك أم لا؟»
أطلق عدة نكات في هذا الاتجاه. في غرفة الطعام في الفندق، التي كان كل شيء فيها باللون الأبيض - مفارش مائدة بيضاء، مقاعد مطلية باللون الأبيض - وتحتوي على أباريق مياه زجاجية، ومراوح عالية تحدث طنينا، تناول أبي فوطة مائدة بحجم حفاضة وتحدث إلي في صوت هامس مرتفع: «هل يمكن أن تخبريني ماذا يفعل المرء بهذا الشيء؟ هل أستطيع أن أضعها على رأسي حتى أتجنب تيار الهواء؟»
بالطبع، كان قد تناول الطعام في قاعات طعام فنادق من قبل. كان يعلم كيفية استخدام فوط المائدة وشوك الحلوى. وكانت أمي تعلم؛ فلم تكن أصلا امرأة ريفية. لكن هذه كانت مناسبة كبيرة. لم تكن متعة ترفيهية تماما - مثلما كانت بيرل تقصد - لكنها كانت مناسبة كبيرة، مزعجة. فالطعام يقدم في مكان عام، على مسافة أميال قليلة من المنزل، وفي قاعة كبيرة ممتلئة بالناس الذين لا يعرفهم المرء، ويقدم الطعام شخص غريب، فتاة تبدو فظة؛ ربما لأنها طالبة جامعية تعمل في وظيفة صيفية.
قال أبي: «أرغب في تناول لحم الديك. كم من الوقت يظل الديك في القدر؟» كان من قبيل الأسلوب المهذب، مثلما كان يعرف ذلك، أن يمزح مع الأشخاص الذين كانوا يقدمون له الطعام.
قالت الفتاة: «أستميحك عذرا!»
قالت بيرل: «دجاج مشوي. هل يناسب هذا الجميع؟»
كان السيد فلورنس يبدو واجما. ربما لم يكن يأبه بالنكات عندما كان ماله هو الذي ينفق. ربما كان ينتظر أن تملأ الأكواب بشيء أفضل من مياه مثلجة.
وضعت النادلة طبقا من الكرفس والزيتون، وقالت أمي: «دقيقة واحدة حتى أؤدي صلاة ما قبل الأكل.» أحنت رأسها وقالت في هدوء لكن بصوت مسموع: «بارك يا رب هذا الطعام الموضوع على هذه المائدة، وامنح خلاصا ونعمة وبركة وطهرا لكل المتناولين منه، نعمله لمجد اسمك القدوس، آمين.» منتشية، استقامت في جلستها ومررت الطبق إلي، قائلة: «احذري من الزيتون؛ يوجد به نوى.»
كانت بيرل توزع ابتساماتها في القاعة.
عادت النادلة معها سلة من اللفائف. «باركر هاوس!» مالت بيرل إلى الأمام وشمت رائحة اللفائف. «كلوها وهي لا تزال ساخنة بما يكفي حتي يذوب الزبد!»
ارتعش وجه السيد فلورنس، ونظر إلى طبق الزبد وقال: «هل هذا الذي أراه زبدا؟ كنت أظن أن ذلك تموجات شعر شيرلي تيمبل.»
كان وجهه بالكاد أقل تجهما مما كان من قبل، لكنها كانت مزحة، وبدا إطلاقه إياها كما لو كان يوصل لنا تجسيدا للشيء الذي جرت الصلاة من أجله، وهي البركة.
قالت بيرل، التي كانت عادة تشير إلى السيد فلورنس بضمير الغائب حتى لو كان موجودا: «عندما يقول شيئا مضحكا، تلاحظون كيف يحافظ على خلو وجهه من أي تعبير. يذكرني ذلك بأمي؛ أعني أمنا؛ أمي أنا وماريتا. أما أبي، فعندما كان يطلق مزحة كان المرء يستطيع ملاحظتها حتى قبل اكتمالها تماما - لم يكن يستطيع أن يخفي الضحك عن ملامح وجهه - لكن أمي كانت مختلفة تماما. كان من الممكن أن تبدو متجهمة جدا. لكنها كانت تستطيع المزاح حتى على فراش موتها. في حقيقة الأمر، فعلت ذلك بالضبط. ماريتا، هل تتذكرين عندما كانت ترقد في الفراش في الغرفة الأمامية في الربيع قبل أن تموت؟»
قالت أمي: «أتذكر أنها كانت ترقد في الفراش في تلك الغرفة. نعم.» «حسنا، دخل أبي وكانت ترقد هناك في ثوب نومها النظيف، غير مغطاة؛ لأن المرأة الألمانية جارتها ساعدتها توا في الاغتسال، وكانت لا تزال ترتب الفراش. لذا، أراد أبي أن يضفي جوا من السرور، وقال: «لا بد أن الربيع آت؛ رأيت غرابا اليوم.» كان ذلك لا شك في مارس. ردت أمي بسرعة شديدة: «حسنا، من الأفضل أن تغطيني إذن، قبل أن ينظر عبر النافذة ويفكر في فعل شيء ما!» - قال أبي إن السيدة الألمانية أسقطت وعاء الاستحمام. كان هذا صحيحا. أصبحت أمي هزيلة جدا؛ كانت تحتضر. لكنها كانت تستطيع المزاح.»
قال السيد فلورنس: «ربما يصح هذا الأمر أيضا في حال عدم وجود طائل من البكاء.» «لكن أمي كانت تستطيع أن تمضي في المزاح إلى أبعد الحدود، كانت بالفعل تستطيع ذلك. في إحدى المرات، كانت تريد أن تخيف أبي. كان من المفترض أنه مولع بفتاة كانت تأتي باستمرار في منطقة الورش. حسنا، كان رجلا ضخما، ووسيما. لذا، قالت أمي: «حسنا، سأنتحر، ويمكنك أن تعيش معها وترى كيف ستسير الأمور عندما أعود وتطاردك روحي.» طلب منها ألا تكون غبية هكذا، ثم ذهب إلى وسط البلدة. وذهبت أمي إلى المخزن وصعدت إلى مقعد ووضعت حبلا حول عنقها. ألم تفعل ذلك يا ماريتا؟ ذهبت ماريتا تبحث عنها ووجدتها على هذا الوضع!»
أحنت أمي رأسها ووضعت يديها في حجرها، كما لو كانت تستعد لتلاوة صلاة أخرى. «أخبرني أبي عن الأمر برمته، لكنني أستطيع تذكره على أي حال. أتذكر ماريتا وهي تعدو بأقصى سرعة عبر التل مرتدية ثياب نومها، وأعتقد أن المرأة الألمانية رأتها، وخرجت تبحث عن أمي، وعلى نحو ما انتهى بنا المطاف جميعا في المخزن - أنا، أيضا، وبعض الأطفال الذين كنت ألعب معهم - وها هي أمي كانت واقفة على مقعد تستعد لمفاجأة أبي مفاجأة لم يعهدها في حياته. كانت قد أرسلت ماريتا في أثره. وبدأت السيدة الألمانية في النحيب قائلة: «أوه، سيدتي، انزلي يا سيدتي، فكري في أطفالك الصغار ... فكري في أطفالك ... إلخ» حتى جئت أنا ووقفت هناك. كنت طفلة ضئيلة الحجم، لكنني كنت الوحيدة التي لاحظت جيدا ذلك الحبل. تتبعت عيناي ذلك الحبل، ورأيت أنه كان موضوعا فقط على أحد عوارض السقف، لم يكن مربوطا على الإطلاق! لم تلاحظ ماريتا ذلك، ولم تلاحظه أيضا السيدة الألمانية. لكنني تحدثت قائلة: «أمي، كيف يمكن أن تشنقي نفسك دون أن يكون ذلك الحبل مربوطا حول العارضة؟!»»
قال السيد فلورنس: «كان ذلك مزاحا ثقيلا.» «أفسدت لعبتها. صنعت السيدة الألمانية القهوة وذهبنا إليها وتناولنا بعض الحلوى، ولم تستطع ماريتا العثور على أبي على أي حال، أليس كذلك يا ماريتا؟ كان المرء يستطيع سماع ماريتا تصرخ، صاعدة التل، على مسافة مربع سكني كامل.»
قال والدي: «كان من الطبيعي أن تكون منزعجة.» «بالطبع. مضت أمي في ذلك إلى أبعد الحدود.»
قالت أمي: «كانت أمي جادة في تنفيذ هذا الأمر. كانت أكثر جدية مما تنقلينه عنها.» «كانت تقصد أن تغضبه. كانت تلك هي حياتهما معا. كان يقول دوما إنها امرأة سيئة العشرة، لكنها كانت تتمتع بمميزات أخرى كثيرة. أظن أنه كان يفتقد ذلك، مع جلاديس.»
قالت أمي، في ذلك الصوت الرتيب الذي كانت تتحدث به دوما عن أبيها: «لم أكن لأعلم ... ما قال أو ما لم يقل.»
قال أبي: «إنهما ميتان الآن. ليس لنا أن نحكم عليهما.»
قالت بيرل: «أعلم ... أعلم أن ماريتا كانت لديها دوما وجهة نظر مختلفة.»
نظرت أمي إلى السيد فلورنس وابتسمت في يسر بالغ ابتسامة عريضة: «أنا متأكدة أنك لا تعرف كيف تفسر جميع هذه الأمور العائلية.»
في المرة الوحيدة التي زرت بيرل فيها، عندما كانت بيرل سيدة عجوزا، عندما كانت البثور تنتشر في جسدها وكانت محنية جراء إصابتها بالتهاب المفاصل، قالت بيرل: «كانت ماريتا تشبه تماما أبي في كل ملامحه. ولم تكن تفعل شيئا قط بنفسها. أتذكرينها وهي ترتدي ذلك الثوب القديم من الكريب ذي اللون الأزرق الداكن عندما ذهبنا إلى الفندق في تلك المرة؟ بالطبع، أعلم أن ذلك الثوب ربما كان كل ما تملك، لكن أكان يجب أن يكون هو كل ما تملك؟ مثلما تعلمين، كنت خائفة منها بطريقة أو بأخرى. لم أستطع البقاء معها وحدي في الغرفة. لكنها كانت تتمتع بجمال لافت.» في محاولة لتذكر مرة لاحظت فيها شكل أمي، تذكرت تلك المرة في الفندق؛ بشرة أمي الشاحبة وشعرها الأبيض الملتف الكثيف، ووجهها الجميل، البشوش يبتسم في وجه السيد فلورنس، كما لو كان هو الشخص الذي يجب الصفح عنه. •••
لم تكن لدي أي مشكلة مباشرة مع رواية بيرل. أحد أسباب ذلك هو أنني كنت جائعة ونهمة، وكان جل انتباهي متوجها إلى الدجاج المشوي والبطاطس المهروسة، المسقية بالمرق، الموضوعة على طبق، إلى جانب قطعة آيس كريم، والخضراوات المقطعة الزاهية المعلبة، التي ظننت أنها أفضل كثيرا من الخضراوات الطازجة في الحديقة. تناولت للتحلية آيس كريم من الزبد والسكر البني، وهو خيار صعب إزاء الشوكولاتة. تناول الآخرون آيس كريم من الفانيليا السادة.
لماذا لا تختلف رواية بيرل للحادثة نفسها عن رواية أمي؟ كان كل شيء عجيبا في بيرل؛ كان كل شيء يتعلق بها مختلفا، يرى من زاوية جديدة. كانت رواية أمي هي التي استقرت، بعض الوقت. ابتلعت رواية بيرل، أطبقت عليها. لكن رواية بيرل لم تختف، بل ظلت مخفية لسنوات، لكنها لم تختف. كانت مثل معرفة ذلك الفندق وقاعة الطعام تلك. كنت أعرف الفندق، مع أنني لم أر فيه مكانا يرتاده المرء مرة أخرى. وحقيقة، دون مال بيرل أو السيد فلورنس، لم أكن لأستطيع أن أذهب. لكنني كنت أعلم أن الفندق كان موجودا.
كانت المرة التالية التي ذهبت فيها إلى فندق وايلدوود، في حقيقة الأمر، بعد زواجي. كان نادي الليونز يقيم مأدبة وحفلا راقصا هناك. كان الرجل الذي تزوجته، دان كيسي، عضوا في نادي الليونز. كان باستطاعة المرء تناول شراب في ذلك الفندق في ذلك الوقت. لم يكن دان كيسي ليذهب إلى أي مكان لا يستطيع المرء الذهاب إليه. ثم جدد المكان فأصبح يحمل اسم هايداواي، والآن لديهم راقصات تعر كل ليلة إلا ليالي الآحاد. في ليالي الخميس، يوجد راقص تعر. أذهب إلى هناك مع زملاء من المكتب العقاري للاحتفال بأعياد الميلاد أو الأحداث المهمة الأخرى. •••
بيعت المزرعة مقابل خمسة آلاف دولار في عام 1965. اشتراها رجل من تورونتو، كمزرعة لأغراض ترفيهية أو ربما كاستثمار. بعد عامين، أجرها ككوميون. عاش هناك أناس مختلفون، يجيئون ويروحون، مدة اثنتي عشرة سنة أو ما يقرب من ذلك. كانوا يربون الماعز ويبيعون اللبن لمتجر الطعام الصحي الذي فتح أبوابه في البلدة. رسموا قوس قزح على جانب المخزن الذي كان في مواجهة الطريق. كانوا يعلقون ملاءات ذات ألوان زاهية جدا على النوافذ، ويتركون الحشائش الطويلة والأعشاب الضارة تنتشر في الفناء. كان والداي قد استطاعا حينئذ إدخال الكهرباء للمنزل، لكن هؤلاء الأشخاص لم يستخدموها. كانوا يفضلون المصابيح الزيتية والموقد المعتمد على قطع الخشب، وكانوا يغسلون ملابسهم القذرة في البلدة. كان الناس يقولون إنهم لم يكونوا يعرفون كيف يشعلون المصابيح أو يشعلون النيران في الأخشاب، وإنهم سيحرقون المكان بأكمله. لكن الأمر لم يكن كذلك. في حقيقة الأمر، لم يسيئوا التصرف. أجروا بعض الإصلاحات على المنزل والمخزن وعملوا على زرع حديقة كبيرة. كانوا يرشون البطاطس التي كانوا يزرعونها وقاية لها من الآفات ، مع أنني سمعت أنه كان يوجد نوع من الخلاف حول هذا وهو ما جعل البعض الأكثر تشددا يرحل. بدت المزرعة أفضل حالا كثيرا من كثير من المزارع حولها التي كانت لا تزال في يد العائلات الأصلية المالكة لها. كان ابن آل ماكالستر قد بدأ عملا فاشلا في مزرعتهم. كان أخواي قد رحلا منذ وقت طويل.
كنت أعرف أنني لست عقلانية في ذلك، لكن راودني شعور أنني كنت أفضل أن أرى المزرعة تعاني من إهمال واضح - كنت أفضل أن أراها تقع في أيدي مجرمين وأفاقين - بدلا من أن أرى قوس قزح مرسوما على المخزن، وبعض الأحرف التي كانت تبدو فرعونية مرسومة على جدار المنزل. بدا ذلك كنوع من السخرية. كنت حتى لا أحب رؤية أولئك الأشخاص عندما كانوا يأتون إلى البلدة؛ الرجال يعقصون شعورهم في صورة ذيل حصان، وتوجد فتحات في ملابسهم كنت أظنها مقطوعة عمدا، وكانت شعور النساء طويلة، ولم يكن يضعن مكياجا، وكانت ترتسم على ملامحهن تعبيرات وداعة، وترفع. ماذا تعرفون عن الحياة؟ هكذا كنت أرغب في سؤالهم. ما الذي يجعلكم تظنون أنكم تستطيعون المجيء إلى هنا والسخرية من أبي وأمي وحياتهما وفقرهما؟ لكنني عندما تذكرت قوس قزح وتلك الأحرف، كنت أعلم أنهم لم يكونوا يحاولون السخرية من حياة والدي أو تقليدها. كانوا قد استبدلوا بتلك الحياة حياتهم، لا يكادون يعرفون أنها كانت موجودة. كانوا قد وضعوا مكانها معتقداتهم وعاداتهم تلك، التي كنت آمل أن تخذلهم يوما ما.
حدث ذلك، نوعا ما. تفكك الكوميون. اختفت الماعز. انتقلت بعض النساء إلى البلدة، قصصن شعورهن، ووضعن مكياجا، وحصلن على وظائف كنادلات أو صرافات لإعاشة أطفالهن. عرض الرجل الذي من تورونتو المكان للبيع، وبعد عام تقريبا بيع بقيمة تزيد عشر مرات عما كان قد دفع فيه. اشتراه زوجان شابان من أوتاوا. دهنا الواجهة الخارجية بلون رمادي فاتح بزخارف محارية، ووضعا كوات في السقف وبابا أماميا جميلا على جانبيه مصابيح عربات عتيقة. في الداخل، أجريا تعديلات كثيرة حتى قيل لي إنني لن أستطيع أن أتعرف على المكان.
دخلت ذات مرة، قبل أن يحدث ذلك، خلال العام الذي كان المنزل خاليا فيه ومعروضا للبيع. كانت الشركة التي أعمل بها تدير عملية البيع، وكان لدي مفتاح، مع أن المنزل كان يعرضه وكيل عقاري آخر. دخلت في وقت ما بعد الظهيرة في يوم أحد. كان معي رجل، ليس عميلا بل صديق، بوب ماركس، الذي كنت أواعده كثيرا في ذلك الوقت.
قال بوب ماركس عندما أوقفت السيارة: «هذا هو مكان الهيبيز. مررت بهذا المكان من قبل.»
كان محاميا، كاثوليكيا، منفصلا عن زوجته. كان يعتقد أنه يريد أن يستقر ويفتح مكتب محاماة هنا في البلدة. لكن كان يوجد محام كاثوليكي بالفعل. وكان سير الأعمال بطيئا. كان بوب ماركس يصير ثملا تماما قبل العشاء، مرتين في الأسبوع.
قلت: «هو أكثر من ذلك؛ لقد ولدت هنا، ونشأت هنا.» سرنا عبر الأعشاب، وفتحت الباب.
قال إنه يظن، من خلال طريقة حديثي، أن المكان كان أبعد كثيرا. «بدت المسافة أبعد كثيرا آنذاك.»
كانت جميع الغرف خالية، وكانت الأرضيات منظفة جيدا. كانت الأجزاء الخشبية مطلية حديثا؛ وكنت مندهشة لعدم وجود أي بقع على الزجاج. ألواح زجاجية جديدة، وأخرى قديمة مموجة. كان ورق الحائط قد أزيل عن بعض الجدران وتم طلاؤها. طلي جدار في المطبخ بلون أزرق داكن، مرسوم عليه يمامة كبيرة. على أحد الجدران في الغرفة الأمامية، كانت توجد زهور عباد شمس ضخمة، وفراشة بالحجم نفسه.
أطلق بوب ماركس صافرة، وقال: «كان أحدهم فنانا.»
قلت: «ذلك إن كنت تطلق على هذا اسم فن.» ثم استدرت إلى المطبخ. كان الموقد الخشبي لا يزال هناك. قلت: «أحرقت أمي في إحدى المرات ثلاثة آلاف دولار. أحرقت ثلاثة آلاف دولار في ذلك الموقد.»
أطلق صافرة مرة أخرى، لكن على نحو مختلف. «ماذا تعنين؟ هل ألقت بشيك في النار؟» «لا، لا. كانت أوراقا نقدية. فعلت ذلك عمدا. ذهبت إلى البنك بالبلدة وجعلتهم يعطونها المبلغ كله، في صندوق أحذية. عادت بالمبلغ إلى المنزل ووضعته في الموقد. كانت تضع مجموعة من الأوراق النقدية على دفعات، حتى لا تصنع لهبا كبيرا. وقف أبي وظل يراقبها.»
سأل بوب ماركس قائلا: «عم تتحدثين؟ كنت أظن أنكم فقراء جدا.» «كنا كذلك. كنا فقراء جدا.» «إذن، كيف كانت تمتلك ثلاثة آلاف دولار؟ يساوي ذلك ثلاثين ألف دولار اليوم. دون شك. أكثر من ثلاثين ألفا اليوم.»
قلت: «كان هذا ميراثها كان ذلك ما حصلت عليه من أبيها. مات أبوها في سياتل وترك لها ثلاثة آلاف دولار، وأحرقتها لأنها كانت تكرهه. لم تكن تريد ماله. كانت تكرهه.»
قال بوب ماركس: «هذه كراهية متناهية.» «ليست هذه هي المسألة. ليس كراهيتها له، أو ما إذا كان سيئا بما يكفي بحيث يكون لها الحق في كراهيته. على الأرجح لم يكن كذلك. ليست هذه هي المسألة.»
قال: «المال. المال هو جوهر الأشياء دوما.» «لا. كان ترك أبي لها القيام بالأمر هو جوهر المسألة. بالنسبة إلي كان الأمر كذلك. كان أبي واقفا، وكان يراقبها، ولم يعترض قط. لو كان أحد قد حاول أن يوقفها، لكان سيحميها. أعتبر ذلك حبا.» «سيعتبر البعض ذلك جنونا.»
أتذكر أن ذلك كان رأي بيرل، تماما.
ذهبت إلى الغرفة الأمامية وحدقت في الفراشة، ذات الأجنحة الوردية والبرتقالية. ثم ذهبت إلى غرفة النوم الأمامية ووجدت صورة شخصين مرسومين على الحائط، رجل وامرأة يمسك أحدهما بيد الآخر ويطلان على الناظر مباشرة. كانا عاريين، وكانا حجمهما أكبر من الحجم الطبيعي.
قلت لبوب ماركس، الذي كان قد دخل خلفي: «تذكرني هذه الصورة بصورة جون لينون ويوكو أونو، غلاف الألبوم الغنائي الخاص بهما، ألم يكن كذلك؟» لم أرده أن يظن أن أي شيء قاله في المطبخ أزعجني.
قال بوب ماركس: «لون شعر مختلف.»
كان ذلك صحيحا. كان الشخصان يمتلكان شعرا أصفر مصبوغا في كتل متماسكة، مثلما تلون الشعور في الرسوم الهزلية. كان ذيل الحصان من الشعر الأصفر يتدلى فوق كتفيهما وكانت ضفائر الشعر الأصفر تزين عورتيهما. كان لون جلدهما بيج مائلا إلى القرنفلي، وكانت عيونهما بلون أزرق باهر، بنفس درجة الزرقة الموجودة على حائط المطبخ.
لاحظت أنهم لم يزيلوا ورق الحائط تماما قبل الرسم. في الركن، كان ثمة بعض ورق الحائط في نفس لون الورق وطرازه على الجدران الأخرى، طراز حداثي من الفقاعات القرنفلية، والرمادية، والموف المتقاطعة. يبدو أن الرجل من تورونتو استخدم ورق الحائط هذا. لم يكن ورق الحائط القديم قد أزيل عندما ألصق ورق الحائط الجديد هذا. كنت أستطيع أن أرى حوافه، زهور القنطريون العنبري على خلفية بيضاء.
قال بوب ماركس في نبرة مألوفة لدي: «أظن أنهم كانوا يمارسون الجنس هنا.» تلك النبرة المتوترة، الحزينة، غير المريحة، لكن الواثقة. الشهوة غير الودودة تماما للرجال الوقورين الذين هم في منتصف العمر.
لم أقل شيئا. نظرت في بعض ورق الحائط المغطى بالفقاعات لأرى المزيد من زهور القنطريون العنبري. فجأة، لمحت جزءا مفكوكا من ورق الحائط، ومزقت جزءا كبيرا منه. لكن ها هي زهور القنطريون العنبري تظهر، أيضا، وكم من عجينة اللصق الجافة.
قلت له: «لماذا؟ قل لي لماذا لا يستطيع أي رجل أن يذكر مكانا كهذا دون أن يشير إلى موضوع الجنس في أقل من ثانيتين؟ ليس على المرء إلا ذكر كلمتي «هيبيز» أو «كوميون»، ثم سرعان ما يفكر الرجال في المضاجعة! كما لو كان لا يوجد وراء الإشارة إلى ذلك إلا العربدة واختلاط الأجساد والمضاجعة بلا توقف! أشعر بالغثيان من ذلك؛ إن الأمر برمته غاية في الغباء لدرجة تجعلني أشعر بالغثيان!» •••
في السيارة، في الطريق إلى المنزل من الفندق، جلسنا مثلما كنا نجلس من قبل؛ الرجال في المقاعد الأمامية، والنساء في الخلف. كنت أجلس في المنتصف، بيرل وأمي تجلسان على جانبي. كان جسداهما الدافئان يضغطان على جسدي، وكانت رائحتهما تطغى على روائح أشجار الأرز التي كنا نمر عبرها، والمستنقعات، حيث تعجبت من وجود زنابق الماء هناك. كانت تفوح من بيرل جميع روائح تلك الأشياء الموجودة في أوعية وزجاجات المكياج. كانت تفوح من أمي رائحة الدقيق والصابون والكريب الدافئ لثوبها الجميل والكيروسين الذي كانت تستخدمه لإزالة البقع.
قالت أمي: «وجبة رائعة، شكرا بيرل . شكرا، سيد فلورنس.»
قال أبي: «لا أعرف من سيصلح لحلب اللبن، بعد أن أكلنا على هذا النحو الفخم.»
قالت بيرل، على الرغم من أن أحدا لم يذكر ذلك: «على ذكر المال، هل تمانعين في أن تخبريني ماذا فعلت بأموالك؟ أنا استثمرت أموالي في العقارات. بالاستثمار في العقارات في كاليفورنيا لا يمكن للمرء أن يخسر. أعتقد أن بإمكانك شراء موقد كهربي؛ حتى لا تزعجك عملية إشعال النيران في الصيف أو تتعبي نفسك في استخدام موقد الكيروسين.»
ضحك جميع من كان في السيارة، حتى السيد فلورنس.
قال أبي: «هذه فكرة جيدة يا بيرل. يمكن أن نستخدمه لوضع الأشياء عليه حتى تتوفر لدينا الكهرباء.»
قالت بيرل: «أوه، يا إلهي. كم أنا غبية!»
قالت أمي في ابتهاج، كما لو كانت تكمل المزحة: «ولا نملك المال أيضا.»
لكن بيرل تحدثت في حدة. «كتبت إلي أنك حصلت على المال. حصلت على نفس المبلغ الذي حصلت عليه.»
استدار أبي نصف استدارة في مقعده. وقال: «أي مال تتحدثين عنه؟ ما هذا المال؟»
قالت بيرل: «من تركة أبي، المبلغ الذي حصلت عليه العام الماضي. انظر، ربما لم يكن يجدر بي أن أسأل. إذا كان عليك تسديد أي ديون، فلا يزال ذلك استخداما جيدا للمال، أليس كذلك؟ لا يهم. كلنا عائلة واحدة هنا، تقريبا.»
قالت أمي: «لم نكن مضطرين لاستخدام المال في تسديد أي ديون. لقد أحرقته.»
ثم ذكرت كيف ذهبت إلى البلدة في الشاحنة، في أحد الأيام قبل عام مضى، وطلبت منهم أن يضعوا لها المال في صندوق كانت قد أحضرته لهذا الغرض. عادت بالصندوق إلى المنزل، ووضعت المال في الموقد، وأحرقته.
استدار أبي ونظر إلى الطريق أمامه.
كنت أستطيع الشعور بتلوي جسد بيرل إلى جانبي بينما كانت أمي تتحدث. كانت تتلوى، وتتأوه قليلا، كما لو كانت تتألم بشكل لم تستطع إخفاءه. في نهاية القصة، عبرت عن دهشتها ومعاناتها، من خلال زمجرة غاضبة.
قالت: «إذن أحرقت المال! أحرقت المال في الموقد!»
كانت أمي لا تزال تشعر بالابتهاج: «تتحدثين كما لو كنت قد أحرقت أحد أبنائي.» «لقد أحرقت فرصهم. أحرقت كل شيء كان هذا المال يستطيع أن يجلبه لهم.» «آخر ما يحتاج إليه أبنائي هو المال. لا يحتاج أي منا ماله.»
قالت بيرل في غلظة: «هذه جريمة.» ورفعت صوتها تجاه المقعد الأمامي قائلة: «لماذا تركتها تفعل ذلك؟»
قالت أمي: «لم يكن هناك، لم يكن أحد معي.»
قال أبي: «هذا مالها يا بيرل.»
قالت بيرل: «مهما كان الأمر، هذه جريمة.»
قال السيد فلورنس: «الجريمة هي ما يستدعي أن تطلب الشرطة لأجله.» وكما هو الحال بالنسبة للأشياء الأخرى التي تفوه بها ذلك اليوم، أفضى قوله هذا إلى خلق حالة من الدهشة والعرفان.
عرفان لم يشعر به الجميع.
صرخت بيرل في المقعد الأمامي قائلة: «لا تتظاهر بأن ذلك ليس أكثر الأشياء التي سمعت بها جنونا. لا تتظاهر بأنك لا تعتقد ذلك! لأن الأمر كذلك، وأنت تعتقد أنه كذلك. تعتقد تماما مثلما أعتقد!» •••
لم يقف أبي في المطبخ يشاهد أمي تضع المال وسط ألسنة اللهب. لم يكن الأمر ليبدو هكذا. لم يكن يعرف بالأمر؛ يبدو الأمر واضحا تماما الآن، إن كنت أتذكر كل شيء، فأبي لم يكن يعرف بالأمر حتى ذلك الوقت من بعد ظهيرة يوم الأحد في سيارة السيد فلورنس الكرايسلر، عندما أخبرت أمي الجميع بالقصة كلها. لماذا إذن أرى المشهد واضحا تماما، مثلما وصفته لبوب ماركس (ولآخرين؛ فلم يكن هو أول من يعرف)؟ أرى أبي واقفا بجوار المائدة في وسط الغرفة - المنضدة التي تحتوي على درج للسكاكين والشوك، والمغطى بمشمع نظيف - وثمة صندوق من المال على المائدة. تضع أمي الأوراق النقدية بحذر في النيران. ترفع غطاء الموقد عن طريق السيخ المسود بيد واحدة. ويبدو والدي، الذي يقف على مقربة منها، كما لو كان لا يمنعها من عمل ذلك فحسب، بل يحميها. منظر مهيب، لكنه لا يتسم بالشطط. يصنع الناس أشياء تبدو بالنسبة لهم طبيعية وضرورية. على الأقل، يصنع أحدهم ما يبدو له طبيعيا وضروريا، ويعتقد الآخر أن أهم شيء على الإطلاق بالنسبة لهذا الشخص هو أن يفعل ما يريد، أن يمضي قدما فيما يفعل. يدركون أن الآخرين ربما لا يعتقدون كذلك. لكنهم لا يأبهون.
كم من الصعب علي أن أصدق أنني اختلقت الأمر برمته. يبدو الأمر أنه الحقيقة، إنه الحقيقة، إنه ما أعتقد أن الأمر كان عليه. لم أتوقف عن الاعتقاد في ذلك، لكنني توقفت عن سرد تلك القصة. لم أرو هذه القصة مرة أخرى قط بعد سردها لبوب ماركس. لا أعتقد ذلك. لم أتوقف عن ذلك لأن القصة، على وجه التحديد، لم تكن صحيحة. توقفت لأنني رأيت أن علي ألا أتوقع أن يراها الآخرون على النحو الذي أراها. كان علي ألا أتوقع منهم أن يستسيغوا أي جزء مما حدث. كيف أستطيع حتى أن أقول إنني أستسيغ الأمر؟ إذا كنت من هذا النوع من الأشخاص الذين يستسيغون مثل هذا، الذين يستطيعون عمل ذلك، فلم أكن لأفعل كل ما فعلت؛ أهرب من المنزل لأعمل في مطعم في البلدة عندما كنت أبلغ من العمر خمسة عشر عاما، وألتحق بمدرسة ليلية لتعلم الكتابة على الآلة الكاتبة ومسك الحسابات، وألتحق بالمكتب العقاري، وأن أصبح أخيرا وكيلا عقاريا معتمدا. لم أكن لأطلق من زوجي. لم يكن أبي ليموت في نزل المقاطعة. كان شعري سيصبح أبيض، كما كان بصورة طبيعية لعدة سنوات، بدلا من لون يطلق عليه نحاسي بلون الشروق. ولم أكن لأغير أيا من هذه الأشياء، حتى إذا كنت أستطيع.
كان بوب ماركس رجلا مهذبا، طيب القلب، في بعض الأحيان يتمتع بخيال واسع. بعد أن هاجمته على ذلك النحو، قال: «لست بحاجة إلى أن تتصرفي بغلظة.» وبعدها بدقيقة، قال: «هل كانت هذه غرفتك عندما كنت فتاة صغيرة؟» كان يظن أن ذلك كان السبب في أن ذكر ممارسة الجنس أزعجني.
رأيت أن من الأفضل أن أدعه يظن ذلك. قلت: نعم، نعم، كانت غرفتي عندما كنت فتاة صغيرة. كان من الأفضل اختلاق الأمر في الحال. تستحق لحظات العطف والتصالح الشعور بها، حتى إذا كان الفراق سيحدث عاجلا أم آجلا . أتساءل عما إذا كانت تلك اللحظات لا تحظى بالتقدير الكافي، أو يجري السعي وراءها، في العلاقات التي ينخرط بها بعض الأشخاص مثلي الآن، مثلما كانت عليه في الزيجات القديمة، التي كان يمكن فيها للحب والضغينة أن ينموا تحت السطح، في صورة مشوشة وعنيدة، حتى ليبدو أنهما موجودان طوال الوقت.
الحزاز
شيد والد ستيلا المكان كمنزل صيفي، على الأجراف الطينية المطلة على بحيرة هورون. وكانت عائلتها تطلق دوما على المكان «الكوخ الصيفي». دهش ديفيد عندما رآه للمرة الأولى؛ إذ لم يكن في المنزل أي من ذلك السحر الموجود في خشب الصنوبر ذي العقد، أو الراحة التي تجدها في العوارض الخشبية الداعمة، التي كانت تلك الكلمات تشير إليها. كان من سكان المدن، ممن كانت عائلة ستيلا تطلق عليهم «ذوي خلفية مختلفة»، ولم يذهب قط إلى أي منزل صيفي. كان المنزل ولا يزال منزلا خشبيا بسيطا، عاليا، ومطليا باللون الرمادي، نسخة في واقع الأمر من بيوت المزارع القديمة القريبة، وإن كان ربما أصغر حجما. توجد أمامه أجراف منحدرة - ليست أجرافا عالية جدا، أيضا، لكنها صمدت حتى الآن - ومجموعة طويلة من الدرجات المفضية إلى الشاطئ. يوجد خلف المنزل حديقة صغيرة مسيجة، حيث تزرع ستيلا الخضراوات بمهارة ومثابرة كبيرتين، وممر رملي قصير، وأجمة من شجيرات التوت الأسود البري.
عند دخول ديفيد بالسيارة إلى الممر، تخرج ستيلا من هذه الشجيرات، حاملة مصفاة ممتلئة بالتوت. ستيلا امرأة قصيرة، بدينة، ذات شعر أبيض، ترتدي بنطال جينز وتي- شيرت قذرا. لا ترتدي أي شيء تحت هذه الملابس، قدر ما يستطيع أن يرى، لدعم أو تقييد أي جزء من أجزاء جسدها.
يقول ديفيد، وهو يدخن: «انظري إلى ما حدث لستيلا، لقد تحولت إلى قزم قبيح.»
تقول كاثرين، التي لم تلتق ستيلا من قبل قط، في أدب: «حسنا. هي أكبر سنا.» «أكبر من ماذا يا كاثرين؟ من المنزل؟ من بحيرة هورون؟ من القط؟»
ثمة قط نائم على الممر إلى جانب حديقة الخضراوات. قط بني كبير أذناه مقطوعة جراء معارك مع قطط أخرى، مع وجود مساحة رمادية فوق إحدى عينيه. اسمه هركليز وكان كبيرا في السن جدا.
تقول كاثرين في تحد: «هي أكبر سنا.» حتى في تحديها، لا تزال وديعة. «تعرف ما أقصد.»
يعتقد ديفيد أن ستيلا تفعل ذلك عن عمد. لا يتعلق الأمر باستسلامها لمسألة تقدمها في السن وما يتبع ذلك من تغيرات طبيعية في الشكل؛ لا، الأمر يتعدى ذلك بكثير. كانت ستيلا تضخم الأمور دائما. لكن ليست ستيلا وحدها في هذا. يوجد نوع من النساء يخرج عن الإطار الأنثوي في مثل هذا العمر؛ فتتباهى بسمنتها أو هزالها الشديد، وتنتشر البثور في بشرتها والشعر في وجهها، وترفض أن تغطي ساقيها الهزيلتين بارزتي الأوردة، وتكون سعيدة بذلك، كما لو كان هذا هو ما كانت تريده دوما. النساء الكارهات للرجال، منذ الصغر. لا يستطيع المرء أن يقول شيئا كهذا علنا هذه الأيام.
ركن ديفيد السيارة قريبا جدا من شجيرات التوت، قريبا أكثر مما ينبغي، بحيث سبب مشكلة لكاثرين، التي كان عليها أن تتفادى الأشجار وتخرج من السيارة من ناحية المقعد المجاور للسائق. كاثرين نحيفة بما يكفي، لكن ثوبها يتألف من تنورة طويلة وأكمام فضفاضة طويلة. ثوب قطني ذو خيوط متشابكة، تتدرج ألوانه من القرنفلي إلى الأحمر، تنتشر فوقه ثنيات صغيرة، غير منتظمة تبدو مثل التغضنات. ثوب جميل لكنه لا يصلح حيث تقيم ستيلا. علقت شجيرات التوت الأسود به من كل موضع، مما كلف كاثرين عناء كبيرا حتى تخلص نفسها.
تقول ستيلا: «ديفيد، كان بإمكانك أن تفسح لها مساحة أكبر.»
تضحك كاثرين على ورطتها. وتقول: «أنا بخير، أنا على ما يرام.»
يقول ديفيد، مقدما كلا إلى الأخرى: «ستيلا، هذه كاثرين.»
تقول ستيلا في تعاطف: «هل تريدين بعض التوت يا كاثرين؟ وأنت يا ديفيد؟»
يهز ديفيد رأسه رافضا، لكن كاثرين تلتقط حبتين. تقول: «رائعة، دافئة من الشمس.»
تقول ستيلا: «لقد سئمت منظرها.»
عن قرب، يبدو مظهر ستيلا أفضل؛ ببشرتها الناعمة، السمراء، وشعرها المقصوص كالأطفال، وعينيها البنيتين الواسعتين. كاثرين، التي كانت تنحني لتكلمها، امرأة طويلة، ضعيفة البنية، نحيلة، شقراء، وذات بشرة حساسة. بشرتها حساسة أكثر مما ينبغي حتى إنها لا تتحمل وضع مكياج على الإطلاق، وتتهيج بسهولة من البرد، والأطعمة، والمشاعر. مؤخرا، تضع مكياج عين أزرق اللون وماسكرا سوداء، التي يعتقد ديفيد أنها لا تلائمها. يظهر تسويد رموشها الخفيفة عينيها ذات اللون الأزرق الزاهي، التي تبدو كما لو كانت لا تستطيع تحمل ضوء النهار، فضلا عن جفاف البشرة تحتها. عندما التقى ديفيد كاثرين للمرة الأولى، قبل ثمانية عشر شهرا تقريبا، كان يظن أن سنها فوق الثلاثين بقليل. رأى آثارا لا تزال متبقية من أيام الصبا؛ كان يحب شعرها الأشقر وبنيتها الطويلة الضعيفة. ظهرت عليها آثار العمر منذ ذلك الحين. وكانت أكبر مما كان يظن أصلا، كانت تقترب من الأربعين.
تقول كاثرين لستيلا: «ماذا ستفعلين به؟ هل ستصنعين مربى؟»
تقول ستيلا: «صنعت ما يقرب من خمسة ملايين برطمان من المربى حتى الآن. أضعها في برطمانات صغيرة ذات أغطية مصنوعة من نسيج قطني مخطط، وأعطيها لجيراني الذين من الكسل أو الذكاء بحيث لا يقطفون ثمارهم. في بعض الأحيان، لا أعرف لماذا لا أدع سخاء الطبيعة يتعفن على الأشجار.»
يقول ديفيد: «هذا التوت لا يوجد على الأشجار، بل على تلك الشجيرات الشائكة المريعة التي يجب قطعها وحرقها. وبهذا سيكون ثمة مكان لركن السيارات.»
تقول ستيلا لكاثرين: «استمعي إليه، لا يزال يتحدث كزوج.»
كان ديفيد وستيلا متزوجين لمدة واحد وعشرين عاما. وانفصلا منذ ثماني سنوات.
تقول ستيلا في ندم: «هذا صحيح يا ديفيد، يجب أن أزيل هذه الشجيرات. توجد قائمة طويلة بالأشياء التي لم أستطع القيام بها. هيا ادخلا وسأبدل ملابسي.»
يقول ديفيد: «علينا أن نتوقف عند متجر الخمور ... لم يكن لدي وقت.»
مرة كل صيف، يأتي ديفيد زائرا، جاعلا موعد الزيارة قرب موعد عيد ميلاد والد ستيلا قدر ما يستطيع. يجلب دوما الهدية نفسها؛ زجاجة من ويسكي السكوتش. هذا هو عيد ميلاد حميه السابق الثالث والتسعون. يقيم حموه في نزل لرعاية المسنين على مسافة أميال قليلة من منزل ستيلا ، بحيث تستطيع أن تزوره مرتين أو ثلاثا أسبوعيا.
تقول ستيلا: «علي أن أغتسل ... وأرتدي ثوبا زاهيا. لا من أجل أبي؛ فهو كفيف تماما الآن، لكني أعتقد أن الآخرين يحبون ذلك؛ فمظهري وأنا مرتدية ثوبا قرنفليا أو أزرق أو أيا ما شابه يدخل السرور عليهم مثلما تدخل البالونات السرور. لديكما متسع من الوقت لتناول شراب سريع. حقيقة، يمكنكما أن تصنعا واحدا لي أيضا.»
تسير أمامهما، كلهم في صف واحد، عبر الممر إلى المنزل. لا يحرك هركليز ساكنا.
تقول ستيلا: «حيوان كسول ... تسوء حالته مثل أبي. هل تظن أن المنزل في حاجة إلى طلاء يا ديفيد؟» «نعم.» «كان أبي يقول ذلك كل سبع سنوات. لا أعرف، أفكر في كسوة الجدران الخارجية للمنزل بالألواح. سأحصل على المزيد من الحماية من الرياح. حتى عندما هيأت المنزل لفصل الشتاء، أشعر في بعض الأحيان كأنني أعيش في صندوق شحن مفتوح.»
تعيش ستيلا هنا طوال العام. في البداية، كان يمكث معها أحد أبنائها. لكن بول يدرس علم الغابات في أوريجون حاليا، وتدرس ديردري في مدرسة لغة إنجليزية في البرازيل.
تقول كاثرين: «لكن هل يمكنك أن تحصلي على لون مثل ذلك في الغطاء الخارجي الذي تريدينه للمنزل ... هذا لون جميل جدا، ذلك اللون الرائع الحائل بفعل الطقس.»
تقول ستيلا: «كنت أفكر في اللون الكريمي.» •••
وحدها في هذا المنزل، في هذه البلدة، تعيش ستيلا حياة لا فراغ فيها وفي بعض الأحيان حياة محمومة. الأدلة على هذا في كل مكان حولهما وهما يمران عبر الشرفة الخارجية الخلفية والمطبخ وصولا إلى غرفة المعيشة. ها هي بعض النباتات التي ترعاها في أصص، والمربى التي أشارت إليها، لم توزعها جميعها بل تنتظر، مثلما تقول، أسواق المنتجات المخبوزة الخيرية ومعرض الخريف. ها هي آلتها لصنع الخمر. ثم في غرفة المعيشة الطويلة، المطلة على البحيرة، آلتها الكاتبة، تحيطها أكوام من الكتب والأوراق.
تقول ستيلا: «أكتب مذكراتي.» تدور عيناها حول كاثرين. «سأتوقف لأتلقى دفعة نقدية. لا، كل شيء على ما يرام يا ديفيد. أكتب مقالا عن المنارة القديمة.» تشير إلى المنارة لكاثرين. «تستطيعين أن تريها من هذه النافذة إذا نظرت من حافتها لأقصى اليمين. أكتب مقالا للجمعية التاريخية والجريدة المحلية. مؤلفة ناشئة تماما.»
إلى جانب عضويتها في الجمعية التاريخية، تقول ستيلا إنها عضوة في مجموعة لقراءة المسرحيات، وفرقة كورال كنسية، وناد لصناعة الخمور، ومجموعة غير رسمية يرفه الأعضاء بعضهم عن بعض من خلال حفلات عشاء أسبوعية تكلفتها ثابتة (منخفضة).
تقول: «حتى نختبر براعتنا ... دوما نختبر شيئا ما.» هذا تقريبا الجزء المنظم من الأمر. أصدقاؤها متنوعون. أشخاص تقاعدوا هنا، ممن عاشوا في بيوت ريفية أعيد تجديدها أو أكواخ صيفية أدخلت عليها تعديلات لتتلاءم مع الشتاء، وشباب من خلفيات متنوعة استقروا في البلدة، واشتروا مزارع صخرية قديمة لا يعبأ بها أصحابها الأصليون من المزارعين. وطبيب أسنان محلي وصديقه، وهما مثليان. «نتمتع هنا بدرجة كبيرة من التسامح الآن.» هكذا تصيح ستيلا التي دخلت الحمام وتبلغ ما تقول بصوت أعلى من صوت مياه الاستحمام. «لا نصر على مسألة أن يكون لكل شخص رفيق يذهب معه من الجنس الآخر. هذا أمر طيب بالنسبة لنا نحن الزوجات العجائز. يوجد نحو ست منا. إحدانا تعمل في مجال النسيج.»
يصيح ديفيد من المطبخ قائلا: «لا أجد ماء الصودا.»
ترد: «في العلب. الصندوق الذي على الأرض بجوار الثلاجة. تمتلك هذه المرأة أغناما. المرأة العاملة في مجال النسيج. تمتلك مغزلا خاصا بها. تغزل الصوف ثم تنسجه ملابس.»
يقول ديفيد بصوت خفيض: «اللعنة.»
أغلقت ستيلا الصنبور، وبدأت في رش المياه. «كنت أظن أنك ستحب ذلك. أترى، لم أشطط بعيدا. أنا لا أصنع سوى المربى.»
في لحظة، تخرج ستيلا معها منشفة ملفوفة حولها، وهي تقول: «أين شرابي؟» الأطراف العليا من المنشفة مطوية معا تحت أحد ذراعيها، والأطراف السفلى تتدلى بشكل غير محكم. تتناول شرابا من مزيج من ماء الصودا والجين. «سأتناوله وأنا أرتدي ملابسي. لدي ثوبان صيفيان جديدان، أحدهما بلون برتقالي مائل للحمرة والآخر فيروزي. أستطيع أن أمزج بين الملابس. في كلتا الحالتين، سأبدو رائعة.»
تخرج كاثرين من غرفة المعيشة لتناول شرابها، وتأخذ أول رشفتين كما لو كانت تتناول كوبا من الماء.
تقول في حماس خفيف: «أنا معجبة بهذا المنزل ... معجبة فعلا. منزل في منتهى البساطة والتواضع. مليء بالضوء. كنت أحاول أن أفكر بم يذكرني، والآن أعرف. هل شاهدت قط فيلم إنجمار بيرجمان القديم، ذلك الذي تعيش عائلة فيه في منزل صيفي على جزيرة؟ منزل متهالك جميل. جن جنون الفتاة. أتذكر أنني كنت أحدث نفسي قائلة وقتها، هكذا يجب أن تكون المنازل الصيفية، وهي لا تبدو كذلك أبدا.»
يقول ديفيد: «الفيلم الذي كان الرب فيه على هيئة هليكوبتر ... وكانت البنت تعبث مع أخيها في قاع المركب.»
تقول ستيلا من الجانب الآخر لحائط غرفة النوم: «لم نمر بشيء مثير هنا ... لا أستطيع أن أقول إنني أحببت يوما أفلام بيرجمان. كنت أظنها دوما أفلاما تتسم بالكآبة وتتناول الاضطرابات النفسية.»
يقول ديفيد لكاثرين: «تنتشر الأحاديث هنا سريعا ... هل تلاحظين كيف لا يبلغ أي من التقسيمات الداخلية هنا السقف؟ اللهم إلا غرفة النوم، نشكر الرب. يساعد هذا على وجود حياة عائلية على نحو كبير.»
تقول ستيلا: «متى كنا أنا وديفيد نريد قول شيء خاص، كنا نضطر إلى أن نخفي رءوسنا تحت الأغطية.» تخرج من غرفة النوم مرتدية بنطالا فيروزيا ضيقا وبلوزة بلا أكمام. توجد زهور وسعف نخيل فيروزية على البلوزة على خلفية بيضاء. على الأقل، تبدو ستيلا مرتدية صدرية. يمكن رؤية حمالة فاتحة اللون، منغرسة في لحم كتفها.
تقول: «أتذكر في إحدى الليالي عندما كنا في الفراش ... وكنا نتحدث عن شراء سيارة جديدة، وكنا نتساءل عن عدد الأميال التي تقطعها سيارة بها جالونات وقود عددها كذا، لا أذكر كم تحديدا. حسنا، كان أبي دوما مولعا بالسيارات، كان يعرف كل شيء، وفجأة سمعناه يقول: «ثمانية وعشرين ميلا للجالون الواحد»، أو أيما كان ما قال، كما لو كان يجلس هناك على الجانب الآخر من الفراش. بالطبع، لم يكن موجودا، كان يرقد في الفراش في غرفته. لم يكترث ديفيد كثيرا لذلك، واكتفى بالرد قائلا: «أوه ، شكرا سيدي.» كما لو كان أبي جزءا من حديثنا كله!» •••
عندما خرج ديفيد من متجر الخمور، في القرية، كانت ستيلا قد فتحت نافذة السيارة وكانت قد بدأت في الحديث مع زوجين قدمتهما إليه باسم رون وماري. كانا في منتصف الستينيات تقريبا من عمرهما، لكن كانا حسني المظهر وذوي بشرة داكنة. كانا يرتديان بنطالين عليهما نقوش مربعة، وقميصين ثقيلين طويلي الأكمام أبيضي اللون، وقبعتين عليهما نقوش مربعة.
يقول رون: «سررت لمقابلتك ... إذن أنتما هنا لتريا كيف يعيش الأشخاص البارعون!» يمتلك صوتا مبتهجا يوحي بضربات الملاكمة الخادعة، واللكمات المراوغة. «متى ستتقاعدان وتأتيان هنا وتنضمان إلينا؟»
جعل ذلك ديفيد يتساءل ما إذا كانت ستيلا أخبرتهما عن انفصالهما. «لم يحن دوري بعد حتى أتقاعد.» «تقاعدا مبكرا! هذا ما يفعله الكثيرون هنا! أخرجنا أنفسنا من الروتين كله؛ الجد في العمل، والكدح، وكسب المال، والإنفاق.»
يقول ديفيد: «حسنا، لا يشملني هذا الأمر ... لست سوى موظف حكومي. نحصل على أموال دافعي الضرائب ونحاول ألا نقوم بأي عمل على الإطلاق.»
تقول ستيلا، مؤنبة إياه، مثلما تفعل الزوجة: «هذا ليس صحيحا ... يعمل في وزارة التعليم ويعمل بجد. لن يقر بذلك أبدا.»
تقول ماري، في سرور: «مجرد مستنزف! كنت أعمل في أوتاوا - كان ذلك منذ وقت طويل جدا - وكنا نطلق على أنفسنا مستنزفين! مستنزفين حكوميين. موظفين.»
لا تعتبر ماري بأي حال من الأحوال بدينة، لكن حدث شيء لذقنها عادة ما يحدث لذقون النساء البدينات. تقوض ذقنها إلى مجموعة من الأخاديد المفضية إلى عنقها.
يقول رون: «لننح هذا المزاح جانبا ... هذه حياة رائعة. لن تصدقا كم الأشياء التي نقوم بها. اليوم يكاد لا يكفينا.»
يسأل ديفيد قائلا: «هل لديكما الكثير من الهوايات؟» يبدو الآن جادا تماما، رزينا ومصغيا.
هذه نبرة منذرة لستيلا، ولذلك تحاول أن تشتت انتباه ماري. «ماذا ستفعلان بالقماش الذي جلبتماه من المغرب؟» «لم أقرر بعد. يمكن عمل ثوب رائع لكنه لا يناسبني على الإطلاق. ربما ينتهي بي المطاف إلى أن أضعه كغطاء على الفراش.»
يقول رون: «يوجد الكثير من الأنشطة، التي يستطيع المرء المواظبة عليها للأبد. هناك على سبيل المثال التزحلق على الجليد. السير لمسافات طويلة. أمضينا تسعة عشر يوما في شهر فبراير خارج المنزل. الطقس جميل هذا العام. لا نضطر إلى الذهاب إلى أي مكان بعيد. لا نفعل سوى الذهاب إلى الممر الخلفي ...»
يقول ديفيد: «أحاول أن أواظب على متابعة هواياتي أيضا ... أعتقد أن ذلك يحافظ على شباب الإنسان.» «لا مراء في ذلك!»
كان ديفيد يضع إحدى يديه في الجيب الداخلي لسترته. أخرج شيئا يحتفظ به في راحة يده، وأراه لرون مبتسما في استنكار.
وقال: «هذه إحدى هواياتي.» •••
يسأل ديفيد لاحقا: «هل ترغبين في رؤية ما أريت رون؟» كانا يقودان السيارة عبر الأجراف في الطريق إلى نزل المسنين. «لا، شكرا.»
يقول ديفيد في سرور: «آمل أن يكون رون قد أعجب به.»
يبدأ في الغناء. كان قد التقى هو وستيلا بينما كانا يغنيان أغاني المادريجال الجماعية في الجامعة. أو هكذا تقول ستيلا للآخرين. كانا يغنيان أغاني أخرى، أيضا، بخلاف تلك الأغاني. تحب ستيلا أن تقول: «كان ديفيد شابا نحيفا بريئا، يمتلك صوتا عذبا من أعلى طبقات الصوت الرجولية، بينما كنت أنا شابة صغيرة، ممتلئة القوام، شرسة، أمتلك صوتا عميقا عريضا من الطبقة الثانية من طبقات الصوت الرجولية ... لم يكن ثمة شيء يستطيع أن يفعله حيال الأمر. قدر.» «يا حبيبتي، أين تتجولين؟» هكذا يغني ديفيد، الذي ما زال يمتلك صوتا جميلا إلى اليوم، قائلا:
يا حبيبتي، أين تتجولين؟
يا حبيبتي، أين تتجولين؟
أوه، امكثي واسمعي، حبيبك الحقيقي آت،
أوه، امكثي واسمعي، حبيبك الحقيقي آت،
الذي يستطيع الغناء، بصوت مرتفع وبصوت خفيض.
على الشاطئ، على جانبي منزل ستيلا، توجد حواجز منخفضة صخرية وسط سياجات سلكية، ممتدة بطول الماء. هذه الجدران هدفها حماية الشاطئ من التآكل. فوق أحد هذه الجدران، تجلس كاثرين، تنظر إلى الماء، فيما يطير نسيم البحيرة ثوبها الرقيق وشعرها الطويل. يمكن التقاط صور رائعة لها في هذا الوضع. ربما يمكن استخدام صورتها في الإعلان عن شيء ما، هكذا تحدث ستيلا نفسها، سواء أكان شيئا حميميا جدا، وربما يكون شيئا مثيرا للاشمئزاز، أو شيئا محترما جدا ورائعا جدا، مثل التأمين على الحياة.
تقول ستيلا: «كنت أنوي أن أسألك ... هل ثمة خطب ما في عينيها؟»
يسأل ديفيد: «عينيها؟» «نظرها. يبدو أنها لا تستطيع تركيز نظرها جيدا، عن مقربة. لا أعرف كيف أصف ذلك.»
تقف ستيلا وديفيد عند نافذة غرفة المعيشة. بعد العودة من نزل المسنين، يحمل كل منهما شرابا جديدا ومنعشا. لم يكادا يتحدثان في طريق عودتهما إلى المنزل، غير أن الصمت لم يكن مفعما بأي مشاعر عدائية. يشعران بالتأدب والأنس معا إلى حد بعيد. «لا توجد مشكلة في بصرها حسبما أعلم.»
تذهب ستيلا إلى المطبخ، تتناول الشواية، وتتبل قطعا من لحم الخنزير بفصوص من الثوم وأوراق المريمية الطازجة.
يقول ديفيد، بينما يقف على مدخل غرفة المعيشة: «أتعرفين، توجد رائحة تفوح من النساء ... يحدث هذا عندما يعرفن أن الرجال لم يعودوا يرغبون فيهن. رائحة سخيفة.»
تواصل ستيلا تتبيل اللحم.
تقول: «يجب تجديد أسلاك تلك الحواجز ... تهالك السلك وانثنى في بعض المواضع. يجب أن ترى ذلك. قوة الماء. يستطيع الماء نحر السلك الصلب. سأنظم حفل عمل هذا الخريف. سأعد الكثير من الطعام، وسأدعو بعض الضيوف، وسأتأكد من أن عددا لا بأس به يتمتع بصحة جيدة. هذا ما نفعله جميعا.»
تضع الشواية داخل الفرن وتغسل يديها. «إنها كاثرين التي كنت تخبرني عنها الصيف الماضي، أليس كذلك؟ هي من قلت إنها تميل إلى الغرابة.»
يزمجر ديفيد قائلا: «قلت ماذا؟» «تميل إلى الغرابة.» تصدر ستيلا جلبة في المكان، متناولة التفاح والبطاطس، والبصل.
يقول ديفيد، الذي يدخل إلى المطبخ ليقترب منها: «حسنا، أخبريني ... أخبريني ماذا قلت.» «هذا هو كل شيء. لا أتذكر أي شيء آخر.» «ستيلا. أخبريني كل ما قلت عنها.» «لا أتذكر، حقيقة. لا أتذكر.»
بالطبع هي تتذكر. تتذكر بدقة نبرة الصوت التي قال بها «تميل إلى الغرابة.» نبرة الكبرياء والسخرية في صوته. في غمار الحب، يمكن الاعتماد عليه في الحديث عن المرأة في نقد رقيق، بل حتى في دهشة. يحب أن يقول إن في الأمر جنونا، لا يستطيع أن يستوعبه، يستطيع أن يرى بوضوح أن هذه المرأة ليست من النوع الملائم له على الإطلاق. ومع ذلك، مع ذلك، مع ذلك. ومع ذلك فإن الأمر خارج عن إرادته، لا يستطيع مقاومته. قال لستيلا إن كاثرين تؤمن بالأبراج، وإنها نباتية، وترسم صورا غريبة بها أشكال صغيرة محاطة بفقاعات بلاستيكية.
تقول ستيلا، مذعورة فجأة: «اللحم المشوي ... هل ستأكل اللحم؟» «ماذا؟» «هل ستأكل كاثرين لحما؟» «ربما لا تأكل أي شيء. ربما تكون مشوشة أكثر مما ينبغي.» «أصنع مزيجا من التفاح والبصل. سيكون هذا ملائما. ربما ستأكل ذلك.»
في الصيف الماضي، قال: «لا تزال تعد نفسها من الهيبيز، حقيقية. لا تعرف حتى إن هذا العصر قد انقضى. لا أعتقد أنها تقرأ الصحف على الإطلاق. ولا تملك أدنى فكرة عما يجري في العالم. إلا إذا سمعت بذلك من عرافة. هذا هو تصورها عن الواقع. لا أعتقد أنها تستطيع قراءة خريطة. تسير وفق حدسها فقط. هل تعرفين ماذا فعلت؟ ذهبت إلى أيرلندا لترى كتاب كيلز (مخطوطة الكتاب المقدس المضاءة الكبيرة الشهيرة). كانت قد سمعت أن كتاب كيلز موجود في أيرلندا؛ لذا، ذهبت على متن طائرة إلى مطار شانون، وعندما وصلت، سألت أحد الأشخاص عن كيفية الوصول لرؤية كتاب كيلز. وفي النهاية، وجدت الكتاب!»
سألت ستيلا كيف حصلت هذه المخلوقة الغريبة على المال لتذهب في رحلة إلى أيرلندا.
قال ديفيد: «أوه، لديها وظيفة ... وظيفة ما. تدرس الفن بدوام جزئي. الرب وحده يعلم ماذا تدرس. تعلم الطلبة أن يرسموا حسب أبراجهم، مثلما أظن.»
يقول: «توجد امرأة أخرى. لم أخبر كاثرين. هل تظنين أنها تشعر بذلك؟ أظن ذلك. أظن أنها تشعر بذلك.»
يستند على الطاولة، ويشاهد ستيلا وهي تقشر التفاح. يضع يده في جيبه الداخلي، وقبل أن تدير ستيلا رأسها بعيدا يخرج إحدى الصور الفوتوغرافية الفورية ويضعها أمام عينيها.
يقول: «هذه فتاتي الجديدة.»
تقول ستيلا، مع توقفها عن التقشير بالسكين: «تبدو مثل الحزاز ... فيما عدا أنه داكن قليلا. تبدو لي مثل طحلب على صخرة.» «لا تكوني غبية يا ستيلا. لا تتخابثي. انظري إليها جيدا. ألا ترين ساقيها؟»
تضع ستيلا السكين جانبا وتدقق النظر في الصورة في إذعان. يوجد صدر بارز بعيدا في الأفق. وكانت الرجلان تمتدان في مقدمة الصورة. كانت الساقان منفرجتين؛ ناعمتين، ذهبيتين، رائعتين، كأنهما عمودان أثريان. وبينهما توجد تلك البقعة الداكنة التي أطلقت ستيلا عليها الطحلب أو الحزاز. لكنها تبدو حقيقة أقرب إلى جلد داكن لحيوان، رأسه وذيله وقدماه مقطوعة. جلد داكن ناعم لأحد القوارض سيئة الحظ.
تقول في صوت متعقل: «حسنا، أستطيع أن أرى ذلك الآن.» «اسمها دينا. تبلغ من العمر اثنين وعشرين عاما.»
لن تطلب منه ستيلا أن ينحي الصورة جانبا، أو حتى أن يتوقف عن حملها أمام وجهها.
يقول ديفيد: «إنها فتاة سيئة ... أوه، إنها فتاة سيئة! ذهبت إلى مدرسة الراهبات. لا توجد فتيات سيئات مثل فتيات مدارس الراهبات عندما يقررن أن يتصرفن في طيش! كانت طالبة في كلية الفنون حيث تدرس كاثرين. تركتها. وتعمل الآن نادلة في حانة.» «لا يبدو هذا تصرفا منحلا أخلاقيا بالنسبة إلي. كانت ديردري تعمل نادلة في حانة لفترة أثناء دراستها الجامعية.» «دينا ليست مثل ديردري.»
أخيرا، ينزل ديفيد يده التي تحمل الصورة، وتلتقط ستيلا سكينها وتواصل تقشير التفاح. لكن ديفيد لا ينحي الصورة جانبا. يشرع في تنحيتها جانبا، ثم يعدل عن رأيه.
يقول: «الساحرة الصغيرة ... إنها تعذب روحي.»
يبدو صوته عندما يتحدث عن تلك الفتاة بالنسبة إلى ستيلا مصطنعا على نحو مميز. لكن من هي حتى تقرر، خاصة مع ديفيد، ما هو مصطنع وما هو غير مصطنع؟ صوته المميز هذا نوعا ما مرتفع النبرة، رتيب، مصر، ذو عذوبة قاسية متعمدة. من يريد أن يكون قاسيا معه، ستيلا، كاثرين، نفسه؟ تطلق ستيلا تنهيدة أعلى صوتا وأكثر سخطا مما كانت تقصد، وتضع تفاحة وهي نصف مقشرة. تتجه إلى غرفة المعيشة وتنظر من النافذة.
تصعد كاثرين الحاجز. أو تحاول أن تفعل ذلك. يشتبك ثوبها في الأسلاك.
تقول ستيلا، متعجبة من نبرة شريرة في صوتها: «هذا الثوب القديم يسبب لها متاعب كثيرة اليوم.» «ستيلا. أود أن تحتفظي بهذه الصورة لي.» «أنا أحتفظ بها؟» «أخشى أن أريها لكاثرين. كثيرا ما أرغب في ذلك. أخشى أن أفعل ذلك.»
كانت كاثرين قد خلصت نفسها، ولمحتهما عند النافذة. تلوح، وتلوح لها ستيلا في المقابل.
تقول ستيلا: «أنا واثقة أن لديك غيرها ... صورا غيرها.» «ليس معي. المسألة أنني أريد أن أعذبها.» «إذن لا تفعل.» «تجعلني أريد أن أعذبها. تتعلق بي بنظراتها المنتحبة تلك. تتناول أقراصا. أقراصا لتحسين المزاج. تسكر. في بعض الأحيان أعتقد أن أفضل شيء أفعله هو أن أفجعها فاجعة كبرى. أطلق عليها رصاصة الرحمة. رصاصة الرحمة يا كاثرين. ها أنت ذي. الفاجعة الكبرى. لكنني قلق مما ستفعله.»
تقول ستيلا: «أقراص لتحسين المزاج ... أقراص لتحسين المزاج ورفع الروح المعنوية، رفعها إلى أعلى!» «أنا جاد يا ستيلا. إنها أقراص قاتلة.» «هذا شأنك.» «هذا مضحك جدا.» «لم أكن أقصد أن يكون الأمر على هذا النحو. لكن عندما ينفلت شيء كهذا مني، أتظاهر دوما أنني كنت أقصد هذا الأمر. أنسب كل فضل ممكن في الأمر إلي!» •••
يشعر هؤلاء الثلاثة بأنهم أفضل في وقت العشاء أكثر مما قد يتوقع أي منهم. يشعر ديفيد بأنه أفضل؛ لأنه تذكر أن ثمة كابينة هاتف تقع في الجهة المقابلة لمتجر الخمور. تشعر ستيلا بأنها أفضل دوما عندما تطهو وجبة وتخرج الوجبة في أفضل صورة. أما أسباب كاثرين في الشعور بأنها أفضل فأسباب كيميائية.
الحوار ليس صعبا. تحكي ستيلا قصصا صادفتها عند قيامها ببعض البحث لكتابة مقالها، عن غرق السفن في منطقة البحيرات العظمى. تحظى كاثرين ببعض المعلومات عن غرق السفن. لكاثرين رفيق - رفيق سابق - يعمل غواصا. يتمتع ديفيد بالشجاعة الكافية حتى يقر بشعوره بالغيرة من هذا الرفيق، ولا يأبه بسماعها وهي تتحدث عن قدراته في الغوص في المياه العميقة. ربما تكون هذه هي الحقيقة.
بعد العشاء، يقول ديفيد إنه في حاجة إلى السير قليلا. تخبره كاثرين أن يذهب وحده. تقول في حبور: «هيا اذهب ... لا نحتاجك هنا. سنقضي أنا وستيلا وقتا طيبا معا بدونك!»
تتساءل ستيلا عن مصدر صوت كاثرين الجديد هذا، هذا الصوت الجريء، الأحمق، اللعوب نسبيا. لا يفعل الشراب ذلك. إن ما تناولته كاثرين، أيا ما كان، جعل ذهنها أكثر توقدا، لا أكثر تبلدا. تطايرت طبقات عديدة من الاعتذار الرقيق، والتملق الحذر، والشجاعة، والأمل عبر هذا النسيم المصطنع السريع.
لكن عندما تنهض كاثرين وتحاول أن تخلي المائدة، يتضح أن التوقد ليس جسديا. تصطدم كاثرين بأحد أركان الطاولة. إن كاثرين تجعل ستيلا تتصور أنها أشبه بشخص مبتور الأطراف، بترا لا يشمل جزءا كبيرا من الأطراف، بل فقط أطراف أصابع اليدين وربما أصابع القدمين. تتابعها ستيلا ببصرها، وتتناول منها الأطباق قبل أن تنزلق.
تقول كاثرين: «هل لاحظت شعره؟» يعلو صوتها ويهبط مثل عجلة الملاهي؛ ينخفض ويتلألأ. «إنه يصبغه!»
تسأل ستيلا في دهشة حقيقية: «هل يفعل ديفيد ذلك؟» «في كل مرة يفكر في الأمر، يميل رأسه إلى الخلف، بحيث لا يستطيع المرء أن يقترب أكثر مما ينبغي منه. أعتقد أنه كان يخشى أن تقولي شيئا. يخشاك قليلا. حقيقة، يبدو شعره طبيعيا جدا!» «لم ألحظ ذلك حقا.» «بدأ في صباغة شعره قبل شهرين. قلت له: «ديفيد، فيم يفيد ذلك؟ كان شعرك قد بدأ يشيب عندما أعجبت بك، هل تظن أن هذا سيزعجني الآن؟» الحب غريب، يفعل أشياء غريبة. ديفيد حقا شخص حساس؛ شخص سريع التأثر.» تنقذ ستيلا كأس خمر كادت تسقط من بين أصابع كاثرين. «قد يجعل الحب المرء خسيسا، قد يجعله شخصا خسيسا. إذا شعر المرء باعتماده على أحد، فيمكن أن يصير خسيسا معه. أفهم ذلك في ديفيد.»
تشربان عسلا مخمرا على العشاء. هذه هي المرة الأولى التي تجرب ستيلا فيها هذه الجرعة من العسل المخمر المنزلي، وها هي الآن ترى كم هو طيب، وجاف، ولامع. كان يبدو مثل الشامبانيا. تتأكد مما إذا كان لا يزال ثمة أي كمية أخرى متبقية في الزجاجة. نصف كوب تقريبا. تصبها لنفسها، تضع كوبها خلف الخلاط، تشطف الزجاجة. تقول كاثرين: «تعيشين حياة طيبة هنا.» «أعيش حياة طيبة. نعم.» «أشعر أن هناك تغييرا سيحدث في حياتي. أحب ديفيد، لكنني غرقت في هذا الحب طويلا. أكثر مما ينبغي. هل تعلمين ماذا أعني؟ كنت في الأسفل أنظر إلى الأمواج وبدأت أقول: «يحبني، لا يحبني.» أفعل ذلك كثيرا. ثم قلت في نفسي: حسنا، الأمواج لا نهاية لها، بخلاف زهرة الأقحوان. أو حتى خطواتي، إذا بدأت في عدها حتى نهاية المربع السكني. حدثت نفسي قائلة، لا تنتهي الأمواج أبدا. لذا أدركت أن هذه رسالة لي.» «دعي الأواني يا كاثرين. سأهتم بها لاحقا.»
لماذا لا تقول ستيلا: «اجلسي، أستطيع أن أفعل ذلك بمفردي أفضل منك»؟ كان هذا شيء تقوله عادة لمن يقدمون المساعدة ممن هم أقل كفاءة من كاثرين. لا تقول ذلك لأنها تحذر أمرا ما. تبدو حالة كاثرين غاية في الهشاشة والوهن. قد يؤدي انهيارها إلى نتائج لا تحمد عقباها.
تقول كاثرين: «يحبني، لا يحبني ... هكذا تمضي الأمور. تمضي إلى الأبد. ذلك ما كانت الأمواج تحاول أن تخبرني إياه.»
تقول ستيلا: «فقط من باب الفضول ... هل تؤمنين بالأبراج؟» «هل تعنين أنني قرأت طالعي؟ لا، ليس حقيقة. أعرف أناسا فعلوا ذلك. فكرت في الأمر. أعتقد أنني لا أومن بهذا الأمر بما يكفي حتى أنفق مالا عليه. أطالع هذه الأشياء في الصحف في بعض الأحيان.» «هل تطالعين الصحف؟» «أقرأ أجزاء منها فقط. تصلني إحدى الصحف. لا أقرؤها كلها.» «وهل تأكلين اللحم؟ تناولت لحم خنزير على العشاء.»
لا يبدو أن كاثرين تمانع في أن يجري استجوابها، أو أن تلاحظ حتى أن هذا استجواب. «حسنا، أستطيع أن أعيش على تناول السلاطات، خاصة في هذا الوقت من العام. لكنني آكل اللحم من وقت إلى آخر. أنا نباتية لا تتمتع بعزيمة كبيرة. كان رائعا، هذا اللحم المشوي. هل أضفت ثوما إليه؟» «ثوما ومريمية وإكليل الجبل.» «كان لذيذا.» «يسعدني ذلك.»
تجلس كاثرين فجأة، وتمد رجليها الطويلتين بطريقة صبيانية، جاعلة ثوبها يسقط بينهما. يثب هركليز، الذي ظل نائما طوال فترة العشاء على المقعد الرابع، على الجانب الآخر من المائدة، وثبة قوية ويستقر في حجرها.
تضحك كاثرين وتقول: «قط مجنون.» «إذا ضايقك، فاضربيه كي يذهب بعيدا.»
متحررة الآن من الحاجة إلى متابعة كاثرين بعينيها، تنهمك ستيلا في حك الأطباق ورصها، وشطف الأكواب، وتنظيف المائدة، ونفض المفرش، ومسح أسطح المطبخ. تشعر بالرضا وبالحيوية الكاملة. تتناول رشفة من العسل المخمر. تمر كلمات من أغنية عبر رأسها، لكنها لا تدركها حتى خرجت كلمات قليلة من هذه الأغنية على شفتيها وعرفت أنها نفس الأغنية التي كان ديفيد يغنيها، في وقت مبكر من اليوم. «إن ما هو قادم ليس مؤكدا!»
تصدر كاثرين صوت شخير خفيف، وتحرك رأسها إلى أعلى. لا يخاف هركليز، لكنه يحاول أن يستقر أكثر، ناشبا مخالبه في ثوبها.
تقول كاثرين: «هل كان ذلك أنا؟»
تقول ستيلا: «أنت في حاجة إلى بعض القهوة ... تماسكي. ربما لا يجدر بك أن تخلدي إلى النوم الآن.»
تقول كاثرين في عناد: «أنا متعبة.» «أعلم ذلك. لكن يجدر بك ألا تخلدي إلى النوم الآن. تماسكي، وسأجلب لك بعض القهوة لتنعشك.»
تتناول ستيلا منشفة من الدرج، تنقعها في مياه باردة، ثم تضعها على وجه كاثرين.
تقول ستيلا: «ما رأيك؟ ... أمسكي بها، وسأعد لك بعض القهوة. لن أدعك تنامين هنا لن يتوقف ديفيد عن الحديث في سخافة عن الأمر. سيقول إن السبب في ذلك يعود إلى العسل المخمر الذي أعددته أو إلى طعامي أو صحبتي، أو أي شيء آخر. تماسكي يا كاثرين.» •••
يبدأ ديفيد، في كابينة الهاتف، في مهاتفة دينا. ثم يتذكر أن المكالمة لمكان بعيد. عليه أن يطلب عاملة الهاتف. يطلب عاملة الهاتف، يسألها عن تكلفة المكالمة، يفرغ ما في جيبه من العملات المعدنية. ينتقي دولارا وخمسة وثلاثين سنتا من فئة ربع دولار وعشرة سنتات، يرصها فوق الرف. يبدأ في مهاتفة دينا مرة أخرى. أصابعه مرتعشة، راحتا يده متعرقتان. تنتشر في رجليه ومعدته وصدره حركات اضطراب متزايدة. تضطرب أحشاؤه عند سماع أول رنة للهاتف، في شقة دينا الضيقة. هذا جنون. يبدأ في وضع أرباع الدولارات في ماكينة الهاتف.
تقول عاملة الهاتف: «سأقول لك متى تضع العملات ... سيدي؟ سأخبرك متى تضع العملات.» تصلصل أرباع الدولارات في طريقها للنزول إلى مكان استعادة المبلغ المتبقي، ويستطيع ديفيد إخراجها بصعوبة بيده. يرن جرس الهاتف مجددا، الموجود على تسريحة منزل دينا، وسط كومة مستحضرات المكياج، والكولونات، والعقود والسلاسل، والأقراط الطويلة المريشة، وفلتر سجائر سخيف، ومجموعة من الألعاب الصغيرة. يستطيع أن يراها، الضفدعة الخضراء، البطة الصفراء، الدبة البنية، جميعها في حجم واحد. الضفادع والدببة متساوية. توجد أيضا بعض الوحوش الفضائية، مصنوعة وفق شخصيات في أحد الأفلام. عند تشغيلها، ستتمايل هذه الألعاب وتصلصل على الأرضية أو على المنضدة، مصدرة شررا من فمها. تحب أن تقيم سباقات، أو تضع لعبتين في مسار اصطدام. ثم تطلق صرخة حادة، بل تصرخ في إثارة، أثناء تحرك الألعاب بطريقة غير متوقعة. «لا يبدو أن ثمة أحدا يجيب يا سيدي.» «دع الهاتف يرن بضع مرات أخرى.»
يقع حمام دينا عبر الردهة. تشاركها إياه فتاة أخرى. إذا كانت في الحمام، حتى ولو في حوض الاستحمام، فكم تستغرق من الوقت حتى تقرر ما إذا كانت ستجيب على الهاتف؟ يقرر أن يبدأ في عد عشر رنات أخرى، بدءا من الآن. «لا تزال لا توجد أي إجابة، سيدي.»
عشر أخرى. «سيدي، هل ترغب في أن تحاول مرة أخرى لاحقا؟»
يضع سماعة الهاتف، مفكرا في شيء. في الحال، في حماس بالغ، يطلب دليل الهاتف. «لأي مكان، سيدي؟» «تورونتو.» «تفضل، سيدي.»
يطلب رقم شخص يدعى مايكل ريد. لا، لا يعرف عنوان الشارع. لا يعرف إلا الاسم، اسم آخر رفيق لها، والذي ربما لم تقطع علاقتها به بعد. «لا يوجد أحد لدي اسمه مايكل ريد.» «حسنا. جربي ريدي، ر-ي-د-ي.»
يوجد بالفعل شخص يدعى إم ريدي، يقطن في طريق دافينبورت. لا يدعى مايكل لكن على الأقل الحرف الأول من اسمه إم تحققي من ذلك، إذن. هل يوجد أحد يدعى إم ريد؟ ريد؟ نعم. نعم ، يوجد إم ريد، يقطن في شارع سيمكو. وشخص آخر يدعى إم ريد يعيش في شارع هاربورد. لماذا لم تقل عاملة الهاتف ذلك من قبل؟
يختار الشخص الساكن في شارع هاربورد بالحدس. لا يبعد هذا الشارع كثيرا عن شقة دينا. تخبره موظفة الهاتف بالرقم. يحاول أن يتذكره. لا يوجد لديه ما يكتب به. يشعر بأهمية عدم الطلب من موظفة الهاتف تكرار الرقم أكثر من مرة. يجب ألا يكشف عن وجوده هنا في كابينة هاتف دون قلم حبر أو قلم رصاص. يبدو له أن طريقته الملحة الماكرة جلية، وأنه في أي لحظة من اللحظات قد تحجب عنه أي معلومات، لن يسمح له بمعرفة أي معلومات أخرى عن إم ريد أو إم ريدي، في شارع هاربورد أو سيمكو أو طريق دافينبورت، أو أي مكان آخر.
عليه أن يبدأ من جديد الآن. كود تورونتو. لا، بل إعادة مهاتفة موظفة الهاتف. الرقم الموجود في الذاكرة. سريعا، قبل أن يفقد أعصابه، أو ينسى الرقم. إذا كانت ستجيب، فماذا سيقول؟ لكن، أليس من غير المحتمل ألا تجيب، حتى إذا كانت موجودة. سيجيب إم ريد، ثم سيسأل ديفيد عن دينا، لكن ربما لن يكون هذا بصوته الطبيعي. ربما لن يجيب بصوت رجل على الإطلاق. اعتاد على التحدث بأصوات مختلفة عبر الهاتف. استطاع خداع ستيلا في إحدى المرات.
ربما يقلد صوت امرأة، تتحدث في صوت رفيع. أو صوت طفلة، صوت أخت صغيرة. «هل دينا هنا؟» «أستميحك عذرا يا سيدي؟» «لا شيء. آسف.» «الهاتف يرن الآن. سأخبرك متى تضع العملات.»
ماذا إذا كان إم ريد امرأة؟ ليس مايكل ريد على الإطلاق. ماري ريد. امرأة عجوز على المعاش. فتاة ذات تطلعات مهنية. لماذا تهاتفني؟ معاكسة. أعود إلى دليل الهاتف إذن. جربي إم. ريد في شارع سيمكو. جربي إم ريدي في شارع دافينبورت. واصلي محاولات الاتصال. «أنا آسفة. لا يبدو أن ثمة أي إجابة.»
يرن جرس الهاتف مرة بعد أخرى في شقة، أو منزل، أو غرفة إم ريد. يستند ديفيد على الرف المعدني، حيث تقبع العملات المعدنية. تتوقف سيارة في الساحة أمام متجر الكحول. يراقبه الزوجان في السيارة. يبدو أنهما يريدان استخدام الهاتف. ومن يدري فقد يأتي رون وماري بعد ذلك.
توجد شقة دينا فوق متجر لبيع المنتجات المستوردة من الهند. تفوح من ملابسها وشعرها دوما رائحة الكاري، وجوزة الطيب، والبخور، بالإضافة إلى ما يظن ديفيد أنه رائحتها الطبيعية، من السجائر، والمواد المخدرة، والجنس. شعرها مصبوغ باللون الأسود الفاحم. يحمل خداها آثار لون صارخ، ويبدو جفناها في بعض الأحيان باللون الأحمر الطوبي. حاولت ذات مرة أن تؤدي دورا في فيلم كان بعض الأشخاص الذين كانت تعرفهم يصنعونه. فشلت في الحصول على الدور بسبب امتناعها عن وضع فأر مروض بين رجليها. أشعرها هذا الفشل بالمهانة.
يتصبب ديفيد عرقا الآن، محاولا ألا يمسك بها متلبسة، بل أن يلحق بها بأي حال من الأحوال، لسماع صوتها الفتي القاسي، ذي الارتعاشة العفوية والبذاءات اللصيقة به. حتى إذا كان سمعه له، في هذه اللحظة، يعني أنها تخونه. بالطبع تخونه. تخونه طوال الوقت. لو أنها فقط تجيب (كاد ينسى أن إم ريد هو من يفترض أن يجيب)، فيمكن أن يصرخ فيها، يعنفها، وإذا شعر أن قواه تخذله - سيشعر أن قواه «تخذله» - يمكن أن يرجوها. سيرحب بالفرصة، أي فرصة، على العشاء، متحدثا بحماس إلى ستيلا وكاثرين، ظل يكتب اسم دينا بأصبعه على الجانب السفلي للمائدة الخشبية.
لا يوجد لدى الناس أي صبر في ظل معاناة كهذه، لماذا يجب عليهم أن يتحلوا بالصبر؟ يجب على الشخص الذي يعاني أن يتخلى عن التعاطف، ينحي كرامته جانبا، يتكيف مع النوائب. وبالإضافة إلى كل ذلك، سيستقطع الناس من وقتهم ليقولوا له إن هذا ليس حبا حقيقيا. نوبات الرغبة والاتكال والعبادة والانحراف، هذه التحولات المرغوبة والرهيبة في آن واحد، ليس هذا حبا حقيقيا.
كانت ستيلا تخبره كثيرا بأنه لم يكن يعبأ بالحب، أو حتى الجنس. «لا أعتقد أنك مهتم حتى بالجنس يا ديفيد. أعتقد أن كل ما أنت مهتم به هو أن تكون فتى كبيرا مشاغبا.»
الحب الحقيقي، يعني ذلك الاستمرار في الحياة مع ستيلا، أو كاثرين. ربما يكون رون هو الشخص الذي من المفترض أنه يعرف كل شيء عن الحب الحقيقي.
يعرف ديفيد ما يفعله. يعتقد أن هذا هو الجانب المثير في الأمر، وقد قال ذلك. يعرف أن دينا ليست حقيقة على هذا القدر من الشراسة، أو النهم، أو الفشل، مثلما يتظاهر أنها كذلك، أو مثلما تتظاهر هي في بعض الأحيان. في غضون عشرة أعوام، لن تتحطم جراء حياتها الطائشة، لن تصير عاهرة ساحرة. ستصير امرأة يحيط بها أطفالها في المغسلة التي تعمل بالعملة. لا تنطبق كلمة «مومس» اللذيذة، القديمة في استخدامها، التي يستخدمها في وصفها، عليها؛ حقيقة، لا علاقة لها بها مثلما لا علاقة لكلمة «هيبية» بكاثرين، شخص لا يحتمل التفكير فيه الآن. يعرف إن عاجلا أم آجلا، إذا كشفت دينا عن قناعها، مثلما فعلت كاثرين، أن عليه أن يمضي في حياته. عليه أن يفعل ذلك على أي حال، يمضي في حياته.
يعرف كل هذا ويراقب نفسه، ولا تؤتي هذه المعرفة والمراقبة أي أثر على الإطلاق على معدته المضطربة، وغدد عرقه المنهمكة، وآماله المحمومة. «سيدي؟ هل تريدني أن استمر في المحاولة؟» •••
يطلق على نزل المسنين الذي زاروه، في وقت سابق من اليوم، نزل بلسان جلعاد. سمي النزل بهذا الاسم على غرار اسم أشجار بلسان جلعاد، وهي أحد أنواع أشجار الحور، التي تنمو بكثرة قرب البحيرة. النزل عبارة عن قصر حجري ضخم شيد من قبل ثري كان يعيش في القرن التاسع عشر، وصار الآن منظره مشوها بسبب الممرات المنحدرة وسلالم الطوارئ.
نادى أشخاص على ستيلا، وكانوا مقعدين على كراسي متحركة في مرج الفناء الأمامي. حيتهم بأسمائهم، وذهبت لتسلم على بعضهم وتلقي لهم بالقبلات. تتحرك هنا وهناك مثل طائر طنان بدين.
كانت تغني عندما انضمت إلى ديفيد مرة أخرى:
أنا شعاع شمسك الصغير، قصير وعريض،
أملني، وصبني!
تقول في نفس متقطع: «لا، إنه براد الشاي. لا أعتقد أنك ستشهد تغيرا كبيرا في والدي. فيما عدا أن العمى صار كليا الآن.»
قادته عبر الممرات المطلية باللون الأخضر، ذات الأسقف المنخفضة الاصطناعية (لتقليص نفقات التدفئة)، والصور التقليدية، وروائح المطهرات وغيرها. في الخارج وحيدا في إحدى الشرفات الخلفية، جلس أبوها ملفوفا في أغطية، مربوطا في كرسيه المتحرك حتى لا يسقط.
قال أبوها: «ديفيد؟»
بدا الصوت آتيا من كهف عميق مبتل داخله، لا يؤثر في نبرته شفتاه، أو فكاه، أو لسانه. لم يكن بالإمكان رؤية أي من تلك الأعضاء تتحرك. ولم يحرك حتى رأسه.
اتجهت ستيلا إلى خلف الكرسي ووضعت ذراعيها حول عنقه. تحسسته في رقة شديدة.
قالت: «نعم، هذا ديفيد يا أبي ... تعرفت على خطوته!»
لم يجب أبوها. انحنى ديفيد للمس يدي الرجل الشيخ، اللتين لم تكونا باردتين، مثلما توقع، بل كانتا دافئتين وجافتين جدا. وضع زجاجة الويسكي فيهما.
قالت ستيلا في رقة: «احذر. لا يستطيع الإمساك بها.» ظل ديفيد واضعا يديه على الزجاجة بينما دفعت ستيلا أحد المقاعد، بحيث يستطيع أن يجلس قبالة أبيها.
قال ديفيد: «نفس الهدية القديمة.»
أصدر حموه صوتا يؤمن على كلامه.
قالت ستيلا: «سأذهب لأحضر بعض الأكواب ... هذا مخالف للقواعد أن تتناول الشراب في الخارج، لكنني أستطيع أن أجعلهم يتجاوزونها قليلا. سأخبرهم أن هذا احتفال.»
حتى يعتاد النظر إلى حميه، حاول ديفيد أن يفكر فيما حدث له كنوع من النمو لما بعد الإنسان، حدث جديد في الجنس البشري. لم يحافظ بقاؤه على قيد الحياة عليه بل غيره. بشرة رمادية مائلة إلى الزرقة، ذات بقع داكنة الزرقة، وعينان مبيضتان، رقبة تظهر فيها أخاديد عميقة رقيقة، مثل زهرية من الزجاج المدخن. كانت تأتي أصوات أخرى عبر هذه الرقبة، دعوة إلى الحديث. كانت جوهر كل مقطع يصدر، حرفا متحركا واهنا لا يكاد تتضح معالمه إلا من خلال الحروف الساكنة المحيطة به. «المرور، سيئ؟»
وصف ديفيد الأوضاع على الطريق السريع الرئيسي وعلى الطرق السريعة الفرعية. أخبر حماه أنه اشترى سيارة مؤخرا، سيارة يابانية. أخبره كيف أن سيارته لم تستطع، في البداية، أن تقترب في عدد الأميال التي تقطعها لكل جالون من عدد الأميال المعلن عنها. لكنه تقدم بشكوى، وأصر على موقفه، وأعاد السيارة إلى الشركة مرة أخرى. أجريت تعديلات كثيرة، وتحسن الحال الآن، وصار استهلاك الوقود مرضيا، وإن لم يكن يتطابق تماما مع ما وعد به.
بدا هذا حوارا مرحبا به. بدا حموه متابعا له. أومأ وعلى وجهه النحيف، الطويل المائل إلى الزرقة الذي ينتمي إلى مرحلة ما بعد الإنسان، كان ثمة آثار من تعبيرات قديمة؛ تعبير من الاهتمام الحاد والمهيب؛ شك في الإعلانات وفي السيارات المستوردة وفي بائعي السيارات. كان ثمة حتى علامة شك - مثلما في الأيام الخوالي - في إمكان الوثوق في ديفيد للتعامل مع أمور كهذه جيدا. وشعر بالراحة أنه فعل ذلك. في نظر حميه، سيظل ديفيد دائما شخصا يتعلم كيف يصبح رجلا، شخصا ربما لن يتعلم أبدا ذلك، ربما لن يتعلم رجاحة العقل والتحكم في تصرفاته أبدا؛ النطاق المناسب للتصرف في الأمور. كان ديفيد، الذي كان يفضل الجين على الويسكي، يقرأ الروايات، ولم يكن يفهم في أمور البورصة، وكان يتحدث إلى النساء، وكان قد بدأ حياته المهنية معلما. ديفيد، الذي كان يقود دوما سيارات صغيرة، سيارات مستوردة. لكن لم يعد في أي من هذا مشكلة الآن. لم تعد السيارات الصغيرة تشير إلى الأشياء التي كانت تشير إليها عادة. حتى هنا على الأجراف فوق بحيرة هورون في أقصى أطراف الحياة، حدثت بعض التغيرات، بعض التحولات التي فهمها رجل لم يعد باستطاعته الاستيعاب أو الرؤية. «هل سمعت عن السيارة لادا؟»
من حسن الطالع أن لديفيد زميل عمل يمتلك سيارة من طراز لادا، وقد تحدث إليه خلال العديد من فترات الراحة المملة لتناول الغداء أو القهوة عن مواطن القوة والضعف فيها وصعوبة الحصول على قطع غيارها. ذكر ديفيد هذه الأشياء، وبدا حموه راضيا عن ذلك. «جراي. دورت، جراي-دورت. من أولى السيارات التي ظهرت. في شارع يونج. ستون ميلا. ستون ميلا. في الساعة.»
قالت ستيلا بعدما أدخلا أباها والزجاجة إلى غرفته، وودعاه، وكانا يتحدثان وهما يسيران عبر الممرات الخضراء: «قطعا لم يقد سيارة جراي-دورت قط في شارع يونج بسرعة ستين ميلا في الساعة ... قط. سيارة جراي-دورت؟ كانوا قد توقفوا عن إنتاجها قبل وقت طويل من امتلاكه المال الكافي لشراء سيارة. ولم يخاطر قط بقيادة سيارة شخص آخر. ليس هذا إلا محض خياله هو. لقد بلغ مرحلة يعيد فيها خلق الوقائع؛ إصلاح الماضي بما يجعل أي شيء كان يرغب في حدوثه واقعا. أتساءل عما إذا كنا سنبلغ هذه المرحلة؟ عم سيدور خيالك يا ديفيد؟ لا، لا تخبرني!»
قال ديفيد: «ما تصوراتك أنت؟» «أنك لم ترحل؟ أنك لم ترد أن ترحل؟ أراهن أن ذلك هو ما تظن أنها تصوراتي، لكنني لست متأكدة تماما أن هذا صحيح! كان أبي سعيدا جدا لرؤيتك يا ديفيد. يعني الرجل أكثر بالنسبة لأبي. أعتقد أنه إذا كان قد حدث نفسه بشأنك وشأني، فسيختار أن يأخذ جانبي، لكن أفضل شيء أنه لم يفكر في الأمر.»
بدت ستيلا، في نزل المسنين، كأنها استعادت بعض رقتها ورشاقتها التي كانت تتمتع بها في الماضي. أعادت لفتات الاهتمام بأبيها، بل حتى بهؤلاء المقعدين على كراسي متحركة، أثرا من البهاء المهيب إلى حركاتها، الأسى إلى صوتها. كان ديفيد يمتلك صورة لها عمرها اثنا عشر أو خمسة عشر عاما. كانت قادمة عبر حديقة في حفل بإحدى ضواحي البلدة، وهي تحمل طاجن طعام. كانت ترتدي فستانا صيفيا مكشوفا. كانت تزعم دوما في تلك الأيام أنها كانت بدينة جدا لدرجة أنها لا تستطيع أن ترتدي بنطالا، على الرغم من أنها لم تكن في نصف بدانتها الآن. لماذا كانت هذه الصورة تسره كثيرا؟ ستيلا آتية عبر الحديقة، بشعرها الذي يتخلله ضوء الشمس - جعلته خصلاته الرمادية يبدو أشقر بصبغة رمادية - وكتفيها العاريتين المائلتين للسمرة، ملقية التحيات على من يجاورها، ضاحكة، مشيرة إلى بعض الأخطاء الطفيفة في طهي الأطعمة. بالطبع كان الطعام الذي جاءت به إلى الحفل رائعا، ولم تجلب الطعام فقط بل جلبت معها الروح المنشودة في الحفل. فمن خلال طبيعتها الاجتماعية ، جمعت الحاضرين. ولم يكن ديفيد يشعر بأي حنق، على الرغم من أنه في بعض الأوقات، بالتأكيد، كانت هدايا ستيلا هذه تسبب له الحنق. كان حنقها الحماسي، ومبالغتها، ومناشداتها المازحة البريئة من أجل التعاطف يثير حنقه. وحتى تسلي الآخرين، كان قد سمعها تختلق قصصا من حياتهما؛ سوء تصرفات واستفزازات الأطفال اليومية، زيارة الطبيب البيطري من أجل علاج القط، المتاعب التي صادفها ابنها في أول مرة يشرب فيها الخمر، تعطل آلة جز الحشائش المدارة بمحرك، لصق ورق الحائط في القاعة العلوية. زوجة ساحرة، شخص رائع في حفل، تمتلك طريقة مسلية للنظر إلى الأشياء. في بعض الأحيان تثير الشغب. «زوجتك تثير الشغب.»
حسنا، سامحها على ذلك - فقد كان يحبها - بينما كانت تسير عبر الحشائش. في تلك اللحظة، كان يلمس بقدمه العارية على السمانة الباردة البنية الحليقة والحساسة، لزوجة جار آخر، التي كانت قد خرجت لتوها من المسبح ولبست رداء طويلا قرمزيا مغطيا لجسمها. امرأة ذات شعر أسود، بلا أطفال، مدخنة شرهة، تميل - على الأقل في تلك المرحلة من علاقتهما - إلى لحظات صمت محيرة. (كانت هذه هي المرأة الأولى التي يقيم علاقة معها أثناء زواجه بستيلا. روزماري، اسم غامض عذب، على الرغم من أنها امرأة شديدة الابتذال.)
لم يكن الأمر هكذا فقط. الإعجاب غير المتوقع بستيلا على طبيعتها، الشعور غير المعتاد بالسلام معها، لم يتأت من خلال ذلك فقط؛ الحركة المحرمة لإصبع قدمه الكبير. بدا الأمر عميقا، هذا الكشف عن علاقته هو وهي، كيف كانا مرتبطين معا على الرغم من كل شيء، وكيف ملأته دوما المشاعر الخيرة تجاهها، كان ما يفعله سرا من جانبه يجري بمباركتها بشكل أو بآخر.
لم يبد أن هذه فكرة كانت ستيلا تشاركه فيها على الإطلاق. ولم يكونا مترابطين هكذا، أو إذا كانا كذلك، فكانت رابطة أراد أن يتخلص منها. قالت له ستيلا ذات مرة: قضينا وقتا طويلا معا، ألا نستطيع فقط أن نستمر في ذلك؟ محاولة أن تجعل من الأمر مزحة. لم تفهم، ربما لم تفهم بعد، كيف كان ذلك من الأشياء التي جعلت الأمر مستحيلا. كانت المرأة ذات الشعر الأبيض السائرة إلى جواره في نزل المسنين تجرجر حملا ثقيلا معها، حملا لا يقتصر على أسراره الجنسية بل يشمل تأملاته في منتصف الليل حول الرب، آلام صدره التي تعود إلى أسباب نفسية، حساسية الهضم لديه، خطط هروبه، التي شملتها ذات مرة وكانت تتضمن الهروب إلى أفريقيا أو إندونيسيا. بدت حياته العادية والاستثنائية - حتى بعض الأشياء التي كان من غير المحتمل أن تعرفها - مخزنة داخلها. لم يكن يستطيع الشعور بأي نوع من الخفة، بأي نوع من التحرر السري والمنتصر، مع امرأة تعرف عنه الكثير. كانت تعرف عنه أكثر مما ينبغي. على الرغم من ذلك، وضع ذراعيه حول ستيلا. تحاضنا، بإرادة الجانبين.
كانت شابة صغيرة، صينية أو فيتنامية، ضئيلة الحجم كطفلة في زيها ذي اللون الأخضر الفاتح، واضعة أحمر شفاه ومساحيق على خديها، آتية عبر الممر، تدفع عربة. كان على العربة أكواب ورقية وحاويات بلاستيكية من عصير البرتقال والكرم.
كانت الفتاة تنادي، بصوتها الرخيم الصافي العفوي قائلة: «وقت تناول العصير ... وقت تناول العصير. برتقال. كرم. العصير.» لم تر ديفيد وستيلا، لكن ابتعد كل منهما عن الآخر، وواصلت هي السير. شعر ديفيد بعدم راحة طفيفة، طفيفة جدا، لرؤيته من جانب شابة صغيرة وجميلة كهذه في أحضان ستيلا. لم يكن ذلك شعورا مهما - فقط مر به وانقضى - لكن ستيلا، بينما كان لا يزال يمسك بالباب مفتوحا لها، قالت: «لا عليك يا ديفيد. يمكن أن أكون أختك. ربما تهدئ من روع أختك. أختك «الكبيرة».» «السيدة ستيلا، قارئة العقول المعروفة.»
كان الطريقة التي يقولان بها هذه الأشياء غريبة. كانا معتادين على قول أشياء مريرة وجارحة، ويتظاهران، عندما كانا يقولانها، بأنهما يشعران بالمتعة قليلا، بالهدوء، بل حتى بالحنو. أما الآن فتعمقت هذه النبرة التي كانت قبل ذلك نبرة متصنعة أكثر، وأكثر، عبر جميع مشاعرهما الفظة، وماتت المرارة، على الرغم من عدم اختفائها، وأصبحت بلا فائدة، ورسمية. •••
بعدها بأسبوع أو ما يقرب من ذلك، بينما ترتب غرفة المعيشة، حتى تستعد لاجتماع للجمعية التاريخية سيقام في بيتها، تجد ستيلا الصورة، صورة فورية. كان ديفيد قد تركها معها بالرغم من اعتراضها، مخفيا إياها، ولكنه لم يخفها جيدا، خلف الستائر في أحد أركان نافذة غرفة المعيشة الطويلة، عند الموضع الذي يقف المرء فيه ليرى المنارة.
وجودها في الشمس أدى إلى بهت ألوانها، بالطبع. تقف ستيلا ناظرة إليها، ممسكة فوطة تنظيف في يدها. اليوم رائع. النوافذ مفتوحة، منزلها مرتب ترتيبا رائعا، وعلى الموقد يوجد حساء سمك طيب يسوى ببطء. ترى أن البقعة الداكنة في الصورة حال لونها إلى اللون الرمادي. يبدو لونها الآن رماديا مائلا إلى الزرقة أو الخضرة. تتذكر ما قالته عندما رأتها للمرة الأولى. قالت إن البقعة حزاز، لا، قالت إن البقعة تبدو مثل الحزاز. لكنها عرفت في الحال ماذا كان حقيقة. يبدو لها الآن أنها عرفت ماذا كان تحديدا حتى بينما كان ديفيد لا يزال يضع يده في جيبه. شعرت بالشق القديم ينفتح الآن بداخلها. لكنها تماسكت. قالت: «حزاز.» وها هو الآن، انظر، تحقق ظنها. اختفى الخط المحدد لشكل الصدر. لم يكن المرء ليعرف قط أن الساقين كانتا ساقين. تحول اللون الأسود إلى الرمادي، إلى اللون الخفيف، الجاف لنبات يتغذى بطريقة غامضة على الصخور.
هذا من فعل ديفيد. تركها هناك، في الشمس.
تحققت كلمات ستيلا. سيظل هذا الخاطر يعاودها: وقفة، دقة قلب ضائعة، انكسار قصير قوي في خضم تدفق الأيام والليالي التي تمر بها.
الرجل ذو القبعتين
سأل ديفيدسون: «هل هذا الذي هناك أخوك؟ ... ما الذي يفعله؟»
اتجه كولن إلى النافذة ليرى ماذا يفعل روس. ليس شيئا ذا بال. كان روس يستخدم المقص ذا اليد الطويلة لقص الحشائش في الممر الجانبي المفضي إلى الباب الأمامي للمدرسة. كان يعمل بمعدل طبيعي وبدا منتبها إلى ما يفعل.
سأل ديفيدسون: «ماذا يفعل؟»
كان روس يرتدي قبعتين. كانت إحداهما القبعة ذات اللونين الأخضر والأبيض التي حصل عليها الصيف الماضي من متجر الأعلاف، وكانت الأخرى - التي تعلوها - القبعة العريضة القديمة المصنوعة من القش القرنفلي التي كانت أمهما ترتديها في الحديقة.
قال كولن: «لا أعرف.» كان ديفيدسون يظن أن هذا نوع من الخبث. «أتعني لماذا يرتدي قبعتين؟ لا أدري. لا أعرف حقيقة. ربما نسي.»
كان ذلك في المكتب الأمامي، خلال ساعات الدراسة فيما بعد ظهيرة يوم الجمعة، كانت السكرتيرات منكبات على مكاتبهن لكنهن كن يبقين آذانهن مفتوحة. كان لدى كولن حصة تربية رياضية في تلك اللحظة - وقد جاء إلى المكتب فقط كي يرى ماذا حدث للصبي الذي كان قد استأذن بسبب مرضه قبل نصف ساعة - ولم يكن يتوقع أن يجد ديفيدسون هناك. لم يكن مستعدا لتقديم أعذار بشأن روس.
قال مدير المدرسة: «هل هو شخص كثير النسيان؟» «ليس أكثر من العادي.» «ربما يظن أنه يبدو مضحكا بهذه الصورة.»
صمت كولن. «لدي حس فكاهة لكن يجب على المرء ألا يمزح في وجود الأطفال. تعرف كيف يتصرفون. يوجد ما يكفي كي يجعلهم يضحكون على أي حال، دون حاجة إلى المزيد. سيتخذون من أي شيء عذرا لتشتت انتباههم، ثم أنت تعرف بالطبع ماذا سيحدث بعد ذلك.»
قال كولن: «هل تريدني أن أخرج وأتحدث إليه؟» «دع الأمر الآن. يوجد تقريبا فصلان يلاحظان ما يفعله، وإن خرجت إليه الآن فسيجذب هذا انتباههم إليه أكثر. يمكن أن يتحدث السيد بوكس إليه إذا كان يجب على أحد أن يتحدث إليه. في حقيقة الأمر، تحدث السيد بوكس معي عنه.»
كان كوني بوكس مسئول النظافة والصيانة بالمدرسة، الذي كان قد عين روس لتنظيف الأرضيات في المدرسة خلال فصل الربيع.
قال كولن: «أوه! ماذا؟» «يقول إن أخاك لا يحافظ على مواعيد العمل بشكل كبير.» «هل يؤدي عمله كما هو مطلوب؟» «لم يقل إنه لم يفعل.» أعطى ديفيدسون كولن واحدة من ابتساماته مزمومة الشفاه، غير المكترثة، المبتذلة. «يميل فقط إلى أن يتصرف كيفما يرى.» •••
كان يوجد تشابه كبير بين كولن وروس في الشكل: فهما طويلا القامة، مثلما كان أبوهما، وذوا بشرة بيضاء وشعر أشقر، مثل أمهما. كان كولن يمتلك جسدا رياضيا، وترتسم تعبيرات حيية، صارمة على وجهه. كان جسم روس، على الرغم من أنه الأصغر، مترهلا من البطن؛ كان يبدو شكل جسمه غير منتظم بشكل أكبر. وكانت ترتسم على وجهه تعبيرات تبدو ماكرة وبريئة في آن واحد.
لم يكن روس متخلفا عقليا. لم يكن متخلفا عن زملائه في نفس مرحلته العمرية في المدرسة. كانت أمه تقول إنه عبقري في الأعمال الميكانيكية. ولم يكن هناك أحد آخر على استعداد للمبالغة في وصفه إلى هذه الدرجة. •••
سأل كولن أمه قائلا: «إذن؟ هل روس معتاد على الاستيقاظ في الصباح؟ هل لديه منبه؟»
قالت سيلفيا: «إنهم محظوظون أن يكون لديهم شخص مثله.»
لم يكن كولن يعلم ما إذا كان سيجدها في المنزل أم لا. كانت تعمل بنظام النوبات كمساعدة ممرضة في المستشفى، وعندما لا تكون في العمل، تكون عادة خارج المنزل. كان لديها العديد من الأصدقاء والكثير من الالتزامات.
قالت: «أنت محظوظ أنني بالمنزل ... أعمل في المناوبة الأولى هذا الأسبوع والأسبوع التالي، لكنني عادة أذهب إلى إيدي بعد العمل وأقوم ببعض أعمال التنظيف لأجله.»
كان إيدي صديق سيلفيا، رجلا أنيقا ونشيطا في السبعين من عمره، ترمل مرتين، بلا أطفال ويملك مالا كثيرا، مالك جراج متقاعد وبائع سيارات، وبالتأكيد يستطيع تحمل تكاليف تعيين أحد الأشخاص لتنظيف منزله. ماذا كانت سيلفيا تعرف عن تنظيف المنازل على أي حال؟ طوال الصيف الماضي، كانت قد تركت الغطاء الشتوي البلاستيكي موضوعا على النوافذ الأمامية حتى تتجنب مشقة خلعه وإعادة وضعه مرة أخرى. قالت زوجة كولن، جلينا، إن شكل الزجاج جعلها تشعر كما لو كانت تنظر عبر نظارات غائمة؛ لم تكن تطيق ذلك. وكان المنزل - الكوخ المغطى بالطوب العازل الذي يعيش فيه روس وسيلفيا - ممتلئا بالأثاث والأشياء القديمة، حتى إن بعض الغرف تحولت إلى ممرات. كان يتكدس فوق معظم الأسطح مجلات، وصحف، وأكياس بلاستيكية وورقية، وكتالوجات، ومنشورات، ومطويات دعائية لتخفيضات كانت موجودة ثم اختفت، وفي بعض الأحيان لشركات توقف نشاطها ولمنتجات كانت قد اختفت من السوق. ربما يجد المرء في مرمدة سجائر أو طبق مزخرف زرا أو اثنين، مفاتيح، كوبونات مقصوصة تعد بتخفيضات تصل إلى عشرة سنتات، قرطا، كبسولة دواء لعلاج البرد لا تزال في غطائها البلاستيكي، قرص فيتامين تحول إلى مسحوق، فرشاة ماسكرا، مشبك ملابس مكسورا. وكانت خزائن سيلفيا ممتلئة بجميع أنواع سوائل التنظيف ومواد التلميع؛ ليست من النوع الذي يوجد في المتاجر، بل منتجات من المفترض أنها تتمتع بفاعلية فريدة ومدهشة، تشترى في الحفلات الخيرية. تدفع سيلفيا كل أموالها مقابل تلك الأشياء التي كانت تشتريها في تلك الحفلات؛ مستحضرات التجميل، الأواني وأدوات المطبخ، أدوات الخبز، السلطانيات البلاستيكية. كانت تحب التبرع والذهاب إلى هذه الحفلات، وإلى حفلات العرائس قبل زفافهن، وإلى حفلات ميلاد الأطفال، وإلى حفلات الوداع لزملائها الذين كانوا يتركون العمل في المستشفى. هنا في هذه الغرف شديدة التكدس، كانت توزع، وحدها، قدرا كبيرا من كرم الضيافة المسرفة، المشرقة.
صبت الماء من الغلاية على القهوة المسحوقة في أكوابهما، التي كانت قد شطفتها سريعا في الحوض.
قال كولن: «هل كانت تغلي؟» «تقريبا.»
أخرجت بعض كعك المارشملو ذي اللونين القرنفلي والأبيض خارج غلافها البلاستيكي. «أخبرت إيدي أنني أريد أن آخذ فترة ما بعد الظهيرة راحة. يعتقد أنه يمتلكني.»
قال كولن: «لا يمكنني تقبل ذلك.»
كان يتخذ موقفا نقديا خفيفا عادة من رفقائها من الرجال.
كانت سيلفيا امرأة قصيرة ذات رأس كبير - صار أكبر من خلال شعرها المهوش، الآخذ في التحول إلى اللون الرمادي - وأرداف وأكتاف عريضة. كان أحد رفقائها من الرجال يقول لها إنها كانت تبدو مثل فيل صغير، وكانت تعتبر ذلك - في البداية - نوعا من الإطراء. كان كولن يعتقد أن ثمة شيئا أخرق وجذابا في مظهرها ووجهها العريض ذي البشرة قرنفلية اللون الناعمة، والعينين صافيتي الزرقة تحت حاجبين خفيفين جدا، وابتسامتها الحماسية في جميع الأوقات. كان ثمة شيء مثير للغضب أيضا.
كان موضوع روس أحد الأشياء القليلة التي تجعل وجهها يعبس. ذلك، وطلبات رفقائها من الرجال وتصرفاتهم الغريبة، عندما يبدءون في فقدان بريقهم.
هل كان إيدي على وشك أن يفقد بريقه؟
قالت سيلفيا: «أقول له إنه يشعر بأنه تملكني.» ثم أخبرت كولن مزحة كانت منتشرة في المستشفى، عن رجل أسود ورجل أبيض في المبولة.
قال كولن: «إذا كنت تعملين في المناوبة الأولى ... فكيف تعرفين متى يستيقظ روس؟» «يوجد من يشتكي من روس، أليس كذلك؟» «حسنا. يقولون إنه لا يحافظ على مواعيد العمل.» «سيكتشفون مزاياه بأنفسهم. إذا كان لديهم أي شيء ميكانيكي أو كهربي تعطل لسبب ما، فسيسرهم أن يستعينوا بروس. يمتلك روس عقلا لا يقل في رجاحته عن عقلك، لكنه يعمل في اتجاه مختلف.»
قال كولن: «لن أجادل بشأن ذلك ... لكن عمله هو تنظيف الأرضيات.»
قالت جلينا إن السبب في أن سيلفيا تقول إن روس عبقري - بغض النظر عن كونه ماهرا حقا فيما يتعلق بالمحركات - هو أنه يمتلك الجانب الآخر من العبقرية؛ فهو شارد الذهن وغير نظيف بشكل كامل. كان يسترعي الانتباه إليه. كان غريبا، وهذا هو الشكل الذي من المفترض أن يكون عليه العبقري. لكن ذلك في حد ذاته، مثلما قالت جلينا، لا يعتبر دليلا كافيا على عبقريته.
ثم كانت تقول دوما: «مع ذلك، أحب روس. لا يملك المرء إلا أن «يحبه». أحبه وأحب أمك. أحبها أيضا.» كان كولن يعتقد أنها تحب روس. لكنه لم يكن واثقا مما إذا كانت تحب أمه أم لا.
كانت أمه تقول له: «لن أذهب إلى منزلك يا كولن إلا عندما أدعى إلى ذلك ... صحيح أن هذا منزلك، لكنه منزل جلينا أيضا. على الرغم من ذلك، أنا سعيدة أن روس مرحب به هناك.»
قال كولن: «ذهبت إلى المكتب الأمامي اليوم ... وكان هناك ديفيدسون ينظر خارج النافذة.» لم يكن يعلم ما إذا كان ينبغي أن يخبر أمه أم لا عن أمر القبعتين. مثلما هي العادة، أرادها أن تنزعج قليلا بشأن روس، وإن لم يكن يريدها أن تنزعج كثيرا. بدا مشهد روس وهو يعمل هناك، حاملا المقص الكهربي، وحده تماما في فناء المدرسة - معتمرا قبعة قش قرنفلية واسعة فوق قبعة رياضية لينة - بالنسبة لكولن مشهدا جديدا، مشهدا مزعجا جديدا. كان قد رأى روس مرتديا ملابس غريبة من قبل؛ رآه ذات مرة مرتديا باروكة سيلفيا الشقراء في السوبر ماركت. كان ذلك متعمدا أكثر من مظهره اليوم، وبالتأكيد مضحكا أكثر، من وجهة نظر روس بالطبع. اليوم أيضا، ربما كان روس يفكر في جميع الأطفال الذين كانوا يشاهدونه من خلف النوافذ، والمعلمين وموظفات الآلة الكاتبة وديفيدسون وأي شخص آخر كان مارا. لكنه لم يكن يفكر فيهم تحديدا. كان ثمة شيء فيما قام به روس اليوم يوحي بتزايد عدد جمهوره وعدم وضوح ملامحهم؛ شمل جمهوره البلدة كلها، العالم كله، ولم يكن روس مباليا لكل هذا. إشارة ما، هكذا حدث كولن نفسه. لم يكن يعلم إشارة إلى ماذا؛ مجرد إشارة إلى أن روس كان يمضي قدما في الطريق الذي كان يمضي فيه.
لم يبد أن سيلفيا كانت تعبأ بهذا الجزء من القصة. كانت منزعجة، لكن لسبب آخر. «قبعتي. سيفقدها بالتأكيد. سأعنفه بشدة. سأعاقبه بعنف. ربما لا تبدو القبعة ذات قيمة كبيرة، لكنها مهمة بالنسبة لي.» •••
كانت الكلمات الأولى التي قالها روس لجلينا وجها لوجه هي: «هل تعرفين ما مشكلتك؟»
سألت جلينا، باديا عليها أمارات الانزعاج: «ماذا؟» كانت فتاة طويلة، ضعيفة البنية ذات شعر أسود متموج، وبشرة بيضاء، وعينين بلون أزرق فاتح جدا، وكانت لديها عادة العض على شفتها السفلى بأسنانها، وهو ما أضفى عليها طابعا حزينا قلقا. كانت تنتمي إلى ذلك النوع من الفتيات اللائي يرتدين عادة ملابس بلون أزرق فاتح (كانت تضع كنزة فضفاضة بنفس اللون)، وتتقلد سلسلة رقيقة حول عنقها، عليها صليب أو قلب، أو اسم ما. (كانت جلينا تعلق اسمها على السلاسل؛ لأن الناس كانوا يجدون صعوبة في هجائه.)
قال روس، وهو يلوك بلسانه في فمه ويحرك رأسه: «لعل مشكلتك الوحيدة ... هي أنني لم أعثر عليك أولا!»
تنفست الصعداء. ضحكوا جميعا. حدث هذا أثناء تناول جلينا العشاء للمرة الأولى في منزل سيلفيا. كانت سيلفيا وكولن وجلينا يتناولون طعاما سريعا صينيا - كانت سيلفيا قد رصت كومة من الأطباق والشوك وحتى المناشف الورقية إلى جانب علب الكرتون الخاصة بالطعام - وكان روس يأكل بيتزا، كانت سيلفيا قد طلبتها له خصوصا؛ لأنه لم يكن يحب الطعام الصيني.
أشارت جلينا إلى أن روس ربما يرغب في أن يأتي معهما إلى سينما السيارات تلك الليلة، وهكذا فعل. كان ثلاثتهم يجلسون أعلى سيارة كولن، وكانت جلينا تجلس في المنتصف، ويشربون الجعة.
صارت مزحة تتداولها العائلة. ماذا كان سيحدث لو أن جلينا كانت قد التقت روس أولا؟
لم تكن ستوجد أي فرصة أمام كولن.
أخيرا، اضطر كولن إلى سؤالها: «ماذا إذا كان قد قابلك أولا؟ هل كنت ستخرجين معه؟»
قالت جلينا: «روس شخص لطيف.» «لكن هل كنت ستخرجين معه؟»
بدت محرجة، وكانت هذه هي الإجابة التي كان كولن يريدها منها. «روس ليس من نمط الأشخاص الذي يمكن أن تخرجي معه.»
قالت سيلفيا: «روس، يوما ما ستعثر على فتاة رائعة.»
لكن بدا أن روس توقف عن البحث عن فتيات. توقف عن مهاتفة الفتيات والنعيق مثل ديك في الهاتف؛ ولم يعد يقود السيارة ببطء في الشارع، متقفيا أثر الفتيات، مطلقا النفير كما لو كان يرسل إشارة مورس. في ليلة سبت، في منزل كولن وجلينا، قال إنه لم يعد مهتما بالنساء؛ إذ كان من الصعب عليه العثور على امرأة مهذبة، وعلى أي حال لم يستطع تجاوز علاقته بويلما باري.
تساءلت جلينا: «من ويلما باري هذه؟ ... هل كانت توجد قصة حب بينكما، روس! متى؟» «الصف التاسع.» «ويلما باري! هل كانت جميلة؟ هل كانت تعرف شعورك حيالها؟» «نعم، نعم، نعم، أعتقد ذلك.»
قال كولن: «يا إلهي، كانت المدرسة كلها تعرف!»
سألت جلينا: «أين هي الآن يا روس؟» «رحلت. تزوجت.» «هل كانت تحبك أيضا؟»
قال روس في خضوع: «لم تكن تطيقني.»
تذكر كولن ما كانت تفعله ويلما باري؛ كيف كان روس يذهب إلى قاعات الدرس الخالية ويكتب اسمها على السبورة، في صورة نقط صغيرة من الطباشير الملون، أو قلوب صغيرة، وكيف كان يذهب لمشاهدة مباريات كرة السلة للفتيات، التي كانت تلعب فيها، وكان يقفز كالمجنون في كل مرة كانت تقترب من الكرة أو السلة. تركت الفريق. كانت تختبئ في حمام الفتيات وترسل أشخاصا كي يخبروها ما إذا كان الطريق خاليا حتى تستطيع الخروج دون أن يراها. عرف روس هذا، وكان يختبئ في خزانة المكانس حتى يفاجئها ويطلق صافرة حزينة في اتجاهها. تركت المدرسة وتزوجت وهي في السابعة عشرة. كان روس أكثر مما تستطيع أن تحتمل.
قالت جلينا: «يا للعار!»
قال روس، وهو يهز رأسه: «كنت أحب ويلما ... يا كولن، أخبر جلينا قصة الفطيرة!»
أخبرها كولن بتلك القصة، وهي قصة مفضلة لدى كل من كان في المدرسة الثانوية في ذلك الوقت. كان كولن وروس يجلبان غداءهما إلى المدرسة دوما؛ لأن أمهما كانت تعمل وكانت أسعار الطعام في الكافيتريا عالية جدا. كانا يأكلان دوما شطائر المورتاديلا والكاتشب وفطيرة يشتريانها من المتجر. ذات يوم، لم يسمح لأي من الطلاب بالمغادرة عند الظهيرة لسبب ما، ووضع الصفان التاسع والعاشر معا، وهكذا كان روس وكولن في القاعة نفسها معا. كان روس يضع غداءه على مقعده، ووسط المحاضرة التي كان الطلاب يتلقونها، اقتطع قطعة كبيرة من فطيرة التفاح وبدأ في أكلها. صرخ المدرس قائلا: «ماذا تظن نفسك فاعلا؟» دون لحظة تردد، ألقى روس بقطعة الفطيرة تحته وجلس عليها، ضاما يديه المتسختين معا التماسا للعفو.
قال روس لجلينا: «لم أقصد أن أكون مضحكا! ... لم أستطع أن أفكر فيما أفعل بتلك القطعة سوى وضعها تحتي!»
قالت جلينا، وهي تضحك: «أستطيع أن أتخيل الأمر الآن! ... أوه، روس، أستطيع أن أتخيل الأمر الآن! مثل شخصية في مسلسل تليفزيوني!»
قال روس: «ألم نخبرك بتلك القصة من قبل قط؟ ... كيف لم نفعل ذلك؟»
قال كولن: «أعتقد أننا فعلنا ذلك من قبل.»
قالت جلينا: «نعم فعلت، لكن من المضحك سماع ذلك مجددا.» «حسنا، كولن، أخبرها عن الوقت الذي أرديتني فيه قتيلا!»
قالت جلينا: «ذكرت لي ذلك، أيضا، ولا أرغب في سماع ذلك مجددا أبدا.»
قال روس، في خيبة أمل: «لم لا؟» «لأنه أمر مريع.» •••
كان كولن يعرف، عندما عاد إلى المنزل من منزل سيلفيا، أن روس سيكون قد وصل قبله، وأنه يعمل في السيارة. كان على حق. كان ذلك في نهاية شهر مايو تقريبا، وكان روس قد بدأ في العمل في السيارة في فناء منزل كولن بمجرد اختفاء الثلوج. لم يكن ثمة مكان كاف لعمل ذلك في فناء منزل سيلفيا.
توجد مساحة كبيرة لعمل ذلك هنا. كان كولن وجلينا قد اشتريا كوخا متهالكا في موضع قصي من الشارع، فيما تبقى من بستان. كانا يصلحانه. كانا قبل ذلك يعيشان فوق إحدى المغاسل، وعندما اضطرت جلينا إلى ترك عملها - كانت مدرسة، أيضا، في المرحلة الابتدائية - لأنها كانت حبلى في لينيت، قامت بإدارة المغسلة حتى يسكنا دون أن يدفعا أي إيجار ويوفرا المال. كانا يتحدثان آنذاك عن الانتقال؛ إلى مكان بعيد واسمه براق مثل لابرادور أو موسوني أو يلونايف. تحدثا عن الذهاب إلى أوروبا والتدريس لأبناء العسكريين الكنديين. في تلك الأثناء، عرض هذا المنزل للبيع، وتصادف أن كان منزلا كانت جلينا تنظر إليه وتسأل عنه عندما كانت تتنزه مصطحبة لينيت في عربة الأطفال أو حاملة إياها. كانت قد نشأت في قواعد تابعة للقوات الجوية في مناطق كثيرة في البلاد، وكانت تحب أن تنظر إلى المنازل القديمة.
قالت جلينا إنه مع كل العمل الذي كان يجب القيام به في هذا المنزل، كان الأمر يبدو كما لو كانا يعرفان أين سيكونان وماذا سيفعلان إلى الأبد.
كان لدى روس سيارتان يفك أجزاءهما ليركبها في سيارة أخرى. كانت السيارة الشيفروليه موديل عام 1958، وكانت قد وقعت لها حادثة. كان الزجاج الأمامي محطما، وكان المبرد والمروحة منتزعين من موضعهما وملتصقين بالمحرك. كانت الوصلات محترقة. لم يستطع روس أن يحدد كيف يشغل المحرك حتى فك المروحة والمبرد واللوح المعدني المحطم. ثم شغل السيارة دون مفتاح وملأ مجموعة المحرك بالمياه. دار المحرك. قال روس إنه كان يعرف أن المحرك سيدور؛ لهذا السبب اشترى السيارة، أما جسم السيارة فكان محطما لدرجة أنه لم يعد نافعا على الإطلاق. كان الجسم الذي يستخدمه لسيارة من طراز كامارو موديل 1971. كانت الطبقة العلوية من الطلاء قد سقطت عند استخدام مزيل الطلاء، وكان عليه أن يستخدم خرطوم المياه وقطع التنظيف لإزالة ما تبقى تحت تلك الطبقة. كان سيصلح الانبعاجات في سقف السيارة باستخدام مطرقة، وكان سيقطع الأجزاء الصدئة من أرضية السيارة ليضع محلها لوحا من الألومنيوم. ذلك والكثير من الأشياء الأخرى. بدا الأمر كما لو كان سيستغرق الصيف كله.
كان روس يصلح العجلات آنئذ، وكانت جلينا تساعده. كانت جلينا تصقل الإطار المعدني الداخلي للعجلة والغطاء المركزي، اللذين كانا قد فككا، بينما كان روس ينظف العجلات نفسها وكان يستخدم في ذلك فرشاة سلكية. كانت لينيت في قفص للعب الأطفال إلى جانب الباب الأمامي.
تشمم كولن الهواء بحثا عن أي آثار ناتجة عن إزالة الطلاء. لم يكن روس يستخدم كمامة، قال إنه لا حاجة لها في الهواء الطلق. كان كولن يعلم أن عليه الثقة في جلينا في ألا تعرض نفسها ولينيت لذلك. لكنه كان يتشمم، ولم يكن هناك أي شيء بالهواء، لم يكونا يستخدمان أي مزيل للطلاء. قال، من قبيل التغطية على الأمر: «يبدو الهواء مثلما في الربيع.»
قالت جلينا، التي كانت مصابة بحمى القش: «لست بحاجة إلى أن تخبرني ... أشعر بسحب حبوب اللقاح تتأهب لتتحرك في الهواء.»
سألها كولن: «هل تلقيت التحصينات اللازمة؟» «ليس اليوم.» «هذا غباء.»
قالت جلينا وهي تجري عملية الصقل في سرعة جنونية: «أعرف ... كنت سأذهب إلى المستشفى. ثم ها أنا أضيع الوقت هنا؛ أفعل هذه الأشياء وأبدو كما لو كنت منومة مغناطيسيا.»
سارت لينيت في حذر حول حواف قفص اللعب الخاص بها، ممسكة بها، ثم رفعت ذراعيها وقالت: «ألقني لأعلي يا بابا.» سر كولن بالطريقة الواضحة العملية التي قالت بها «بابا»، لا «با» مثلما يقول الأطفال الآخرون.
قال روس: «ما قررت أن أفعله هو أن أضع مزيل صدأ ثم طلاء تحويليا ثم طلاء أساس. لكن علي أن أتخلص من معجون الحشو القديم أولا بالكامل؛ لأن مزيل الطلاء قد يصل إليه وسيبدو شكله سيئا في الطلاء الجديد. سأستخدم طلاء الأكريليك. ما رأيك؟»
سأل كولن: «أي لون ستختار؟» كان يتحدث إلى مؤخرتين، كلتاهما مغطاة بالجينز. كان بنطال جلينا الجينز مقصوصا، كاشفا عن رجليها الطويلتين، البيضاوين الناعمتين. لا توجد أي قبعة على رأس روس الآن. كان متزنا بشكل لافت متى كان قريبا من سيارته. «كنت أفكر في اللون الأصفر. ثم رأيت أن اللون الأحمر يبدو دائما جميلا مع السيارة الكامارو.»
قالت جلينا: «سنأتي بمخطط الألوان ونضعه أمام لينيت وندعها تختار ... هل توافق يا روس؟ أيما كان ما ستختاره؟ ما رأيكم؟»
قال روس: «حسنا.» «ستشير إلى اللون الأحمر. تحب اللون الأحمر.»
قال كولن للينيت عندما مر بها في طريقه إلى داخل المنزل: «اهدئي.» بدأت في التذمر، في غير صراخ. جلب ثلاث زجاجات من البيرة من الثلاجة. خلال فصل الشتاء، كانوا قد أدخلوا بعض التعديلات على المنزل؛ فأزالوا ورق الحائط ومزقوا مشمع الأرضية، وحولوا المكان إلى مسرح خرجت أحشاؤه كلها. كانت توجد حشوات من مادة عازلة قرنفلية اللون مثبتة تحت ألواح من البلاستيك. كانت أكوام من الألواح الخشبية التي ستستخدم في صنع تقسيمات جديدة في المنزل متناثرة هنا وهناك حتى تجف. كان المرء يمكن أن يطأ على ألواح عريضة لينة رطبة في المطبخ. كان روس يدخل المنزل ليقدم يد المساعدة من آن لآخر، لكنه لم يعرض عليهم أي مساعدة منذ أن بدأ العمل في السيارة.
كانت جلينا قد قالت: «أعتقد أنه بدأ يفكر في السيارة عندما أدرك أنه لن يعيش معنا في المنزل.»
قال كولن: «روس يحب العبث دائما بالسيارات.»
لكن روس لم يكن يعبأ كثيرا من قبل بشكل السيارات. كان يهتم بسرعة الانطلاق والسرعة القصوى وأي صوت خطر أو مضحك يستطيع إخراجه منها. وقعت له حادثتان. ذات مرة، وقع بسيارته في مصرف وخرج سالما دون أي خدش. في المرة الثانية، كان قد سلك طريقا مختصرا، مثلما قال، عبر أرض خالية في البلدة واصطدم بكومة من القمامة كان فيها حوض استحمام قديم. عندما عاد كولن من الجامعة إلى المنزل في إجازة نهاية الأسبوع، وجد كدمات أرجوانية اللون على جانب وجه روس، وقطعا فوق إحدى أذنيه، وشرائط ملصقة على ضلوعه. «اصطدمت بحوض استحمام.»
هل كان ثملا، أو تعاطى شيئا؟
قال روس: «لا أعتقد ذلك.»
هذه المرة، كان ثمة شيء آخر يدور في خلده بخلاف زيادة سرعة السيارة والانطلاق في الشارع في حركات مراوغة يمنة ويسرة، تاركا آثار احتكاك الإطارات على الرصيف. كان يريد سيارة حقيقية، ما كانت المجلة التي كان يقرؤها تطلق عليها «سيارة فخمة». هل كان ذلك لجذب الفتيات؟ أم للتباهي داخلها وحسب، وهو يقود بأسلوب وقور مع لحظات سرعة أو زمجرة قوية من المحرك عندما ينطلق بالسيارة بعد الخروج من إشارات المرور؟ ربما هذه المرة سيقود السيارة دون إطلاق نفير خاص.
قال: «هذه السيارة لن تغدو وتجيء عبر الشارع الرئيسي مثل شخص مجنون أو تتحرك بسرعة كبيرة على الطريق الحصوي.»
قالت جلينا: «هذا صحيح ... كما حدث عند تخرجك.»
قال كولن: «الجعة»، واضعا زجاجة في مكان يستطيع روس بلوغه بسهولة.
قالت جلينا: «روس» (قالت لكولن: «شكرا لك».) «روس، عليك أن تزيل فرش الأبواب. يجب أن تفعل ذلك. يبدو شكله لا بأس به، لكن رائحته غير طيبة. أستطيع أن أشمها. هناك.»
جلس كولن مع لينيت على درجة السلم على ركبة واحدة، مدركا أنه لن يثير موضوع عدم محافظة روس على مواعيد العمل، هذا بخلاف موضوع القبعتين. لن يذكر روس أن هذا هو العمل الأول الذي يحصل عليه خلال أكثر من عام. كان متعبا جدا، ويشعر الآن بسلام داخلي كبير. يرجع بعض هذا الشعور بالسلام الداخلي إلى ما تفعله جلينا. لم تكن جلينا تتعاون مع أي شخص غريب الأطوار تماما، أو تشارك في القيام بأي شيء لا طائل من ورائه. وها هي، تنظر إلى وجهها في أغطية العجلات، وتتشمم فرش السيارة، وتأخذ روس وسيارته على محمل الجد؛ حتى إن كولن عندما خرج من السيارة ورآها جاثمة، تصقل الأشياء، كان يرغب في أن يسألها هل كانت الأمور ستسير على هذا النحو طوال الصيف، في ظل انشغالها الشديد بسيارة روس مما لن تجد معه وقتا للعمل في المنزل. كان سيندم الآن إذا كان قد قال ذلك. ماذا سيفعل إذا لم تكن تحب روس، إذا لم تكن قد أحبته من البداية ووافقت على أن يكون موجودا معهما باستمرار؟ عندما قال روس الشيء الخطأ الوحيد، أثناء المقابلة الأولى، وابتسمت جلينا، ليس في أدب أو في تعال بل في دهشة وسرور حقيقيين، شعر كولن بارتياح كبير. شعر منذ ذلك الحين أنه لن يتحمل عبء روس الثقيل وحده، وأنه وجد من سيشاركه في تحمل هذا العبء. لم يكن يعول على سيلفيا في هذا الأمر قط.
كان الخاطر الآخر الذي جال بعقل كولن دنيئا بكل ما تحمل الكلمة من معان. لن يفعل روس ذلك أبدا. كان روس محتشما. كان وجهه يتجهم وتبدو عليه علامات الاشمئزاز ويبدو كما لو كان في طريقه إلى البكاء عندما يكون هناك مشهد جنسي في الأفلام. •••
في صباح السبت، كان ثمة كيس كبير من قطع الدجاج المجمد الآخذة في الذوبان على طاولة المطبخ، وهذا ذكر كولن بأن جلينا كانت قد دعت سيلفيا وإيدي وصديقتها - صديقتهما - نانسي على العشاء.
كانت جلينا قد ذهبت إلى المستشفى، سائرة، واضعة لينيت في عربة الأطفال، لتتلقى تحصينات حمى القش. كان روس يعمل أثناء ذلك. وقد جاء إلى المنزل ووضع شريطا لاصقا، تاركا الباب مفتوحا حتى يستطيع سماعه. كانت جلينا تحب سماع أغنية «عربات النار». كان روس يستمع عادة إلى الموسيقى الريفية والغربية.
كان كولن قد عاد لتوه من متجر مواد البناء، الذي لم يوصل لهم ألواح السقف التي طلبها منهم، على الرغم من وعوده الكثيرة بذلك. خرج ينظر إلى الحشائش التي كان قد زرعها السبت الماضي، قطعة من الحشائش على جانب المنزل، محاطة بسياج من السلك. رواها ببعض الماء، ثم راقب روس وهو يصقل العجلات بورق السنفرة. قبل أن يمضي وقت طويل ودون أن يقصد ذلك تماما، صار يصقل العجلات هو الآخر. كان الأمر يبدو كتنويم مغناطيسي، مثلما قالت جلينا، ولم يكن المرء يملك إلا أن يفعل ذلك. بعد صقلها بما يكفي، كان يجب طلاؤها بطلاء أساس (كان يحمي الإطارات من الطلاء بشريط لاصق وورق واق)، وعندما جف طلاء الأساس، كان يجب حكها بحشوة من النحاس وتنظيفها مرة أخرى باستخدام مزيل شمع وشحوم. كان روس قد خطط لذلك كله.
ظلوا يعملون طوال الصباح ثم طوال فترة ما بعد الظهيرة. أعدت جلينا شطائر هامبورجر للغداء. عندما أخبرها كولن أنه لن يستطيع تركيب ألواح السقف الخاصة بالمطبخ؛ لأن الألواح لم تكن قد جاءت بعد، قالت إنه لن يستطيع العمل في المطبخ على أي حال؛ لأنها ستصنع نوعا من الحلوى.
ذهب روس إلى الجزء الراقي من البلدة واشترى رشاش طلاء وطلاء بلون فحمي معدني، فضلا عن مادة تلميع آرمر-أوول للإطارات. كانت تلك فكرة جيدة؛ فقد سهل الرشاش كثيرا عملية الوصول إلى تجاويف العجلات. •••
وصلت نانسي في منتصف فترة ما بعد الظهيرة تقريبا، وهي تقود سيارتها الشيفروليه الأنيقة الصغيرة، وترتدي ملابس جديدة غريبة؛ بنطالا قصيرا فضفاضا، طويلا نسبيا، وبلوزة كانت أقرب إلى حقيبة بها فتحتات صنعت من أجل الرأس والذراعين، وكانت تلك البلوزة باللون البني ومربوطة عند الوسط بحزام قرنفلي رث طويل. كانت نانسي قد عينت ذلك العام لتدريس اللغة الفرنسية للطلبة من سن الحضانة إلى الصف الثامن، وهو ما كان أحد المتطلبات الجديدة للوظيفة. كانت فتاة ممشوقة القوام، شاحبة اللون، منبسطة الصدر، ذات شعر مجعد، بلون الذرة الصفراء، ووجه ترتسم عليه أمارات الذكاء، والحزن. وجدها كولن جذابة ومزعجة في آن واحد. جاءت مثل صديقة قديمة، حاملة معها جعتها وألبوماتها الموسيقية. تحدثت مع لينيت، وابتدعت لها اسما؛ ويني-ويني. لكن صديقة قديمة لمن؟ قبل سبتمبر الماضي، لم يكن يعرفها أي منهم. كانت في أوائل الثلاثينيات، وكانت قد عاشت مع ثلاثة رجال مختلفين، ولم تكن تعتقد قط أنها ستتزوج. في المرة الأولى التي التقت فيها سيلفيا وإيدي، أخبرتهما عن الرجال الثلاثة الذين كانت تعيش معهم وعن عقاقير الهلوسة التي كانت تتناولها. كانت سيلفيا قد حثتها على البوح، بالطبع. لم يكن إيدي يعرف أسماء عقاقير الهلوسة التي كانت تتحدث عنها. كانت تخبر من تتحدث معه عن أحوالها في كل مرة تراه. لم تكن تتحدث عن أنها مصابة بالصداع، أو بالبرد، أو لديها تضخم في الغدد، أو أن قدميها متقرحتان، بل كانت تتحدث عن اكتئابها أو نشوتها أو أي مما كانت تشعر به. وكانت تتحدث على نحو غريب عن هذه البلدة. كانت تتحدث عنها كما لو كانت مادة، كتلة، كما لو كان الناس فيها ملتصقين معا، وكما لو كانت الكتلة - بالنسبة إليها - لها خواص غريبة ومحبطة عادة.
قالت نانسي: «رأيتك بالأمس يا روس.» كانت تجلس على درجة السلم، بعد أن فتحت زجاجة جعة وأدارت ألبوم جوان أرماتريدنج «أظهر لي بعض المشاعر». نهضت ورفعت لينيت من قفص اللعب. «رأيتك في المدرسة. كنت رائعا.»
قال كولن: «توجد أشياء في كل مكان هنا يمكن أن تضعها في فمها. صواميل صغيرة وأشياء أخرى. عليك مراقبتها.»
قالت نانسي: «سأراقبها. ويني-ويني.» كانت تدغدغ لينيت بطرف حزامها.
قالت باللغة الفرنسية: «السيد ذو القبعتين» وأضافت: «كان جميع طلاب الصف الثالث ينظرون خارج النافذة وأبدوا إعجابهم بك. هذا ما قررنا أن نطلق عليك. السيد ذو القبعتين. السيد ذو القبعتين.»
قال كولن: «نعرف بعض الفرنسية. لكن يبدو الاسم غريبا.»
قال روس: «لا أعرف ... لا أعرف عما تتحدث.»
قالت نانسي، مدغدغة لينيت: «أوه، روس ... ألست دبتي الحبيبة الصغيرة، ويني-ويني الصغيرة؟ روس، كنت رائعا. يا له من مصدر للراحة فيما بعد ظهيرة يوم جمعة طويل، مرهق، ممل.»
كانت لنانسي طريقة في الحديث تجعل روس يتجهم. خلف ظهرها، كان يقول عنها عادة إنها مجنونة. «أنت مجنونة يا نانسي. لم تريني قط. أنت تتخيلين أشياء. تعانين من ازدواج الرؤية.»
قالت نانسي: «أنا متأكدة ... تماما، أيها السيد ذو القبعتين. إذن، ماذا تفعل هنا؟ أخبرني. هل تفكك السيارات؟»
قال كولن: «نطلي هذه العجلات الآن.» لم يكن روس ليقول شيئا.
قالت نانسي: «تلقيت دورة ذات مرة ... تلقيت دورة في أساسيات الميكانيكا حتى أعرف ماذا يجري في سيارتي ولا أضطر إلى الذهاب إلى الورشة وأتحدث في صوت رفيع مثل فتاة صغيرة.» ثم تحدثت بصوت رفيع مثل شابة صغيرة قائلة: «أوه، يوجد صوت غريب تحدثه السيارة. هلا تخبرني من فضلك ماذا يوجد تحت غطاء السيارة؟ يا إلهي، إنه المحرك!» ثم استطردت: «حسنا، وهكذا حتى لا يحدث هذا، حصلت على تلك الدورة، وأثار الأمر اهتمامي أكثر حتى إنني تلقيت دورة أخرى، وكنت أفكر في حقيقة الأمر في أن أعمل في مجال الميكانيكا. كدت أخوض هذا المجال، لكنني تقليدية جدا في حقيقة الأمر. لم أستطع أن أواجه كل تلك الأمور. وفضلت أن أدرس الفرنسية.»
حملت لينيت وذهبت لتلقي نظرة على المحرك. «روس؟ هل ستنظف هذا بالبخار؟»
قال روس: «نعم ... سأرى هل كنت أستطيع أن أستأجر ماكينة تنظيف بالبخار.» «أيضا، كنت أعيش مع شخص كان مولعا بالسيارات، أوتعرف ماذا فعل؟ عندما كان مضطرا إلى استئجار ماكينة تنظيف بالبخار، كان يرى هل كان أحد آخر يريد أن يجري عملية تنظيف بالبخار، ثم كان يطلب عشرة دولارات مقابل ذلك. وهكذا كان يجني مالا عند التأجير.»
قال روس: «نعم.» «مجرد اقتراح. ستحتاج إلى حامل جديد للمبرد، أليس كذلك؟ يركب المبرد في المحركات «ڤي-8» خلف الحامل.»
بعد ذلك خرج روس من حالة التجهم - ربما رأى ضرورة ذلك - وبدأ يريها بعض الأشياء. •••
قالت نانسي: «هيا يا كولن ... تقول جلينا إننا نحتاج إلى المزيد من الكريمة المخفوقة. يمكن أن نذهب بسيارتي. احمل أنت لينيت.»
قال كولن: «أنا لا أرتدي قميصا.» «لا تعبأ لينيت بذلك. سأذهب إلى المتجر. هيا. تريد جلينا الكريمة الآن.»
في السيارة قالت له: «كنت أريد أن أتحدث إليك.» «أدركت ذلك.» «تتعلق المسألة بروس، بما يفعل.» «أتعنين تجوله معتمرا تلك القبعات؟ ماذا؟ ماذا قال ديفيدسون؟» «لا أتحدث عن ذلك. أتحدث عن تلك السيارة.»
تنفس كولن الصعداء. «ماذا عن السيارة؟» «ذلك المحرك. كولن، هذا المحرك أكبر مما ينبغي. لن يستطيع أن يضع ذلك المحرك في تلك السيارة.»
كان صوتها عميقا وهادئا على نحو درامي.
قال كولن: «يعرف روس الكثير عن السيارات.» «أصدقك. لم أقل إن روس غبي. هو يعرف ذلك. لكن ذلك المحرك، إذا وضعه، أخشى أنه سيكسر عمود القيادة؛ ليس على الفور، بل سيحدث هذا عاجلا أو آجلا، وفي الغالب عاجلا. يفعل الفتيان ذلك طوال الوقت. يضعون محركا قويا كبيرا للحصول على سرعة الانطلاق والسرعة القصوى التي يريدونها، وفي يوم ما، مثلما تعرف، قد يؤدي ذلك لتدمير السيارة بالكامل. يؤدي هذا إلى انقلاب السيارة. ويكسر عمود القيادة. تتلخص المسألة في أنه في حالة الفتيان، عادة ما يحدث عطل آخر أولا أو يتسببون في تلف السيارة بأيديهم. لذا، ربما فعل ذلك من قبل وأفلت بما فعل. يعتقد أنه يمكن أن يكرر ذلك. لا ألعب دور الخبير هنا يا كولن. أقسم إنني لا أفعل ذلك.»
قال كولن: «حسنا ... أصدقك.» «تعرف أنني لا أتصنع هذا يا كولن؟» «أعرف ذلك.» «لم أستطع أن أستجمع شجاعتي لأقول أي شيء لروس. يشعر بحماس بالغ حيال الأمر. هذا ما يقولونه هنا، أليس كذلك؟ حماس بالغ! لم أستطع أن أصرح بنقد لاذع كذلك. على أي حال، ربما لن يصدقني.»
قال كولن: «لا أعرف إذا كان سيصدقني أم لا ... هل أنت متأكدة تماما بشكل لا يخامره شك؟»
قالت له، في نبرة كان من المفترض أن يعتقد معها أنها صادقة: «لا تقل شك ... أنا متأكدة تمام التأكد وبلا مراء. وإذا لم أكن كذلك، لم أكن لأفتح فمي الكبير.» «يعرف أنه يضع محركا أكبر مما يناسب السيارة. يعرف ذلك. لا بد أنه يعرف أن لا مشكلة في ذلك.» «لا يعرف أن هذا خطأ. كولن، أنا أحب روس، ولا أريد أن أفسد مشروعه.» «من الأفضل ألا تدعي سيلفيا تسمعك تقولين ذلك.» «أقول ماذا؟ هي لا تريده أن يقتل، مثلي.» «إنك تحبين روس.»
قالت نانسي، وهي تدخل بالسيارة في باحة انتظار متجر ماكس ميلك: «أحبكم جميعا يا كولن ... أحبكم حقا.» •••
قالت سيلفيا، موجهة حديثها إلى نانسي، بعد تناول كأس رابعة من الخمر الوردي: «هذا ما فعلت، سأخبرك ... أقمت لنفسي حفلة ذكرى مرور خمسة وعشرين عاما على زواجي. ما رأيك؟»
قالت نانسي: «مدهش!» كانت سيلفيا قد أخبرتها لتوها عن مزحة الرجل الأسود والرجل الأبيض في المبولة، وهو ما رأى كولن أنه قد سبب لها بعض الإحراج. «أعني، بلا زوج. أعني، لم يكن يعيش معي حينها، ولم أكن أعيش معه. كان لا يزال على قيد الحياة. يعيش في بيتربورو. لا يزال حيا الآن. لكني قلت: «أنا متزوجة لمدة خمسة وعشرين عاما، ولا أزال متزوجة. لذا، ألا أستحق عمل حفلة من أجل ذلك؟»»
قالت نانسي: «بالتأكيد.»
كانوا يجلسون إلى مائدة حديقة في الفناء الخلفي، على بعد خطوات قليلة من باب المطبخ، تحت شجرة الكريز الأسود المثمرة. كانت جلينا قد بسطت مفرشا واستخدمت أواني الخزف الصيني الخاصة بزفافها.
قالت جلينا: «ستتحول هذه المساحة إلى فناء مرصوف العام المقبل.»
قالت سيلفيا: «أترين؟ ... لو كنت قد استخدمت أواني بلاستيكية، لكنت ستجمعين كل هذا الآن وتضعينه في سلة المهملات.»
أشعل إيدي سيجارة سيلفيا. لم يتوقف هو نفسه عن التدخين خلال تناول الطعام.
التقطت نانسي حبة فراولة من قمة كعكة المرنج المأكولة. قالت: «المكان جميل هنا الآن.»
قالت جلينا: «على الأقل لا توجد حشرات بعد.»
قالت سيلفيا: «هذا صحيح. ستصبح الفراولة أرخص كثيرا بدءا من الأسبوع القادم، لكنك لن تستطيعي أن تأكلي هنا بسبب الحشرات.»
بدا ذلك مضحكا لنانسي. بدأت في الضحك، وانضم إيدي إليها. لسبب غير معلن - معه سيكون السبب دوما غير معلن - أعجب بنانسي وكل ما تفعل. قالت سيلفيا، مندهشة لكن متمتعة بروح دعابة، ولون وجهها قرنفلي مثل وردة من ورق شفاف بدأت في التجعد حول الحواف: «لا أرى شيئا مضحكا في ذلك. ماذا قلت؟»
قال روس: «واصلي الحديث.» «أواصل الحديث عن ماذا؟» «واصلي حديثك وأخبرينا عن حفلة ذكرى زواجك.»
قالت جلينا: «أوه يا روس.» نهضت وأضاءت الأنوار في المصابيح البلاستيكية الملونة التي كانت معلقة على جدار المنزل. ثم قالت: «كان علي أن أجعل كولن يصعد ويضع بعض المصابيح في شجرة الكريز.»
قالت سيلفيا: «حسنا، كان كولن يبلغ ثلاثة عشر عاما في ذلك الوقت، وكان روس في الثانية عشرة ... أوه، يعرف الجميع الأمر من جميع الأوجه إلا أنت يا نانسي. إذن، كان الأمر بعد خمسة وعشرين عاما من الزواج وابني الأكبر في الثالثة عشرة. يمكن أن تقولي إن تلك كانت المشكلة. كل هذه الفترة الطويلة دون أطفال، كنا سلمنا بأننا لن نرزق بأطفال أبدا. في البداية، كنا نعول على أننا سنرزق بأطفال ثم خاب رجاؤنا ثم اعتدنا على ذلك، واستمر اعتيادنا على هذا فترة طويلة جدا، أكثر من عشرة أعوام زواجا، ثم أصبحت حبلى! كان ذلك كولن. ثم لم يمر أكثر من اثني عشر شهرا، بل أحد عشر شهرا وثلاثة أيام، ثم جاء آخر! كان ذلك روس!»
قال روس: «مرحى!» «الرجل المسكين، أعتقد أنه خشي منذ ذلك الحين فصاعدا أن ألد له طفلا بعد الآخر، لذا رحل بعيدا.»
قال كولن: «نقل ... كان يعمل في محطة السكك الحديدية، وعندما حولوا مسار قطار الركاب الذي كان يمر من هنا، نقلوه إلى بيتربورو.»
لا يمتلك ذكريات كثيرة عن والده. ذات مرة، بينما كانا سائرين في الشارع، قدم له والده قطعة لبان. كان ثمة نوع من الشعور الرسمي، العطوف حيال تلك اللمحة - كان والده يرتدي زي عمله الرسمي آنذاك - بدلا من الشعور بالحميمية الأبوية. كان لدى كولن انطباع أن سيلفيا لم يكن بإمكانها التعامل مع ابنين وزوج، إلى حد ما؛ فأضاعت زواجها دون أن تقصد هذا تماما.
قالت سيلفيا: «لم يكن يعمل فقط في محطة السكك الحديدية ... كان محصلا. بعد نقله للمرة الأولى، كان يزورنا في بعض الأحيان بالحافلة، لكنه كان يكره الانتقال بالحافلة ولم يكن يستطيع قيادة السيارات. بدأ في التوقف عن الزيارة تدريجيا ومات قبل تقاعده مباشرة. لذا، ربما كان سيأتي للحفلة آنذاك، من يعلم؟» (كانت فكرة جلينا، التي انتقلت إلى كولن، أن كل هذا الحديث الهادئ حول إقامة حفلة ذكرى زفافها لم يكن إلا اختلاقا من جانب سيلفيا ؛ فهي ترى أن سيلفيا كانت قد طلبت من زوجها أن يأتي أو أخبرته بذلك، لكنه لم يفعل.)
قالت سيلفيا: «حسنا، لا عليكم منه، أقمت الحفلة ... دعوت الكثير من الأشخاص. كنت سأدعو إيدي لكنني لم أكن أعرفه حينها جيدا مثلما أعرفه الآن. كنت أظنه من الطبقة العليا.» لكزت ذراع إيدي بمرفقها. كان الجميع يعلم أن زوجته الثانية كانت من الطبقة العليا. «كان ذلك في شهر أغسطس، وكان الطقس جيدا، كنا نستطيع أن نمكث في الخارج، مثلما نحن هنا. نصبت مناضد ذات حوامل، وكان يوجد طست ممتلئ بسلاطة البطاطس. أعددت ريش لحم مشوية، ودجاجا محمرا، وحلويات، وفطائر، وكعكة احتفال جعلت المخبز يزينها. وكانت توجد مجموعة متنوعة من عصائر الفواكه، المضاف إليها الكحول وغير المضاف إليها الكحول. تناول المدعوون عصائر الفواكه المضاف إليها الكحول أكثر مع تقدم الأمسية وظل المدعوون يصبون الفودكا والبراندي وأيا ما كان لديهم!»
قال روس: «ظن الجميع أن كولن أسرف في شرب العصائر المضاف إليها الكحول!»
قالت سيلفيا: «حسنا، لم يفعل ... كانت تلك كذبة.» •••
في وقت سابق، كان كولن ونانسي قد أخليا المنضدة معا، وعندما كانا بمفردهما في المطبخ قالت له نانسي: «هل قلت أي شيء لروس؟» «ليس بعد.» «ستفعل، أليس كذلك؟ كولن، الأمر مهم.»
سمعت ذلك جلينا أثناء دخولها حاملة طبق تقديم عليه عظام دجاج، ولم تتفوه بأي شيء.
قال كولن: «تظن نانسي أن روس يرتكب خطأ في تركيب سيارته.»
قالت نانسي: «خطأ قاتلا.» عاد كولن إلى الخارج، تاركا إياها تتحدث في صوت خفيض، ملح إلى جلينا. •••
قالت سيلفيا: «كانت توجد موسيقى ... كنا نرقص على الممر الجانبي حول الواجهة، وكنا نحتفل أيضا خلف المنزل. كنا نشغل تسجيلات في غرفتي الأمامية وكانت النوافذ مفتوحة. أتى ضابط النوبة الليلية ورقص معنا. كان ذلك عندما أضاءوا مصابيح الشارع القرنفلية في ذلك الشارع، لذا قلت: «انظروا إلى الأنوار التي أضاءوها من أجل حفلتي!»» ثم قالت لكولن، الذي نهض واقفا: «إلى أين أنت ذاهب؟» «أريد أن أري إيدي شيئا.»
وقف إيدي، وكان يبدو مسرورا ، وتحرك ببطء حول المنضدة. كان يرتدي بنطالا عليه مربعات باللونين البني والأصفر، مربعات خفيفة غير ظاهرة تماما، وقميصا أصفر رياضيا ووشاح رقبة بلون أحمر داكن. قالت سيلفيا، ليس للمرة الأولى: «ألا يبدو أنيقا؟ ... إيدي، يا لك من متأنق! لا يريد كولن أن يسمعني وأنا أكمل بقية القصة.»
قال روس: «البقية هي الأفضل ... قريبا!»
قال كولن: «أريد أن أري إيدي شيئا وأطلب منه شيئا ... على انفراد.»
قالت سيلفيا: «هذا الجزء المتبقي من القصة يشبه ما قد يقرؤه المرء في الصحف.»
قالت جلينا: «هذا مريع.»
قالت سيلفيا: «سيري إيدي حشائشه الثمينة ... بالإضافة إلى ذلك، لا يريد أن يسمعني أسرد هذا الجزء من القصة. لماذا؟ لم يكن هذا خطأه. حسنا، جزئيا. كان الأمر من النوع الذي يحدث مرارا وتكرارا مع الآخرين، ولا تكون النتيجة إلا أسوأ. مأساوية.»
قال روس، ضاحكا: «يقينا كان من الممكن أن يكون الأمر مأساويا.» •••
كان كولن، الذي قاد إيدي إلى مقدمة المنزل، يستطيع سماع روس وهو يضحك. مر بإيدي بمحاذاة السياج المصنوع من السلك والحشائش الجديدة. في الفناء الأمامي، كان ثمة قليل من الضوء الآتي من مصباح الشارع، ضوء غير كاف حقيقة. أضاء النور الموجود إلى جانب الباب الأمامي.
قال كولن: «الآن، إلى أي مدى ترى سيارة روس صالحة؟»
قال إيدي: «رأيت كل ذلك من قبل.» «انتظر.»
كانت سيارة كولن منتظرة بحيث تلمع أضواء المصابيح حيثما كان يريدها أن تلمع، وكان المفتاح في جيبه. دخل السيارة، وأدار المحرك، وأضاء المصابيح.
قال: «هناك ... ألق نظرة على المحرك الآن بينما أضيء المصابيح.»
قال إيدي: «حسنا». ثم سار في ضوء مصابيح السيارة ووقف يتفحص المحرك. «انظر الآن إلى جسم السيارة.»
قال إيدي، مستديرا ربع استدارة لكن دون أن ينحني لينظر: «نعم.» ففي ملابس كالتي يرتديها، لم يكن يرغب في أن يقترب كثيرا من أي شيء.
أطفأ كولن مصابيح السيارة والمحرك وخرج من السيارة. في الظلام، كان يسمع روس يضحك مجددا.
قال كولن: «قال لي أحدهم إن المحرك أكبر كثيرا من أن يوضع هنا ... قال هذا الشخص إن ذلك سيكسر التربيعة وسينحل عمود القيادة وتنقلب السيارة. لا أعرف الكثير عن السيارات. هل ذلك صحيح؟»
لم يكن ليقول له إن هذا الشخص هو نانسي، لا لأن نانسي امرأة، بل لأن إيدي كان يميل إلى النظر إلى أي شيء تقوله نانسي أو تفعله بإعجاب كبير حتى لا يكاد المرء يستطيع الحصول على أي رأي منه بشأنها. لم يكن سهلا الحصول على أي آراء منه في أي شيء.
قال إيدي: «هذا محرك كبير ... طراز «ڤي-8 350». محرك سيارة شيفروليه.»
لم يقل كولن إنه يعرف كل ذلك بالفعل. قال: «هل هو كبير أكثر مما ينبغي؟ ... هل يمثل ذلك خطرا؟» «هو كبير بعض الشيء.» «هل رأيت أحدا يضع مثل هذا النوع من المحركات في جسم كهذا من قبل؟» «أوه. نعم. رأيتهم يفعلون كل شيء.» «هل سيتسبب ذلك في وقوع حادثة، مثلما قال ذلك الشخص؟» «من الصعب القطع بذلك.»
بعدما يقول معظم الناس ذلك، يواصلون حديثهم ويقولون ما هو الصعب القطع به. لكن ليس إيدي. «هل سيؤدي هذا المحرك إلى كسر التربيعة حقا؟»
قال إيدي: «أوه، لست واثقا ... لا أستطيع تأكيد ذلك.» «هل يمكن أن يحدث ذلك؟» «ربما.» «هل أقول أي شيء لروس؟»
ضحك إيدي ضحكة خافتة في اضطراب وقال: «لا تأخذ سيلفيا الأمر بصدر رحب عندما يقول أحد أي شيء لروس.» •••
لم يكن كولن يحب عصائر الفواكه المضاف إليها الكحول. لم يقترب هو وروس ومجموعة أخرى من الفتيان هكذا من قلب الحفل. تجاهلوا الحفل، وجلسوا على أطرافه، يشربون من عبوات معدنية فقط؛ عبوات كوكاكولا وأورانج التي أتى بها أحد المدعوين وتركها إلى جانب الدرجات الخلفية. أكلوا رقائق البطاطس التي تم تقديمها لهم، لكنهم لم يكترثوا كثيرا بالطعام الموضوع على الموائد الذي كان يتطلب استخدام أطباق أو شوك. لم يلتفتوا إلى ما كان الكبار يفعلونه. قبل سنوات قليلة، كانوا يتجولون في الأنحاء يراقبون كل شيء، واضعين في أذهانهم، غالبا، فكرة السخرية مما يراقبونه وتعكير صفوه. لا يكترثون على الإطلاق بذلك العالم ؛ عالم الكبار، في الحفل أو في أي مكان آخر.
أما الأشياء التي كان الكبار يملكونها، فتلك مسألة أخرى. كانت تلك الأشياء لا تزال مثيرة للاهتمام بالنسبة لهم، وفي السيارات التي كانت منتظرة بطول الممر، وجدوا الكثير من الأشياء المثيرة للاهتمام؛ أدوات، مجارف، سلاسل الإطارات الخاصة بالشتاء الماضي، أحذية طويلة العنق، بعض المتعلقات الشخصية، معاطف مطر ممزقة، بطانية، مجلات بها صور بذيئة، بندقية.
كانت البندقية موضوعة على المقعد الخلفي في سيارة غير موصدة. كانت بندقية صيد. لم يكن هناك شك في أنهم كانوا سيخرجونها، ويفحصونها، ويعلقون على أجزائها على نحو يوحي بالمعرفة، ويصوبونها نحو طيور خيالية.
أشار بعضهم إلى ضرورة الحذر. «ليست محشوة.» «كيف تعرف؟»
لم يسمع كولن قط كيف عرف هذا الفتى ذلك. كان يفكر في كيف أن روس يجب ألا يمسك بهذه البندقية، وإلا فستنطلق منها رصاصة وتصيب أحدا، سواء أكانت محشوة أم لا. لمنع ذلك، أمسك كولن بها، وما حدث آنذاك لم يعرفه على الإطلاق، أو حتى يتذكره. لم يتذكر توجيه البندقية. لم يكن ممكنا أن يكون قد وجهها. لا يتذكر أنه جذب الزناد؛ لأن من المستحيل أن يكون قد فعل ذلك. لا يتذكر صوت إطلاق رصاصة لكنه يتذكر أن شيئا ما كان قد حدث؛ المعرفة التي تتوفر لدى المرء عندما يوقظه صوت عال من النوم وللحظة يبدو الصوت بعيدا وحتميا بما لا يستدعي الانتباه إليه.
سمع صرخات ونداءات في هذا الوقت نفسه. جاءت إحدى هذه الصرخات من روس، وهو ما كان يجب أن ينبئ كولن بشيء. (هل يصرخ من يقتلون بطلق ناري؟) لم ير كولن روس يسقط. كان ما رآه - ويتذكره دوما - هو أن روس كان مسجى على الأرض، على ظهره، ذراعاه مفتوحتان عن آخرهما، وشيء داكن يسيل من أعلى رأسه.
مستحيل أن يكون ذلك الشيء موجودا من قبل؛ هل هذه بركة دماء؟
انطلق واحد أو اثنان من الفتيان، وقد تخليا عن شعورهما بالازدراء حيال العالم وحيال مساعدة الكبار، عبر الحارة إلى منزل سيلفيا، صارخين : «أطلقت النار على روس! أطلق كولن النار عليه! روس! أطلقت النار عليه! أطلق كولن النار عليه! روس! كولن! روس!»
بحلول الوقت الذي جعلوا فيه الأشخاص الجالسين حول المائدة في الفناء الخلفي يفهمون الأمر - كان بعضهم قد سمع صوت إطلاق النيران لكنهم ظنوها ألعابا نارية - وبحلول الوقت الذي ظهرت فيه أول مجموعة من الأشخاص، الذين هرعوا عبر الحارة، إلى مشهد المأساة، كان روس جالسا، باسطا ذراعيه، ترتسم على وجهه نظرة ماكرة خجلة. كان الفتيان الذين لم يذهبوا لطلب المساعدة قد رأوه يتحرك، وظنوا أنه حي لكنه مجروح. لم يكن مجروحا على الإطلاق. لم تقترب الرصاصة منه. كانت قد ضربت السقيفة الواقعة بعيدا في الحارة، السقيفة التي كان يسن فيها رجل شيخ زلاجات التزحلق على الجليد في الشتاء. لم يصب أحد.
زعم روس أن صوت إطلاق النار أفقده الوعي أو جعله ينكفئ. لكن الجميع، من واقع معرفتهم بروس، تشككوا في أن روس فعل ذلك عن عمد، وأن ذلك كان وليد اللحظة. كانت البندقية موضوعة على الحشائش في جانب الحارة، حيث ألقاها كولن. لم يلتقطها أي من الفتيان؛ فلم يرد أحد منهم أن يلمسها أو يكون له صلة بها، على الرغم من أنه اتضح لهم أن كل شيء لا بد أن ينكشف؛ كيف أخذوها من السيارة على الرغم من أنها لا تخصهم، وكيف أن اللوم سيقع عليهم جميعا.
لكن كان اللوم سيقع على كولن بصفة أساسية. كان اللوم واقعا على كولن. وقد هرب.
كان ذلك هو الصياح، بعد البلبلة التي حدثت حول روس. «ماذا حدث؟ روس، هل أنت بخير؟ هل أصبت؟ أين البندقية؟ هل أنت بخير حقا؟ من أين حصلت على البندقية؟ لماذا تظاهرت كأنك أصبت؟ هل أنت متأكد أنك لم تصب؟ من صوب البندقية عليك؟ من؟ كولن!» «أين كولن؟»
لم يتذكر أحد حتى في أي اتجاه ذهب. لم يتذكر أحد رؤيته يفر. نادوا عليه، لكن لم تكن ثمة إجابة. بحثوا عنه في الحارة ليروا هل كان مختبئا. ركب ضابط النوبة الليلية سيارة الشرطة، وركب آخرون سياراتهم، وقادوها عبر الشوارع، بل قادوا سياراتهم بضعة أميال وصولا إلى الطريق السريع ليروا ما إذا كانوا يستطيعون الإمساك به وهو يفر. لا أثر له. دخلت سيلفيا إلى المنزل وفتشت في خزائن الملابس وتحت الأسرة. كان الناس يبحثون في كل الأنحاء، يصطدم بعضهم بعضا، موجهين الكشافات نحو الأجمات، منادين على كولن.
ثم قال لهم روس إنه يعرف أين يمكن أن يبحثوا عنه. «عند جسر تيبليدي.»
كان ذلك جسرا حديديا من الطراز القديم بطول نهر تيبليدي. ترك على حاله على الرغم من بناء جسر أسمنتي جديد قرب منبع النهر، بحيث صار الطريق السريع الموسع يتجاوز هذا الجزء من البلدة. كان الطريق المفضي إلى الجسر القديم مغلقا أمام السيارات، كما أعلن عن عدم أمان الجسر نفسه، لكن ظل الناس ينزلون للسباحة في النهر منه أو يصطادون من فوقه، وكان الناس ليلا يزيحون علامة «الطريق مغلق» ويتركون سياراتهم هناك. كان الرصيف على الجسر مكسورا، وكان مصباح الطريق محترقا ولم يجر استبداله. كانت ثمة شائعات ونكات حول هذا المصباح، مما كان يشير ضمنا إلى أن أعضاء مجلس المدينة كانوا من بين أولئك الأشخاص الذين كانوا يقفون بسياراتهم هناك، ويفضلون الظلام.
كان الجسر على مسافة مربعين سكنيين فقط من منزل سيلفيا. سبق الفتيان إلى الجسر، لا يقودهم روس بل يتبعهم، كان يسير في خطوات متمهلة. كانت سيلفيا تسير بجواره وكانت تحثه على الإسراع. كانت ترتدي حذاء ذا كعب عال وثوبا ضيقا بلون أزرق مخضر، كان ضيقا أكثر مما ينبغي عند الأرداف؛ مما كان يعوقها عن الحركة.
قالت: «أتمنى أن تكون على حق»، وهي حائرة أي من الابنين كانت تشعر إزاءه بغضب بالغ أكثر من الآخر. لم تكن قد تعافت بعد من معرفة أن روس لم يطلق النار عليه حتى أخذت تفكر فيما إذا كانت سترى كولن مرة أخرى أم لا. كان بعض ضيوف الحفلة مخمورين أو لا يتمتعون باللباقة الكافية بحيث تساءلوا في صوت عال عما إذا كان كولن قد قفز في نهر تيبليدي .
أخرج الضابط رأسه من السيارة وأخبرهم أن يزيلوا الحاجز الموجود على الطريق. ثم قاد السيارة عبر الجسر وأضاء المصابيح الأمامية للسيارة على الجسر.
لم يظهر سطح الجسر جيدا في ضوء مصابيح السيارة، لكن استطاع الموجودون رؤية شخص جالس هناك. «كولن!»
كان كولن قد تسلق إلى أعلى واستقر على العوارض الحديدية. كان هناك.
نادت سيلفيا صارخة فيه: «كولن! لا أصدق أنك فعلت ذلك! ... هيا انزل من على ذلك الجسر!»
لم يتحرك كولن. بدا مذهولا. كانت أضواء سيارة الشرطة، في حقيقة الأمر، تغشي بصره، حتى إنه ما كان سيستطيع أن ينزل من على الجسر إذا أراد.
أمره الضابط أن ينزل، وأمره آخرون بذلك. لم يتحرك قيد أنملة. وسط الأوامر والتأنيب، مر بخلد سيلفيا فجأة أن كولن لم يعرف بالطبع أن روس لم يمت.
نادت عليه قائلة: «كولن، لم يصب أخوك! ... كولن! أخوك حي هنا إلى جانبي! روس حي!»
لم يجب كولن لكنها ظنت أنها رأت رأسه يتحرك، كما لو كان يدقق النظر إلى أسفل.
قالت للضابط، الذي كان شبه رفيق لها: «أبعد هذه الأضواء الغبية عنه ... سلط الأضواء على روس إذا كنت ترغب في أن تشغلها.»
قال الضابط: «لماذا لا نجعل روس يقف وسط الأضواء ... ثم نطفئها ونجعل الفتي ينزل.»
نادى الضابط: «حسنا، كولن ... سنريك روس يقف هنا؛ هو غير مصاب ولا يوجد به أي شيء!»
دفعت سيلفيا بروس إلى الضوء.
قالت: «افتح فمك، واصرخ بصوت عال ... أخبر أخاك أنك حي.» •••
كان كولن يساعد جلينا في تنظيف المكان. كان يفكر فيما قالته أمه، حول المفارش والأطباق البلاستيكية التي يمكن للمرء أن يكورها ويلقيها في سلة المهملات. لم يكن من المحتمل ولو من بعيد أن تفعل جلينا ذلك على الإطلاق. لم تكن أمه تفهم أي شيء على الإطلاق بشأن جلينا، لا شيء على الإطلاق.
كانت جلينا منهكة؛ إذ نظمت حفلة عشاء فاخرة أكثر مما ينبغي، ولا يمكن لأحد سواها أن يقدر ذلك.
لا، كان ذلك خطأ. كان يقدر هو ذلك، حتى لو لم يكن يفهم ضرورته. كان يقدر كل خطوة تأخذه بعيدا عن حيرة أمه.
قال: «لا أعرف ماذا أقول لروس.»
سألت جلينا: «عن ماذا؟»
كانت في غاية التعب، هكذا حدث نفسه، حتى إنها نسيت ما قالته لها نانسي. وجد نفسه يفكر في الليلة السابقة لزفافهما. كان لدى جلينا خمس وصيفات، انتقين لأحجامهن ولون بشرتهن أكثر من كونهن صديقات لها، وكانت جلينا قد صممت أثوابهن جميعها. وصنعت ثوب زفافها أيضا، وجميع القفازات والطرح. كان يوجد في كل قفاز ستة عشر زرا صغيرا مغطى. فرغت من صنع ذلك في الساعة التاسعة والنصف في الليلة السابقة على الزفاف. ثم توجهت إلى الدور العلوي، تبدو شديدة الشحوب. صعد كولن، الذي كان مقيما في المنزل، ليطمئن عليها ووجدها تبكي، وهي لا تزال تحمل بعض قصاصات القماش الملون. لم يستطع منعها من البكاء، ونادى أمه، التي قالت: «هكذا هي يا كولن، تبالغ في كل شيء.»
نشجت جلينا وقالت، من بين أشياء أخرى، إنها لا ترى أي جدوى في الحياة. في اليوم التالي، كانت جميلة على نحو ملائكي، لا تبدي أي اضطراب، تشرب في نخب ووسط أمنيات سعادتها.
لم تصبها حفلة العشاء هذه بالإرهاق مثلما أصابها صنع ملابس الوصيفات، لكنها بلغت مرحلة صارت تمتلك فيها نظرة غير ودودة ومظهرا شاحبا قاسيا، كما لو كان ثمة العديد من الأشياء التي يجب أن تعيد النظر فيها.
قال كولن: «لن يرغب في البحث عن محرك آخر ... كيف سيستطيع تحمل تكلفة محرك آخر؟ يدين لسيلفيا بثمن ذلك المحرك. على أي حال، يريد محركا كبيرا. يريد أن يحصل على القدرة الكبيرة له.»
قالت جلينا: «هل يصنع ذلك أي فرق؟» «بالطبع، يصنع فرقا، في سرعة الانطلاق وفي القدرة. بالطبع، محرك كهذا يصنع فرقا.»
ثم رأى أنها ربما لم تكن تقصد ذلك. ربما لم تكن تعني «هل يصنع المحرك أي فرق؟» ربما كانت تعني «إذا لم يكن هذا، فربما يكون شيئا آخر.» (جلست على الحشائش؛ كانت تصقل أغطية الإطارات. كانت تتشمم الجوانب الداخلية للباب . قالت: «دع لينيت تختر اللون».)
ربما كانت تعني: «لماذا لا تتوقف عن التفكير في الأمر؟»
أفرغ كولن محتويات سلة المهملات في الكيس البلاستيكي وربطه عند طرفه الأعلى. «لا أريدك أنت ولينيت أن تركبا معه، لا أريد ذلك.»
قالت جلينا في صوت رقيق، مندهش: «كولن، لن أفعل ... هل تعتقد أنني سأركب معه في تلك السيارة أو أدع لينيت تركب معه؟ لن أفعل ذلك أبدا.»
أخرج كيس القمامة وبدأت هي في مسح الأرضية. عندما عاد، قالت: «كنت أفكر في شيء. كنت أحدث نفسي قائلة إننا سرعان ما سنستبدل قرميدات ذات اللونين الأبيض والأسود بتلك الألواح القديمة التي لن يكون بمقدورنا تخيل شكلها. لن يكون بمقدورنا تذكر ذلك. يجب أن نلتقط بعض الصور لها بحيث نستطيع أن نتذكر ما قمنا به.»
ثم قالت: «أعتقد أن نانسي تميل في بعض الأحيان إلى المبالغة في الأمور. أعني فيما يتعلق بي وبلينيت. لكنني أعتقد أنها تبالغ حقا.»
كانت جلينا قد فاجأته، في حقيقة الأمر، بالطريقة التي كانت تتصور بها الأشياء؛ المنزل، كل غرفة فيه، في صورته النهائية. كانت قد رصت الأثاث الذي لم يكونا قد اشترياه بعد؛ واختارت الألوان بما يتماشى مع اتجاه التعرض للشمس سواء من الجهة البحرية أو القبلية، وضوء الشمس في الصباح أو المساء. كانت جلينا تستطيع أن تحتفظ في ذهنها بترتيب متتال للغرف، ترتيب محدد، متناغم، ومفهوم، من قبلها تماما.
لن تطرح أي مشكلة نفسها على جلينا، وتلقي بها في غياهب الشكوك والأحزان. كانت الحلول في عقلها تنتظر الخروج مثل غرف متراصة. كانت ثمة طريقة تراها للتعامل مع الأشياء دون أن تتحدث أو تفكر فيها. كل صبرها وعذوبتها اليومية لن تغير تلك الطريقة، أو حتى تمسها. •••
في البداية، في وجود الأضواء والصياح، كانت الفكرة الوحيدة التي تدور في خلده هي أنهم قد جاءوا ليلقوا باللائمة عليه. لم يهتم بهذا الأمر. كان يعرف ما قد فعل. لم يهرب ولم ينسل ويصعد إلى الجسر في الظلام حتى لا يعاقبه أحد. لم يكن خائفا؛ لم يكن يرتعد من الصدمة. كان يجلس على العوارض الضيقة وكان يشعر كم كان الحديد باردا، حتى في ليلة صيف، وكان هو نفسه يشعر بالبرد، لكن كان لا يزال هادئا، مع عودة كل الملابسات المتشابكة في حياته، وفي حياة الأشخاص الآخرين في هذه البلدة، مرة أخرى، مثل صورة فوتوغرافية قسمت شطرين ثم رجعت إلى حالتها ثانية، حتى يظهر ما كان بها طوال الوقت. لا شيء. روس راقد على الأرض وحول رأسه بركة. لا يتحرك روس، وصار هو نفسه قاتلا. لا يزال لا يوجد أي شيء. لم يكن مسرورا أو آسفا. كانت تلك المشاعر غاية في الضآلة والشخصية، بحيث لا تنطبق على هذه الحالة. لاحقا، اكتشف أن معظم الناس، وربما أمه، كانوا يعتقدون أنه كان قد تسلق إلى أعلى هنا لأنه كان يمر بحالة تأنيب ضمير محمومة، وكان يفكر في الإلقاء بنفسه في نهر تيبليدي. لم يدر ذلك بخاطره قط. على نحو ما، كان قد نسي وجود النهر. كان قد نسي أن الجسر هو بناء يقع فوق النهر وأن أمه كانت شخصا يمكنه أن يأمره بالقيام بأشياء.
لا، لم يكن قد نسي تلك الأشياء قدر ما أدرك كيف كانت سخيفة. كم كان سخيفا أن يكون له اسم وأن يكون اسمه كولن، وأن يناديه الناس به. لقد كان أمرا سخيفا، على نحو ما، أن يتصور أنه كان قد أطلق النار على روس، على الرغم من أنه كان يعرف أنه قد فعل ذلك بالفعل. ما كان سخيفا هو أن يفكر مستخدما هذه الكلمات المبتورة: كولن، أطلق النار، روس. أن يرى في المسألة برمتها فعلا، شيئا واضحا ومنفصلا، حدثا، «فرقا».
لم يكن يفكر في إلقاء نفسه في النهر أو في أي ما كان سيقوم به بعد ذلك، أو في كيف كانت حياته ستسير انطلاقا من هذه اللحظة. لم يبد هذا المسار غير ضروري فحسب، بل مستحيلا أيضا. كانت حياته قد انكشفت، ولم يعد ثمة ما يمكن التفكير فيه بعد.
كانوا يقولون له إن روس لم يمت.
لم يمت يا كولن.
لم تطلق النار عليه على الإطلاق.
كانت خدعة.
كان روس يمزح معك.
مزحة روس.
لم تطلق النار على أحد قط يا كولن. انطلقت رصاصة من البندقية، لكن لم يصب أحد.
انظر يا كولن. ها هو ذا.
ها هو روس. لم يمت. ••• «لم أمت يا كولن!» ••• «هل سمعت ذلك؟ هل سمعت ما يقول؟ قال إنه لم يمت!»
تستطيع الآن أن تنزل.
يمكن أن تنزل الآن.
كولن. هيا انزل.
كان ذلك عندما بدأ كل شيء يعود إلى ما كان عليه مجددا. رأى روس سليما، لا يمكن أن يخطئه، تبدو ملامحه واضحة بسبب أضواء السيارة، يبدو منشرحا وقلقا قليلا، لكنه لا يبدو عليه الأسف بأي حال من الأحوال. روس، الذي كان يبدو وكأنه يثب مرحا حتى عندما كان يقف ساكنا، والذي كان يبدو ضاحكا في صوت مرتفع حتى عندما كان يجتهد في الإبقاء على فمه مغلقا.
إنه هو.
كان كولن يشعر بالدوار، والغثيان جراء قوة اندفاع الأشياء في طريق عودتها إلى سابق عهدها في حياته، الفوضى والمشاعر. كان الأمر مؤلما مثل اندفاع الدماء المحموم إلى الأجزاء المتجمدة من الجسد. منفذا ما طلب منه، بدأ في النزول. بدأ بعض الأشخاص في التصفيق والتهليل. كان عليه أن يركز حتى لا ينزلق. كان يشعر بالضعف وتقلص العضلات جراء جلوسه هناك. وكان عليه أن يمنع نفسه من التفكير، على نحو مفاجئ، فيما كاد أن يحدث توا.
كان يعلم أن حذره من إمكانية حدوث موقف كهذا - لروس ولنفسه - سيصبح شغله الشاغل في الحياة من الآن فصاعدا.
مايلز سيتي، مونتانا
جاء أبي عبر الحقل حاملا جثمان الصبي الذي كان قد غرق. كان معه عدد من الرجال، الذين كانوا عائدين معه من عملية البحث عن هذا الصبي، لكن أبي هو من كان يحمل الجثمان. كان الرجال متسخين ومنهكين، وكانوا يسيرون مطأطئين رءوسهم، كما لو كانوا يشعرون بالعار. حتى الكلاب كانت على وجهها كآبة، وهي تخرج تقطر ماء من النهر البارد. عندما انطلق الجميع، قبل ساعات ، كانت الكلاب هائجة وتنبح بصوت عال، وكان الرجال يشعرون بالتوتر ويتملكهم الإصرار، وكانت ثمة إثارة مكبوحة، صامتة حيال الأمر بأكمله. كان مفهوما أنهم ربما يجدون شيئا مريعا.
كان اسم الصبي ستيف جاولي. كان في الثامنة من عمره. غطى شعره وملابسه الآن الطين مع بقايا أوراق، وأغصان، وحشائش ميتة. كان مثل كومة من النفايات تركت طوال الشتاء. كان وجهه مخفيا في صدر أبي، لكنني كنت أستطيع أن أرى فتحة أنف، وأذنا، مسدودتين بالطين المائل لونه إلى الاخضرار.
لا أعتقد ذلك. لا أعتقد حقا أنني رأيت كل ذلك. ربما رأيت أبي يحمله، وكان الرجال الآخرون يتبعونه، والكلاب، لكن لم يكن ليسمح لي بأن أقترب بما يكفي لأرى شيئا مثل الطين في أنفه. ربما سمعت شخصا يتحدث عن ذلك وتصورت أنني رأيته. أرى وجهه لم يتغير باستثناء تغطيته بالطين - وجه ستيف جاولي المألوف، حاد الملامح، الذي عليه أمارات المكر - ولكن لم يكن وجهه ليبدو كذلك. كان سيبدو منتفخا ومتغيرا وربما متسخا كله بالطين بعد كل هذه الساعات في الماء.
إن نقل خبر كهذا، دليل كهذا، إلى عائلة تنتظر، خاصة أما، كان سيجعل القائمين على عملية البحث يتحركون بتثاقل، لكن ما كان يحدث هنا كان أسوأ. فقد بدا الأمر أكثر خزيا (حين يسمع المرء حديث الناس) لأنه لا وجود لأم ستيف جاولي، ولا لأي امرأة على الإطلاق - لا جدة ولا خالة، ولا حتى أخت - لتتلقى جثمانه وتوليه قدره من الحزن. كان أبوه رجلا أجيرا، شارب خمر، لكنه ليس سكيرا، رجلا غريب الأطوار لكن لا تثير تصرفاته الضحك، غير ودود لكنه ليس مثيرا للمشكلات. بدت أبوته مسألة طارئة، وبدت مسألة ترك الطفل معه عندما رحلت أمه، واستمرارهما في العيش معا، طارئة أيضا. كانا يعيشان في منزل بدائي سقفه مائل، مكسو بالألواح الرمادية، كان أفضل قليلا من كوخ - أصلح الأب السقف ووضع دعائم تحت الشرفة الخارجية، بكمية كافية بالكاد وفي آخر وقت ممكن قبل أن ينهار - وكانت حياتهما تسير على نحو مشابه. بعبارة أخرى، تسير جيدا بالكاد بحيث لم تكن توجد حاجة لقيام جمعية مساعدة الأطفال بأخذ الطفل لرعايته. لم يكونا يتناولان الطعام معا أو يطبخ أحدهما للآخر، لكن كان ثمة طعام على أي حال ليأكلاه. في بعض الأحيان، كان الأب يعطي ستيف مالا لشراء الطعام من المتجر، وكان الناس يرون ستيف يشتري أشياء مقبولة جدا، مثل خلطة بان كيك ووجبة مكرونة للعشاء.
كنت أعرف ستيف جاولي جيدا. كنت أحبه كثيرا. كان أكبر مني بعامين. كان يتسكع بالقرب من منزلنا في أيام السبت، متهكما من أي شيء كنت أفعله، لكنه لم يكن يستطيع أن يدعني وشأني. لا أركب الأرجوحة إلا ويريد أن يجربها، وإذا لم أتنح جانبا، فكان يأتي ويدفعني حتى أنزل. وكان يثير الكلب. كان يوقعني في متاعب - عمدا وعن سوء نية، بدا لي ذلك فيما بعد - من خلال تحدي في القيام بأشياء لم أكن لأفكر في القيام بها وحدي، مثل حفر الأرض لاستخراج البطاطس منها لأرى كم هي كبيرة عندما كانت لا تزال في حجم البلية، ودفع بعض أخشاب التدفئة المرصوصة حتى نصنع كومة منها كي نقفز فوقها. في المدرسة، كان لا يتحدث أحدنا إلى الآخر مطلقا. كان وحيدا، وإن لم يكن معذب النفس بسبب ذلك. لكن في صباح أيام الأحد، عندما كنت أرى هيئته النحيفة، الواثقة تمر في خفة عبر سياج أشجار الأرز، كنت أعلم أن شيئا ما في انتظاري وكان هو يقرر ما هو. في بعض الأحيان، كانت الأمور تسير على ما يرام. كنا نتظاهر بأننا راعيا بقر يروضان جيادا برية. كنا نلعب في المرعى بجوار النهر، ليس بعيدا عن المكان الذي غرق ستيف فيه. كنا جوادين وراكبين في آن واحد، نصرخ ونصهل وننحني قافزين كالجياد ونلوح بالسياط المصنوعة من أفرع الأشجار بجوار نهر صغير بلا اسم يتدفق إلى سوجين في جنوب أونتاريو.
أقيمت الجنازة في منزلنا. لم يكن منزل والد ستيف ليتسع للجمع الكبير الذي كان من المتوقع حضوره بسبب الأحداث. أتذكر الحجرة المزدحمة لكنني لا أتذكر ستيف في تابوته، أو القس، أو أكاليل الزهور. أتذكر أنني كنت أحمل زهرة واحدة، زهرة نرجس بيضاء، وهي التي ربما كان مصدرها أصيصا وضعه أحدهم في الداخل؛ لأن الوقت كان مبكرا للغاية لظهور شجيرة الفورسيثيا، أو زهور التريليوم، أو آذريون الماء في الغابة. وقفت في صف من الأطفال، كان كل منا يحمل زهرة نرجس. كنا نغني ترنيمة أطفال، كان أحدهم يعزف لحنها على البيانو في منزلنا، وهي: «عندما يأتي، عندما يأتي، لاستعادة نفائسه.» كنت أرتدي كولونا أبيض مضلعا، كان يشعرني بحكة مريعة، وكان مجعدا عند الركبتين والكاحلين. يختلط شعوري بهذا الكولون في رجلي بشعور آخر في ذاكرتي. يصعب وصف ذلك الشعور. كان هذا الشعور يتعلق بأبوي. كان يتعلق بالكبار عموما وأبوي على وجه الخصوص. كان يتعلق بأبي الذي كان قد حمل جسد ستيف من النهر، وأمي التي لا شك في أنها تولت الجزء الأكبر من ترتيب هذه الجنازة. كان أبي في حلته الكحلية اللون وأمي في ثوبها المخملي البني ذي الياقة الساتان كريمية اللون، يقفان جنبا إلى جنب يفتحان ويغلقان فمهما وهما ينشدان الترنيمة، وكنت أقف بعيدا عنهما، في صف الأطفال، أراقب ما يحدث. شعرت باشمئزاز غاضب ومثير للغثيان. في بعض الأحيان يشعر الأطفال بالاشمئزاز حيال الكبار؛ الحجم، الأجسام الممتلئة، القوة المتعجرفة. النفس، الفظاظة، الشعر الكثير، الإفرازات المريعة. لكن كان في هذا الموقف ما هو أكثر. ولم يكن في الغضب المصاحب أي حدة أو احترام للذات. لم يكن ثمة وسيلة للتنفيس عنه، مثلما كنت أفعل عندما كنت أغضب من ستيف بالتقاطي حجرا وإلقائه عليه. لم يكن من الممكن فهم شعوري هذا أو التعبير عنه، على الرغم من أنه خفت بعد فترة وتحول إلى ضيق، ثم إلى مجرد هاجس، هاجس عرضي؛ هاجس خفيف، مألوف. •••
بعدها بعشرين عاما تقريبا، في عام 1961، اشترينا، أنا وزوجي أندرو، سيارة جديدة، سيارتنا الأولى، سيارتنا الأولى الجديدة. كانت من طراز موريس أكسفورد، بلون المحار (كان البائع يطلق على اللون اسما آخر أكثر جاذبية)، وهي سيارة صغيرة متسعة من الداخل بحيث تتسع لنا ولطفلينا . كانت سينثيا في السادسة من عمرها وميج في الثالثة والنصف.
التقط أندرو صورة لي وأنا واقفة إلى جانب السيارة. كنت أرتدي بنطالا أبيض، وكنزة سوداء عالية الرقبة، ونظارة شمسية. استندت إلى باب السيارة، مميلة أردافي حتى أبدو نحيلة.
قال أندرو: «رائع ... عظيم. تبدين مثل جاكلين كينيدي.» كانت الشابات ذوات الشعر الداكن، والنحيفات في هذه القارة يقال لهن، عندما يكن مرتديات ملابسهن على أحدث موضة أو تلتقط صور لهن، إنهن يبدون مثل جاكلين كنيدي.
التقط أندرو الكثير من الصور لي، وللأطفال، ومنزلنا، وحديقتنا، ورحلاتنا، ومتعلقاتنا. وكان يصنع نسخا من تلك الصور، ويضع تعليقات عليها بعناية، ويرسلها إلى أمه وخالته وخاله في أونتاريو. كان يصنع نسخا لي لإرسالها إلى أبي، الذي كان يعيش في أونتاريو أيضا، وهكذا فعلت، لكنني كنت أرسلها بمعدل أقل انتظاما مما كان يرسلها. وعندما كان يرى صورا يعتقد أنني أرسلتها بالفعل متناثرة في أرجاء المنزل، كان يشعر بالحيرة والانزعاج. كان يحب أن تنتشر صوره.
في ذلك الصيف، كنا سنزورهم بأنفسنا، ولا نكتفي بإرسال الصور. كنا نقود سيارتنا الجديدة من فانكوفر، حيث كنا نعيش، إلى أونتاريو، التي كنا لا نزال نطلق عليها «وطننا». خمسة أيام لنصل إلى هناك، وعشرة أيام نمكثها هناك، وخمسة أيام لنعود من هناك. للمرة الأولى، حصل أندرو على إجازة مدتها ثلاثة أسابيع. كان يعمل في قسم الشئون القانونية في شركة بي سي هايدرو.
في صباح أحد أيام الآحاد، وضعنا في السيارة الحقائب وترمسين - أحدهما ممتلئ بالقهوة والآخر بعصير الليمون - وبعض الفواكه والشطائر، وكتبا مصورة، وكتبا للتلوين، وأقلاما للتلوين، وألواح رسم، وطاردا للحشرات، وسترات (حال صار الطقس باردا في منطقة الجبال)، وطفلينا. أحكم أندرو إغلاق أبواب المنزل، وقالت سينثيا على نحو احتفالي: «الوداع يا منزلنا.»
قالت ميج: «الوداع يا منزلنا.» ثم قالت: «أين سنعيش الآن؟»
قالت سينثيا: «ليس هذا وداعا إلى الأبد ... سنعود. أمي! ميج تظن أننا لن نعود هنا أبدا!»
قالت ميج، وهي تركل مقعدي من الخلف: «لم أقل ذلك.»
ارتدينا أنا وأندرو نظارتين شمسيتين ، وقدنا السيارة فوق جسر ليونز جيت وعبر الجزء الرئيسي من فانكوفر. تركنا منزلنا والحي والمدينة، وتركنا بلدنا عند نقطة التقاطع بين واشنطن وكولومبيا البريطانية. كنا نقود شرقا عبر الولايات المتحدة، متجهين نحو أقصى الشمال، ثم عبرنا إلى كندا عند سارنيا، بأونتاريو. لا أعلم إذا كنا قد اخترنا هذا المسار لأن الطريق السريع العابر لكندا لم يكن قد انتهى العمل فيه تماما في ذلك الوقت أو إذا كنا فقط نريد أن نشعر بأننا نقود عبر دولة أجنبية، أجنبية على نحو طفيف تماما، تلك الجرعة الإضافية من الإثارة والمغامرة.
كان كلانا يتمتع بروح معنوية مرتفعة. أثنى أندرو على السيارة عدة مرات. قال إنه كان يشعر بشعور أفضل كثيرا عند قيادتها أكثر من سيارتنا القديمة، وهي سيارة أوستن موديل 1951 كانت تبطئ على نحو محبط فوق المرتفعات وتبدو مثل سيدة عجوز مزعجة، هكذا قال أندرو.
قالت سينثيا: «أي صورة تبدو عليها هذه السيارة؟» استمعت إلينا في عناية ورغبت في أن تجرب كلمات جديدة مثل «صورة». عادة كانت تنطق هذه الكلمات نطقا صحيحا.
قلت: «مفعمة بالحياة ... رياضية قليلا، عملية.»
قال أندرو: «سيارة متزنة لكنها تتمتع بالرقي ... تماما مثل صورتي.»
فكرت سينثيا في ذلك وقالت في فخر حذر: «هل يعني ذلك أنك تريد أن تكون كذلك يا أبي؟»
بالنسبة إلي، كنت سعيدة بالرحيل. كنت أحب الخروج. في منزلي، كنت أبدو كما لو كنت أبحث كثيرا عن مكان أختبئ فيه؛ في بعض الأحيان من الأطفال، لكن في أحيان أكثر من المهام المنزلية ورنين الهاتف ومخالطة الجيران. كنت أريد أن أختبئ بحيث أنشغل بعملي الحقيقي، الذي كان عبارة عن تلمس الأجزاء القصية من نفسي. كنت أعيش في حالة حصار، دائما أفقد ما كنت أريد أن أتمسك به. لكن خلال الرحلات لم يكن ثمة أي صعوبة. كنت أتحدث إلى أندرو، أتحدث إلى الأطفال وأنظر إلى أي شيء يريدونني أن أنظر إليه - صورة خنزير على لافتة، مهر في أحد الحقول، سيارة فولكس فاجن على منصة دوارة - وأصب عصير الليمون في أكواب بلاستيكية، وطوال الوقت كانت هذه الأجزاء تطير بداخلي وتتجمع معا. يجعلني هذا أشعر بالأمل والابتهاج. كان هذا يجعلني متابعة؛ متابعة، لا قائمة على الأمور.
استدرنا شرقا عند إيفريت وصعدنا إلى منطقة سلسلة جبال كاسكيد. أريت سينثيا مسارنا على الخريطة. أولا، أريت لها خريطة الولايات المتحدة كلها، التي كانت تظهر الجزء السفلي من كندا أيضا. ثم انتقلت إلى الخرائط المنفصلة لكل ولاية كنا سنمر بها؛ واشنطن، إيداهو، مونتانا، نورث داكوتا، مينيسوتا، ويسكونسن. أريتها الخط المنقط بطول بحيرة ميشيجان، الذي كان يمثل مسار المعدية التي كنا سنستقلها. ثم كنا سنقود السيارة عبر ميشيجان إلى الجسر الذي يربط الولايات المتحدة وكندا عند سارنيا، أونتاريو، الوطن.
أرادت ميج أن ترى أيضا.
قالت سينثيا: «لن تفهمي.» لكنها أخذت بأطلس الخرائط إلى المقعد الخلفي.
قالت لميج: «اجلسي ... اجلسي دون حراك. سأريك.»
كنت أستطيع سماعها تذكر مسار الرحلة لميج، بدقة شديدة، مثلما كنت سأفعل ذلك لها. نظرت في جميع خرائط الولايات، وكانت تعرف كيف تعثر عليها بالترتيب الأبجدي.
قالت: «هل تعرفين ما هذا الخط؟ ... هذا هو الطريق. ذلك الخط هو الطريق الذي نقود السيارة عليه الآن. سنسير على هذا الخط.»
لم تقل ميج شيئا.
قالت سينثيا: «أمي، أريني أين نحن الآن تحديدا.»
أخذت الأطلس وأشرت إلى الطريق عبر الجبال، فأخذته وأرته لميج. قالت: «أترين كيف أن الطريق ملتف؟ ... الطريق ملتف لأنه توجد انعطافات كثيرة فيه. الالتفافات هي الانعطافات.» قلبت بعض الصفحات وانتظرت برهة. ثم قالت: «الآن ... أريني أين نحن.» ثم قالت لي: «أمي، إنها تفهم! لقد أشارت إلى الطريق الذي نسلكه! أصبحت ميج تفهم الخرائط!»
يبدو لي الآن أننا ابتدعنا شخصيات لطفلتينا. أعددناهما إعدادا جيدا ليلعبا دوريهما. كانت سينثيا ذكية ومجتهدة، وحساسة، ومهذبة، وحذرة. في بعض الأحيان كنا نغيظها لتمتعها بضمير يقظ أكثر من اللازم، ولحماسها الزائد في أن تكون ما أردنا أن تكون عليه. كان أي تأنيب أو فشل؛ أي تقريع، يؤثر فيها جدا. كانت شقراء، بيضاء البشرة، تظهر عليها بسرعة آثار الشمس ، أو الرياح الشديدة، أو الكبرياء، أو الإذلال. كانت ميج تتمتع ببنية أكثر قوة، وكانت أكثر تكتما؛ لم تكن متمردة بل عنيدة في بعض الأحيان، وغامضة. كانت لحظات صمتها تبدو لنا كما لو كانت تظهر قوة شخصيتها، وكانت مثالبها تعتبر كعلامات على استقلالية ورباطة جأش. كان شعرها بنيا، قصصناه بحيث تنسدل مقدمته فوق جبينها. كانت عيناها بلون بندقي فاتح، حادة ومتلألئة.
كنا مسرورين تماما بهاتين الشخصيتين، مستمتعين بأمارات التعارض فضلا عن أمارات التوافق معهما. كنا نكره الأسلوب الكئيب، غير المبتكر، في تربية الأبناء. كنت أتخوف من التحول إلى نوع محدد من الأمهات، النوع الذي كان جسده يترهل، الذي ينشغل بأعباء تافهة وفكره مشوش. كنت أعتقد أن كل هذا الانتباه الذي توليه هذه الأمهات حاجتهن إلى أن تكن مثقلات بالأعباء، كان سببا في إصابة أطفالهن بالمغص، والتبول اللاإرادي، والربو. كنت أفضل أسلوبا آخر؛ أسلوب التهور المصطنع، التجاهل المبالغ فيه للأمهات المخضرمات اللائي كن يكتبن قصصهن في المجلات. في تلك القصص، كان الأطفال يبدون غاية في العناد، متشبثين بآرائهم، منحرفين، لا يقهرون. وهكذا كانت الأمهات، من خلال ذكائهن، لا يقهرن. كانت الأمهات اللائي كنت أرغب في أن أكون مثلهن هن اللائي يمكن أن يتصلن بأحد الأشخاص ويقلن: «هل طفلي، ذلك الشيطان الصغير، موجود لديك في المنزل؟» كن يسمون فوق التشويش الذهني هذا.
رأينا غزالة ميتة مربوطة في واجهة شاحنة صغيرة.
قالت سينثيا: «أطلق أحدهم النار عليها ... يطلق الصائدون النار على الغزلان.»
قال أندرو: «لم يحن بعد موسم الصيد ... ربما صدمها أحد على الطريق. أترين اللافتة الخاصة بعبور الغزلان؟»
قالت سينثيا في حدة: «سأبكي لو صدمنا غزالة.»
كنت قد صنعت شطائر من المربى وزبد الفول السوداني للأطفال وشطائر سلمون بالمايونيز لنا. لكنني لم أضع أي خس فيها، وكان أندرو يشعر بالإحباط بسبب ذلك.
قلت: «ليس معي أي شرائح خس.» «ألم يكن بإمكانك أن تشتري بعض الخس؟» «كنت سأشتري خسة كاملة لأحصل منها على ما يكفي فقط للشطائر، ثم قررت أن الأمر لا يستحق.»
كانت هذه كذبة . كنت قد نسيت. «الشطائر أفضل كثيرا بالخس.» «لم أكن أظن أنه يصنع كل هذا الفارق.» ثم بعد فترة صمت، قلت: «لا تغضب.» «لست غاضبا. أحب الخس في الشطائر.» «لم أكن أعتقد فقط أن الأمر مهم كثيرا هكذا.» «كيف سيكون الأمر إذا لم أعبأ بملء خزان الوقود؟» «ليس هذا نفس الشيء.»
قالت سينثيا: «فلنغن أغنية.» وبدأت تغني:
خرجت خمس بطات صغيرة ذات يوم،
عبر التلال وبعيدا.
صاحت إحدى البطات الصغيرة: «كواك، كواك، كواك.»
عادت أربع بطات صغيرة تسبح.
ضغط أندرو على يدي وقال: «دعينا لا نتشاجر.» «أنت على حق. كان يجب أن أجلب خسا.» «لا يهم الأمر كثيرا.»
تمنيت لو كنت أستطيع أن أجمع مشاعري تجاه أندرو في صورة شعور عملي يمكن الاعتماد عليه. كنت قد حاولت كتابة قائمتين، إحداهما للأشياء التي كانت تعجبني فيه، والأخرى للأشياء التي لا تعجبني فيه - في بوتقة الحياة الحميمة، الأشياء التي كنت أحبها فيه والأشياء التي كنت أكرهها فيه - كما لو كنت آمل من خلال هذا في إثبات شيء، في الوصول إلى نتيجة محددة. لكنني تخليت عن ذلك عندما رأيت أن كل ما كان ذلك يثبته هو ما كنت أعرفه بالفعل؛ أن لدي تناقضات صارخة. في بعض الأحيان، كان مجرد صوت وقع أقدامه يبدو لي استبداديا، وشكل فمه يشي بالغرور والوضاعة، وجسده القوي المستقيم مانعا يحول - بصورة واعية تماما، بل عن التزام، وفي استمتاع بغيض بسلطته الذكورية - بيني وبين أي متعة أو بهجة يمكن أن أمر بها في حياتي. ثم، دون سابق إنذار، كنت أراه الصديق الطيب والرفيق الوفي. وأشعر بالعذوبة في عظامه الخفيفة وأفكاره الجادة، رقة حبه، الذي تصورته أكثر نقاء ومباشرة من حبي. كنت أعجب بشدة بتعنته، بانضباطه الشديد، وهو أمر كنت أزدريه في أوقات أخرى. كنت أفكر كيف كان متواضعا، حقيقة، وهو يلعب دور الزوج، الأب، المعيل المألوف، وكيف كنت أنا نفسي بالمقارنة وحشا أنانيا خفيا. ليس خفيا تماما؛ ليس بالنسبة إليه.
في أعماق شجاراتنا، كنا نظهر ما كنا نعتقد أنها أقبح الحقائق. قال أندرو ذات مرة: «أعلم أن بك مسحة من الأنانية وأنه لا محل للثقة بك ... كنت أعلم ذلك دوما. أعلم أيضا أنني لهذا السبب أحببتك.»
قلت شاعرة بالأسف والرضا في آن واحد: «نعم.» «أعلم أني سأكون أفضل حالا بدونك.» «نعم. ستكون كذلك.» «ستكونين أكثر سعادة بدوني.» «نعم.»
وفي النهاية - في النهاية - بعد تألمنا وتطهرنا، كان كل منا يشد على يد الآخر ونضحك، نضحك من هذين الشخصين الجاهلين، نضحك من أنفسنا. نضحك من أحقادنا، شكوانا، تبريراتنا. كنا نتجاوز هذين الشخصين. كنا نعدهما كذابين. كنا نتناول خمرا على العشاء، أو نقرر إقامة حفل.
لم أر أندرو منذ سنوات، ولا أعرف إن كان لا يزال نحيفا، أو تحول شعره إلى الرمادي بالكامل، أو لا يزال يصر على تناول الخس، أو قول الحقيقة، أو إن كان لا يزال مخلصا ومحبطا. •••
قضينا الليل في ويناتشي بواشنطن، حيث لم تكن قد أمطرت لأسابيع. تناولنا العشاء في مطعم مقام حول شجرة؛ ليست شجيرة في حوض، لكن شجرة زيزفون طويلة، ومتينة. في ضوء الصباح الباكر، خرجنا من الوادي المروي، صعودا عبر منحدرات التلال الجافة، الصخرية، شديدة الانحدار التي كان يبدو أنها تفضي إلى مزيد من التلال، وهناك عند القمة كانت توجد هضبة عريضة، يقطعها نهرا سبوكين وكولومبيا. كانت توجد أراض مزروعة بالحبوب ومساحات من الحشائش، ميلا بعد ميل. كانت ثمة طرق مستقيمة هنا، وبلدات زراعية صغيرة بها رافعات حبوب. في حقيقة الأمر، كانت ثمة لافتة تشير إلى أن المقاطعة التي كنا نمر بها، مقاطعة دوجلاس، تحقق ثاني أعلى إنتاج من القمح بين مقاطعات الولايات المتحدة. كانت البلدات تزرع أشجار ظل. على الأقل، كنت أعتقد أنها مزروعة؛ نظرا لعدم وجود أشجار كبيرة بمثل هذا الحجم في الريف.
كنت معجبة بكل هذا بشدة. قلت لأندرو: «لماذا أحب هذه الأماكن بشدة؟ ... هل لأنها ليست مناظر طبيعية؟»
قال أندرو: «إنها تذكرك بوطنك ... نوبة من الحنين الشديد.» لكنه قال ذلك في حنو.
عندما قلنا «وطننا» وكنا نشير إلى أونتاريو، كنا نفكر في مكانين مختلفين جدا. كان منزلي عبارة عن مزرعة ديوك رومية، حيث كان أبي يعيش كأرمل، وعلى الرغم من أنه كان المنزل نفسه الذي كان يعيش فيه مع أمي، الذي كانت قد غطته بورق الحائط، وطلته ونظفته وأثثته، كانت تبدو عليه الآن آثار الإهمال والمناسبات الاجتماعية الصاخبة. كان المنزل يشهد حياة لم تكن أمي لتتوقعها أو توافق عليها. كان العاملون بالمزرعة يقيمون حفلات، هؤلاء الذين يذبحون الديوك الرومية وينظفونها ويعدونها للبيع، وفي بعض الأحيان كان شاب أو اثنان منهم يقيمان هناك بعض الوقت، داعيين أصدقاءهما لحفلات دون ترتيب مسبق. أعتقد أن هذه الحياة أفضل بالنسبة لأبي من وحدته، وأنا لم أكن أعترض عليها، ولم يكن بالتأكيد لدي أي حق في الاعتراض. لم يكن أندرو يحب أن يذهب إلى هناك، وهو ما كان أمرا طبيعيا؛ لأنه لم يكن من النوع الذي يمكن أن يجالس مثل هؤلاء الأشخاص حول مائدة تجهيز الديوك الرومية، وهم يطلقون النكات. كانوا يرهبونه ويزدرونه، وكان يبدو أن أبي، عندما يكونون موجودين، يضطر إلى أن يكون إلى جانبهم. ولم يكن أندرو فقط هو من كان يواجه متاعب. كنت أستطيع تحمل نكاتهم، لكن كان ذلك يحتاج مني بعض الجهد.
كنت أتوق إلى الأيام التي كنت صغيرة فيها، قبل أن نربي الديوك الرومية. كان لدينا أبقار، وكنا نبيع اللبن لمصنع الجبن. لا تساوي مزرعة ديوك رومية في جمالها مزرعة أبقار أو مزرعة أغنام. يمكن أن يلاحظ المرء أن الديوك الرومية ليس أمامها إلا طريق واحد تسلكه وهو أن تصبح ذبائح وشرائح لحم مجمدة. لا تملك الديوك الرومية حياة خاصة بها، مراعي هانئة، مثلما تملك الأبقار، أو بساتين تتخللها الظلال مثل الخنازير. حظائر الديوك الرومية عبارة عن أماكن عريضة، منظمة؛ أكواخ من الصفيح. لا توجد دعائم أو قش أو حظائر مدفأة. وحتى رائحة الروث تبدو أكثر حدة وشناعة من الرائحة المعتادة للروث في الإسطبلات. لا يوجد هناك أي أثر لأكوام القش، والسياجات الخشبية، والطيور المغردة، والزعرور البري المزهر. كانت الديوك الرومية تطلق جميعها في حقل واحد طويل، كانت تلتقط ما به عن آخره. لم تكن الديوك الرومية تبدو هناك مثل طيور عظيمة بل مثل غسيل متطاير.
ذات مرة، بعد وقت قصير من وفاة أمي، وبعد أن تزوجت - في حقيقة الأمر، كنت أعد حقائبي للحاق بأندرو في فانكوفر - ظللت في المنزل وحدي يومين مع أبي. كانت ثمة أمطار شديدة طوال الليل. في ضوء النهار المبكر، رأينا حقل الديوك الرومية غارقا في المياه. على الأقل، كانت الأجزاء الخفيضة منه مغمورة بالمياه؛ كان الحقل يبدو مثل بحيرة بها جزر عديدة. كانت الديوك الرومية مجتمعة معا حول هذه الجزر. الديوك الرومية غبية جدا. (كان أبي يقول: «هل تعرفين الدجاجة؟ هل تعرفين مدى غباء الدجاجة؟ حسنا، تعتبر الدجاجة أينشتاين مقارنة بالديك الرومي.») لكن الديوك الرومية نجحت في التجمع معا على أراض مرتفعة وتجنبت الغرق في المياه. خشينا أن تدفع الديوك بعضها بعضا في الماء، فتختنق، أو تصاب بالبرد فتموت. لم نستطع الانتظار حتى ينصرف الماء. خرجنا في زورق قديم كنا نملكه. جدفت وكان أبي يمسك بالديوك الرومية كبيرة الحجم، المبتلة ويضعها في الزورق، ثم أخذناها إلى الحظيرة. كان المطر لا يزال ينزل وإن كان قليلا. كانت المهمة صعبة وسخيفة وغير مريحة على الإطلاق. كنا نضحك. كنت سعيدة أنني كنت أعمل مع أبي. شعرت بقربي من هذا العمل الشاق المتكرر الهائل، الذي ينهك الجسد فيه في النهاية، ويغرق فيه العقل (على الرغم من أن الروح ربما تظل هائمة أحيانا على نحو مدهش)، وكنت أشعر بالحنين مقدما إلى هذه الحياة وهذا المكان. كنت أعتقد أنه إذا كان بإمكان أندرو أن يراني هناك في المطر، متلبسة، متسخة، أحاول أن أمسك بأرجل الديوك الرومية وأجدف في الوقت نفسه؛ لكان سيرغب في إخراجي من هناك ويجعلني أنسى كل شيء عن الأمر. كانت هذه الحياة البدائية تغضبه. كان التصاقي بهذه الحياة يغضبه. كنت أعتقد أنني ما كان يجب أن أتزوجه. لكن من سواه يمكن أن أتزوج؟ أحد العاملين مع أبي في المزرعة؟
ولم أكن أريد أن أمكث هناك. ربما ينتابني شعور سيئ حيال الرحيل، لكنني كنت سأشعر بما هو أسوأ إذا أرغمني أحد على البقاء هناك.
كانت والدة أندرو تعيش في تورونتو، في مجمع سكني يطل على متنزه موير. عندما كان أندرو وأخته في المنزل، كانت أمه تنام في غرفة المعيشة. كان زوجها، طبيب، قد مات عندما كان الأطفال أصغر من أن يذهبوا إلى المدرسة. تلقت دورة تدريبية في أعمال السكرتارية وباعت المنزل بأسعار فترة الكساد العظيم، وانتقلت إلى هذه الشقة، ونجحت في تربية أبنائها، بمساعدة بعض الأقارب؛ أختها كارولين، وزوج أختها روجر. ذهب أندرو وأخته إلى مدارس خاصة وكانا يذهبان إلى معسكرات في الصيف.
قلت ذات مرة، هازئة بادعائه بأنه كان فقيرا: «أعتقد أن هذا كان بفضل مؤسسة فريش آير فاند، أليس كذلك؟» في ذهني، كانت حياة أندور في المدينة مرفهة ولا تعتريها أي مشكلات مادية. كانت أمه تعود إلى المنزل وهي تعاني من الصداع من العمل طوال اليوم في الضوضاء، والضوء الشديد لمكتب إداري بأحد المتاجر الكبرى، لكن لم يجل بخاطري أن حياتها كانت حياة قاسية أو مثيرة للإعجاب. لا أعتقد أنها هي نفسها كانت تعتقد أنها مثيرة للإعجاب؛ كانت تعتقد فقط أنها غير محظوظة. كانت قلقة بشأن عملها في المكتب، وملابسها، وطهيها، وأطفالها. كانت قلقة أكثر من أي شيء آخر حيال نظرة روجر وكارولين لها ولما تفعل.
كان روجر وكارولين يعيشان على الجانب الشرقي من المتنزه، في منزل حجري جميل. كان روجر رجلا طويلا ذا رأس أصلع منمش، وبطن بدين صلب. كان قد خضع لعملية في حنجرته أفقدته صوته؛ كان يتحدث في صوت هامس مبحوح. لكن كان الجميع يفهم ما يقول. على العشاء ذات مرة في المنزل الحجري - حيث كانت كل قطع الأثاث الموجودة في غرفة الطعام كبيرة الحجم، وفخمة وذات دهان داكن - سألته سؤالا. أعتقد أن السؤال كان يتعلق بويتيكر تشامبرز، الذي كانت قصته تنشر آنذاك في مجلة «صنداي إيفينينج بوست». كان السؤال هادئا في نبرته، لكنه أدرك هدفه الهدام، وأخذ في مناداتي باسم السيدة جروميكو، مشيرا إلى ما زعم أنه «ميولي المتعاطفة». ربما كان يرغب بشدة حقيقة في غريم، ولم يفلح في العثور على أحد. في ذلك العشاء، رأيت يد أندرو ترتعش عند إشعاله سيجارة أمه. كان العم روجر قد دفع مقابل تعليم أندرو، وكان عضوا في مجالس إدارات شركات عديدة.
قال أندرو لي لاحقا: «ليس إلا رجلا شيخا متصلب الرأي ... ما فائدة الجدل معه؟»
قبل أن نرحل من فانكوفر، كانت والدة أندرو قد كتبت قائلة: «يبدو أن روجر يشعر بالضيق البالغ من فكرة شرائك سيارة صغيرة!» أظهرت علامة التعجب قلقها. في ذلك الوقت، خاصة في أونتاريو، كان ينظر إلى تفضيل سيارة أوروبية صغيرة على سيارة أمريكية كبيرة باعتباره إعلانا من نوع ما؛ إعلانا حول ميول كان روجر يبغضها طوال الوقت.
قال أندرو في حنق: «ليست سيارة صغيرة على هذا النحو.»
قلت: «ليست هذه هي المسألة ... المسألة أن الأمر لا يخصه على الإطلاق!» •••
قضينا الليلة الثانية في ميزولا. أخبرنا شخص ما في سبوكين، في إحدى محطات الوقود، أنه يوجد الكثير من أعمال الإصلاحات التي تجري على الطريق السريع 2، وأن أمامنا طريقا طويلا سنقود السيارة فيه في ظل درجة حرارة مرتفعة وغبار شديد، وفترات انتظار طويلة؛ لذا تحولنا إلى الطريق الواصل بين الولايات وقدنا السيارة عبر كور دو لين وكيلوج إلى مونتانا. بعد ميزولا، انعطفنا جنوبا في اتجاه بيوت، لكننا انحرفنا عن الطريق لنرى هيلينا، عاصمة ولاية مونتانا. وفي السيارة، لعبنا لعبة «من أنا؟»
كانت سينثيا تمثل شخصية شخص ميت، أمريكي. بنت وربما سيدة. لم تكن جزءا من أي قصة. ولم يرها أحد على التليفزيون. ولم يقرأ أحد عنها في أي كتاب. ولم تأت يوما إلى الحضانة، أو لم تكن قريبة إلى أي من أصدقاء سينثيا.
قال أندرو، في فطنة مفاجئة: «هل هي إنسان؟» «لا! هذا ما نسيت أن تسأله!»
قلت في إطراق: «حيوان.» «هل هذا سؤال؟ هناك ستة عشر سؤالا فقط!» «لا، هذا ليس سؤالا. لا أزال أفكر . حيوان ميت.»
قالت ميج، التي لم تكن تشارك في اللعب: «إنه الغزال.»
قالت سينثيا: «هذا ليس عدلا! ... هي لا تلعب معنا!»
سأل أندرو: «أي غزال؟»
قلت: «الذي رأيناه أمس.»
قالت سينثيا: «أول أمس ... لم تكن ميج تلعب. لم يصل للحل أحد.»
قال أندرو: «الغزال الذي كان على الشاحنة.»
قالت سينثيا: «كانت غزالة وليس غزالا؛ لأنها لم تكن لديها قرون، وكانت أمريكية وكانت ميتة.»
قال أندرو: «أظن أن الأمر مقبض قليلا، كونها غزالة ميتة.»
قالت ميج: «عرفت الحل».
قالت سينثيا: «أظن أنني أعرف معنى كلمة مقبض. معناها كئيب.»
كانت هيلينا، وهي بلدة قديمة تقوم على التنقيب عن الفضة، تبدو لنا مهجورة حتى في ضوء شمس الصباح. ثم مررنا ببوزمان وبيلينجز، اللتين لم تبدوا لنا مهجورتين على الإطلاق؛ فقد كانتا من البلدات المفعمة بالحياة، العامرة، التي تمتد فيها الزينات المغشية للأبصار لأميال فوق باحات السيارات المستعملة. بلغ التعب منا مبلغه وشعرنا بحر شديد حتى لم نعد حتى نستطيع أن نلعب لعبة «من أنا؟» ذكرتني هذه المدن المزدحمة الكئيبة بأماكن مشابهة لها في أونتاريو، وكنت أفكر فيما ينتظرنا حقا هناك؛ الأثاث كبير الحجم في غرفة طعام روجر وكارولين، وحفلات العشاء التي يجب أن أكوي ملابس الأطفال من أجلها وأحذرهم من الشوك، ثم الطاولة الأخرى التي على بعد مئات الأميال، ونكات العاملين مع أبي. كان يجب انتزاع المتع التي كنت أفكر فيها - الاستمتاع بالمناظر في الريف أو تناول أحد المشروبات الغازية في متجر قديم الطراز ذي مراوح، وسقف عال من صفيح مضغوط - بين المكانين.
قالت سينثيا: «ميج نائمة ... درجة حرارتها مرتفعة جدا. تجعلني أشعر بحرارة بالغة في المقعد الذي نجلس عليه معا.»
قلت، دون أن أستدير: «آمل ألا تكون لديها حمى.»
لماذا نفعل ذلك؟ هكذا حدثت نفسي، وجاءت الإجابة: بهدف التباهي. حتى نمنح أبي ووالدة أندرو متعة رؤية أحفادهما. كان ذلك واجبنا. لكن بخلاف ذلك، كنا نريد أن نريهما أننا، أنا وأندرو، أبناء صعاب المراس، وأننا نبحث في جد عن الثناء. كان الأمر كما لو كنا قد تلقينا عند نقطة ما رسالة لا تنسى، ولا تفهم؛ أن أداءنا ليس مرضيا على الإطلاق، وأننا بعيدان كل البعد عن تحقيق حتى أبسط نجاح. كان روجر هو من يرسل مثل هذه الرسائل، بالطبع - كان هذا أسلوبه - لكن والدة أندرو، وأمي، وأبي لم يكونوا يقصدون ذلك. كان كل ما كانوا يقصدون أن يخبرونا إياه هو: «احترسا. استمرا بثبات فيما أنتما ماضيان فيه.» كان أبي يغيظني، عندما كنت في المدرسة الثانوية، ويقول لي إنني كنت أعتقد أنني في غاية الذكاء لدرجة أنني لن أواعد أحدا. كان ينسى أشياء كهذه في غضون أسبوع. لم أنس ذلك قط. لم يكن أندرو وأنا ننسى الأشياء. كنا نستاء استياء شديدا.
قالت سينثيا: «أتمنى أن نجد شاطئا هنا.»
قال أندرو: «يوجد واحد على الأرجح ... بعد المنعطف التالي مباشرة.»
قالت، وصوتها ينبئ عن الشعور بالإهانة: «لا توجد أي منعطفات.» «هذا ما أعنيه.» «كنت أتمنى لو أنه يوجد مزيد من عصير الليمون.»
قلت: «سألوح بعصاي السحرية وأنتج البعض منه.» «هل توافقين على ذلك يا سينثيا؟ أم تفضلين تناول عصير كرم؟ وهل أصنع لك شاطئا؟»
صمتت، وسرعان ما شعرت بالندم. قلت: «ربما في البلدة التالية يوجد مسبح.» نظرت في الخريطة. «في مايلز سيتي. على أي حال، سيكون ثمة شيء بارد نشربه.»
سأل أندرو: «كم تبعد؟»
قلت: «ليست بعيدة جدا ... ثلاثين ميلا، تقريبا.»
قالت سينثيا، بنبرة من يتلو تعويذة: «في مايلز سيتي ... يوجد مسبح أزرق جميل للأطفال، ومتنزه ذو أشجار رائعة.»
قال أندرو لي: «ربما تكون توقعاتك مبالغا فيها.» •••
لكن كان هناك مسبح. كان يوجد متنزه، أيضا، على الرغم من أنه لم يكن واحة كما تصورته سينثيا في خيالها. أشجار مروج ذات أوراق نحيفة - أشجار زيزفون وحور - حشائش بالية، وسياج سلكي عال حول المسبح. داخل السياج، جدار، لم يكتمل بناؤه بعد، من الكتل الأسمنتية. لم يكن ثمة صيحات أو صوت رش مياه؛ فعند المدخل رأيت لافتة تقول إن المسبح مغلق يوميا من وقت الظهيرة حتى الساعة الثانية عصرا . كانت الساعة آنذاك الثانية عشرة وخمسا وعشرين دقيقة.
على الرغم من ذلك ناديت قائلة: «هل أحد هنا؟» كنت أظن أنه لا بد أن يوجد أحد؛ نظرا لوجود شاحنة صغيرة منتظرة قرب المدخل. على جانب الشاحنة كتبت هذه الكلمات: «لدينا من المهارة ما يمكننا من القيام بكافة أعمال السباكة. (لدينا أيضا جهاز روتو-رووتر.)»
خرجت فتاة ترتدي قميص عاملة إنقاذ أحمر اللون فوق ثوب استحمامها. «آسفة، المكان مغلق.»
قلت: «مررنا بالمكان فقط في أثناء سفرنا.» «نغلق كل يوم من الثانية عشرة إلى الثانية. هذا مكتوب على اللافتة.» كانت تأكل شطيرة.
قلت: «رأيت اللافتة ... لكن هذ المسبح هو أول مياه نراها منذ وقت طويل للغاية، ويشعر الأطفال بالحرارة الشديدة، وكنت أتساءل إذا كانوا يستطيعون العوم قليلا ثم الخروج من المياه، لمدة خمس دقائق فقط. وسنراقبهم.»
ظهر صبي خلفها. كان يرتدي بنطال جينز وتي-شيرت عليه كلمات «روتو-رووتر».
كنت سأقول إننا كنا نقود السيارة من كولومبيا البريطانية إلى أونتاريو، لكنني تذكرت أن أسماء الأماكن الكندية عادة لا تكون ذات معنى على الإطلاق بالنسبة للأمريكيين. قلت: «نمر عبر الطريق فقط ... ليس لدينا وقت حتى يفتح المسبح. كنا فقط نأمل أن تبرد أجسام الأطفال قليلا.»
جاءت سينثيا وهي تعدو حافية القدمين خلفي. «أمي. أمي، أين ثوب استحمامي؟» ثم توقفت، لامسة جدية مفاوضات الكبار. كانت ميج تنزل من السيارة؛ استيقظت لتوها، وكانت كنزتها مرفوعة إلى أعلى وبنطالها القصير هابطا إلى الأسفل، كاشفا عن بطنها قرنفلية اللون.
قالت الفتاة: «هل هما هاتان الفتاتان فقط؟» «فقط هاتان الاثنتان. سنراقبهما.» «لا أستطيع أن أسمح بدخول بالغين. إذا كان الأمر يقتصر على هاتين الفتاتين، فأظن أنني سأراقبهما. إنني أتناول الآن غدائي.» ثم قالت لسينثيا: «هل تريدين أن تسبحي في المسبح؟»
قالت سينثيا في ثبات: «نعم، من فضلك.»
نظرت ميج إلى الأرض.
قلت: «فقط لمدة قصيرة؛ لأن المسبح مغلق.» وقلت للفتاة: «نقدر ذلك كثيرا.» «حسنا، أستطيع أن أتناول غدائي هناك، إذا كان لا يوجد سواهما.» نظرت في اتجاه السيارة كما لو كانت تظن أنني سأقذف بمزيد من الأطفال في اتجاهها.
عندما وجدت ثوب استحمام سينثيا، أخذته سينثيا إلى غرفة تبديل الملابس. لم تكن لتسمح لأحد، حتى ميج، أن يراها عارية. غيرت ملابس ميج، التي وقفت على المقعد الأمامي للسيارة. كانت ترتدي ثوب استحمام قطنيا قرنفليا ذا حمالات متقاطعة ومزررة. كانت توجد بعض الثنيات عبر الأرداف.
قلت: «إن درجة حرارتها عالية ... لكنني لا أظن أنها مصابة بالحمى.»
كنت أحب مساعدة ميج في ارتداء وخلع ملابسها؛ لأن جسدها كان لا يزال يحتفظ بعدم الوعي بنفسه، عدم الاكتراث العذب، شيء من الرائحة اللبنية، رائحة جسد الرضيع. كان جسد سينثيا قد فقد استدارته الطفولية منذ وقت طويل، تشكل وتغير، إلى شكل جسدها كطفلة كبيرة. كنا نحب جميعا أن نحتضن ميج، ونضمها، ونحكها بأنوفنا. في بعض الأحيان، كانت تصرخ وتضربنا، وهذا الاستقلال الصريح، هذا الخجل الأبي، جعلها أكثر جاذبية، أكثر ميلا لأن تغاظ وتداعب من قبيل الحب العائلي.
جلسنا أنا وأندرو في السيارة تاركين النوافذ مفتوحة. كنت أستطيع سماع صوت الراديو، وكنت أظن أنه خاص بالفتاة أو رفيقها. كنت أشعر بالظمأ، فخرجت من السيارة لأبحث عن كشك لبيع الوجبات الخفيفة، أو ربما ماكينة للمشروبات المرطبة، في مكان ما في المتنزه. كنت أرتدي سروالا قصيرا، وكانت رجلاي من الخلف لزجة جراء العرق. رأيت نافورة شرب على الجانب الآخر من المتنزه، وكنت أسير في اتجاهها على نحو متعرج، سائرة في الظل تحت الأشجار. لا يصبح أي مكان حقيقيا إلا عندما يخرج المرء من السيارة. متعبة بسبب الحرارة؛ حيث كانت أشعة الشمس تسقط على المنازل ذات البقع المرقطة، والرصيف، والحشائش المحترقة بفعل الحرارة. كنت أسير ببطء. انتبهت إلى ورقة شجر مسحوقة، ودهست عصا مصاصة تحت كعب صندلي، وحدقت في صفيحة قمامة كانت مربوطة إلى شجرة. كانت هذه هي الطريقة التي ينظر المرء بها إلى أدق التفاصيل في عالم يعاود الظهور، بعد القيادة فترة طويلة؛ يشعر المرء بالوحدة، وبالمكان بدقة، والمصادفة العجيبة للوجود في مكان كهذا لرؤية هذه الأشياء . «أين الطفلتان؟»
استدرت وتحركت بسرعة - لم يكن جريا - إلى جانب من السياج حيث لم يكن الحائط الأسمنتي أمامه قد اكتمل. كنت أستطيع أن أرى جزءا من المسبح. رأيت سينثيا، واقفة حتى وسطها في الماء، ترفع يديها في اهتياج على السطح وتراقب شيئا في حذر في نهاية المسبح، وهو شيء لم يكن بإمكاني رؤيته. ظننت من خلال وقفتها، وحذرها، والنظرة على وجهها، أنها كانت ترقب بعض المداعبات بين عاملة الإنقاذ ورفيقها. لم أستطع أن أرى ميج. لكنني ظننت أنها تلعب في الجزء الضحل من المياه؛ لم أستطع أن أرى الجزء العميق والجزء الضحل من المياه. «سينثيا!» اضطررت إلى النداء مرتين قبل أن تعرف المكان الذي كان يأتي منه الصوت. «سينثيا! أين ميج؟»
يبدو الأمر لي دوما، عندما أتذكر هذا المشهد، أن سينثيا كانت تستدير في خفة شديدة ناحيتي، ثم تستدير بكامل جسدها في المياه - ما يجعلني أستحضر صورة راقصة باليه ترقص بكفاءة - وتفرد ذراعيها في إشارة مسرحية. «اخ-ت-فت!»
كانت سينثيا تتمتع بخفة طبيعية، وكانت تتلقى دروسا في الرقص؛ لذا قد تكون هذه الحركات مثلما أشرت إليها. قالت: «اختفت» بعد أن نظرت حولها في كل مكان في المسبح، لكن الأسلوب المصطنع الغريب في الحديث والإشارة، غياب الشعور بأهمية الأمر، هو على الأرجح من إبداع خيالي. لا بد أن شعور الخوف الذي أحسست به في الحال عندما لم أستطع أن أرى ميج - حتى وأنا أحدث نفسي أنها في الجزء الضحل من المياه - جعل حركات سينثيا تبدو بطيئة وغير ملائمة إلى حد مذهل بالنسبة إلي، وسمعت النبرة التي قالت بها «اختفت» قبل أن تصدمها تداعيات الموقف (فهل تراها كانت تخفي، في الحال، شعورا بالذنب؟) كنبرة هادئة على نحو مذهل، ورزينة على نحو مخيف.
صرخت منادية على أندرو، فجاءت عاملة الإنقاذ في الحال. كانت تشير إلى الجزء العميق من المسبح، قائلة: «ما هذا؟»
هناك، في نطاق رؤيتي، ظهرت مجموعة من التعرجات القرنفلية تحت سطح المياه. لماذا تتوقف عاملة إنقاذ وتشير؟ ولماذا تسأل عن ماهية الأمر؟ ولماذا لا تغطس في المياه وتسبح في اتجاهه؟ لم تسبح؛ جرت بطول حافة المسبح. لكن بحلول ذلك الوقت، كان أندرو قد قفز فوق السياج. بدت الكثير من الأشياء غير مقنعة على الإطلاق - سلوك سينثيا، ثم عاملة الإنقاذ - والآن راودني الانطباع أن أندرو تجاوز هذا السياج - الذي بدا ارتفاعه ما يقرب من سبعة أقدام - بقفزة واحدة. يبدو أنه تسلق السياج بسرعة كبيرة، ممسكا بالسلك.
لم أستطع أن أقفز أو أتسلق السياج؛ لذا عدوت إلى المدخل، حيث كانت ثمة بوابة معدنية ذات أسلاك متشابكة، مغلقة. كانت مرتفعة جدا، ورفعت نفسي فوقها وتسلقتها. ثم عدوت عبر الممرات الأسمنتية، عبر المسبح المطهر للأقدام، وخرجت إلى حافة المسبح.
انتهت الدراما.
كان أندرو قد وصل إلى ميج أولا، وأخرجها من المياه. لم يكن عليه سوى أن يمد جسده ويمسكها؛ لأنها كانت تسبح على نحو ما، برأسها تحت المياه؛ كانت تتحرك في اتجاه حافة المسبح. كان يحملها الآن، وكانت عاملة الإنقاذ تركض خلفه. كانت سينثيا قد خرجت من المياه وكانت تعدو لملاقاتهم. كان الشخص الوحيد المنعزل عن الموقف هو رفيق عاملة الإنقاذ، الذي ظل جالسا على المقعد عند الطرف غير العميق من المياه، يشرب شراب مخفوق اللبن. كان يبستم لي، وكنت أعتقد أن في ذلك عدم إحساس منه، حتى مع انقضاء الخطر. ربما كان يقصد من ذلك إيصال الشعور بالتعاطف. لاحظت أنه لم يغلق الراديو بل خفض صوته.
لم تكن ميج قد ابتلعت أي مياه. لم تكن حتى قد أخافت نفسها. كان شعرها ملتصقا برأسها وكانت عيناها مفتوحتين عن آخرهما، تبرقان من الدهشة.
قالت: «كنت أحضر المشط ... لم أكن أعلم أن الماء عميق.»
قال أندرو: «كانت تسبح! كانت تسبح بمفردها. رأيت ثوب استحمامها في المياه ثم رأيتها تسبح.»
قالت سينثيا: «كادت تغرق ... أليس كذلك؟ كادت ميج تغرق.»
قالت عاملة الإنقاذ: «لا أعرف كيف يمكن أن يحدث ذلك ... في لحظة كانت هناك، ثم في اللحظة التالية اختفت.»
كان ما حدث هو أن ميج كانت قد خرجت من المياه عند الطرف الضحل، وجرت بطول حافة المسبح في اتجاه الطرف العميق. رأت مشطا كان أحد الأشخاص تركه ملقى في القاع. انحنت لأسفل ومدت يدها لالتقاطه، منخدعة تماما بشأن عمق المياه. اقتربت جدا من الحافة وزلت قدماها ووقعت في المسبح، دون أن تحدث صوتا كبيرا لدرجة أن أحدا لم يسمعها، لا عاملة الإنقاذ التي كانت تقبل رفيقها، ولا سينثيا، التي كانت تراقبهما. لا بد أن هذه هي اللحظة عندما حدثت نفسي متسائلة: أين الطفلتان؟ لا بد أن تلك كانت هي اللحظة ذاتها. في تلك اللحظة، كانت ميج قد انزلقت ووقعت، مندهشة، في المياه الزرقاء الصافية الخادعة.
قلت لعاملة الإنقاذ، التي كانت تبكي تقريبا: «لا عليك ... إنها تتحرك بسرعة كبيرة.» (على الرغم من أن ذلك لم يكن عادة ما نقوله بشأن ميج على الإطلاق. كنا نقول إنها كانت تفكر في كل شيء مليا وتأخذ وقتها.)
قالت سينثيا، بطريقة تنم على تهنئة: «كنت تسبحين يا ميج.» (أخبرتنا عن التقبيل لاحقا.)
قالت ميج: «لم أعرف أن المياه كانت عميقة ... لم أغرق.» •••
تناولنا الغداء في مطعم وجبات سريعة في مكان مفتوح، وكان الطعام عبارة عن شطائر هامبورجر وبطاطس مقلية على مائدة حديقة لا تبعد كثيرا عن الطريق السريع. في غمار شعوري بالإثارة، نسيت أن أعد لميج شطيرة هامبورجر سادة، فاضطررت إلى إزالة الصوص والمسطردة بملاعق بلاستيكية، ثم مسح الهامبورجر بمنشفة ورقية، قبل أن تأكله. ثم واصلنا القيادة شرقا، تاركين نوافذ السيارة الأمامية مفتوحة. خلدت سينثيا وميج إلى النوم في المقعد الخلفي.
تحدثت أنا وأندرو في هدوء عما حدث. ماذا إذا لم يواتني الحدس في تلك اللحظة للاطمئنان على الأطفال؟ وماذا لو أننا كنا قد ذهبنا إلى الجزء الراقي من البلدة لتناول الشراب، مثلما كنا نفكر؟ وكيف استطاع أندرو القفز فوق السياج؟ وهل قفز أم تسلق؟ (لا يستطيع أن يتذكر.) كيف استطاع الوصول إلى ميج بهذه السرعة؟ وتذكرنا كيف أن عاملة الإنقاذ لم تكن منتبهة. وسينثيا، كانت مستغرقة تماما في مشاهدة عملية التقبيل. لا ترى أي شيء آخر. لا ترى ميج تنسل من الحافة.
اختفت.
لكنها سبحت. كتمت أنفاسها وصعدت إلى السطح سابحة.
يا لها من سلسلة عجيبة من المصادفات.
كان هذا هو كل ما تحدثنا عنه؛ المصادفة. لكنني كنت أشعر بميل شديد لأتصور العكس. في هذه اللحظة، كان من الممكن أن نكون الآن نملأ استمارات الوفاة. وقد أخذت ميج منا، وجسدها يعد للنقل. إلى فانكوفر - حيث لم نلحظ قط وجود جبانة - أو إلى أونتاريو؟ كانت شخبطة الرسوم التي رسمتها هذا الصباح لا تزال في المقعد الخلفي في السيارة. كيف يمكن تحمل ذلك كله على الفور، كيف يستطيع الناس احتمال الأمر؟ الكتفان الممتلئتان الجميلتان، واليدان، والقدمان، والشعر البني الناعم، تعبير الوجه القانع الكتوم؛ يبدو كل ذلك تماما مثلما كانت حية. المأساة الأكثر شيوعا. طفل يغرق في مسبح في وقت الظهيرة في يوم مشمس. تنتظم الأمور بسرعة. يفتح المسبح كالعادة في الساعة الثانية. تشعر عاملة الإنقاذ بالصدمة قليلا وتأخذ إجازة بقية اليوم. تمضي بعيدا مع رفيقها في شاحنة روتو-رووتر. يوضع الجسد في تابوت محكم الغلق استعدادا لشحنه. المهدئات، المكالمات الهاتفية، الترتيبات. فراغ مفاجئ، انهيار وانتقال. الاستيقاظ مترنحة جراء الأقراص، التفكير للحظة أن الأمر ليس صحيحا. تمني لو أننا لم نتوقف، لو أننا لم نسلك هذا الطريق، لو لم يسمح لنا باستخدام المسبح. ربما لم يكن أحد سيعرف أي شيء عن المشط.
هناك شيء حقير حيال هذا النوع من التفكير، أليس كذلك؟ شيء مشين. الأمر يشبه وضع الأصابع على السلك لتلقي صدمة آمنة، للشعور بقدر ما كيف يكون الأمر، ثم سحب اليد. كنت أعتقد أن أندرو كان أكثر تحفظا مني حيال هذه الفكر، وأنه في هذه اللحظة كان يحاول حقيقة التفكير في شيء آخر.
عندما وقفت بعيدة عن والدي في جنازة ستيف جاولي وراقبتهما، وراودني هذا الشعور الجديد، غير السار حيالهما، اعتقدت أنني كنت أعرف شيئا عنهما للمرة الأولى. كان شيئا غاية في الجدية. كنت أعرف أنهما كانا متورطين. لم يكن جسداهما الكبيران ، المتصلبان، المتأنقان يقفان بيني وبين الموت المفاجئ، أو أي نوع من الموت. كانا موافقين. هكذا بدا الأمر. وافقا على موت الأطفال وعلى موتي لا من خلال أي شيء قالاه أو فكرا فيه، لكن من خلال حقيقة أنهما أنجبا أطفالا؛ أنجباني. أنجباني، ولهذا السبب لن يبدو موتي - مهما كانا يشعران بالحزن، ومهما كان رد فعلهما - لهما مستحيلا أو غير طبيعي. كانت هذه حقيقة، وحتى آنذاك كنت أعرف أن اللوم لا يقع عليهما.
لكنني ألقيت باللائمة عليهما. اتهمتهما بالوقاحة، بالنفاق. بالنيابة عن ستيف جاولي، وبالنيابة عن جميع الأطفال، الذين كانوا يعرفون أنه بالنظر إلى حقوقهم، يجب أن يخرجوا للوجود أحرارا، يعيشون نوعا جديدا، وأفضل من الحياة، لا يقعون في شرك البالغين المقهورين، بكل ما في حياتهم من جنس وجنائز.
قال الناس إن ستيف جاولي مات لأنه كان أقرب إلى يتيم، وكان متروكا لأن يتصرف بمنتهى الحرية. إذا كان قد حذر بما يكفي، وطلب منه أداء بعض المهام، وسيطر عليه، فلم يكن ليقع من فوق فرع شجرة غير ثابتة في بركة، حفرة حصوية مملوءة بالمياه بالكامل قرب النهر؛ لم يكن ليغرق. كان مهملا، كان حرا؛ لذا غرق. تلقى أبوه الأمر باعتباره حادثة، مثلما قد يحدث لكلب. لم يكن أبوه يمتلك بذلة مناسبة للجنازة، ولم يكن يحني رأسه أثناء الصلوات. لكنه كان الشخص البالغ الوحيد الذي لم ألق باللائمة عليه. كان الشخص الوحيد الذي لم أره يمنح موافقته. لم يستطع منع أي شيء، لكنه لم يكن منخرطا في أي شيء أيضا؛ ليس مثل الآخرين، الذين كانوا يرددون الصلاة الربانية في صوت موزون غير طبيعي، يرشح دينا وخزيا. •••
عند جلندايف، ليس بعيدا عن حدود نورث داكوتا، كان لدينا خيار؛ إما أن نواصل القيادة على الطريق الواصل بين الولايات أو نتجه إلى الشمال الشرقي، نحو وليستون، سالكين الطريق 16، ثم طرقا جانبية تعيدنا مرة أخرى إلى الطريق السريع 2.
اتفقنا على أن الطريق الواصل بين الولايات سيكون أسرع، وأنه من المهم بالنسبة إلينا ألا نقضي وقتا أكثر مما ينبغي - بعبارة أخرى، ننفق مالا أكثر مما ينبغي - في الطريق. لكننا قررنا أن نسلك طرقا مختصرة إلى الطريق السريع 2.
قلت: «أحب هذه الفكرة أكثر.»
قال أندرو: «هذا لأن ذلك هو ما خططنا أن نفعله في البداية.» «فاتنا مشاهدة كلسبيل وهافر، ووولف بوينت. أحب هذا الاسم.» «سنراها في طريق عودتنا.»
كان قول أندرو «في طريق عودتنا» متعة مدهشة لي. بالطبع، كنت أعتقد أننا سنعود، دون أن تمس سيارتنا، وحياتنا، وعائلتنا بأي تغيير، بعد أن قطعنا كل هذه المسافة، بعد أن تعاملنا على نحو أو آخر مع لحظات الوفاء والمشكلات تلك، بعد أن وضعنا أنفسنا موضع التدقيق والبحث على هذا النحو الطائش. لكن كان الأمر يبعث على الارتياح أن أسمعه يقول ذلك.
قال أندرو: «ما لا أستطيع فهمه ... هو كيف تلقيت الإشارة. يبدو أن الأمر يتعلق بحاسة إضافية تمتلكها الأمهات.»
جزئيا، كنت أريد أن أصدق ذلك، أن أستمتع بحسي الإضافي. وجزئيا، كنت أريد أن أحذره - أن أحذر الجميع - ألا يعول أبدا على هذه الحاسة.
قلت: «ما لا أستطيع أن أفهمه ... هو كيف قفزت فوق السياج.» «لا أفهم ذلك أنا أيضا.»
لذا مضينا في طريقنا، والطفلتان في المقعد الخلفي واثقتان فينا؛ لأنه لم يكن أمامهما خيار آخر، وكنا نحن أنفسنا نثق في أننا سيغفر لنا - في الوقت المناسب - كل شيء يجب على هاتين الطفلتين أن ترياه وترفضاه أولا، أيا ما كان؛ فظا، تعسفيا، طائشا، قاسيا؛ جميع أخطائنا العادية والاستثنائية.
نوبات
كان الشخصان اللذان ماتا في أوائل العقد السابع من عمريهما، كان كلاهما طويل القامة، قوي البنية، وكان كل منهما زائد الوزن قليلا. كان شعر الرجل حائلا إلى اللون الرمادي، ووجهه مربعا، حادا. كان الأنف العريض يحول دون أن يبدو شخصا مهيبا ووسيما على نحو تام. كان شعر المرأة أشقر، أشقر مائلا إلى اللون الفضي الذي لا يبدو لك أنه لون اصطناعي - على الرغم من معرفتك بأنه ليس طبيعيا - حيث إن العديد من النساء في هذا العمر يصبغن شعورهن بهذا اللون. في يوم الإهداء (وهو اليوم التالي لعيد الكريسماس، الذي تعطى فيه الهدايا للفقراء)، عندما زارا بيج وروبرت لتناول شراب معهما، كانت المرأة ترتدي ثوبا بلون رمادي فاتح ذا تقليم دقيق، ولامع، وكانت ترتدي جوربا رماديا، وحذاء رماديا. شربت مزيجا من الجين وماء الصودا. كان الرجل يرتدي بنطالا فضفاضا، وسترة كريمية اللون، وشرب مزيجا من الويسكي الكندي والماء. كانا قد رجعا مؤخرا من رحلة في المكسيك. كان الرجل قد جرب رياضة القفز بالمظلات، لكن لم ترغب هي في القيام بذلك. كانا قد ذهبا لزيارة أحد الأماكن في يوكاتان، كان يبدو مثل بئر، تلقى فيه العذارى أملا في جني محاصيل وفيرة.
قالت: «حقيقة، هذه الفكرة ترجع إلى القرن التاسع عشر ... هذه فكرة القرن التاسع عشر المنشغلة جدا بمسألة العذرية. ربما كانت حقيقة الأمر أنهم كانوا يلقون أشخاصا في الأسفل دون تمييز؛ فتيات أو رجالا أو عجائز أو أي شخص كانوا يستطيعون الإمساك به؛ لذا، فإن كون المرء غير بكر لا يضمن له سلامته!»
عبر الغرفة، كان ابنا بيج - الأكبر كلايتون، الذي كان بكرا، والأصغر كيفين، الذي لم يكن كذلك - يشاهدان المرأة المرحة ذات الشعر الأشقر المائل إلى اللون الفضي التي كانت ترتسم على وجهها تعبيرات التجهم والملل. كانت قد قالت إنها كانت مدرسة للغة الإنجليزية في مدرسة ثانوية. علق كلايتون على ذلك لاحقا قائلا إنه كان يعرف ذلك النوع من المدرسات. •••
كان روبرت وبيج متزوجين منذ خمس سنوات تقريبا. لم يتزوج روبرت قبلها، لكن بيج تزوجت للمرة الأولى عندما كانت في الثامنة عشرة. ولد ابناها وهي تعيش هي وزوجها مع والديه في إحدى المزارع. كان زوجها يعمل في قيادة شاحنات نقل الماشية إلى مجزر كندا باكرز في تورونتو. عمل في قيادة شاحنات لشركات أخرى بعد ذلك، وهو ما جعله يبتعد أكثر فأكثر. انتقلت بيج والصبيان إلى جيلمور، وحصلت على وظيفة في متجر كايبر، الذي كان يسمى جيلمور آركيد. انتهى المطاف بزوجها إلى العمل في القطب الشمالي، حيث يقود الشاحنات إلى آبار البترول عبر بحر بيوفرت المتجمد. لذا ، طلقت منه.
كانت عائلة روبرت تمتلك متجر جيلمور آركيد لكنها لم تعش قط في جيلمور. لم تكن أمه وأخواته يعتقدن أن أحدا يستطيع أن يعيش أسبوعا واحدا في مكان كهذا. كان والد روبرت قد اشترى المتجر، ومتجرين آخرين في بلدتين قريبتين، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بفترة وجيزة. عين مديرين محليين للإشراف على تلك المتاجر، وكان يقود السيارة من تورونتو بضع مرات خلال العام ليرى كيف تسير الأمور.
لفترة طويلة، لم يكن روبرت مهتما على نحو كبير بأعمال والده المتعددة. حصل على شهادة جامعية في الهندسة المدنية، وكانت لديه فكرة عن إقامة المشاريع في الدول المتخلفة. حصل على وظيفة في بيرو، تنقل عبر أمريكا الجنوبية، وترك مجال الهندسة فترة ليعمل في مزرعة لتربية الماشية في كولومبيا البريطانية. عندما مرض أبوه، كانت عودته إلى تورونتو ضرورية. عمل في إدارة الطرق السريعة الإقليمية، في وظيفة هندسية لم تكن تتناسب مع رجل في مثل عمره. كان يفكر في الحصول على درجة علمية للسماح له بالتدريس وربما أيضا الاتجاه شمالا للتدريس للهنود، مغيرا حياته بالكامل، بمجرد وفاة أبيه. كان يقترب من عامه الأربعين آنذاك، وكان يخوض علاقته الثالثة مع امرأة متزوجة.
من حين إلى آخر، كان يتجه إلى جيلمور وإلى بلدات أخرى لمتابعة الأحوال في المتاجر. ذات مرة، جلب لي معه تلك المرأة المتزوجة الثالثة - والأخيرة، مثلما اتضح بعد ذلك - التي كان على علاقة بها. أحضرت غداء خفيفا للرحلات، وشربت مشروب بيمز في السيارة، وتعاملت مع الرحلة بأسرها باعتبارها نزهة سعيدة، مغامرة في الريف البدائي. كانت قد أعدت نفسها للمضاجعة في الحقول المفتوحة، واستشاطت غضبا عندما وجدت أنها مليئة بالماشية أو سيقان الذرة غير المريحة.
مات والد روبرت، وغير روبرت حياته، لكن بدلا من أن يصبح مدرسا ويتجه شمالا، جاء ليعيش في جيلمور لإدارة المتاجر بنفسه. وتزوج بيج. •••
كانت بيج قد تعرفت إليهما بمحض الصدفة.
ففي مساء الأحد، قرعت الباب الفلاحة التي كانت تبيع آل كايبر البيض.
وقالت: «آمل ألا تمانع في أن آتي بالبيض الليلة بدلا من صباح الغد ... يجب أن أصطحب زوجة ابني إلى كيتشينر لإجراء فحص لها بالموجات فوق الصوتية. أحضرت للزوجين ويبل البيض، أيضا، لكنني أظنهما غير موجودين. أتساءل عما إذا كنت لا تمانع في أن أترك البيض الخاص بهما هنا معك. يجب أن أرحل مبكرة في الصباح. لقد أرادت أن تقود السيارة بنفسها، لكنني ظننت أن تلك الفكرة ليست صائبة. إنها تقريبا في الشهر الخامس من حملها، لكنها لا تزال تتقيأ. أخبرهم أنهم يمكنهم أن يدفعوا مقابل البيض في المرة المقبلة.»
قال روبرت: «على الرحب والسعة ... لا توجد أدنى مشكلة في ذلك على الإطلاق. يمكن أن نذهب إليهما في الصباح ونعطيهما البيض. لا مشكلة على الإطلاق!» روبرت رجل رياضي المظهر، ممتلئ الجسد، ذو شعر متموج، يحول تدريجيا إلى اللون الرمادي، وعينين بنيتين براقتين. لطفه وكرم أخلاقه لافتان للنظر في كثير من الأحيان، مما قد يجعل الآخرين يشعرون أنهم محاصرون من جميع الاتجاهات. يفيده هذا الأسلوب كثيرا في جيلمور، حيث يتوقع أن تتكرر التأكيدات على الأشياء، وفي حقيقة الأمر تكون معظم المحادثات مكررة، وهذا تعبير متكرر عن النوايا الحسنة، دون مفاجآت. في مناسبات عرضية، عند الحديث إلى الآخرين، يخالجه شعور آخر، عائق، ولا يدري تماما ماهيته (ضغينة أم عناد؟) لكنه يبدو مثل صخرة في قاع نهر عندما يسبح المرء؛ فالماء الصافي يرفع السابح إلى أعلى بحيث يتجاوزها.
بالنسبة لشخص يعيش في جيلمور، تعتبر بيج شخصا متحفظا. اتجهت إلى المرأة وتناولت منها البيض الذي كانت تحمله، بينما ظل روبرت يؤكد على أنه لا مشكلة في ذلك على الإطلاق ويسألها عن حمل زوجة ابنها. ابتسمت بيج مثلما كانت تبتسم في المتجر عندما تناولك باقي النقود؛ ابتسامة تجارية سريعة، لا يوجد فيها أي شيء شخصي. بيج امرأة رشيقة القوام، قصيرة، ذات شعر بني ناعم، ذات بشرة بها نمش، وذات مظهر شاب ومهندم. ترتدي تنورات مكشكشة، وبلوزات جديدة مهندمة عالية الرقبة، وسترات فاتحة اللون، وفي بعض الأحيان رابطة عنق شريطية سوداء. تتحرك في رشاقة ولا تكاد تصنع أي صوت. أخبرها روبرت ذات مرة أنه لم يقابل أحدا على الإطلاق على هذا القدر من التحفظ. (كانت النساء اللائي يواعدهن عادة ثرثارات، متأنقات، وإن كن مهملات بشأن بعض التفاصيل، متوترات، مفعمات بالحياة، «مثيرات للاهتمام».)
قالت بيج إنها لم تعرف ماذا كان يعني.
بدأ في تفسير كيف يبدو الشخص المتحفظ. في ذلك الوقت، كان فهمه مغلوطا تماما للمفردات المستخدمة في جيلمور - كان لا يزال يخطئ في استخدامها - وكان يأخذ على محمل الجد الحدود التي كانت تتم مراعاتها عادة في الأحاديث اليومية.
قالت بيج، باسمة: «أعرف ماذا تعني الكلمات ... فقط لا أفهم كيف تستخدمها في الإشارة إلي».
بالطبع كانت تعرف معنى الكلمات. تلقت بيج دورات تعليمية، دورة تعليمية مختلفة كل شتاء، منتقية ما كان متوفرا في المدرسة الثانوية المحلية. تلقت دورة في تاريخ الفن، وأخرى في حضارات الشرق الكبرى، وثالثة في الاكتشافات والاستكشافات عبر العصور. كانت تذهب إلى الصف مرة واحدة أسبوعيا، حتى لو كانت في غاية التعب أو مصابة بالبرد. كانت تخوض الاختبارات وتعد الأوراق البحثية. في بعض الأحيان، كان روبرت يجد ورقة مكتوبة بخط يدها الرائع الصغير فوق الثلاجة أو على التسريحة في حجرتهما:
وهكذا نرى أن أهمية الأمير هنري الملاح كانت تكمن في إلهام وتشجيع المستكشفين الآخرين في البرتغال، على الرغم من أنه لم يقم بنفسه برحلات استكشافية.
تأثر بعباراتها المباشرة، خطها الصغير الرائع، وكان يشعر بالغضب؛ لأنها لم تحصل على تقدير أعلى من جيد جدا في هذه الأوراق البحثية التي كانت تبذل جهدا كبيرا فيها.
قالت بيج: «لا أكتب هذه الأوراق البحثية للحصول على تقديرات مرتفعة.» حالت وجنتاها إلى اللون الأحمر تحت النمش، كما لو كانت تعترف اعترافا شخصيا. «أقوم بذلك للمتعة.» •••
نهض روبرت قبل الفجر صباح يوم الاثنين، ووقف عند طاولة المطبخ يحتسي قهوته، ناظرا إلى الحقول المغطاة بالثلوج. كانت السماء صافية، وكانت درجة الحرارة قد انخفضت. كان اليوم سيصير أحد الأيام الساطعة، الباردة، القاسية، من أيام يناير التي كانت تلي أسابيع من هبوب الرياح الغربية، من الثلج المتطاير والمتساقط. تجمدت الجداول، والأنهار، والبرك. تجمدت بحيرة هورون على مرمى البصر. ربما طوال هذه السنة. كان ذلك قد حدث من قبل، وإن كان أمرا نادرا.
كان عليه أن يقود السيارة إلى كينيلي، إلى متجر كايبر هناك. كان الثلج المتراكم على السطح يتسبب في أن تتجمع المياه الموجودة أسفله وتتسرب عبر السقف. كان عليه أن يقطع الثلج وينظف السقف. كان الأمر يستغرق نصف يوم على الأقل.
يقوم روبرت بنفسه بجميع أعمال الإصلاحات والصيانة في المتاجر وفي هذا المنزل. تعلم القيام بأعمال السباكة والكهرباء. يستمتع وهو يقوم بهذه الأشياء. يستمتع بالقسوة، بقسوة الشتاء، هنا. لا تبعد المدينة هنا أكثر من مائة ميل من تورونتو، مع ذلك تعتبر وكأنها بلد مختلف تماما. حزام الثلوج. لم يكن القدوم للعيش هنا مثل الذهاب إلى البرية، على أي حال. ما زالت تعزل العواصف الثلجية العنيفة البلدات والقرى. كان الشتاء يحل قاسيا على المدينة، يستقر في الأرض على نحو ما كان الجليد يستقر قبل آلاف الأعوام بارتفاع ميلين. يعيش الناس في الشتاء على نحو لا يفهمه الغرباء. فهم حذرون، مقتصدون، متعبون، منتشون.
يحب شيئا في هذا المنزل، المنظر الخلفي، المطل على الفضاء المفتوح. يعوض ذلك الشارع غير المنظم المسدود الذي بلا أشجار أو أرصفة للمشاة. افتتح الشارع بعد الحرب، عندما أخذ على محمل التسليم أن الجميع سيستخدمون السيارات، ولا يسيرون إلى أي مكان. وهكذا فعلوا. تقترب المنازل كثيرا من الشارع وبعضها من بعض، وعندما يعود كل من يعيش في هذه المنازل إلى البيت، تحتل السيارات المكان الشاغر كله حيث من المفترض أن تكون الأرصفة، والشوارع العريضة المشجرة، وأشجار الظل.
كان روبرت يرغب، بالطبع، في شراء منزل آخر. افترض أنهما سيفعلان ذلك. كانت توجد - ولا تزال - منازل قديمة جيدة معروضة للبيع في جيلمور بأسعار زهيدة جدا، بمعيار أسعار المنازل في المدن. قالت بيج إنها لا تستطيع تخيل نفسها تعيش في تلك المنازل. عرض عليها أن يبني لها منزلا جديدا في التقسيم الفرعي من الجانب الآخر من البلدة. لم ترد ذلك أيضا. أرادت أن تمكث في هذا المنزل، الذي كان المنزل الأول الذي عاشت هي والصبيان وحدهم فيه؛ لذا اشتراه روبرت - كانت معتادة على الاستئجار فقط - وأضاف غرفة النوم الرئيسية وحماما آخر، وجعل هناك غرفة للتليفزيون في البدروم. حصل على بعض المساعدة من كيفين، ومساعدة أقل من كلايتون. كان المنزل لا يزال يبدو، من الشارع، مثل المنزل الذي كان قد ترك السيارة أمامه في المرة الأولى التي اصطحب فيها بيج إلى المنزل من العمل. منزل بارتفاع طابق ونصف، ذو سقف شديد الميل ونافذة غرفة معيشة مقسمة إلى مربعات مثل النافذة الموجودة على بطاقة معايدة خاصة بالكريسماس. جدار خارجي من الألومنيوم الأبيض، مصاريع سوداء ضيقة، وزخرفة سوداء. في تورونتو، كان يفكر في حياة بيج في هذا المنزل. كان يفكر في حياتها النمطية، المحدودة، الجادة، الجذابة.
لاحظ وجود بيض الزوجين ويبل على طاولة المطبخ. كان يفكر في أخذه. لكن كان الوقت مبكرا جدا. كان من المفترض أن يكون الباب موصدا. لم يرد أن يوقظهما. كان يمكن أن تأخذ بيج البيض إليهما عندما تذهب لفتح المتجر. أخذ قلم التحديد الذي كان موضوعا على الرف تحت لوحة الملاحظات، وكتب على منشفة ورقية الآتي: «لا تنسي أن تعطي البيض للزوجين ويبل. مع حبي، روبرت.» لم يكن هذا البيض أرخص سعرا من البيض في المتجر. كان روبرت يحب فقط أن يحصل عليه من المزرعة. وكان لونه بنيا. قالت بيج إن الأشخاص الذين يعيشون في المدينة لديهم نظرة ما إزاء البيض البني؛ يعتقدون أن البيض البني طبيعي أكثر على نحو ما، مثل السكر البني.
عندما خرج بسيارته، رأى أن سيارة الزوجين ويبل موجودة في مكان انتظارها. يبدو أنهما عادا إلى المنزل من المكان الذي كانا فيه الليلة الماضية. ثم رأى أن الثلج المتناثر أمام ممر السيارة الخاص بهم بواسطة كاسحة الثلج الخاصة بالبلدة لم يزل. يبدو أن كاسحة الثلج مرت في المكان ليلا. لكنه لم يكن مضطرا إلى إزاحة أي ثلوج؛ إذ لم يكن ثمة أي ثلوج جديدة خلال الليل ولم تكن كاسحة الثلج قد مرت في هذا الوقت. كانت الثلوج هي ثلوج أمس. لا يمكن أن يكونوا قد خرجا الليلة الماضية. إلا إذا خرجا سيرا على الأقدام. لم تزل الثلوج من ممرات السير الجانبية، اللهم إلا في الشارع الرئيسي وشوارع المدارس، وكان من الصعب السير عبر الشوارع الضيقة جراء طبقات الثلوج المتراكمة عليها، لكن، نظرا لأنهما حديثا العهد بالبلدة، ربما خرجا غير مدركين لذلك.
لم يدقق النظر جيدا ليرى إن كانت ثمة آثار أقدام أم لا. •••
تصور روبرت ما حدث. أولا من خلال تقرير الشرطي، ثم من خلال بيج.
خرجت بيج من المنزل في حوالي الساعة الثامنة وعشرين دقيقة. كان كلايتون قد ذهب إلى المدرسة، وكان كيفين، الذي كان يتعافى من عدوى في أذنه، في البدروم يسمع شريطا لبيلي آيدول، ويشاهد برنامج مسابقات في التليفزيون. لم تنس بيج البيض. دخلت إلى السيارة وأدارت المحرك لتسخينه، ثم سارت إلى الشارع، وخطت بقدميها على الثلج غير المزاح عند مدخل بيت الزوجين ويبل، وسارت عبر ممر السيارة إلى الباب الجانبي. كانت ترتدي وشاحا أبيض من التريكو، وتعتمر قلنسوة صوفية، وتضع معطفا مبطنا، باللون الأرجواني الفاتح. جعلت هذه المعاطف معظم النساء في جيلمور يبدون كالبراميل، لكن بيج كانت تبدو بمظهر حسن؛ نظرا لنحافتها البالغة.
كانت المنازل في الشارع في الأصل من ثلاثة تصميمات. تغير معظمها الآن على نحو كبير، فصارت بها نوافذ، وأروقة، وأجنحة، وأسطح جديدة، وكان من الصعب العثور على منازل قريبة الشبه ببعضها. كان منزل الزوجين ويبل نسخة طبق الأصل من منزل آل كايبر، لكن جرى تغيير النافذة الأمامية، ونزعت الألواح الزجاجية التي كانت تشبه بطاقات المعايدة الخاصة بالكريسماس، وكان قد تم رفع السقف، بحيث صارت هناك نافذة كبيرة في الدور العلوي تطل على الشارع. كان الجدار الخارجي للمنزل باللون الأخضر الفاتح، وكانت الزخرفة باللون الأبيض، ولم يكن ثمة مصاريع.
كان الباب الجانبي يفتح على غرفة الخدمات، مثلما هو الحال في بيت بيج. قرعت الباب قرعا خفيفا في البداية، ظانة أنهما سيكونان في المطبخ، الذي كان على بعد خطوات قليلة فقط من غرفة الخدمات. كانت قد لاحظت وجود السيارة، بالطبع، وتساءلت عما إذا كانا قد عادا إلى المنزل في وقت متأخر وراحا في النوم. (لم تكن قد لاحظت بعد أن الثلج لم يزح، وأن كاسحة الثلوج لم تكن قد مرت في الليل. جال هذا بخاطرها لاحقا عندما دخلت إلى سيارتها ورجعت بها للخلف وسارت بها.) قرعت الباب قرعا بصوت أعلى فأعلى. كانت تشعر بألم حاد لاسع في وجهها بسبب البرد القارس. حاولت فتح الباب ووجدت أنه لم يكن موصدا. فتحته وخطت إلى الداخل ونادت.
كانت الغرفة الصغيرة مظلمة. لم يكن ثمة ضوء يذكر قادم من المطبخ، وكان ثمة ستارة من البامبو مسدلة على الباب الجانبي. وضعت البيض على مجفف الملابس، وكانت ستتركه هناك، ثم حدثت نفسها بأن من الأفضل وضعه في المطبخ، في حال احتاج الزوجان ويبل إلى بيض على الإفطار وكان ما لديهما قد نفد. لن يفكرا في البحث عن البيض في غرفة الخدمات. (كان هذا، في حقيقة الأمر، تخيله للموقف. لم تقل هي أيا من ذلك، لكنه نسي أنها لم تفعل. لم تقل سوى: «رأيت أنه من الأفضل أن أضع البيض في المطبخ».)
كان في المطبخ بعض من تلك الستائر المصنوعة من البامبو مسدلة على نافذة الحوض وعلى نوافذ ركن الإفطار، وهو ما كان يعني أنه على الرغم من أن الغرفة كانت في مواجهة الشرق، مثل مطبخ آل كايبر، وعلى الرغم من أن الشمس كانت ساطعة في كبد السماء آنذاك، فلم يكد ضوء كثير يدخل. لم يكن اليوم قد بدأ هنا.
لكن المنزل كان دافئا. ربما استيقظا منذ فترة وقاما بتشغيل جهاز التدفئة، ثم عادا إلى الفراش. ربما تركا جهاز التدفئة يعمل طوال الليل، على الرغم من أنهما كانا يبدوان بالنسبة لبيج أكثر اقتصادا من ذلك. وضعت البيض على الطاولة إلى جانب الحوض. كان تصميم المطبخ يكاد يتطابق مع تصميم مطبخها. لاحظت تراص بعض الأطباق، مشطوفة، لكنها غير مغسولة، كما لو كانا قد تناولا شيئا قبل أن يخلدا إلى الفراش.
نادت مرة أخرى عند عتبة غرفة المعيشة.
كانت غرفة المعيشة مرتبة على نحو رائع. كانت تبدو لبيج منظمة أكثر مما ينبغي، لكن ذلك ربما - مثلما قالت لروبرت - كان هو المظهر الذي من المفترض أن تكون عليه غرفة معيشة زوجين متقاعدين بالنسبة إلى امرأة اعتادت على وجود أطفال حولها. لم تجد بيج في حياتها قط نظاما حولها بقدر ما كانت تريد، في ظل انتقالها من منزل عائلتها حيث كان هناك ستة أطفال إلى منزل مزدحم بمزرعة أهل زوجها، الذي زادت ازدحامه بأطفالها. كانت قد حكت لروبرت قصة طلبها قطعة جميلة من الصابون لاستخدامها في الكريسماس، صابونة قرنفلية اللون عليها ورود بارزة. حصلت على قطعة الصابون، واعتادت على إخفائها بعد كل استخدام بحيث لا تتشقق ولا تبلى، على النحو الذي كان يحدث للصابون في ذلك المنزل. كانت ناضجة بما يكفي في ذلك الوقت، أو هكذا كانت تظن.
كانت قد نفضت الثلج عن حذائها طويل العنق في غرفة الخدمات. على الرغم من ذلك، ترددت في السير عبر بساط غرفة المعيشة النظيف، ذي اللون البيج الفاتح. نادت مرة أخرى. استخدمت في ندائها الأسماء الأولى للزوجين ويبل، التي كانت تكاد تعرفهما. والتر ونورا. كانا قد انتقلا إلى هنا في أبريل الماضي، ومنذ هذا الحين، خرجا في رحلتين؛ لذا لم تشعر أنها كانت تعرفهما جيدا على الإطلاق، لكن بدا سخيفا أن تنادي: «السيد والسيدة ويبل. هل استيقظتما، أيها السيد والسيدة ويبل؟»
لا إجابة.
كان لديهما سلالم تفضي إلى أعلى من غرفة المعيشة، مثلما كان الحال لدى منزل بيج وروبرت. سارت بيج عبر البساط النظيف، فاتح اللون إلى أسفل السلم، الذي كان مفروشا بالبساط نفسه. بدأت في صعود السلالم. لم تناد مرة أخرى.
لا بد أنها اكتشفت الأمر آنذاك وإلا كانت ستنادي. كان ذلك هو الأمر الطبيعي، أن تظل تنادي كلما اقتربت من مكان نوم من تنادي عليهم. لتنبيههم. ربما كانا يغطان في نوم عميق. ربما كانا ثملين. لم تكن هذه هي عادة الزوجين ويبل، بقدر ما كان الجميع يعرف، لكن لم يكن ثمة أحد يعرفهما جيدا؛ شخصان متقاعدان تقاعدا مبكرا. كان هو محاسبا، وكانت هي مدرسة. كانا يعيشان في هاملتون. كانا قد اختارا جيلمور لأن والتر ويبل كان لديه عم وعمة يعيشان هنا، وكان قد زارهما عندما كان طفلا. كلاهما ميت الآن، العم والعمة، لكن يبدو أن المكان كان يحمل ذكريات سارة له. وكان المنزل رخيصا؛ كان المنزل أرخص بالتأكيد من أي منزل آخر كانا لا يستطيعان تحمل تكلفته. كان ينويان إنفاق أموالهما في السفر. فليس لديهما أطفال.
لم تناد، لم تتوقف ثانية. صعدت السلالم ولم تنظر حولها وهي تصعد؛ كانت تنظر أمامها مباشرة. كان أمامها الحمام، بابه مفتوح. كان نظيفا وخاليا.
استدارت عند قمة السلالم تجاه غرفة الزوجين ويبل. لم تكن قد صعدت إلى الدور العلوي من قبل في هذا المنزل، لكنها كانت تعرف مكان غرفة النوم. كانت الغرفة الممتدة في الواجهة، ذات النافذة الواسعة المطلة على الشارع.
كان باب تلك الغرفة مفتوحا. •••
نزلت بيج إلى الدور السفلي وغادرت المنزل مرورا بالمطبخ، وغرفة الخدمات، والباب الجانبي. ظهرت آثار أقدامها على البساط وعلى القرميدات المغطاة بالمشمع، وفي الخارج على الثلوج. أغلقت الباب خلفها. كانت سيارتها تعمل أثناء كل ذلك وكانت غارقة في سحابتها الصغيرة من الدخان. دخلت السيارة ورجعت بها إلى الخلف وقادتها إلى قسم الشرطة في مجلس البلدة.
قال الشرطي: «هذا صباح شديد البرودة يا بيج.» «نعم، هو كذلك.» «إذن ماذا يمكن أن أفعل لك؟» •••
حصل روبرت على المزيد من المعلومات من كارين.
كانت كارين آدامز موظفة في متجر جيلمور آركيد. كانت امرأة شابة متزوجة، قوية البنيان، مرحة أحيانا، حاضرة الذهن دون أن تبدو كذلك، تتمتع بالكفاءة دون ضجيج. كانت تتعامل على نحو جيد مع الزبائن؛ كانت تتعامل جيدا مع بيج وروبرت. كانت تعرف بيج منذ فترة أطول، بالطبع. كانت تدافع عن بيج أمام الأشخاص الذين كانوا يقولون إنها قد أصابها الغرور منذ أن تزوجت رجلا ثريا. كانت تقول إن بيج لم تتغير عما كانت عليه دوما. لكن بعد اليوم قالت: «كنت أعتقد دوما أنني وبيج صديقتان، لكنني لست متأكدة من ذلك الآن.»
بدأت كارين العمل في العاشرة. وصلت قبل ذلك بقليل وسألت عما إذا كان ثمة زبائن، وقالت بيج: لا، لا أحد.
قالت كارين: «لا أشعر بالدهشة ... الطقس بارد جدا. إذا كانت ثمة رياح، فالجو سيصبح قاتلا.»
كانت بيج قد أعدت قهوة. لديهم ماكينة قهوة جديدة، هدية روبرت في الكريسماس للمتجر. كانتا معتادتين على طلب طعام من المخبز في نهاية الشارع.
قالت كارين بينما كانت تحضر قهوتها: «أليس هذا الشيء مدهشا؟»
قالت بيج نعم. بينما كانت تمسح بعض البقع على الأرضية.
قالت كارين: «يا إلهي ... هل كان ذلك مني أم منك؟»
قالت بيج: «أظن أن ذلك كان بسببي.»
قالت كارين لاحقا: «لذا، لم أفكر في ذلك ... اعتقدت أنها وطئت بعض الطين. لم أتوقف لأفكر، أين تطأ طينا مع وجود كل هذه الثلوج في الأرض؟»
بعد فترة، دخل زبون، كانت سيليا سيمز، وكانت قد سمعت بالأمر. كانت كارين جالسة إلى ماكينة النقدية، وكانت بيج في القسم الخلفي من المتجر، تتفحص بعض الفواتير. أخبرت سيليا كارين، لم تكن تعرف كثيرا؛ لم تكن تعرف كيف وقع الأمر أو أن بيج كان لها صلة بالأمر.
نادت كارين في اتجاه القسم الخلفي من المتجر. «بيج! بيج! حدث شيء رهيب، لجيرانك المجاورين لك!»
ردت بيج قائلة: «أعرف ذلك.»
رفعت سيليا حاجبيها في وجه كارين - كانت واحدة من أولئك الذين لا يحبون أسلوب بيج - فتنحت كارين في هدوء جانبا وانتظرت حتى غادرت سيليا المتجر. ثم أسرعت إلى القسم الخلفي من المتجر، مما جعل الشماعات تصلصل في الأرفف. «قتل الزوجان ويبل بالرصاص يا بيج. هل كنت تعلمين ذلك؟»
قالت بيج: «نعم. عثرت عليهما.» «عثرت عليهما! متى؟» «هذا الصباح، قبل أن آتي إلى العمل مباشرة.» «قتلا!»
قالت بيج: «كان انتحارا ... أطلق الرصاص عليها ثم على نفسه. هذا ما حدث.»
قالت كارين: «عندما أخبرتني بذلك ... بدأت في الارتجاف. كان جسدي كله ينتفض ولم أستطع منع نفسي من ذلك.» مخبرة روبرت بذلك، ارتجفت مرة أخرى لتريه، واضعة يديها داخل كمي سترتها الرياضية الزرقاء المصنوعة من القطيفة. «لذا قلت: «ماذا فعلت عندما عثرت عليهما؟» فقالت: «أخبرت الشرطة.» قلت: «هل صرخت، أم ماذا فعلت؟» تساءلت في نفسي عما إذا كانت رجلاها انثنت أم لا؛ لأنني أعرف أن رجلي كانتا ستنثنيان. لا أستطيع أن أتخيل كيف يمكن أن أخرج من هناك. قالت إنها لا تتذكر كثيرا مما حدث أثناء خروجها، لكنها كانت تتذكر جيدا أنها أغلقت الباب، الباب الخارجي، محدثة نفسها قائلة: تأكدي من إغلاق الباب تحسبا لدخول كلب. أليس هذا مريعا؟ كانت على حق، لكن الأمر كان مريعا بحيث يصعب تخيله. أتظن أنها مصدومة؟»
قال روبرت: «لا ... أعتقد أنها بخير.»
كانت هذه المحادثة تجري في القسم الخلفي من المتجر في وقت ما بعد الظهيرة، عندما كانت بيج قد خرجت لتتناول شطيرة. «لم تتفوه بكلمة إلي. لا شيء على الإطلاق. قلت: «كيف لم تتفوهي بأي كلمة بشأن هذا يا بيج؟» فقالت: «كنت أعرف أنك ستعرفين قريبا.» قلت: «نعم، لكن كان بإمكانك إخباري.» قالت: «أنا آسفة.» مثلما تعتذر عن شيء بسيط مثل استخدام قدحي الخاص بالقهوة. ليس هذا هو السلوك المنتظر من بيج أبدا.» •••
كان روبرت قد فرغ مما يفعله في متجر كينيلي في وقت الظهيرة تقريبا، وقرر أن يعود إلى جيلمور قبل أن يتناول أي شيء. كان ثمة مطعم على الطريق السريع خارج البلدة، على الطريق من كينيلي، وكان يعتقد أنه يستطيع التوقف هناك. كان بعض سائقي الشاحنات والمسافرين عادة ما يتناولون طعامهم في هذا المطعم، لكن معظم من كان يذهب إلى هناك من السكان المحليين؛ مزارعون عائدون إلى مزارعهم، أصحاب أعمال وموظفون كانوا قد غادروا البلدة بسياراتهم. أعجب روبرت بالمطعم، وكان قد دخله اليوم وهو مبتهج. كان جائعا جراء عمله في الهواء البارد، ويشعر بروعة الضوء الساطع في ذلك اليوم، وبدا له الثلج في الحقول منحوتا، خاطفا للأبصار، جامدا مثل الرخام. كان يخالطه الشعور الذي كان يراوده في جيلمور عادة، الشعور بالسير في اتجاه مسرح غير معروف، تعرض عليه مسرحية مفككة، لطيفة. وكان يعرف الدور الذي يقوم به؛ أو كان يعرف - على الأقل - أن ارتجالاته لن تفشل. كانت حياته في جيلمور في بعض الأحيان تبدو كما لو كانت يمكن وصفها هكذا، لكنه إذا حاول أن يصفها على هذا النحو، فكانت ستبدو كما لو كانت حياة مصطنعة، شيئا منتحلا، غير جاد تماما. وكان العكس تماما هو الصحيح. لذا، عندما كان يلتقي أحد الأشخاص من حياته القديمة، مثلما كان يصادف بعض الأشخاص في بعض الأحيان عندما كان يذهب إلى تورونتو، وكان يسأل عن طبيعة الحياة في جيلمور، كان يقول: «لا أستطيع أن أصف كيف أحبها!» وهو ما كان حقيقيا تماما. ••• «لماذا لم تهاتفيني؟» «كنت في السطح.» «كان بإمكانك أن تهاتفي المتجر وتخبري إيلي. كانت ستخبرني.» «بم كان سيفيد ذلك؟» «كنت سأعود إلى البيت على الأقل.»
كان قد عاد مباشرة من المطعم إلى المتجر، دون تناول ما كان قد طلبه. لم يعتقد أنه سيجد بيج في أي حالة من حالات الانهيار - كان يعرفها جيدا بحيث يدرك أنها لن تفعل ذلك - لكنه كان يعتقد أنها ستريد أن تعود إلى المنزل، وتطلب منه أن يعد لها شرابا، وتقضي بعض الوقت في إخباره عن الأمر.
لم تكن ترغب في ذلك. كانت تريد أن تخرج إلى الشارع إلى المخبز لتشتري طعامها المعتاد؛ شطيرة لحم خنزير بالجبن. «سمحت لكارين بالذهاب لتناول الغداء، لكن لم يكن لدي وقت. هل أجلب لك شطيرة؟ إذا لم تتناول الغداء في المطعم، فلن أفعل أنا أيضا.»
عندما جلبت له الشطيرة، جلس وأكلها على المكتب حيث كانت تتفحص الفواتير. وضعت بنا جديدا وماء في ماكينة القهوة. «لا أستطيع أن أتخيل كيف عايشنا هذا الأمر.»
نظر إلى معطف بيج الأرجواني الفاتح المعلق إلى جانب معطف كارين الأحمر على باب الحمام. كانت ثمة بقعة طويلة جافة على معطفها من طلاء عنابي اللون، ممتدة حتى طرفه.
لم يكن ذلك طلاء بالطبع. لكن على معطفها؟ كيف جاء الدم على معطفها؟ يبدو أنها احتكت بهما في تلك الحجرة. يبدو أنها اقتربت كثيرا منهما.
ثم تذكر الحديث في المطعم، وأدرك أنها لم تكن بحاجة إلى الاقتراب هكذا. ربما جاءت الدماء من إطار الباب. كان الشرطي في المطعم، وقال إن ثمة دماء في كل مكان، وليس دماء فقط.
قال أحد الرجال في المطعم: «لم يكن يجدر به أن يستخدم بندقية في أمر كهذا.»
قال آخر: «ربما لم يكن يملك إلا هذه البندقية.» •••
كان المتجر مزدحما بالزبائن في معظم فترة ما بعد الظهيرة. أناس في الشارع، وفي المخبز، والمقهى، والمصرف، ومكتب البريد، يتحدثون. كان الناس يريدون أن يتحدثوا وجها لوجه. كان عليهم الخروج وعمل ذلك، على الرغم من البرد. لم يكن الحديث في الهاتف كافيا.
ما كان قد جرى أولا، هكذا ظن روبرت، هو أن الناس تحدثوا في الهواتف، هاتفوا كل شخص كانوا يستطيعون التفكير فيه ممن لم يسمع بالأمر بعد. كانت كارين قد هاتفت صديقتها شيرلي، التي كانت ترقد في ذلك الوقت في الفراش مصابة بالبرد، وأمها، التي كانت في المستشفى، بها كسر في الورك. اتضح أن أمها كانت تعرف؛ كانت المستشفى كلها تعرف. وقالت شيرلي: «سبقتك أختي إلى معرفة الخبر.»
كان صحيحا أن الناس كانوا يتطلعون إلى لحظة انتشار الخبر ويقدرون قيمتها - كانت كارين مستاءة من أخت شيرلي، التي لم تكن تعمل وكانت تتناول سماعة الهاتف متى شاءت - لكن كان ثمة تعاطف واحترام حقيقيان خلف هذا الشغف أيضا. كان روبرت يعتقد ذلك. قالت كارين، وهو ما كان صحيحا: «كنت أعلم أنها لم تكن سترغب في ألا تعرف.» لم يكن أحد سيرغب في ألا يعرف. أن يخرج إلى الشارع، دون أن يعرف. أن يذهب هنا وهناك يقوم بالأشياء اليومية المعتادة، دون أن يعرف. كان هو نفسه يشعر بالانزعاج، بل بالإهانة قليلا، في أن يعتقد أنه لم يكن قد عرف؛ لم تدعه بيج يعرف.
جرى الحديث عما سبق أحداث هذا الصباح. أين شوهد الزوجان ويبل، وكيف كانا يعيشان حياة طبيعية يغمرها الهدوء والبراءة، ومتى كانت اللحظة التي تغير فيها كل شيء؟
لقد وقفت في الصف في بنك مونتريال في وقت ما فيما بعد ظهيرة يوم الجمعة.
لقد قص شعره صباح السبت.
كانا معا، يشتريان البقالة، في متجر آي جي إيه مساء الجمعة في حوالي الساعة الثامنة.
ماذا اشتريا؟ مخزونا كافيا؟ مشتريات عليها تخفيضات، عروضا معلنة، أكثر مما يكفي لمخزون يومين؟
ما يكفي ويزيد. شوال بطاطس، على سبيل المثال.
ثم جاء الدور على الأسباب. انتقل الحديث إلى الأسباب. بداهة. لم تكن ثمة نظريات طرحت في المطعم. لم يكن أحد يعرف السبب، لم يستطع أحد تخيل السبب. لكن مع نهاية فترة ما بعد الظهيرة، كانت ثمة تفسيرات كثيرة جدا للاختيار من بينها.
صعوبات مالية. كان قد شارك في مشروع استثماري في هاملتون. مشروع كان سيدر عليه أرباحا خيالية لكنه فشل فشلا ذريعا. ضاعت جميع أموالهما وصار عليهما أن يعيشا ما تبقى من حياتهما على معاش التقاعد.
كانا يدينان بمال في صورة ضرائب دخل. كونه محاسبا جعله يعتقد أنه يعرف كيف يتهرب من الأمر، لكن جرى اكتشاف ما فعل. كان سيجري فضح أمره، وربما إدانته وتجريسه علنا، ويصير فقيرا. حتى لو كان يخدع الحكومة فقط، فسيظل الأمر عارا بالنسبة له عندما ينكشف هذا الأمر.
هل كان مبلغا كبيرا؟
بالتأكيد. كبير جدا.
لم يكن الأمر يتعلق بالمال على الإطلاق. كانا مريضين. أحدهما أو كلاهما. السرطان. التهاب مفاصل حاد يعوق الحركة. ألزهايمر. مشكلات نفسية متكررة. كان الأمر يتعلق بالمرض، لا المال. كانت المعاناة والعجز هما ما كانا يخشيانه، لا الفقر.
صار الانقسام في الرأي واضحا بين الرجال والنساء. كان الرجال هم من كانوا يعتقدون بل يصرون على أن جوهر الأمر كان يتعلق بالمال، وكانت النساء هن من كن يتحدثن عن المرض. تساءلت بعض النساء في ازدراء: من يقتل نفسه لأنه فقير ؟ أو حتى بسبب احتمال الذهاب إلى السجن؟ كانت امرأة، أيضا، من كانت تشير إلى وجود تعاسة في الزواج، من كانت تشير إلى قصة خيانة اكتشفت أو ذكرى خيانة قديمة.
استمع روبرت إلى جميع هذه التفسيرات لكنه لم يصدق أيا منها. خسارة المال، السرطان، ألزهايمر. كلها أسباب لها نفس القدر من المنطقية، هكذا بدت له هذه الأسباب، جميعها متساو في عقمها وعدم جدواها. ما حدث أنه صدق كلا منها مدة خمس دقائق فقط، لا أكثر. لو كان يستطيع تصديق أحد هذه الأسباب، والتشبث به، لتخلص من حمل ثقيل يجثم على صدره ويمنعه من التنفس. (قالت له امرأة في المصرف: «لم يكونا ينتميان إلى جيلمور، حقيقة.» ثم بدا عليها الحرج فأضافت: «لا أعني مثلك».)
انشغلت بيج في شراء سترات، وقفازات، وسترات ثلج للأطفال استعدادا لموسم تخفيضات يناير. جاء أشخاص إليها عندما كانت تضع بطاقات الأسعار، وقالت لهم: «هل لي أن أساعدكم؟» بحيث يجري وضعهم في موضع الزبائن، فيضطرون إلى القول بأنهم يبغون شراء شيء ما. كان متجر آركيد يبيع ملابس السيدات والأطفال، والملاءات، والمناشف، وبكرات التريكو، وأدوات المطبخ، والحلوى المعلبة، والمجلات، والأقداح، والزهور الصناعية، والكثير من الأشياء الأخرى؛ لذا لم يكن صعبا التفكير في شراء شيء ما.
عم كان الناس يبحثون حقيقة؟ بالتأكيد ليس شيئا من قبيل التفاصيل، الوصف. يريد عدد قليل جدا من الناس ذلك حقيقة، أو سيقرون أنهم يريدون ذلك، بشكل متلهف وصريح. إنهم يريدون ذلك، ولا يريدون ذلك. يبدءون بطرح الأسئلة، ثم يتوقفون. يستمعون ثم يتراجعون. ربما أرادوا من بيج نوعا من الإقرار، كلمة أو نظرة ما تجعلهم يخرجون، وهم يقولون: «بيج كايبر محطمة الأعصاب تماما.» «رأيت بيج كايبر. لم تتحدث كثيرا لكن يمكن استشفاف أنها محطمة الأعصاب تماما.»
حاول بعض الناس التحدث إليها في الأمر، على أي حال. «ألم يكن الأمر مريعا ذلك الذي حدث لك؟» «نعم، كان كذلك.» «لا بد أنك تعرفينهما ولو قليلا؛ كونك تعيشين إلى جوارهما.» «ليس حقيقة. كنا نعرفهما بالكاد.» «ألم تلاحظي قط أي شيء عليهما يجعلك تظنين أن ذلك يمكن أن يحدث؟» «لم نلاحظ أي شيء على الإطلاق.» •••
تصور روبرت الزوجين ويبل وهما يدخلان ويخرجان من سيارتهما في ممر السيارة الخاص بهما. كان ذلك حيث كان يراهما كثيرا. تذكر زيارتهما في يوم الإهداء. كانت رجلاها الرماديتان تذكراه بالراهبات. أحرجت إشارتها للعذرية بيج والصبيين. ذكرت روبرت قليلا بالنساء اللائي كان يعرفهن. كان زوجها أقل تحدثا، وإن لم يكن خجولا. تحدثا عن الطعام المكسيكي، وهو ما بدا أن الزوج لم يحبه. لم يكن يحب تناول الطعام في المطاعم.
كانت بيج قد قالت: «أوه، لا يحب الرجال ذلك أبدا!»
أدهش ذلك روبرت، الذي سألها لاحقا عما إذا كان ذلك يعني أنها كانت تريد أن تتناول الطعام في الخارج أكثر؟ «قلت ذلك حتى أكون في صفها. كنت أظن أنه ينظر إليها شزرا قليلا.»
هل كان ينظر شزرا؟ لم يلاحظ روبرت ذلك. بدا الرجل متحكما في نفسه بشكل كبير بحيث لا يمكن أن ينظر إلى زوجته شزرا أمام الناس. بدا طيبا أكثر مما ينبغي، بشكل عام، ربما بشكل ما متبلدا أكثر مما ينبغي، حتى ينظر شزرا إلى أي شخص في أي مكان.
لم يكن من طبيعة بيج المبالغة.
ظلت المعلومات تتوالى. اسم عائلة نورا قبل الزواج هو درسكول. نورا درسكول. كان أحد الأشخاص يعرف امرأة كانت تدرس معها في المدرسة نفسها في هاملتون. كانت مدرسة محبوبة، امرأة أنيقة ترتدي ملابسها على الموضة، كانت تعاني من مشكلات في الحفاظ على النظام داخل الفصول. كانت قد تلقت دورة تدريبية في المحادثة باللغة الفرنسية، ودورة تدريبية في الطهي على الطريقة الفرنسية.
كانت قد سألتها بعض النساء هنا ما إذا كانت مهتمة بإنشاء ناد لمناقشة الكتب، وأجابت بالإيجاب.
كان عضوا في جهات عديدة في هاملتون، أكثر مما كان هنا. نادي الروتاري. نادي الليونز. ربما كان مرد ذلك إلى أسباب مرتبطة بالعمل.
لم يكونا يذهبان إلى الكنيسة، بحسب ما يعرف الناس، في أي من البلدتين. ••• (كان روبرت محقا بشأن الأسباب. يصير كل شيء معروفا في جيلمور، عاجلا أو آجلا. يجري النظر إلى السرية والخصوصية باعتبارهما ضد المصلحة العامة. هناك شبكة من الأشخاص المتزوجين إما من الأشخاص الذين يعملون في الجهات التي يجري فيها حفظ جميع أنواع السجلات، أو من أشخاص على صلة قرابة بهم.
لم يكن ثمة مشروع استثماري، في هاملتون أو في أي مكان آخر. لا وجود لتحقيق حول ضريبة الدخل. لا مشكلة بشأن المال. لا وجود لمرض السرطان، أو لقلب مريض، أو ضغط دم مرتفع. كانت قد استشارت الطبيب حول معاناتها من حالات صداع، لكن الطبيب لم يكن يظن أنها مصابة بصداع نصفي، أو بأي شيء آخر.
في الجنازة يوم الخميس، تحدث قس الكنيسة المتحدة، الذي كان عادة ما يقوم على الجنازات التي ليس للميت فيها أقرباء معروفون، عن الضغوط والتوترات في الحياة الحديثة لكنه لم يعط أي إشارات واضحة. أصيب البعض بخيبة الأمل، كما لو كانوا يتوقعون منه أن يقوم بذلك، أو كانوا يظنون أنه كان سيذكر ربما على الأقل مخاطر الابتعاد عن الإيمان وعدم الذهاب إلى الكنيسة، خطيئة القنوط من رحمة الرب. اعتقد آخرون أن قول أي شيء أكثر مما قال يخرجه من دائرة اللياقة.) •••
الشخص الآخر الذي كان يعتقد أن بيج كان يجب أن تخبره هو كيفين. كان ينتظرهما عندما عادا إلى المنزل. كان لا يزال يرتدي البيجامة.
لماذا لم تعد إلى المنزل بدلا من التوجه إلى قسم الشرطة؟ لماذا لم تناد عليه؟ كان بإمكانها أن تعود وتهاتف الشرطة من المنزل. كان بإمكان كيفين أن يهاتف الشرطة. على الأقل، كان بإمكانها مهاتفته من المتجر.
كان في البدروم طوال الصباح، يشاهد التليفزيون. لم يسمع صوت الشرطة وهي تأتي؛ لم يرهم يدخلون ويخرجون. لم يكن قد عرف أي شيء عما كان يجري حتى هاتفته صديقته، شانا، من المدرسة في وقت الراحة. «قالت إنهم أخرجوا الجثمانين في أكياس قمامة.»
قال كلايتون: «كيف عرفت؟ ... اعتقدت أنها كانت في المدرسة.» «أخبرها أحدهم.» «عرفت ذلك من التليفزيون.» «قالت إنهم أخرجوهما في أكياس قمامة.» «شانا غبية. إنها لا تصلح إلا لشيء واحد.» «هناك بعض الأشخاص الذين لا يصلحون لأي شيء.»
كان كلايتون يبلغ من العمر ستة عشر عاما، وكيفين أربعة عشر عاما. تفصل بينهما سنتان في العمر لكن ثلاث سنوات في المدرسة؛ نظرا لأن كلايتون جرى تصعيده في المدرسة، أما كيفين، فلا.
قالت بيج: «كفى.» كانت قد أحضرت بعض صوص مكرونة الإسباجيتي من الفريزر وكانت تذيبه في قدر الغليان المزدوج. «كلايتون. كيفين. افعلا شيئا واصنعا بعض السلاطة.»
قال كيفين: «أنا مريض. ربما ألوثها.»
تناولت مفرش المائدة ولفته حول كتفيه مثل وشاح.
قال كلايتون: «هل يجب أن نأكل على هذا المفرش؟ بعد أن تلوث بإفرازاته؟»
قالت بيج لروبرت: «هل لدينا نبيذ؟»
كانا في الغالب يتناولان النبيذ في ليالي السبت والأحد، لكن لم يفكر روبرت في هذا الليلة. نزل إلى البدروم لإحضار النبيذ. عندما عاد، كانت بيج تضع مكرونة الإسباجيتي في إناء الطهي وكان كيفين قد أزاح مفرش المائدة. كان كلايتون يعد السلاطة. كان كلايتون دقيق العظام، مثل أمه، ولديه دافع كبير للتفوق. عداء من الدرجة الأولى، رائع في حل الاختبارات.
كان كيفين يجول عبر المطبخ، يعترض طريق الجميع، ليتحدث إلى بيج. كان كيفين أطول من كلايتون وبيج، ربما أطول من روبرت. كتفاه كبيرتان، ورجلاه نحيفتان، وشعره أسود يصففه على نحو قريب من قصة شعر موهوك؛ كانت شانا قد اختارت له تلك القصة. كانت توجد بثور عادة في جلده فاتح اللون. لم يبد أن الفتيات كن يمانعن في ذلك.
قال كيفين: «إذن هل كان ثمة ...؟ هل كان ثمة دماء وبقايا لزجة في كل مكان؟»
قال كلايتون: «غول!»
قال روبرت: «إنهما كانا بشرين يا كيفين.»
قال كيفين: «كانا ... أعلم أنهما «كانا» بشرين. أعددت شرابهما في يوم الإهداء. شربت الجين وشرب هو الويسكي الكندي. كانا بشرين آنذاك، لكنهما ليسا إلا مواد كيميائية الآن. أمي؟ ماذا رأيت أولا؟ قالت شانا إنه كانت هناك دماء وبقايا لزجة حتى في المدخل.»
قال كلايتون: «لقد توحش بسبب الساعات الطويلة التي يقضيها أمام التليفزيون ... يظن أن هذا جزء من فيلم. لا يستطيع التفرقة بين الدماء الحقيقية والدماء المصطنعة.» «أمي؟ هل تناثرت الدماء؟»
يتبع روبرت قاعدة تقضي بترك بيج تتعامل مع ابنيها إلا إذا طلبت مساعدته. لكنه قال في هذه المرة: «كيفين، تعلم أنك يجب أن تكف عن الكلام الآن.»
قال كلايتون: «لا يستطيع أن يتوقف عن ذلك ... عن أن يتصرف بوحشية.» «أنت أيضا يا كلايتون. أنت أيضا.»
لكن بعد برهة، قال كلايتون: «أمي؟ هل صرخت؟»
قالت بيج في تدبر: «لا ... لم أفعل. أظن لأنه لم يكن ثمة أحد حتى يسمعني؛ لذا لم أفعل.»
قال كيفين، محاولا في حذر العودة للحديث: «ربما كنت سأسمعك.» «كنت تشغل التليفزيون.» «كان الصوت مكتوما. كنت أشغل شريط الكاسيت. ربما كنت سأسمعك أثناء تشغيل الشريط إذا صرخت عاليا بما يكفي.»
رفعت بيج شريحة إسباجيتي حتى تتذوقها. كان روبرت يراقبها، من وقت إلى آخر. كان سيقول إنه كان يراقبها حتى يرى إذا كانت تعاني من أي شيء، إذا بدت غير طبيعية أو خدرة الأطراف، أو بدت في جسدها ارتعاشة، أو ما إذا كانت تسقط الأشياء، أو تصدر صلصلة عالية أثناء تحريك القدور. لكنه في الحقيقة كان يراقبها نظرا لعدم تعرضها لأي مما سبق، ونظرا لأنه كان يعرف أنها لن تتعرض لأي منها. كانت تعد وجبة عادية، وهي تستمع إلى الصبيين بطريقتها الانتقادية، الهادئة قليلا. كان الشيء الذي بدا مختلفا عن المعتاد بالنسبة لروبرت هو بهاءها، وخفتها، وسرعتها، وسهولة حركتها في المطبخ.
بدت نبرة صوتها في حديثها إلى أبنائها، في ظل صرامتها، هادئة بصورة صادمة. «كيفين، هيا اذهب وارتد بعض الملابس، إذا كنت تريد أن تأكل على المائدة.» «سآكل وأنا أرتدي البيجامة.» «لا.» «سآكل في الفراش.» «ليس الإسباجيتي، لا يمكنك فعل ذلك.» •••
بينما كانا يغسلان الأوعية والأواني معا - كان كلايتون قد ذهب يعدو وكان كيفين يتحدث إلى شانا عبر الهاتف - أخبرت بيج روبرت بجانبها من القصة. لم يطلب منها ذلك، مستخدما كلمات كثيرة. بدأ قائلا: «إذن، عندما ذهبت إلى هناك، ألم يكن الباب موصدا ؟» ثم بدأت تسرد له القصة.
سألها روبرت: «هل تمانعين في الحديث عن الأمر؟» «أعلم أنك سترغب في أن تعرف.»
أخبرته أنها كانت تعرف ماذا جرى - على الأقل، كانت تعلم أن ثمة شيئا رهيبا وقع - قبل أن تصعد السلالم. «هل كنت خائفة؟» «لا. لم أفكر في الأمر على هذا النحو؛ أن أكون خائفة.» «كان من الممكن أن يكون ثمة أحد في الدور العلوي يحمل بندقية.» «لا. كنت أعلم أن ليس ثمة أحد. كنت أعلم أن ليس ثمة أحد حي سواي في المنزل. ثم رأيت رجله، رأيت رجله ممددة في الردهة، وأدركت الأمر حينئذ، لكن كان علي أن أدخل وأتأكد.»
قال روبرت: «أفهم ذلك.» «لم تكن القدم التي كان قد خلع عنها الحذاء التي رأيتها. خلع الحذاء عن قدمه الأخرى، بحيث يستطيع استخدام إبهام تلك القدم في الضغط على الزناد عندما أطلق الرصاص على نفسه. هكذا قام بقتل نفسه.»
كان روبرت يعلم كل ذلك بالفعل، من خلال الأحاديث في المطعم.
قالت بيج: «إذن ... هذا هو كل شيء.»
نفضت ماء غسيل الأطباق عن يديها، وجففتهما، وبنظرة فاحصة، بدأت في دعك يديها باستخدام غسول.
جاء كلايتون عند الباب الجانبي. نفض الثلج عن حذائه وصعد السلالم.
قال: «يجب أن تروا السيارات ... سيارات غبية تسير في هذا الشارع ببطء. ثم تستدير عند نهاية الشارع وتعود مرة أخرى. أتمنى لو أنها تتعطل. وقفت هناك ونظرت إليهم نظرات ساخطة، لكنني بدأت في التجمد من البرد؛ لذا اضطررت إلى الدخول.»
قال روبرت: «هذا طبيعي ... يبدو الأمر سخيفا لكنه طبيعي. لا يستطيعون تصديق الأمر؛ لذا يريدون أن يروا أين وقع الحادث.»
قال كلايتون: «لا أفهم مشكلتهم في ذلك ... لا أفهم لماذا لا يصدقون الأمر. صدقت أمي الأمر على الفور. ولم تستغرب الأمر.»
قالت بيج: «حسنا، بالطبع استغربت الأمر.» وكانت هذه هي المرة الأولى التي لاحظ روبرت فيها نوعا من التوتر في صوتها. «بالطبع استغربت الأمر يا كلايتون فقط لأنني لم أطلق العنان للصراخ.» «لم تستغربي أنه يمكن أن يحدث لهما هذا؟» «كنت بالكاد أعرفهما. كنت بالكاد أعرف الزوجين ويبل.»
قال كلايتون: «أعتقد أنهما تشاجرا.»
قالت بيج، حاكة الغسول في جلدها بقوة: «لا نعرف ذلك ... لا نعرف إذا كانا قد تشاجرا، أم ماذا حدث.»
قال كلايتون: «متى كنت أنت وأبي تتشاجران مثل ذلك؟ ... أتذكران، بعد أن انتقلنا إلى البلدة؟ عندما كان يعود إلى المنزل؟ الذي بجوار مغسلة السيارات؟ عندما كنتما تتشاجران على هذا النحو، هل تعرفان فيم كنت أفكر؟ كنت أعتقد أن أحدكما كان سيأتي ويقتلني بسكين.»
قالت بيج: «هذا ليس صحيحا.» «هذا صحيح. كنت أفكر في ذلك.»
جلست بيج على المنضدة وغطت فمها بيديها. ارتعش فم كلايتون. لم يبد أنه كان يستطيع التوقف عن ذلك؛ لذا حول هذا إلى ابتسامة ساخرة، صغيرة، منتفضة. «هذا ما كنت أفكر فيه وأنا نائم على الفراش.» «كلايتون. لم يكن أي منا ليؤذيك قط.»
ظن روبرت أن الوقت حان ليقول شيئا.
قال: «هذا مثل ... زلزال أو بركان. يشبه الأمر هذا. هذا نوع من النوبات. ينتاب الناس نوبات مثلما تنتاب الأرض نوبات. لكن الأمر يحدث مرة واحدة خلال فترة طويلة. إنه حدث استثنائي.»
قال كلايتون، في سرور متحفظ: «الزلازل والبراكين ليست حوادث استثنائية ... إذا أردت أن تطلق على ذلك نوبة، فيجب أن تطلق عليها نوبة دورية. مثل تلك التي تحدث للناس، للمتزوجين.»
قال روبرت: «لا يحدث لنا ذلك.» ونظر إلى بيج كما لو كان ينتظر منها أن توافقه.
لكن بيج كانت تنظر إلى كلايتون. هي من كانت تبدو دوما ناضرة، وناعمة، وراضية، وإن كان يصعب تلمس خواطرها مثل علامة مائية على ورق خفيف، بدت الآن ذابلة، شديدة الشحوب، وملامح جسدها جامدة في ألم منتظم، بائس، قوي.
قال كلايتون: «لا ... لا، ليس لكما أنتما.» •••
أخبرهم روبرت أنه ذاهب للسير قليلا. عندما خرج، رأى أن كلايتون كان على صواب. كانت هناك سيارات تثير ضوضاء في الشارع، تستدير عن نهاية الشارع، شاقة طريقها عائدة مرة أخرى. جاءت لتلقي نظرة. كان يوجد داخل هذه السيارات الأشخاص أنفسهم، ربما الأشخاص أنفسهم الذين كان يتحدث إليهم خلال فترة ما بعد الظهيرة. لكن بدا الآن كما لو كانوا ملتصقين بسياراتهم، صانعين نوعا جديدا من الوحوش جاء باحثا عن شيء على نحو غاية في الفضول والقسوة.
لتفاديهم، اتجه إلى شارع مسدود قصير كان يتفرع من شارعهم. لم تبن أي منازل في هذا الشارع على الإطلاق؛ لذا لم يجر كسح الثلج منه. لكن الثلج كان صلبا، ويسهل السير عليه. لم يلحظ كيف كان سهلا السير على الثلج إلا عندما أدرك أنه تجاوز نهاية الشارع نحو منحدر، والذي لم يكن منحدرا أرضيا على الإطلاق، بل كومة ثلجية. غطت تلك الكومة السياج الذي كان يفصل عادة الشارع عن الحقل. كان قد سار فوق السياج دون أن يعرف ماذا كان يفعل. كان الثلج شديد الصلابة.
سار هنا وهناك، يتحسس الثلج. كانت طبقة الثلج قد تحملت وزنه دون أن تصدر أي صوت أو تتشقق. كان الأمر هو نفسه في كل مكان. كان بإمكان المرء أن يسير فوق الحقول الثلجية كما لو كان يسير فوق أسمنت. (هذا الصباح، عند إلقائه نظرة على الثلج، ألم يتذكر الرخام؟) لكن هذه الطبقة الصلبة لم تكن ثابتة في كل مكان. كانت تعلو وتنخفض على نحو غير مرتبط كثيرا بحدود الأرض تحته. خلق الثلج مشهده العام، الذي كان ممتدا، على نحو مهيب واعتباطي.
بدلا من التجول في الشوارع المكسوحة للبلدة، كان يمكن أن يسير على الحقول. كان بإمكانه أن يأخذ طريقا مختصرا إلى المطعم على الطريق السريع، الذي كان يظل مفتوحا حتى منتصف الليل. كان سيتناول قدحا من القهوة هناك، ثم يستدير راجعا إلى المنزل. •••
ذات ليلة، قبل حوالي ستة أشهر من زواج روبرت ببيج، كان هو ولي جالسين يحتسيان الخمر في شقته. كانا يتجادلان حول ما إذا كان مقبولا، أو مثيرا للغثيان، أن يضع المرء الحروف الأولى من اسم العائلة على مقتنياته الفضية. فجأة، احتد النقاش، لم يستطع روبرت تذكر كيف حدث ذلك، لكن النقاش احتد، ووجدا أنفسهما يتفوهان بأقسى كلام يمكن أن يقوله أحدهما للآخر. ثم تغيرت الأصوات من النبرة المرتفعة ووتيرة النقاش السريعة، إلى نبرة خفيضة تنم عن اشمئزاز غير خفي.
قالت لي: «تذكرني دوما بكلب ... تذكرني دوما بأحد تلك الكلاب التي تندفع نحو الناس وتمسك بهم بتودد، أثناء تدلي ألسنتها المنفرة الكبيرة. أنت مندفع للغاية. كل لطفك واندفاعك ما هو إلا اعتداء حقيقي. لست الوحيدة التي تراك هكذا. يتحاشاك كثير من الناس. لا يستطيعون تحملك. ستندهش. تدفع وتنشب مخالبك على هذا النحو المندفع المؤثر، لكنك تمتلك نظرة ماكرة؛ لذا لا أعبأ إذا آذيتك.»
قال روبرت في هدوء: «ربما يجب أن أخبرك بأحد الأشياء التي لا أحبها فيك، إذن ... الطريقة التي تضحكين بها. في الهاتف خاصة. تضحكين في نهاية كل جملة تقريبا. كنت أعتقد أنها لازمة عصبية، لكن ذلك كان يزعجني دوما. وعرفت لماذا. تخبرين دوما من يهاتفك عن معاملة ظالمة تعرضت لها في مكان ما أو ملاحظة قاسية قالها لك شخص ما؛ وهو ما يمثل ثلثي كلامك المتمركز حول الذات، الممل بصورة هائلة. ثم تضحكين، ها-ها، تتقبلين الأمر، لا تتوقعين شيئا أفضل. تلك ضحكة مريضة.»
بعد المزيد من ذلك، بدآ في الضحك، روبرت ولي، لكن الضحك لم يكن ضحكا مفضيا إلى التصالح؛ لم ينتقلا إلى حال من الارتياح بينهما، صائحين: «يا للخسة، لم أقصد ذلك، هل قصدت أنت ذلك؟» («لا، بالطبع لا، بالطبع لم أقصد ذلك».) ضحكا إدراكا منهما لبعد أحدهما عن الآخر، تماما مثلما قد يضحكان في وقت آخر، في وسط اعترافات رقيقة بصورة مدهشة، مختلفة تماما. ارتعشا في سرور قاتل، على غرار إثارة من قال شيئا لا يمكن الرجوع عنه أبدا؛ سعدا للسهام التي وجهها كل طرف للآخر ولتلك التي تلقاها، وقال أحدهما عند نقطة ما: «هذه هي المرة الأولى التي نقول فيها الحقيقة منذ أن التقينا!» فحتى الأشياء التي كانت بشكل أو بآخر وليدة اللحظة فيما قالاه بدت كأكثر الحقائق أهمية التي كانت تنمو داخلهما منذ فترة طويلة وتسعى لشق طريقها للخروج.
لم يكن أمرا بعيدا الانتقال من الضحك إلى المضاجعة، وهو ما فعلاه، دون أي نكوص. أصدر روبرت أصواتا نابحة، مثلما يفعل الكلب، وتشمم لي على نحو جارح، ضاغطا في شهية حقيقية على لحمها. فيما بعد، شعر كل منهما بسأم عظيم من الآخر، لكنهما لم يعودا إلى تبادل اللوم. •••
قال روبرت لبيج: «هناك أشياء أريد أن أنساها تماما وإلى الأبد.» تحدث معها حول الحد من خسائره، وترك العادات السيئة القديمة، والتوقف عن خداع الآخرين وخداع نفسه، والفكر المغلوطة عن الحياة، وعن نفسه. قال إنه كان مسرفا عاطفيا، وألقى بنفسه في ورطات مؤلمة، لا رجاء منها من أجل تجنب أي علاقة عادية. كان كل ذلك من قبيل التجربة والتباهي، رفض الأمور العادية، المقبولة في الحياة. هكذا قال لها. أخطاء التجنب، عندما كان يعتقد أنه يقوم بمخاطر ويمر بخبرات عنيفة.
قال: «أخطاء التجنب التي ظننتها أخطاء العاطفة.» ثم ظن أنه كان يبدو متكلفا بينما كان في حقيقة الأمر ينضح إخلاصا، بكل ما يصاحبه من جهد وارتياح.
في المقابل، أخبرته بيج ببعض الحقائق.
كنا نعيش مع والدي ديف. لم يكن ثمة ماء دافئ كاف قط لتحميم الرضيع. أخيرا، تركنا هذا المنزل وتوجهنا إلى البلدة، وأقمنا إلى جانب مغسلة السيارات. كان ديف يمكث معنا في عطلات نهاية الأسبوع فقط آنذاك. كان المكان ضاجا بشدة، خاصة ليلا. ثم حصل ديف على وظيفة أخرى، واتجه شمالا، واستأجرت أنا هذا المكان.
أخطاء التجنب، أخطاء العاطفة. لم تقل ذلك.
كانت لدى ديف مشكلة في الكلى عندما كان صغيرا، وترك المدرسة طوال فترة شتاء كاملة. قرأ كتابا عن القطب الشمالي. كان على الأرجح الكتاب الوحيد الذي قرأه برغبته. على أي حال، كان دوما يحلم بالقطب الشمالي، كان يرغب في الذهاب إلى هناك؛ لذا، ذهب إلى هناك في نهاية المطاف.
لا يمضي رجل بعيدا أكثر فأكثر في أسفاره حتى يهجر زوجته. لا يفعل ذلك حتى لو كان يحلم دوما بالقطب الشمالي. حدثت أشياء قبل أن يرحل. لن تنفك أواصر الزواج دون ألم، من خلال بعد المسافة . يجب أن يكون ثمة عذاب وجروح. لكنها لم تصرح بها، ولم يسأل هو، أو حتى لم يفكر في ذلك، حتى الآن. •••
سار بسرعة جدا على طبقة الثلج، وعندما وصل إلى المطعم رأى أنه لم يرغب في الدخول بعد. كان سيعبر الطريق السريع ويسير قليلا، ثم يدخل المطعم ليستدفئ في طريقه إلى المنزل.
بحلول وقت عودته إلى المنزل، ستكون سيارة الشرطة التي كانت منتظرة عند المطعم قد رحلت. كان ضابط النوبة الليلية في الداخل الآن، في وقت راحته. لم يكن ذلك هو الرجل نفسه الذي كان روبرت قد رآه واستمع إليه عندما دخل المطعم في طريقه إلى المنزل من كينيلي. لم يكن هذا الرجل قد رأى أي شيء رأي العين. لم يكن قد تحدث إلى بيج. على الرغم من ذلك، كان سيتحدث عن الأمر؛ كان الجميع سيتحدث عن الأمر، متحدثا عن المشهد نفسه وطارحا الأسئلة والاحتمالات نفسها. لا لوم عليهم.
عندما رأوا روبرت، كانوا سيرغبون في معرفة كيف كان حال بيج.
كان ثمة شيء كان سيسألها إياه، قبل أن يأتي كلايتون مباشرة. على الأقل، كان يقلب السؤال على كافة جوانبه في عقله، متسائلا عما إذا كان من الصواب أن يسألها. تناقض ما، تفصيلة ما، في وسط الكثير من التفاصيل البغيضة.
والآن عرف أن ذلك لن يكون من الصواب؛ لن يكون صوابا أبدا. لا يتعلق الأمر به أبدا. تناقض ما، تفصيلة ما - كذبة ما - لا تتعلق به على الإطلاق.
بالسير على هذا السطح الرائع، لم يكن يشعر بالتعب. صار أكثر خفة. كان يبتعد أكثر فأكثر عن البلدة، على الرغم من أنه لم يدرك ذلك لفترة. في الهواء الصافي، كانت أضواء جيلمور ساطعة جدا حتى إنها بدت على بعد نصف حقل، بدلا من نصف ميل، ثم ميل ونصف الميل، ثم ميلين. شرائح رقيقة جدا من الثلج، رقيقة مثل التراب، ولامعة، توجد على الطبقة التي تحمله. كان ثمة لمعان، أيضا، حول أفرع الأشجار والجنبات التي كان يقترب منها. لم يكن الأمر يشبه الغطاء الذي تخلفه العواصف الثلجية على الغصينات والأفرع الرقيقة. كان المشهد يبدو كما لو أن الحرج نفسه تغير وبدأ في اللمعان.
هذا هو الطقس الذي تتجمد الأنوف والأصابع فيه. لكن لم يكن ثمة شعور بالبرد.
كان يقترب كثيرا من حرج كبير. كان يعبر جرفا مائلا طويلا من الثلج، تظهر الأشجار أمامه وإلى جانبه. هناك، إلى الجانب، لفت شيء نظره. كان ثمة نوع من اللمعان تحت الأشجار؛ تجميعة من الأشكال، بها ثقوب سوداء، أذرع أو بتلات غير متناسقة تنتصب وصولا إلى الأفرع السفلى من الأشجار. اتجه نحو هذه الأشكال، لكن ظلت ماهيتها غير واضحة. لم تبد كأي شيء كان يعرفه. لم تشبه أي شيء، اللهم إلا مثل عماليق مسلحين، نصف منهارين، مجمدين في وضع قتالي، أو مثل الأبراج المتشابكة في مدينة صغيرة مجنونة؛ مدينة صغيرة، من عصر الفضاء. ظل منتظرا أي تفسير، ولم يتلق أي تفسير، حتى اقترب جدا. كان قريبا أكثر مما ينبغي حتى إنه كاد يلمس أحد تلك المسوخ قبل أن يرى أنها لم تكن سوى سيارات قديمة. شاحنات وسيارات قديمة، بل وحافلة مدرسية، كان قد دفع بها تحت الأشجار وتركت. كان بعض منها مقلوبا تماما، وكان بعض آخر مقلوبا فوق بعض آخر في زوايا غريبة. كانت ممتلئة جزئيا - ومغطاة جزئيا - بالثلج. لم تكن الثقوب السوداء إلا أجزاء السيارات الداخلية. كانت أجزاء معوجة من الكروم، وأجزاء من المصابيح الأمامية، تلمع.
فكر في الكيفية التي سيخبر بها بيج بذلك؛ كيف كان عليه أن يقترب كثيرا قبل أن يرى أن ما أثار دهشته وحيرته على هذا النحو لم يكن إلا حطاما قديما، وكيف كان يشعر آنذاك بخيبة أمل، ورغبة في الضحك أيضا. كانا يحتاجان إلى أشياء جديدة للحديث عنها. شعر الآن برغبة في العودة إلى المنزل. •••
في الظهيرة، عندما كان الشرطي في المطعم يذكر روايته عن الحادث، أوضح كيف دفعت قوة الطلقة والتر ويبل إلى الخلف. «فجرته إلى أجزاء خارج الغرفة. كان رأسه يرقد في الردهة. كان ما تبقى من الرأس يرقد في الردهة.»
ليست رجلا. ليست الرجل المقصودة؛ الرجل الكاملة والمتماسكة في بنطالها، القدم ذات الحذاء. لم يكن ذلك ما كان أي شخص يستدير عند أعلى السلالم سيراه ويخطو فوقه، يخوض فيه، من أجل بلوغ غرفة النوم وإلقاء نظرة على ما تبقى هناك.
القمر في حلبة التزلج بشارع أورانج
فوجئ سام، عندما دخل إلى متجر كالي الذي كان يبيع بعض السلع الرخيصة والحلوى. كان قد توقع وجود مجموعة غير مرتبة من منتجات البقالة، والبضائع قليلة الجودة، ورائحة سيئة، وربما زينة حفلات باهتة اللون، وزينة كريسماس قديمة مهملة. بدلا من كل ذلك، وجد مكانا يشغل في معظمه ألعاب فيديو. لافتات مكتوبة بخط اليد باللونين الأحمر والأزرق تحذر من تناول المشروبات الكحولية، والشجار، والتسكع، والسباب. كان المتجر مليئا بضجيج الألعاب الإلكترونية، والأضواء الوامضة، وأولاد شكلهم مخيف، يرتدون ملابس حديثة الطراز، حالقين شعورهم وطالين بشرتهم على نحو غريب. كانت كالي تجلس خلف طاولة البيع، طالية بشرتها هي الأخرى، مرتدية باروكة شقراء مائلة إلى اللون القرنفلي. كانت تقرأ كتابا ورقي الغلاف.
طلب سام سجائر، كي يختبرها. وضعت الكتاب، ونظر هو إلى عنوانه، «حبي حيث تهب الرياح العاتية»، تأليف فيرونيكا جراي. أعطته السجائر وناولته الباقي وعدلت من السترة على كتفيها وتناولت الكتاب مرة أخرى، دون أن تنظر إليه. كانت سترتها مغطاة بكرات صغيرة من الصوف القرنفلي والأبيض، التي كانت تتحرك مثل الفشار. انتظرت حتى اللحظة الأخيرة حتى تتحدث إليه. «هل ما زلت تدخن في سنك الكبيرة هذه يا سام؟» «خلت أنك لم تعرفيني.»
قالت كالي، وهي فرحة بنفسها: «أستطيع أن أتعرف عليك وسط ألف شخص ... عرفتك من اللحظة الأولى التي دخلت فيها من هذا الباب.» •••
سام رجل في التاسعة والستين من العمر، أرمل. يمكث في نزل ثري ليتيل بيجز، على الطريق السريع، لبضعة أيام بينما هو في طريقه لزيارة ابنته المتزوجة في بنسلفانيا. على الرغم من أنه دائما ما كان يخبر زوجته عن بلدة جالاجر، فلم يكن ليأتي بها لتراها. بدلا من ذلك، زارا هاواي ، وأوروبا، وحتى اليابان.
يذهب الآن في رحلات سير في جالاجر. عادة يكون هو الشخص الوحيد الذي يسير. المرور مزدحم، ولم يعد متنوعا بين سائر وراكب مثلما كان. أفسح التصنيع المجال للصناعات الخدمية. تبدو الأشياء بالنسبة لسام غير منظمة قليلا. لكن ربما يرجع ذلك إلى أنه يعيش الآن في فيكتوريا؛ في أوك باي، حي راق وجميل مليء بالأشخاص المتقاعدين الموسرين مثله.
كان نزل كرناجان آخر نزل - آخر بناية - على طرف البلدة. لا يزال موجودا في مكانه، لا يزال قريبا من رصيف المشاة. لكن حدث بعض التوسع في البلدة عند كل أطرافها؛ محطة تزود بالوقود، أحد متاجر كنديان تاير ذو باحة انتظار كبيرة، بعض المنازل الجديدة، المنخفضة. كان نزل كرناجان مطليا بلون أزرق فاتح، وبخلاف ذلك كان يبدو مهملا. بدلا من الشرفة الأمامية، حيث كانت توجد مقاعد لكل نزلاء النزل، يرى سام أن الشرفة قد تمت تغطيتها بالكامل بالزجاج، وبطانة عازلة، ومرتبة موضوعة على أحد جانبيها، وحواجز سلكية، ونوافذ قديمة ثقيلة مضادة للعواصف. كان لون المنزل حنطيا فاتحا، وكانت الزخارف الخارجية مطلية باللون البني. لم يكن كل شيء نظيفا فيه. كان الغبار يمثل مشكلة، كان الطريق قريبا جدا وغير مرصوف في ذلك الوقت. كان يمر به خيول وأشخاص سيرا على الأقدام، فضلا عن سيارات وشاحنات مزارع. قالت الآنسة كرناجان، على نحو استنكاري، مشيرة إلى الغبار: «يجب أن تتبعه في كل مكان.» في حقيقة الأمر، كانت كالي هي من تتبعه. كانت كالي كرناجان في التاسعة عشرة من عمرها، عندما رآها سام وإدجار جرازير للمرة الأولى، على الرغم من أنها كانت تبدو في الثانية عشرة. كانت مدمنة عمل. قال عنها البعض إنها مثل العاملات بالسخرة، العاملة بالسخرة الصغيرة لدى الآنسة كرناجان، أو كانوا يطلقون عليها الخادمة الكادحة، الخادمة الكادحة كرناجان. كان الخطأ الذي كان يرتكبه الناس أنهم كانوا يظنون أنها كانت تبالي بذلك.
في بعض الأحيان، كانت امرأة آتية من الريف، حاملة زبدها وبيضها، تأخذ قسطا من الراحة على العتبات الأمامية للنزل. أو ربما تجلس فتاة هناك حتى تخلع حذاءها طويل العنق المطاطي وترتدي حذاءها الخفيف؛ مخبئة حذاءها طويل العنق في فتحة التصريف حتى ترتديه مرة أخرى في طريق عودتها إلى المنزل. كانت الآنسة كرناجان تنادي، من الظلام خلف نافذة غرفة الطعام: «هذا ليس مقعدا في متنزه!» كانت الآنسة كرناجان امرأة ضخمة، مربعة الكتفين، دميمة، مستوية البطن والعجز، ذات شعر مخضب بالحناء، ووجه غير واضح الملامح، تغمره بودرة التجميل، وفم متدل بشدة ومغطى بكثافة بأحمر الشفاه. كانت تروى حولها العديد من قصص العربدة، التي كانت أكثر غموضا، وأصعب في التدليل عليها من قصص جشعها وبخلها المدهشة. قال البعض إن كالي، المفترض أنها لقيطة، ابنة الآنسة كرناجان. كان على المقيمين في النزل الالتزام بالخط المرسوم لهم. ممنوع تناول المشروبات الكحولية، ممنوع التدخين، ممنوع السباب أو التصرف ببذاءة، هكذا أخبرت أبناء جرازير في اليوم الأول لهم عندها. ممنوع تناول الطعام في غرف النوم، مثلما أخبرتهم لاحقا، بعد عيد الشكر، عندما أحضرا صندوقا كبيرا مشحما من الكعك المسكر من المنزل. قالت: «تجذب تلك الأشياء الفئران.»
كانت الآنسة كرناجان تقول كثيرا إنها لم تسكن عندها صبية من قبل. كانت تبدو كما لو كانت تسدي لهم معروفا. كان يقطن لديها أربعة أشخاص: أرملة، السيدة كروز، وهي امرأة عجوز جدا لكنها كانت تستطيع الاعتناء بنفسها؛ وموظفة، الآنسة فيرن، التي كانت كاتبة حسابات في مصنع القفازات؛ ورجل أعزب، آدم ديلاهانت، الذي كان يعمل في البنك ويدرس في مدرسة الأحد؛ وامرأة شابة أنيقة، متكبرة، أليس بيل، التي كانت مخطوبة إلى رجل شرطة وكانت عاملة هاتف. كان هؤلاء الأربعة يشغلون غرف النوم العلوية. كانت الآنسة كرناجان تنام على الأريكة في غرفة الطعام، وكانت كالي تنام على الأريكة في المطبخ. كان سام وإدجار يقيمان في السقيفة، حيث نصب سريران صغيران ذوا إطار معدني على جانبي خزانة ذات أدراج وبساط منسوج.
بعد أن ألقيا نظرة على المكان، دفع سام إدجار للنزول للسؤال عما إذا كان يوجد أي مكان يستطيعان تعليق الملابس فيه. قالت الآنسة كرناجان : «لا أعتقد أن صبيين مثلكما يمتلكان الكثير من الملابس ... لم أسكن لدي صبية من قبل. لماذا لا تفعلان مثل السيد ديلاهانت؟ يضع بنطاله تحت المرتبة كل ليلة، كي يحافظ على الثنيات الموجودة فيه.»
ظن إدجار أن ذلك هو نهاية الأمر، لكن أتت كالي بعد فترة قصيرة حاملة عصا مقشة وبعض السلك. وقفت على الخزانة وصنعت شماعة ملابس وذلك بعمل حلقات من السلك حول عمود.
قال سام: «كنا نستطيع أن نفعل ذلك بسهولة.» نظرا في فضول وبعض اللذة إلى سروالها التحتي الرمادي المتدلي. لم يصدر عنها أي رد فعل. جلبت أيضا بعض شماعات الملابس. كانا يعرفان بطريقة ما أن كل ذلك كان من صنيعها هي.
قال إدجار، الذي كان صبيا نحيفا ذا شعر أشقر مجعد، مبتسما ابتسامة عذبة، خجلة لم تجد في الطابق السفلي: «شكرا يا كالي.»
تحدثت كالي بالصوت الخشن الذي كانت تستخدمه في متجر البقالة عندما كانت تطلب شراء بطاطس جيدة. «هل سيناسبكما هذا الترتيب؟» •••
كان سام وإدجار ابني عم؛ ليسا شقيقين، مثلما كان معظم الناس يظنون. كانا في نفس العمر - سبعة عشر عاما - وكانا قد أرسلا إلى جالاجر للالتحاق بكلية التجارة. كانا قد نشآ في مكان يبعد عشرة أميال من هنا، وكانا قد ذهبا إلى نفس المدرسة الريفية والمدرسة التكميلية الموجودة في القرية. بعد عام في كلية التجارة، يمكنهما الحصول على وظيفة في بنوك أو شركات أو التدرب عند محاسبين. كانا ينويان عدم الرجوع إلى المزرعة التي ولدا فيها.
ما كانا يريدان أن يفعلاه حقا، وأرادا أن يفعلاه منذ أن كانا في حوالي العاشرة من عمرهما، هو أن يصبحا لاعبي أكروبات. كانا قد تدربا سنوات على ذلك وقدما عروضا في الحفلات التي كانت تنظمها المدرسة التكميلية. لم يكن بهذه المدرسة قاعة رياضية، لكن كانت هناك قضبان متوازية، وقضيب اتزان، وبسط في البدروم الخاص بها. في المزرعة، كانا يتدربان في الإسطبل، وعلى الحشائش في الطقس الجيد. ما مصدر دخل لاعبي الأكروبات؟ كان سام هو من بدأ في طرح هذا السؤال. لم يستطع تخيل نفسه هو وإدجار في سيرك. لم يكن لون بشرتهما داكنا بما يكفي، وكان ذلك أحد الأسباب. (كان يعتقد أن الأشخاص الذين يعملون في السيرك جميعهم من الغجر.) كان يعتقد أن ثمة لاعبي أكروبات يتجولون بمفردهم، يؤدون بعض العروض في المعارض، وفي قاعات الكنائس. تذكر رؤية بعض هؤلاء عندما كان أصغر سنا. من أين كانوا يأتون؟ كيف يكسبون عيشهم؟ كيف يعرف المرء طريقة الانضمام إليهم؟ أقلقت هذه الأسئلة سام أكثر فأكثر، ولم يبد قط أنها كانت تزعج إدجار.
في أوائل الخريف، بعد تناول العشاء، وبينما كان يوجد بعض الضوء أثناء الأمسيات، كانا يتدربان في الباحة الخالية في الجانب الآخر من الشارع الموجود فيه نزل كرناجان، حيث كانت الأرض مستوية تماما. كان كل منهما يرتدي فانلة داخلية وبنطالا صوفيا. كانا يبدآن أولا ببعض التدريبات لزيادة مرونة الجسم مثل الشقلبة الجانبية، والوقوف على اليدين، والوقوف على الرأس، والشقلبة والشقلبة المزدوجة في الهواء، ثم كانا يلتحمان معا بجسديهما. كانا يشكلان جسديهما في صورة علامات - حروف هيروغليفية - مقللين إلى درجة مذهلة الحدود الفاصلة بين الجسدين، ومخفيين بروز رأسيهما وكتفيهما. في بعض الأحيان، بالطبع، كانت هذه التشكيلات تتفكك، كل شيء ينهار، الأذرع والأرجل تتحرر، وكان الجسدان المتشابكان يعاودان الانفصال؛ فقط جسدي صبيين، أحدهما طويل وخفيف، والآخر أقصر وأكثر امتلاء. ثم كانا يبدآن مرة أخرى في الالتحام. كان الجسدان المتوازنان يتأرجحان. ربما يختل توازنهما، ربما يظلان متوازنين. كان الأمر كله يعتمد على ما إذا كانا يستطيعان الالتزام بذلك الخط غير المرئي الذي كان يصل بين جسديهما، محققين التوازن العجيب. نعم. لا. نعم. مرة أخرى.
كان لديهما جمهور من المقيمين في النزل الذين كانوا يشاهدونهما وهم جالسون في الشرفة الخارجية. لم تكن أليس بيل تهتم بالأمر. فإذا لم تخرج مع خطيبها، كانت تمكث في غرفتها تعتني بملابسها وبنفسها؛ تطلي أظافرها، تصفف شعرها أو تفرده، تهذب شعر حاجبيها، تغسل ستراتها وجواربها الحريرية، وتنظف أحذيتها. كان آدم ديلاهانت مشغولا دائما أيضا؛ كانت لديه اجتماعات في جمعية الاعتدال في تناول المشروبات الكحولية ومنظمة جدعون، وكان يشرف على أنشطة اجتماعية في مدرسة الأحد التي كان يدرس فيها. لكنه كان يجلس لبعض الوقت ويشاهد الصبيين مع السيدة كروز، والآنسة فيرن، والآنسة كرناجان. كانت السيدة كروز لا تزال تتمتع ببصر جيد وكانت تحب العرض. كانت تضرب بعصاها على أرضية الشرفة وصاحت قائلة: «نل منه، أيها الصبي! نل منه!» كما لو كانت هذه العروض مباريات مصارعة.
أخبر السيد ديلاهانت سام وإدجار عن الدرس الذي يلقيه في مدرسة الأحد، والذي كان يتناول الفضيلة، والقوة، والنصر. قال لهما إنهما إذا انضما إلى المدرسة، فسيستطيعان استخدام قاعة الكنيسة المتحدة الرياضية. لكن الصبيين كانا ينتميان لكنيسة كولد ووتر المعمدانية في موطنهما؛ لذا لم يرغبا في الانضمام للمدرسة.
حين كانت كالي تشاهد العرض، كانت تفعل ذلك من وراء النوافذ. كان لديها دوما عمل تؤديه.
قالت الآنسة كرناجان إن التدريب الكثير من شأنه أن يزيد من شهية الصبيين على نحو هائل. •••
عندما كان سام يتذكر نفسه هو وإدجار أثناء تدربهما في تلك الباحة الخالية - التي أصبحت الآن جزءا من باحة انتظار شركة كنديان تاير - كان يبدو دوما جالسا في الشرفة الخارجية، أيضا، ناظرا إلى الصبيين وهما يحاولان، ويسقطان، ثم ينهضان على الحشائش - يرتفع أحدهما فوق الآخر ببطء، محافظا على توازنه بيديه في انتصار - ثم ينفصلان في ابتهاج بحركة شقلبة رائعة. تنطوي هذه الذكريات على ظلال بنية كئيبة خاصة. ربما بسبب ورق الحائط في نزل كرناجان. كانت الأشجار التي تصطف على الطريق في ذلك الوقت أشجار دردار، وكان لون أوراقها في الخريف ذهبيا ذا نقاط بنية. كانت الأوراق تتخذ شكل شعلة شمعة. سقطت هذه الأوراق في ذهنه في أمسية هادئة، كانت السماء فيها صافية، لكن كان منظر الغروب محجوبا، والريف ضبابيا. كانت البلدة، في ظل الأوراق ودخان الأوراق المحترقة، غامضة وعصية، عالما قائما بذاته، بأبراج الكنائس، وصافرات المصانع، ومنازل الأثرياء، وصفوف المنازل المتشابهة المتلاصقة، والشبكات، والشعارات، والمصالح الشخصية. كان قد جرى تحذيره؛ إذ قيل له إن أهل البلدة مقززون. لم يكن هذا يمثل إلا نصف الحقيقة.
زادت التدريبات من شهية الصبيين جرازير، لكن شهيتهما كانت هائلة على أي حال. كانا معتادين على تناول الطعام بكميات كبيرة في بيتهما، ولم يتصورا قط أن هناك من يمكن أن يعيش على حصص الطعام مثل تلك التي كانت تقدم في النزل. رأيا في دهشة أن الآنسة فيرن كانت تترك نصف الكمية القليلة التي كانت تقدم لها في طبقها، وأن أليس بيل كانت ترفض تناول البطاطس والخبز ولحم الخنزير والكاكاو؛ باعتبارها أشياء تهدد رشاقتها، واللفت والكرنب والفول؛ باعتبارها تمثل تهديدا لعملية الهضم لديها، وأي شيء يحتوي على زبيب؛ لأنها كانت لا تحبه. لم يستطيعا التوصل إلى أي طريقة للحصول على ما ترفضه أليس بيل أو ما تتركه الآنسة فيرن في طبقها، على الرغم من أن هذا كان سيكون بالتأكيد أمرا عادلا.
في العاشرة والنصف مساء، كانت الآنسة كرناجان تقدم ما كانت تسميه «وجبة المساء». كان هذا طبقا مكونا من شرائح خبز، وبعض الزبد والمربى، وبعض الكاكاو أو الشاي. لم تكن القهوة تقدم في ذلك النزل. قالت الآنسة كرناجان إن هذه الوجبة أمريكية وتؤدي إلى تآكل المريء. كان الزبد يقطع سلفا إلى قطع صغيرة، وكان طبق المربى يوضع في منتصف المائدة، بحيث لا يمكن أن يصل إليه أي شخص بسهولة. أشارت الآنسة كرناجان إلى أن الأشياء المسكرة تفسد مذاق الخبز والزبد. استسلم النزلاء الآخرون إلى وجهة نظرها انطلاقا من التعود، لكن سام وإدجار التهما طبق المربى التهاما. وسرعان ما تناقصت كمية المربى إلى ملعقتين منفصلتين. كان الكاكاو مصنوعا من الماء، مع إضافة القليل من اللبن منزوع الدسم؛ لزيادة قوامه ولدعم زعم الآنسة كرناجان أنه صنع من اللبن بالكامل.
لم يكن يعارضها أحد. لم تكن الآنسة كرناجان تكذب لخداع الناس بل لردعهم. إذا قال أحد النزلاء: «كان الجو باردا قليلا في الدور العلوي الليلة الماضية»، كانت الآنسة كرناجان ترد على الفور قائلة: «لا أستطيع فهم ذلك. توجد نار تدفئة كبيرة مشتعلة. كانت الأنابيب ساخنة جدا بحيث لا يستطيع أحد أن يضع يده عليها.» حقيقة الأمر أنها تركت النيران تهدأ أو تنطفئ تماما. كان النزيل يعرف هذا أو يشك بقوة في حدوثه، لكن ما جدوى شك النزيل في مقابل كذبة الآنسة كرناجان الحازمة، الحادة؟ كانت السيدة كروز في تلك الحالات تعتذر، وكانت الآنسة فيرن تتمتم ببعض الأشياء حول التهاب جلدها بسبب البرد، وكان السيد ديلاهانت وأليس بيل ينظران في عبوس لكن دون أن يجادلا.
كان سام وإدجار ينفقان مصروفهما الشخصي بالكامل، والذي لم يكن مبلغا كبيرا، على الطعام. في البداية، كانا يتناولان الهوت دوج في مطعم كوزي جريل. ثم رأى سام أن يسيرا لمسافة أبعد إلى متجر البقالة لشراء عبوة تارت مربى أو بسكويت فيج نيوتونز المحشو بالتين. كان عليهما أن يأكلا كل هذا في طريقهما إلى المنزل، بسبب قاعدة عدم تناول الطعام في غرف النوم. كان يحبان الهوت دوج، لكنهما لم يشعرا بالراحة قط في مطعم كوزي جريل، الذي كان ممتلئا بطلاب المدرسة الثانوية الصاخبين، الذين كانوا أصغر عمرا وأكثر وقاحة منهما كثيرا. استشعر سام إمكانية تعرضهما للإساءة منهم، على الرغم من أن هذا لم يحدث قط. في طريق عودتهما إلى نزل كرناجان من متجر البقالة، كانا يمران بمطعم كوزي جريل ثم متجر ديكسون، وهو صيدلية بها مكان لبيع الآيس كريم في الخلف. كان ذلك هو المكان الذي كان زملاؤهما في كلية التجارة يقصدونه لتناول مشروب الكولا بالكرز والآيس كريم بالموز بعد انتهاء اليوم الدراسي وفي الأمسيات. عند المرور على نوافذ متجر ديكسون، كانا يتوقفان عن الأكل، ويسيران في تبلد ناظرين أمامهما مباشرة. ما كانا ليدخلا إلى هناك أبدا.
كانا الصبيين الوحيدين في كلية التجارة اللذين تربيا في الريف، وكانت ملابسهما تميزهما عن الآخرين. لم يكن لديهما كنزات ذات ياقات على شكل حرف في بلون أزرق أو بني فاتح، ولم يكن لديهما بناطيل رمادية اللون تشبه في هيئتها بناطيل البالغين، لم يكونا يرتديان إلا بناطيل صوفية ضيقة، وكنزات سميكة منسوجة منزليا، وسترات بذلات قديمة كانا يرتديانها كمعاطف رياضية. كانا يرتديان قمصانا ورابطات عنق؛ لأن ذلك كان مطلوبا، لكن لم يكن أي منهما يملك إلا رابطة عنق واحدة وقميصين. لم تكن الآنسة كرناجان تسمح إلا بغسيل قميص واحد في الأسبوع؛ لذا كانت أساور وياقات سام وإدجار عادة قذرة، بل كانت توجد عليها بقع - ربما جراء تارت المربى - لم ينجحا في التخلص منها.
كانت توجد مشكلة أخرى، تتعلق جزئيا بالملابس وجزئيا بالأجساد داخلها. لم يكن يوجد ماء ساخن كثير في النزل، وكانت أليس بيل تستخدم أكثر من حصتها. في الصباح المبكر جدا، كان الصبيان ينضحان أيديهما ووجهيهما بالماء كما كانا يفعلان في بيتهما. كانا يتحاملان على أنفسهما واعتادا على رائحة جسديهما القذرة، وملابسهما التي كانوا يرتدونها باستمرار، وهو ما يعد علامة على مثابرتهما وكدهما. ربما كان هذا لحسن حظهما، وإلا كانت الفتيات ستنجذب أكثر إلى إدجار، الذي كان مظهره يروق لهن، وليس إلى سام، ذي الشعر رملي اللون المنسدل، والنمش، الذي كانت لديه عادة خفض رأسه إلى أسفل، كما لو كان يفكر في شيء ما. كانت ستصبح بينهما فجوة. أو، بعبارة أخرى، كانت الفجوة ستظهر بينهما أسرع. •••
حل الشتاء وتوقفا عن تقديم عروض الأكروبات في الباحة الخالية. كان سام وإدجار يأملان الآن في أن يذهبا للتزلج. كانت حلبة التزلج على مسافة مربعين سكنيين فقط، في شارع أورانج. وفي ليالي التزلج، أيام الاثنين والخميس، كانا يستطيعان سماع الموسيقى. كانا قد أحضرا حذاءي التزلج معهما إلى جالاجر. كانا يتزلجان منذ أمد بعيد، على بركة المستنقع أو في حلبة التزلج الخارجية في القرية. يتكلف التزلج هنا خمسة عشر سنتا، وكانت الطريقة الوحيدة التي يستطيعان من خلالها تحمل تكلفة ذلك هي التنازل عن تناول الطعام الإضافي. لكن الطقس البارد كان يذكي شهيتهما أكثر وأكثر.
سارا إلى حلبة التزلج في ليلة أحد عندما لم يكن أحد موجودا، ومرة أخرى في ليلة اثنين بعد انتهاء فترة التزلج المسائية ولم يكن ثمة أحد يمنعهما من الدخول إلى هناك. دخلا واختلطا بالناس الذين كانوا يغادرون حلبة التزلج ويخلعون أحذية التزلج. دققا النظر جيدا فيما حولهما قبل إطفاء الأنوار. في طريق عودتهما إلى المنزل، وفي حجرتهما، كانا يتحدثان بصوت خفيض. كان سام مستمتعا وهو يضع خطة للدخول للحلبة مجانا، لكنه لم يتصور نفسه هو وإدجار يفعلان ذلك حقيقة. أخذ إدجار على محمل التسليم أنهما سينتقلان من التخطيط إلى التنفيذ.
قال سام: «لا نستطيع تنفيذ ذلك ... جسدانا ليسا صغيرين بما يكفي.»
لم يرد إدجار، فاعتقد سام أن ذلك كان نهاية الأمر. لكن كان يجدر به أن يعرف أن تلك ليست نهاية الأمر.
حلبة التزلج في شارع أورانج، في ذاكرة سام، عبارة عن بناية متهالكة، مظلمة، طويلة. يظهر ضوء خافت، متحرك خلال الشقوق بين الألواح الخشبية. كان يأتي مصدر الموسيقى من تسجيلات جرامافون خشنة وحادة الصوت؛ يعتبر استماع المرء إليها مثل محاولة الاستماع إلى الموسيقى عبر حاجز مهتز من الأشجار الشائكة. «حكايات من غابات فيينا»، «الأرملة الطروب»، «فالس الذهب والفضة»، «الجمال النائم». يأتي الضوء المتحرك الذي يرى عبر الشقوق من مصدر ضوء يسمى «القمر». القمر، الذي يلمع من سقف حلبة التزلج، عبارة عن مصباح أصفر في علبة من صفيح كبيرة، علبة مشروب، قطع أحد أطرافها. تطفأ جميع الأضواء الأخرى عند إضاءة القمر. تسمح مجموعة من الأسلاك والحبال بجذب العلبة الصفيح في هذا الاتجاه أو ذاك؛ مما يخلق انطباعا بوجود مصدر ضوء متحرك؛ حيث يجري إخفاء المصباح الأصفر القوي، مصدر الضوء، تماما.
كان بعض العمال المؤقتين هم الذين يتحكمون في القمر. كانوا صبية تتراوح أعمارهم بين العاشرة أو الحادية عشرة والخامسة عشرة أو السادسة عشرة. كانوا ينظفون الثلج ويجرفون الثلوج الزائدة خارج باب الثلج، الذي كان عبارة عن باب قلاب مركب بإحكام في مكان منخفض في الحائط، مغلق من الداخل. بالإضافة إلى الحبال التي كانت تتحكم في القمر، كانوا يتعاملون مع المصاريع التي كانت تغطي الفتحات في السقف؛ التي كانت تفتح من أجل دخول الهواء، وتغلق مع الهطول الشديد للثلوج. كان هؤلاء العمال يجمعون رسوم الدخول وكانوا في بعض الأحيان يخدعون الفتيات اللائي كن يخفن منهم ولا يعطونهن باقي نقودهن، لكنهم لم يكن بإمكانهم خداع بلينكر، الذي جعلهم يعتقدون أنه كان يعد جميع من يدخل للتزلج في الحلبة. كان بلينكر صاحب الحلبة، رجلا شاحب الوجه، نحيفا، غير ودود. كان يجلس هو وأصدقاؤه في غرفته، خلف حمام الرجال وغرفة تبديل الملابس. كان في الغرفة موقد خشبي، عليه إناء قهوة طويل، مسود، مخروطي الشكل، وبعض المقاعد مستقيمة الظهر التي تنقصها بعض الروافد، وبعض المقاعد ذات الذراعين، القديمة، القذرة. كانت الألواح الخشبية في الأرضية، مثل جميع الأرضيات والمقاعد والألواح الجدارية في الحلبة، مشقوقة ومخدوشة جراء آثار أحذية التزلج الجديدة والقديمة ويسودها الدخان والغبار. كانت الغرفة التي كان يجلس فيها مع أصحابه حارة ومليئة بالدخان ويقال إنهم كانوا يشربون خمرا فيها، على الرغم من أنها كانت في الغالب مجرد قهوة في أقداح غير نظيفة مصنوعة من المينا. يقال إن صبية دخلوا ذات مرة إلى الغرفة قبل وصول الرجال، وتبولوا في إناء القهوة. ويقال أيضا إن أحد أصدقاء بلينكر فعل ذلك عندما ذهب لجمع رسوم الدخول.
قد يكون العمال مشغولين أو واقفين دون عمل حول أجزاء الحلبة، يتسلقون سلالم الحوائط، ويسيرون بطول المقاعد، أو حتى يجرون بطول المنصة، التي لم يكن بها حاجز حماية، تحت فتحات السقف. في بعض الأحيان، كانوا يمرقون عبر هذه الفتحات إلى السقف، ويعودون بالطريقة ذاتها. بالطبع، كان البعض منهم يتزلج. كانوا يدخلون الحلبة مجانا.
وهو ما فعله سام وإدجار وكالي. جاءوا للحلبة عندما كانت مفتوحة للناس وكانت ممتلئة وصاخبة. كانت توجد بعض أشجار الكرز بالقرب من أحد أركان المبنى، وكان الشخص خفيف الوزن جدا يستطيع تسلق إحدى هذه الأشجار والقفز على السقف. ثم على هذا الشخص الخفيف جدا الجريء الرشيق، أن يزحف بسرعة على السقف، ثم ينسل عبر إحدى الفتحات ويقفز إلى المنصة في الأسفل، مخاطرا بالسقوط على الثلج في الأسفل، أو بكسر بعض عظامه، أو حتى بالموت. لكن الصبية كانوا يخاطرون بعمل ذلك طوال الوقت. من المنصة، كان المرء يستطيع النزول عبر سلم حائط، ثم السير بطول المقاعد، والانسلال فوق حائط الممر المصنوع لإلقاء الثلج في الخارج. ثم لم يكن الأمر يعدو سوى الربوض في الظل، وترقب اللحظة المناسبة، وفتح باب الثلج، ودخول الاثنين اللذين كانا منتظرين في الخارج: سام وإدجار، اللذين لم يضيعا وقتا في ارتداء حذاءيهما والتزلج على الجليد.
لماذا لم ينجح الآخرون في القيام بالأمر نفسه؟ ربما يسأل سام عن ذلك في تلك المناسبات، بعدها بسنوات وسنوات، التي كان يقرر فيها أن يحكي هذه القصة، وكان يقول إن آخرين ربما فعلوا ذلك، لكنه لم يكن يعرف عن هذا الأمر شيئا. ربما كان بمقدور العمال بالطبع فتح الباب لأي عدد من أصدقائهم، لكنهم لم يكونوا يميلون إلى عمل ذلك؛ حيث إنهم كانوا يحافظون بشدة على ما يتمتعون به من امتيازات. وكان عدد قليل من المتزلجين في الليل صغيري الحجم بما يكفي وخفيفي الوزن وسريعي الحركة وشجعانا بما يكفي بحيث يدخلون إلى الحلبة عبر السقف. ربما حاول الأطفال تجربة ذلك، لكنهم كانوا يتزلجون في أوقات ما بعد الظهيرة أيام السبت ولم تكن تتوفر لديهم ميزة الظلام. ولم لم يكن ممكنا ملاحظة كالي؟ حسنا، كانت سريعة جدا، ولم تكن قط غير منتبهة؛ كانت تنتظر الوقت المناسب. كانت ترتدي ملابس رثة، لا تتلاءم مع حجمها؛ بنطالا، وسترة قصيرة، وقبعة صوفية مسطحة. كان ثمة صبية دوما في المكان يرتدون ملابس رثة مهلهلة. وكانت البلدة كبيرة بما يكفي بحيث لم يكن من الممكن تحديد كل وجه على نحو دقيق فورا. كانت توجد مدرستان حكوميتان، وأي صبي يذهب إلى إحداهما إذا رآها سيظن أنها تذهب إلى المدرسة الأخرى.
سألت زوجة سام ذات مرة: «كيف أقنعتماها؟» كالي؛ ما الذي جعل كالي تهتم بالأمر إلى هذا الحد، على الرغم من أنها لم تمتلك قط حذاء تزلج؟
قال سام: «كانت حياة كالي كلها عملا ... لذا كان أي شيء ليس عملا، أمرا مثيرا بالنسبة إليها.» لكنه تساءل في نفسه: كيف «تمكنا» من إقناعها؟ لا بد أن ذلك كان بمنزلة تحد. كانت مصادقة كالي في البداية تشبه مصادقة كلب صغير غضوب، ومرتاب، ثم لاحقا كان الأمر يشبه مصادقة الفتاة التي بداخلها التي كانت تجعلها تبدو وكأنها تبلغ اثني عشر عاما. في البداية لم تكن لتتوقف عن العمل وتعيرهما انتباهها. أبديا إعجابهما بالصورة الموجودة في أعمال التطريز التي كانت تقوم بها، والمكونة من تلال خضراء، وبركة زرقاء مستديرة، ومركب شراعي كبير، لكنها ضمتها إلى صدرها معتقدة أنهما كانا يسخران منها. قال سام، قاصدا الإطراء، لكنها استشاطت غضبا: «هل تصنعين تلك الصور بنفسك؟»
قالت: «نرسل في طلبها ... من سينسيناتي.»
كانا مصرين. لم؟ لأنها كانت تعمل عملا شاقا، منفصلة دائما عما يجري حولها، غريبة الشكل، ضئيلة الحجم أكثر مما ينبغي، ومقارنة بها كانا ينتميان إلى الاتجاه السائد في الحياة، كانا محظوظين. كان باستطاعتهما أن يكونا شريرين أو عطوفين معها حسب ما يريدان، وكانا يريدان أن يكونا عطوفين. أيضا، كان الأمر بمنزلة تحد. كانت الدعابات ومواقف التحدي هي التي جعلتها تستسلم. كانا يقدمان لها قطعا صغيرة من الفحم ويغلفانها في أوراق شوكولاتة. كانت تضع أشواكا جافة تحت ملاءات سريريهما. أخبرتهما أنها لم ترفض تحديا قبل ذلك. كان هذا هو سر كالي؛ لا يوجد شيء لا يمكنها أن تفعله. لم تكن تشعر بالاضطهاد بسبب الأعمال الشاقة التي كانت مكلفة بها، فقد كانت تفخر بذلك. ذات ليلة، عندما كان سام يجري بعض العمليات المحاسبية على مائدة غرفة الطعام، ألقت بكراسة مدرسية تحت أنفه. «ما هذا يا كالي؟» «لا أعرف!»
كان كراسة قصاصات، وكان ملصقا بها بعض الأخبار المنشورة في الصحف عنها. كانت الصحيفة قد دعت الناس إلى المشاركة في بعض المسابقات. من يستطيع صنع أكبر عدد ممكن من العرى في ثماني ساعات؟ من يستطيع تعليب أكبر كمية ممكنة من التوت الأحمر في يوم واحد؟ من يستطيع تطريز عدد مذهل من مفارش الأسرة، وأغطية ومفارش المائدة، والبسط الطويلة؟ كالي، كالي، كالي، كالي كرناجان، مرة بعد أخرى. في تقديرها، لم تكن خادمة كادحة، وإنما شخصا معجزة يشفق على حياة الآخرين التي تتسم بالكسل.
كان بإمكانهم الذهاب للتزلج فقط في ليالي الاثنين؛ حيث كانت الآنسة كرناجان تذهب للعب لعبة البنجو في ليجون هول. كانت كالي تترك ملابس الصبية التي كانت ترتديها في سقيفة الحطب. كان مصدر هذه الملابس حقيبة تحتوي على أشياء قديمة تتعلق بالسيدة كروز، التي كانت قد جلبتها معها من منزلها القديم، عازمة على صنع ألحفة منها، لكنها لم تجد وقتا لعمل ذلك قط. كانت الحقيبة مصدر كل الملابس، باستثناء القبعة التي كان يمتلكها آدم ديلاهانت، ووضعها ضمن رزمة من الأشياء وأعطاها لكالي لإعطائها لجمعية المبشرين، لكن الآنسة كرناجان أمرت كالي بأن تضعها في القبو، في صندوق.
كانت كالي تستطيع الانسلال من حلبة التزلج بمجرد انتهاء مهمتها؛ كان بإمكانها أن تخرج من المدخل الرئيسي ولم يكن أحد ليضايقها. لكنها لم تفعل ذلك. تسلقت فوق قمة المقاعد، سارت عليها مختبرة مدى اهتزاز الألواح تحتها، تسلقت جزءا من أحد السلالم، وتأرجحت على يد واحدة، وقدم واحدة، متعلقة فوق الفاصل وهي تشاهد المتزلجين. لم يتوقف إدجار وسام عن التزلج حتى انطفأ القمر وتوقفت الموسيقى وأضاءت الأنوار الأخرى. في بعض الأحيان كان يسابق أحدهما الآخر، مندفعين جيئة وذهابا بين أزواج يتزلجون في ثبات وصفوف من الفتيات اللائي كن يحاولن الاتزان. في بعض الأحيان، كانا يستعرضان مهاراتهما، متزلجين على الثلج مع بسط ذراعيهما. (كان إدجار أكثر موهبة في التزلج، على الرغم من أنه لم يكن عداء قويا؛ كان يستطيع أداء التزلج الاستعراضي، لو كان الصبية يقومون به وقتها.) لم يتزلجا مع الفتيات قط، ولم يرجع ذلك إلى أنهما كانا يتهيبان أن يطلبا ذلك منهن قدر ما كانا لا يرغبان في أن يتزلجا وفق هوى أحد. انتظرتهما كالي في الخارج عندما انتهى التزلج، وساروا إلى المنزل معا، ثلاثة صبية. لم تتظاهر كالي بأي شيء لتظهر أنها صبي، بأن تطلق صافرة أو تقذف كرات ثلج. كانت تسير بسرعة واندفاع مثلما يسير الصبية، متأملة لكن مستقلة، مستعدة لجميع الاحتمالات؛ عراك أو مغامرة . كان شعرها الأسود الخشن، الكثيف مكوما تحت القبعة، وقد جعلت حجمه متناسبا مع حجم رأسها. دون الشعر حوله، بدا وجهها أقل شحوبا وتجهما؛ تلك النظرة المزدرية، الساخرة، الشرسة التي كانت ترتسم على وجهها في بعض الأحيان قد ذهبت وبدت أكثر وقارا ومعتزة بنفسها. كانا يناديانها كال.
دخلوا إلى المنزل من الجانب الخلفي. صعد الصبيان إلى أعلى وبدلت كالي ملابسها في سقيفة الحطب التي كان يغطيها الثلج. كان أمامها ما لا يزيد عن عشر دقائق لتحضير وجبة المساء ووضعها على المائدة. •••
عندما كان سام وإدجار يرقدان في الفراش في الظلام في ليالي الاثنين بعد التزلج، كانا يتحدثان أكثر من المعتاد. كان إدجار يميل إلى التحدث عن كريسي يونج، صديقته في العام الماضي، في موطنه. كان إدجار يزعم أن لديه خبرات جنسية. قال إنه ضاجع كريسي الشتاء الماضي، عندما تزلجا بزلاجة بعد حلول الظلام واصطدما بكومة ثلج. لم يكن سام يعتقد أن ذلك ممكنا، نظرا للبرد الشديد، وملابسهما، والوقت القصير الذي قضياه قبل أن يلحق بهما المتزلجون الآخرون. لكنه لم يكن متأكدا، وأثناء الاستماع إلى ذلك، شعر بالضيق وربما بالغيرة. ذكر فتيات أخريات، فتيات كن في حلبة التزلج ترتدين تنورات قصيرة متسعة وسترات صغيرة يزين حوافها الفرو. قارن سام وإدجار بين ما رآه كل منهما عندما كانت تلك الفتيات تدرن أو كانت إحداهن تسقط على الثلج. سأل سام إدجار عما يمكن أن يفعله بشيرلي أو دوريس، ثم انتقل سريعا، في روح يمتزج فيها خليط غريب من التهكم والإثارة، إلى سؤاله عما يمكن أن يفعله مع فتيات ونساء الأخريات، وهو أمر أقل احتمالا أكثر فأكثر، إذا وقعن في موقف لا يستطعن الفكاك منه. الأستاذة في كلية التجارة، الآنسة لويسون التي كانت تشبه الرجال، والتي كانت تدرس المحاسبة، والآنسة باركينسون سريعة الانفعال، التي كانت تدرس الكتابة على الآلة الكاتبة. المرأة البدينة في مكتب البريد، الشقراء النحيفة جدا في مكتب طلب البضائع بالبريد التابع لمتجر إيتونز. ربات البيوت اللائي كن يتباهين بمؤخراتهن في الفناء الخلفي لمنازلهن، وهن ينحنين فوق سلال الغسيل. كانت الطبيعة الغريبة لبعض الاختيارات تثيرهما أكثر من بهاء وجمال الفتيات اللائي كن محل إعجابهما. بالنسبة لأليس بيل، فقد تخيلا أنهما تعاملا معها بلا مبالاة؛ إذ ربطاها في فراشها واغتصباها بالقوة وهما في طريقهما لتناول العشاء. تخيلا الآنسة فيرن ممددة أمام الجميع على السلالم، بعد أن ضبطت تحاول إثارة نفسها عن طريق لف ساقيها حول قائم الدرابزين في أسفل السلالم. استبعدا السيدة كروز؛ كانت توجد بعض الحدود لتخيلاتهما، على أي حال. ماذا عن السيدة كرناجان، التي كانت تعاني من الروماتيزم، والتي كانت ترتدي طبقات من الملابس الرثة، وتضع على فمها أحمر شفاه كثيفا وغريبا؟ كانا قد سمعا قصصا حولها، الجميع سمع هذا. كان يشاع أن كالي ابنة بائع أناجيل كان أحد المقيمين في النزل. كانا يتخيلان هذا الشخص وهو يقوم بفعلته بدلا منهما، وهو يضاجع الآنسة كرناجان العجوز. مرة بعد الأخرى، كان هذا الرجل يضيق الخناق عليها، ويمزق سروالها التحتي القديم، يطفئ ظمأ فمها المتعطش، يدفعها إلى إصدار أصوات أنين وتأوه تشي بأقصى درجات الحاجة والإشباع.
قال إدجار: «كالي أيضا.»
ماذا عن كالي؟ توقفت متعة اللعبة بالنسبة لسام عندما ذكر اسمها. كانت حقيقة أنها، أيضا، أنثى محرجة بالنسبة له. قد يظن المرء أنه اكتشف شيئا مقززا ومثيرا للشفقة عن نفسه.
لم يكن إدجار يعني أنهما يجب أن يتخيلا فقط ماذا يمكن أن يفعل في كالي. «يمكننا أن نجعلها تقوم بذلك. أراهن أننا نستطيع أن نفعل ذلك.»
قال سام: «هي صغيرة جدا.» «لا، هي ليست كذلك.»
يتذكر سام محاولة الإغواء تلك، وهي محاولة تحققت من خلال عدد من التحديات، وهو ما جعله يعتقد أن مغامرة حلبة التزلج من المفترض أنها تمت على النحو نفسه. في صباح يوم سبت عندما كان الشتاء على وشك الانتهاء، عندما كانت تصدر عربات الجليد، التي كان يقودها المزارعون فوق الثلج الكثيف، صوت صرير على رقع من الأرض العارية عند مرورهم بنزل كرناجان، صعدت كالي سلالم السقيفة حاملة ممسحة مبتلة، ودلوا ممتلئا بالمياه لحك وتنظيف الأرضية، وخرقا قديمة لنفض التراب. ركلت البساط المنسوج إلى أسفل السلالم بحيث تستطيع نفضه خارج الباب. نزعت الملاءات المصنوعة من الفلانيلة، ذات الرائحة الحميمة، الدافئة. لا يدخل الهواء النقي إلى نزل كرناجان. خارج النوافذ توجد نوافذ مضادة للعواصف. هذا هو وقت ومكان إغواء كالي.
هذه ليست الكلمة المناسبة للإشارة إلى الأمر. في البداية كانت كالي غاضبة وضيقة الصدر، تحاول مواصلة عملها، ثم صارت متجهمة، ثم طيعة على نحو غريب. كان استفزازها مع شعورها بالذعر أسلوبا فعالا بالتأكيد. لا بد أنهما كانا يعرفان، آنذاك، عمرها الحقيقي، لكنهما كانا لا يزالان يعاملانها كما لو كانت شيطانا صغيرا يسهل إغواؤه؛ لم يفكرا في ملامستها أو التملق إليها كفتاة.
حتى مع تعاونها، لم يكن الأمر سهلا مثلما تخيلا. صار سام مقتنعا بأن قصة كريسي لم تكن إلا كذبة، على الرغم من أن إدجار ذكر اسم كريسي في تلك اللحظة.
قال إدجار: «تعالي ... سأريك ما أفعله مع صديقتي. هذا ما أفعله مع كريسي.»
قالت كالي في حدة: «أراهن على ذلك.» لكنها سمحت له بأن ينام فوقها على المرتبة الضيقة. كان الرباط المطاطي لسروالها التحتي الشتوي قد ترك آثارا حمراء حول رجليها ووسطها. كانت ترتدي سترة مصنوعة من الفلانيلة، مزررة فوق القميص التحتي، وجوربها المضلع البني، تحمله إلى أعلى حمالات عريضة طويلة. لم تخلع شيئا إلا السروال التحتي. قال إدجار إن الحمالات كانت تؤلمه وبدأ يفكها، لكن كالي صرخت قائلة: «لا تقترب من تلك الحمالات!» كما لو كانت الحمالات هي ما يجب أن تحميه.
ثمة شيء مهم جدا مفقود في ذاكرة سام حول هذا الصباح؛ الدماء. ليس لديه أي شك في عذرية كالي، متذكرا محاولات إدجار المستميتة، ثم محاولاته هو، اللكزات والنخسات والحيرة. كانت كالي ترقد تحتهما الواحد تلو الآخر، نصف رافضة، ونصف راغبة، محتملة إياهما، لا تشتكي من وجود أي نزف. لن تفعل هذا أبدا. لكن لن تفعل أي شيء، على وجه الخصوص، للمساعدة.
قال إدجار في صوت جاد: «افتحي رجليك .» «هما مفتوحتان بالفعل.»
ربما يرجع السبب في عدم تذكره للدماء إلى عدم وجود أي دماء. لم يصلا إلى هذه المرحلة. كانت كالي شديدة النحافة، لدرجة أن عظام حوضها كانت بارزة، لكن كالي بدت لسام عريضة، وعويصة، ومعقدة تماما. باردة ولزجة حيث بللها إدجار، وجافة في المناطق الأخرى، وبها مناطق ناتئة وأخرى متدلية وأخرى مسدودة على نحو غير متوقع؛ بدا ملمس جلدها كملمس الجلد المدبوغ. عندما تذكر ذلك لاحقا، لم يكن متأكدا بعد أنه قد عرف طبيعة مضاجعة الفتيات. كان الأمر كما لو كانا قد لهوا مع دمية أو جرو متذمر. عندما نهض من فوقها، رأى أن ما بدا له من جلدها قد اقشعر، وقد بدا الشعر فيه وكأنه ميت. أيضا، لاحظا أن منيهما أغرق إحدى فردتي جوربها. مسحت كالي نفسها باستخدام إحدى خرق نفض التراب - بافتراض أنها خرقة نظيفة - وقالت إن الأمر يذكرها بتنظيف مخاط الأنف في منديل.
قال سام: «أنت لست غاضبة، أليس كذلك؟» قاصدا بعبارته هذه ذلك المعنى جزئيا، وجزئيا يعني: أنت لست غاضبة بحيث تخبري أحدا؟ «هل آلمناك؟»
قالت كالي: «أستطيع تحمل ما هو أشد إيلاما من هذا الشيء الغبي.»
لم يعد أحد يذهب للتزلج بعد ذلك. صار الطقس لطيفا جدا. •••
اشتد مرض الروماتيزم على الآنسة كرناجان. ازداد العمل الملقى على عاتق كالي. أصيب إدجار بالتهاب في اللوزتين ومكث فترة في المنزل ولم يذهب إلى الكلية. أدرك سام، الذي صار يذهب بمفرده إلى الكلية، كيف صار يستمتع بالدراسة في الكلية. كان يحب صوت الآلات الكاتبة؛ وقرع الأجراس، وصوت العربات. كان يحب تخطيط صفحات دفاتر الحسابات بقلم من نوع خاص، واضعا الخطوط السميكة والعادية المطلوبة. كان يحب على نحو خاص التوصل إلى النسب والجمع السريع لأعمدة من الأرقام، وحل مسائل السيد س والسيد ب، كان يمتلك الأول مخزن أخشاب والثاني سلسلة من متاجر بيع الأدوات المعدنية.
لم يذهب إدجار إلى الكلية قرابة ثلاثة أسابيع. عندما عاد، كان قد تخلف في كل شيء. كانت كتابته على الآلة الكاتبة أبطأ ، وأكثر أخطاء عما كانت عليه وقت الكريسماس، كان يلطخ المسطرة بالحبر، ولم يكن يفهم جيدا جداول أسعار الفائدة. بدا فاتر الهمة يائسا، يحدق باستمرار خارج النافذة. لانت له قلوب الأستاذات بسبب مظهره - صار لونه فاتحا وأكثر شحوبا منذ مرضه، حتى شعره ازداد شقرة - ولم يحاسبه أحد على تراخيه وعدم كفاءته لبعض الوقت. بذل بعض الجهد لتحسين الوضع، وذلك بتأدية فروضه من آن لآخر مع سام، أو كان يذهب إلى غرفة الكتابة في وقت الظهيرة للتدرب. لكن لم يدم أي تحسن، أو حتى كان كافيا. فقد أخذ إجازات عديدة.
بينما كان مريضا، تلقى إدجار بطاقة بريدية يدعو له من أرسلها بالشفاء. كان عليها تنين أخضر يرتدي بيجامة مخططة ممددا في الفراش. في الجانب الأمامي من البطاقة، كانت الكلمات الآتية مكتوبة: «آسفة لسماعي أنك مريض»، وفي الجزء الخلفي للبطاقة كان مكتوبا الآتي: «آمل أن تتعافى سريعا.» أسفل البطاقة، كان مكتوبا بالقلم الرصاص، كريسي.
لكن كانت كريسي في ستراتفورد، تتلقى تدريبا حتى تصبح ممرضة. كيف كان لها أن تعرف أن إدجار كان مريضا؟ جاء الخطاب، عليه اسم إدجار، عبر البريد وعليه ختم بريدي محلي.
قال إدجار: «أنت من أرسله ... أعرف أنها ليست كريسي.»
قال سام بصدق: «لم أفعل ذلك.» «أنت من أرسله.» كان صوت إدجار أجش وكان محموما وتغمره خيبة أمل شديدة. «أنت حتى لم تكتبه بالقلم الحبر.» ••• «كم لدينا من المال في البنك؟» أراد إدجار أن يعرف. حدث هذا في أوائل شهر مايو. كان لديهما ما يكفي لدفع مقابل إقامتهما في النزل حتى نهاية الفصل الدراسي.
لم يكن إدجار قد ذهب إلى الكلية لعدة أيام. كان قد ذهب إلى محطة السكك الحديدية، وسأل عن سعر تذكرة ذهاب فقط إلى تورونتو. قال إنه كان ينوي الذهاب وحده إذا لم يكن سام سيذهب معه. كان يرغب بشدة في الرحيل. لم يأخذ سام وقتا طويلا حتى يعرف السبب. «أخشى أن تكون كالي حبلى.»
قال سام: «سنها ليست كبيرة بما يكفي.» ثم تذكر أنها كانت كذلك . لكنه أشار لإدجار أنه كان متأكدا أنهما لم يقيما معها علاقة كاملة.
قال إدجار في صوت عابس: «أنا لا أتحدث عن تلك المرة.»
كانت هذه هي المرة الأولى التي عرف فيها سام شيئا عما كان يحدث عندما لم يكن إدجار يذهب إلى الكلية. لكن سام أساء الفهم مرة أخرى. ظن أن كالي كانت قد أخبرت إدجار أنها في ورطة. لم تقم بذلك. لم تخبره بأي من ذلك أو تطلب منه شيئا أو تهدده بأي شيء. لكن إدجار كان خائفا. جعله ذعره متوترا بشدة. اشتريا لفافة من الكعك المحلى من متجر البقالة وجلسا على السور الحجري أمام الكنيسة الأنجليكانية يأكلانها. قضم إدجار قضمة واحدة وأمسك بالكعكة في يده.
قال سام إنه لم يتبق لهما إلا خمسة أسابيع في الكلية.
قال إدجار: «لن أعود إلى الكلية على أي حال. تخلفت أكثر مما ينبغي.»
لم يقل سام إنه كان قد تصور نفسه لاحقا يعمل في بنك، باعتباره خريج كلية تجارة. تصور نفسه يرتدي بذلة من ثلاث قطع في مقصورة الصرافين. سيربي شاربا آنذاك. صار بعض الصرافين مديري بنوك. كان قد خطر بباله مؤخرا أن مديري البنوك لم يولدوا مديري بنوك. كانوا شيئا آخر في البداية.
سأل إدجار عن نوع الوظائف التي يمكن أن يشغلاها في تورونتو.
قال إدجار: «نستطيع أن نقدم بعض العروض ... نستطيع أن نؤدي بعض العروض على الأرصفة.»
أدرك سام الآن ما هو مقبل عليه. لم يكن إدجار يمزح. جلس حيث كان ممسكا بالكعكة التي قضمت منها قضمة واحدة واقترح هذه الطريقة لكسب العيش في تورونتو. أداء العروض على الأرصفة.
ماذا عن والديهما؟ لم يفض هذا التفكير إلا إلى خطط مجنونة أكثر. «يمكن أن تخبرهما أنني اختطفت.»
قال سام: «ماذا عن الشرطة؟ ... تبحث الشرطة عن أي شخص مختطف. وسيجدونك.»
قال إدجار: «إذن لا تخبرهم أنني اختطفت ... أخبرهم أنني رأيت جريمة قتل وأنني اضطررت إلى الاختباء. أخبرهم أنني رأيت جثة في جوال دفع به من فوق جسر سيدار بوش ورأيت الرجال الذين اقترفوا ذلك ثم لاحقا قابلتهم في الشارع وتعرفوا علي. أخبرهم بذلك. أخبرهم ألا يذهبا إلى الشرطة وألا يقولا أي شيء عن الأمر؛ لأن حياتي معرضة للخطر.»
قال سام في بلاهة: «كيف عرفت أنه يوجد جثة في الجوال؟ ... توقف عن الحديث عن هذا. علي أن أفكر جيدا في الأمر.»
على الرغم من ذلك، لم يفعل إدجار في طريق العودة إلى نزل كرناجان سوى الحديث، مضيفا المزيد من التفاصيل إلى هذه القصة أو إلى قصة أخرى، وهي قصة تضمنت تجنيده من قبل الحكومة للعمل كجاسوس، بعد صباغة شعره باللون الأسود وتغيير اسمه.
وصلا إلى النزل في اللحظة ذاتها التي كانت أليس بيل وخطيبها، رجل الشرطة، خارجين من الباب الأمامي.
قال إدجار: «لنستدر وندخل من الباب الخلفي.»
كان باب المطبخ مفتوحا على مصراعيه. كانت كالي تنظف أنابيب الموقد. وضعتها جميعها في مكانها مرة أخرى، وكانت تنظف الموقد. كانت تلمع الجزء الأسود منه بالورق الشمعي والحواف باستخدام خرقة نظيفة. كان منظر الموقد رائعا، مثل طقم رخام أسود مزدان بالفضة، أما كالي نفسها فكانت متسخة من قمة رأسها إلى أخمص قدميها. جفناها أيضا كانا متسخين. كانت تدندن بأغنية «حبيبتي نيللي جراي»، كانت تغنيها بسرعة كبيرة، حتى تساعدها في التلميع:
أوه، حبيبتي نيللي جراي،
أخذوك بعيدا،
ولن أرى حبيبتي بعد الآن.
جلست الآنسة كرناجان إلى المائدة، تحتسي قدحا من الماء الساخن. بالإضافة إلى الروماتيزم، كانت تزعجها مشكلة عسر الهضم. كانت مفاصلها تصدر صريرا، وكانت تصدر أصوات دمدمة، وتأوه، بل وحتى صافرات، من جوف أحشائها. لم يظهر ذلك على وجهها على الإطلاق.
قالت: «أيها الصبيان ... ماذا كنتما تفعلان؟»
قال إدجار: «كنا نسير.» «لم تعودا تؤديا عروضكما.»
قال سام: «الأرض مبللة جدا بسبب المطر.»
قالت الآنسة كرناجان: «اجلسا.»
كان باستطاعة سام سماع نفس إدجار اللاهث. كان يشعر بثقل في معدته، كما لو كان كل الجهد الذي جرى لهضم كمية الكعك المحلى - كان قد أكلها جميعا باستثناء واحدة - قد توقف. هل يمكن أن تكون كالي قد أخبرتها بالأمر؟ لم تكن الآنسة كرناجان تنظر إليهما.
قالت الآنسة كرناجان: «لم أخبركما أيها الصبيان كيف ولدت كالي.» ثم بدأت على الفور في إخبارهما. «حدث ذلك في فندق كوينز في ستراتفورد. كنت أمكث هناك مع صديقتي لوي جرين. كنا أنا ولوي جرين ندير متجرا للقبعات النسائية. كنا في طريقنا إلى تورونتو للحصول على إكسسوارات الربيع الخاصة بالقبعات. لكن كنا في الشتاء. في حقيقة الأمر، كانت عاصفة ثلجية تهب. كنا الوحيدتين الموجودتين لتناول العشاء. بينما كنا خارجتين من غرفة الطعام بعد ذلك، انفتح باب الفندق على مصراعيه ودخل ثلاثة أشخاص. كان هؤلاء هم السائق الذي كان يعمل لدى الفندق، والذي كان يذهب لملاقاة الزائرين القادمين على متن القطارات، وامرأة، ورجل. كان الرجل والسائق يمسكان بالمرأة ويسندانها. كانت تئن وتصرخ، وكانت منتفخة للغاية. وضعوها على الأريكة، لكنها انزلقت منها إلى الأرض. لم تكن إلا فتاة، في الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة. اندفع الطفل من بطنها مباشرة على الأرض. جلس الرجل على الأريكة ووضع رأسه بين رجليه. كنت من هرع واستدعى مدير الفندق وزوجته. جاءا مسرعين، وكلبهما يسبقهما، وهو ينبح. كانت لوي تمسك بالدرابزين تخشى أن يغمى عليها. كل شيء يحدث في نفس اللحظة.
كان السائق كنديا من أصل فرنسي، لذا على الأرجح كان قد رأى طفلا وهو يولد من قبل. قضم الحبل السري بأسنانه ثم قام بربطه بخيط قذر أخرجه من جيبه. أمسك ببساط صغير ووضعه بين رجليها. كانت الدماء تنزف منها بلون داكن مثل نبات سم الذباب؛ كانت تنتشر على الأرض. صرخ طالبا من أحد أن يأتي ببعض الثلج، أما الزوج، أو أيا من كان، فلم يرفع رأسه على الإطلاق. كانت لوي هي من عدت خارجة وعادت بثلج ملء كفيها، وعندما رأى السائق الكمية الصغيرة التي أتت بها سبها ورمى الثلج على الأرض. ثم ركل الكلب؛ لأنه اقترب أكثر من اللازم. ركله ركلة قوية أطاحت به عبر الغرفة، وصرخت زوجة مدير الفندق معتقدة أن الكلب قد مات. تناولت الطفل ولففته في سترتي. تلك كانت كالي. يا لها من مخلوق ضعيف. لم يمت الكلب. كانت البسط كلها غارقة في الدماء، وكان الرجل الفرنسي يسب سبابا عنيفا. ماتت المرأة، لكنها كانت لا تزال تنزف.
كانت لوي هي من أرادت أن نصطحبها معنا. قال الزوج إنه سيكون على اتصال بنا لكنه لم يفعل قط. اضطررنا إلى شراء زجاجة إرضاع، وغلي بعض اللبن، وشراب الذرة، وأن نصنع لها فراشا في درج. أعربت لوي عن حبها الشديد للرضيعة، لكن خلال عام تزوجت لوي وذهبت لتعيش في ريجينا ولم تعد قط. هذا كان هو الحب الذي كانت تعرب عنه.»
ظن سام أن هذا كله في الغالب لم يكن إلا اختلاقا. على الرغم من ذلك، تأثر بشدة بما سمعه. لماذا تخبرهما بذلك الآن؟ لا يهم إذا كان ما تقوله صحيحا أم كذبا، أو ما إذا كان قد ركل أحد الأشخاص كلبا أو نزف دما حتى الموت. ما كان يهم هو نبرة التأكيد القوية التي سردت من خلالها الآنسة كرناجان هذا، قصدها الخفي وغير الودي بالتأكيد، وشراستها العشوائية.
لم تتوقف كالي عن العمل لسماع كلمة واحدة من القصة. كانت قد خفضت صوتها لكنها لم تتوقف عن الغناء بالكامل. كان المطبخ يمتلئ بالضوء في مساء الربيع، وكانت تفوح منه رائحة الصابون ومساحيق التنظيف النفاذة التي كانت كالي تستخدمها. كان سام يشعر في بعض الأحيان أنه واقع في ورطة، لكنه كان يعرف دوما طبيعة الورطة تماما وماذا ستكون العقوبة، وكان يستطيع التفكير في طريقة للخروج منها. صار الآن يشعر أن ثمة ورطة لا يستطيع معرفة مداها ولا يستطيع أن يدرك عقوبتها. لم تكن سوء نية الآنسة كرناجان هي ما كانا يخشيانه. ماذا إذن؟ هل كان إدجار يعرف؟ كان إدجار يشعر بأن ثمة شيئا يجري التحضير له؛ مفاجأة مباغتة. كان يعتقد أن الأمر يتعلق بكالي وبرضيع وبما فعلاه. كان سام يشعر بتداعيات أكبر. لكن كان عليه أن يرى أن حدس إدجار كان صائبا. •••
في صباح السبت، سارا عبر الشوارع الخلفية إلى المحطة. كانا قد تركا المنزل عندما ذهبت كالي لشراء مستلزمات الفندق في نهاية الأسبوع، جارة عربة أطفال خلفها لوضع البقالة فيها. كانا قد سحبا أموالهما من البنك، وتركا ورقة عند باب المكان الذي ينامان فيه كانت ستسقط عند فتح الباب، مكتوبا عليها: «رحلنا. سام وإدجار.»
كانت كلمة «رحلنا» قد كتبها سام في اليوم السابق في الكلية، وإن كانا قد وقعا على الورقة بخط يديهما. كان سام قد فكر في إضافة «مصاريف الإقامة مدفوعة حتى يوم الاثنين» أو «سنكتب إلى أبوينا». لكن بالتأكيد كانت الآنسة كرناجان ستعرف أن مصاريف إقامتهما مدفوعة حتى يوم الاثنين وقولهما إنهما سيكتبان إلى أبويهما سيكون بمنزلة إشارة إلى أنهما لن يعودا إلى موطنهما. بدت كلمة «رحلنا» حمقاء، لكنه كان يخشى أنهما إذا لم يتركا أي رسالة فسيثار الذعر وستبدأ ربما عملية بحث عنهما.
تركا الكتب الثقيلة، البالية التي كانا ينويان بيعها في نهاية الفصل الدراسي - «ممارسة مهنة المحاسبة»، «العمليات الرياضية الخاصة بالأعمال» - ووضعا كل ما يستطيعان وضعه من ملابس في كيسين ورقيين بنيين.
كان الصباح جميلا وخرج الكثيرون من منازلهم. احتل الأطفال الأرصفة لتبادل قذف الكرة، ولعبة الحجلة، ونط الحبال. كان عليهما أن يجدا أي طريقة لتبرير حملهما للأكياس الورقية المكدسة بالأشياء. «ماذا لديكما في تلك الأكياس؟»
قال إدجار: «قطط ميتة.» ثم أمال الكيس نحو رأس الفتاة.
لكنها كانت متماسكة. «ماذا ستفعلان بها؟»
قال إدجار في صوت مهدد: «سنبيعهما إلى الرجل الصيني لعمل طبق لحم قطط بالخضراوات.»
ثم سارا في طريقهما وسمعا الفتاة تدندن خلفهما: «لحم قطط بالخضراوات! لحم قطط بالخضراوات! تناولاه وستجدانه مقززا!» قرب المحطة، تقلصت أعداد هذه المجموعات من الأطفال، ثم اختفت. لا يتسكع الآن إلا صبية في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة - بعض الصبية الذين كانوا يتسكعون حول حلبة التزلج - قرب المنصة، يلتقطون أعقاب السجائر، محاولين إشعالها. كانوا يقلدون غطرسة البالغين، ولم يكن لأحد منهم أن يطرح أي أسئلة.
قال ناظر المحطة: «جئتما مبكرا أيها الصبيان عن وقت انطلاق القطار.» لن ينطلق القطار إلا في الساعة الثانية عشرة والنصف ، لكنهما كانا قد وقتا موعد رحيلهما وفق وقت ذهاب كالي للتسوق. «هل تعرفان إلى أين أنتما ذاهبان في المدينة؟ هل سينتظركما أحد هناك؟»
لم يكن سام مستعدا لهذا السؤال، لكن إدجار أجاب: «أختي.»
لم يكن لديه أخت. «هل تعيش أختك هناك؟ هل ستقيمان في منزلها؟»
قال إدجار: «في منزلها هي وزوجها ... هي متزوجة.»
توقع سام ما سيأتي بعد ذلك من أسئلة. «في أي أنحاء تورونتو يعيشان؟»
كان إدجار منطقيا. قال: «في الجزء الشمالي ... أليس لكل مدينة جزء شمالي؟» بدا ناظر المحطة شبه راض عن الإجابة. قال لهما: «احرصا على مالكما.»
جلسا على المقعد المواجه للسياج الموجود على الجانب الآخر من القضبان، ممسكين بتذكرتيهما وكيسيهما البنيين. كان سام يعد في رأسه مقدار المال الذي عليهما الحرص عليه. كان قد ذهب إلى تورونتو مرة مع أبيه عندما كان يبلغ عشرة أعوام. تذكر تعرضهما لحالة من الارتباك عند ركوبهما للترام. حاولا الركوب من الباب الخطأ، أو النزول من الباب الخطأ. صرخ الناس فيهما. تمتم أبوه قائلا إنهم ليسوا إلا مجموعة من الحمقى. شعر سام أن عليه الاستعداد لمواجهة كبيرة، ومحاولة توقع تداعيات ما هم مقبلون عليه بحيث لا تفاجئه. ثم جالت فكرة بخاطره كانت بمنزلة هدية من السماء. لم يعرف من أين جاءت تلك الفكرة. جمعية الشبان المسيحيين. يمكن أن يذهبا إلى جمعية الشبان المسيحيين ويمكثا هناك تلك الليلة. سيكون الوقت متأخرا فيما بعد الظهيرة عندما سيذهبان إلى هناك. سيتناولان شيئا أولا، ثم سيسألان عن الطريق إلى تلك الجمعية. وربما يسيران إليها.
أخبر إدجار عما سيفعلانه. «ثم غدا سنتجول في الأنحاء، ونتعرف على الشوارع، ونعثر على أرخص مكان يمكن أن نتناول الطعام فيه.»
كان يعلم أن إدجار سيقبل بأي خطة في تلك اللحظة. لم يكن إدجار يعرف أي شيء عن تورونتو بعد، على الرغم من هذا الاختلاق السريع لقصة وجود أخت وزوج أخت له. كان إدجار جالسا هنا على المقعد في المحطة، وفكره مشغول بفكرة قدوم القطار وصعدوهما على متنه. دوي صوت الصافرة ، الرحيل؛ الهروب. الهروب مثل انفجار، يحررهما. لم يتخيل نفسه هو وسام وهما يخرجان من القطار، حاملين كيسيهما الورقيين، في مكان جديد صاخب، مزدحم، مثير للأعصاب، غريب تماما. كان سام أفضل حالا خاصة بعد أن صارت لديه خطة مبدئية. إذا كانت قد خطرت له فكرة من السماء، فلم لا تخطر له فكرة أخرى؟
بعد برهة، بدأ الأشخاص الآخرون في التجمع، انتظارا للقطار. سيدتان متأنقتان ذاهبتان للتسوق في ستراتفورد. كانت قبعاتهما القشية المزخرفة تشير إلى أن الصيف قد اقترب. رجل شيخ يرتدي بذلة سوداء لامعة حاملا صندوقا من الكرتون المقوى ملفوفا بحبل. كان الصبية الذين كانوا يتجولون هنا وهناك ولم يذهبوا إلى أي مكان يستعدون لوصول القطار؛ جالسين جميعا معا في نهاية الرصيف، مدلدلين أرجلهم. كان يوجد كلبان يجوبان رصيف القطار على نحو شبه رسمي، يتشممان حقيبة سفر وبعض الطرود، ينظران إلى عربة الأمتعة، بل كانا ينظران إلى أسفل في اتجاه القضبان كما لو كانا يعرفان مثل الجميع من أي اتجاه سيأتي القطار.
بمجرد سماعهما الصافرة تنطلق عند الطرق المتقاطعة غرب البلدة، نهض سام وإدجار ووقفا على حافة الرصيف. عندما وصل القطار، بدت إشارة طيبة جدا أنهما كانا قد اختارا الوقوف في الموضع نفسه الذي نزل فيه المحصل، حاملا معه سلما صغيرا. وبعد أن قضى وقتا طويلا في مساعدة امرأة، معها طفل رضيع وحقيبة سفر وطفلان، على ركوب القطار؛ استطاعا هما الركوب. سبقا السيدتين اللتين كانتا ترتديان القبعات الصيفية، والرجل الذي كان يحمل صندوقا، وكل من كان واقفا على الرصيف. لم ينظرا خلفهما البتة. سارا إلى نهاية عربة القطار شبه الخالية واختارا أن يجلسا حيث يكونان متقابلين، على جانب القطار الذي كان يطل على السياج الخشبي، لا على الرصيف؛ السياج الخشبي نفسه الذي كانا يحملقان فيه لأكثر من ثلاثة أرباع ساعة. كان عليهما أن يجلسا في مكانهما دقيقتين أو ثلاث دقائق بينما كانت هناك الجلبة المعتادة خارج القطار، النداءات التي توحي بالأهمية، وصوت المحصل وهو يقول: «اصعدوا!» على نحو حول الكلمة من صوت إنساني إلى صوت قطار. ثم بدأ القطار في الحركة. كانا يتحركان. كانت ذراع كل منهما ما زالت تحيط بكيس بني بينما تمسك اليد الأخرى بالتذكرة. كانا يتحركان. شاهدا ألواح السياج مما يدل على حركة القطار. اختفى السياج بالكامل عن أنظارهما، وكانا يمران عبر ضواحي البلدة الآخذة في التضاؤل في الحجم؛ الأفنية الخلفية، السقائف الخلفية، الشرفات الخارجية الخلفية، أشجار التفاح الآخذة في الإزهار. زهور الليلك التي فرقتها القضبان، وأخذت تتحرك في جنون.
بينما كانا ينظران من النافذة، وقبل أن تغيب البلدة تماما عن الأنظار، جلس صبي على المقعد الموجود على الجانب الآخر من الممر الفاصل بين المقاعد. كان سام يرى أنه أحد هؤلاء الصبية الذين كانوا يتسكعون على الرصيف الذي انسل إلى القطار، أو تحايل على نحو ما للركوب دون دفع الأجرة، ربما للذهاب إلى ملتقى الطرق. دون أن يدقق فيه، أخذ فكرة عامة عن مظهر الصبي، الذي كان يرتدي ملابس رثة وغير مهندمة جدا بحيث لا يمكن أن يكون ذاهبا في رحلة سفر حقيقية. ثم نظر إليه، ورأى أن الصبي كان يحمل تذكرة، مثلما كانا يحملان.
في ليالي الشتاء عندما كانوا يسيرون إلى حلبة التزلج، لم ينعما النظر بعضهم في بعض كثيرا. في ضوء مصابيح الشارع، كانوا يشاهدون ظلالهما المتحولة على الثلج. داخل الحلبة، كان القمر الاصطناعي يبدل الألوان ويخفي بعض المناطق على نحو شبه كامل؛ لذا، لم ترسل الملابس التي كان هذا الصبي يرتديها أي رسالة خاصة يمكن أن يتلقياها. اللهم إلا أنها لم تكن الملابس المعتادة في رحلة سفر؛ حذاء مطاطي طويل العنق، وبنطال ثقيل عليه بقع زيت أو طلاء، وسترة قصيرة ممزقة تحت إحدى الأذرع وثقيلة أكثر مما ينبغي بالنسبة إلى طقس اليوم، وقبعة كبيرة غير ملائمة.
كيف مرت كالي على ناظر المحطة وهي مرتدية تلك الملابس؟ ناظر المحطة نفسه الذي كان ينظر إلى سام وإدجار على نحو متفحص - والذي كان يريد أن يعرف أين كانا يخططان أن يمكثا ومن كانا سيقابلان - سمح لهذه الفتاة الغريبة ، القذرة، رثة الثياب، المتنكرة في شكل صبي بشراء تذكرة (إلى تورونتو؛ كان هذا تخمين كالي، وكان تخمينها صائبا) والسير إلى الرصيف دون أن يتوجه أحد إليها بكلمة، بسؤال. ساهم هذا في شعور الصبيين، عندما تعرفا عليها، بأنها كانت تمتلك قوى لا تقل عن كونها قوى سحرية. (ربما شعر إدجار، على وجه الخصوص، بذلك.) كيف عرفت بالأمر؟ ومن أين حصلت على المال؟ وكيف جاءت إلى هنا؟
لم يكن أي من ذلك مستحيلا. عادت حاملة البقالة وصعدت إلى السقيفة. (لماذا؟ لم تقل.) وجدت الرسالة وحزرت في الحال أنهما ما كانا ليعودا إلى موطنهما وما كانا ليوقفا سيارة على الطريق السريع ليركباها إلى المكان الذي سيتوجهان إليه. علمت بموعد رحيل القطار. كانت تعرف وجهتي القطار، ستراتفورد وتورونتو. سرقت المال من أجل شراء تذكرتها من الصندوق المعدني الموجود تحت كتب الترانيم عند مقعد البيانو. (لم تكن الآنسة كرناجان، بالطبع، تثق بالبنوك.) عند وصولها إلى المحطة وشراء تذكرتها، كان القطار قادما وكان لدى ناظر المحطة الكثير من الأشياء التي تشغله؛ فلا يوجد وقت لطرح الأسئلة. كان ثمة الكثير من الحظ - توقيت محظوظ وتقدير محظوظ في كل خطوة - وكان هذا كل ما في الأمر. لم يكن في الأمر أي قوى سحرية.
لم يستطع سام وإدجار التعرف على الملابس، ولم يكن ثمة حركة أو إشارة خاصة نبهتهما. الصبي كالي جلس ناظرا من النافذة، يشيح برأسه بعيدا عنهما قليلا. لم يعرف سام متى عرف تحديدا للمرة الأولى أن الصبي لم يكن إلا كالي، أو كيف جاءت تلك المعلومة إلى ذهنه، وما إذا كان قد نظر إلى إدجار أم كان يعرف ببساطة أن إدجار عرف الشيء ذاته وفي الوقت نفسه. بدت تلك المعلومة طائرة في الهواء، في انتظار من يمسك بها. مروا بممر طويل، تكسو جانبيه الحشائش، وعبروا جسر سيدار بوش، الجسر نفسه الذي تحدى صبية البلدة بعضهم بعضا في تسلقه والتعلق بالدعائم تحت العوارض بينما يمر القطار فوق رءوسهم. (هل كانت كالي ستفعل ذلك إذا تحدياها في فعل ذلك؟) بحلول وقت عبور هذا الجسر، عرفا كلاهما أن كالي هي من كان يجلس إلى الجانب المقابل منهما. وكل منهما كان يعرف أن الآخر يعرف.
تحدث إدجار أولا. قال: «هل تريدين الانتقال والجلوس إلى جانبنا؟»
نهضت كالي وسارت عبر الممر، جالسة إلى جانب إدجار. كانت لا تزال تتصنع نظرة الصبي؛ نظرة ليس فيها ذلك المكر أو الميل إلى العراك اللذان يميزان نظرتها المعتادة. كانت صبيا ظريفا، هادئ المحيا.
كان سام هو من تحدثت إليه قائلة: «هل تمانع في الجلوس في الجانب العكسي؟»
قال سام لا.
ثم، سألتهما عما يوجد في الأكياس، فتحدث كلاهما في آن واحد.
قال إدجار: «قطط ميتة.»
قال سام: «الغداء.» •••
لم يشعرا كما لو كان قد تم الإمساك بهما. فهما على الفور أن كالي لم تأت حتى تعود بهما مرة أخرى. كانت قد جاءت للانضمام إليهما. في ملابس الصبية هذه التي كانت ترتديها، كانت تذكرهما بليالي الحظ والمكر الباردة، الخطة التي نفذت دون أي تعثر، التزلج المجاني، السرعة والمتعة، الخداع والسرور. عندما يسير كل شيء على ما يرام، فلم يكن من الممكن أن يحدث أي شيء خطأ، وكان النصر مؤكدا، وجميع التحركات في وقتها تماما. بدت كالي، التي استقلت هذا القطار عن طريق سرقة المال وارتداء ملابس صبية، كما لو كانت تبعد عنهما التهديدات بدلا من أن تلوح بها في وجهيهما. حتى سام توقف عن التفكير فيما كانا سيفعلانه في تورونتو، وعما إذا كانت أموالهما ستكفيهما أم لا. لو كان عقله يعمل على النحو المعتاد، لكان سيرى في وجود كالي مصدرا لكل أنواع المتاعب بمجرد النزول إلى العالم الواقعي، لكنه لم يكن يعمل على النحو المعتاد ولم ير في أي شيء مصدرا للمتاعب. في تلك اللحظة، رأى قوة - قوة كالي، التي لم تقبل بأن تتخلف - موزعة في سخاء عليهم جميعا. كانت اللحظة عامرة بالقوة، فيما يبدو، وبالاحتمالات. لكن لم يكن هناك إلا شعور بالسعادة. سعادة فقط في حقيقة الأمر.
هكذا كانت الكيفية التي تنتهي بها دوما قصص سام، التي كانت تتغاضى عن بعض التفصيلات والأسباب في الطريق. إذا سئل كيف سارت الأمور بعد ذلك، فربما يقول: «حسنا، كان الأمر أكثر تعقيدا بقليل مما توقعنا، لكن الأمور انتهت على ما يرام.» بعبارة أخرى، وعلى نحو أكثر تحديدا، لم يأخذ الموظف بجمعية الشبان المسيحيين، الذي كان يأكل شطيرة بيض بالبصل، أكثر من دقيقتين لاكتشاف أنه يوجد شيء غريب في كالي. أسئلة. أكاذيب، ملاحظات ساخرة، تهديدات، مكالمات هاتفية. اختطاف قاصر. محاولة إدخال فتاة إلى جمعية الشبان المسيحيين لأغراض غير أخلاقية. أين والداها؟ من يعلم أنها هنا؟ من أعطاها الإذن؟ من يتحمل المسئولية؟ رجل شرطة في المشهد. رجلا شرطة. اعتراف كامل ومكالمة هاتفية، ويتذكر ناظر المحطة كل شيء. يتذكر الأكاذيب. اكتشفت الآنسة كرناجان اختفاء المال وقالت إنها لن تسامحها أبدا. ولا تريد أن تراها مرة أخرى. لقيطة ولدت في بهو فندق، أبواها على الأرجح لم يكونا متزوجين، أخذت وجرى إيواؤها، جحود، حقد. ليكن هذا درسا. عار من كافة الأوجه، حتى رغم أن كالي ليست قاصرا.
بعبارة أخرى، وبالإضافة إلى ذلك، واصل الجميع حياته، وحدثت أشياء كثيرة. ظن هو، حتى في تلك الأيام المرتبكة والمهينة الأولى في تورونتو، أن مكانا كهذا - الذي توجد به ظلال في وقت الظهر في شوارع وسط البلدة الخفيضة الضيقة الخاصة به، وشركاته المزينة في فخامة، وحركة وصلصلة الترام المنتظمة - يمكن أن يكون المكان الملائم له. مكان للعمل وصناعة الثروات. لذا بقي، ومكث في جمعية الشبان المسيحيين، حيث سرعان ما نسيت مشكلته - مشكلته ومشكلة إدجار وكالي - وحدث شيء آخر في الأسبوع التالي. حصل على وظيفة، وبعد عدة سنوات رأى أن هذا ليس مكان صناعة الثروات بل الغرب هو المكان الذي تصنع الثروات فيه. لذا انتقل إليه.
عاد إدجار وكالي إلى المنزل في المزرعة للعيش مع والدي إدجار. لكنهما لم يمكثا طويلا. وجدت الآنسة كرناجان أنها لا تستطيع إدارة الأمور في نزلها بدونهما. •••
يقع متجر كالي في بناية تملكها هي وإدجار. متجر للمنتجات الرخيصة ومحل لتصفيف الشعر في الطابق السفلي، أما عن موضع إقامتهما، ففي الدور العلوي. (يوجد محل تصفيف الشعر مكان متجر البقالة الذي كان سام وإدجار معتادين على شراء عبوات تارت المربى منه. تقول كالي: «لكن من يريد أن يسمع عن هذا الأمر؟ ... من يريد أن يسمع عما كانت عليه الأمور في الماضي؟»)
تشكلت فكرة سام عن الذوق الجيد من خلال الألوان الرمادية، والبيضاء، والزرقاء، والخطوط المستقيمة، والزهريات المفردة التي كانت زوجته تستخدمها. مكان إقامة كالي في الدور العلوي رائع. ستائر مسدلة من القماش المطرز ذهبي اللون لتوحي بوجود نافذة كبيرة خلفها لكن لا توجد نافذة في واقع الأمر. بساط مخملي ذهبي اللون، سقف مغطى بالجص الأبيض الخشن تتلألأ النجوم فيه. أحد الجدران عبارة عن مرآة حوافها ذات لون ذهبي باهت يرى سام عروقا من الخطوط السوداء والفضية تتقاطع على جسده. تتدلى المصابيح من سلاسل، في كرات من الزجاج كهرماني اللون.
في وسط هذا يجلس إدجار، مثل قطعة ديكور ملمعة، لا يتحرك إلا نادرا. من بين ثلاثتهم، حافظ على مظهره على أفضل ما يكون. كان لدى إدجار الكثير مما يجب الحفاظ عليه. فهو طويل، ضعيف البنية، متأنق في مظهره وملبسه. تحلق له كالي ذقنه. تغسل له شعره يوميا، وهو أبيض، ولامع مثل شعر الملائكة على أشجار الكريسماس. كان يستطيع ارتداء ملابسه بنفسه، لكنها كانت تلبسه كل شيء؛ البناطيل، الجوارب، رابطات العنق ومناديل الجيب المتوافقة معا، القمصان الناعمة التي باللون الأزرق الغامق أو العنابي، وهو ما كان يحدث توازنا بين لون خديه القرنفلي ولون شعره.
تقول كالي: «أصيب بثقل بسيط في حركة اللسان ... قبل أربع سنوات في شهر مايو. لم يفقد القدرة على الكلام أو أي شيء آخر، لكنني اصطحبته إلى الطبيب وأكد لي أنه يعاني من ثقل بسيط في حركة اللسان. لكنه بصحة جيدة. هو بخير.»
سمحت كالي لسام باصطحاب إدجار في نزهة سير. هي تقضي معظم وقتها في المتجر. وينتظر إدجار في الطابق العلوي أمام التليفزيون. يعرف سام، ويبدو سعيدا لرؤيته. يومئ برأسه على الفور عندما يقول له سام: «ستضع معطفك أولا ثم سنخرج.» يجلب سام معطفا جديدا ذا لون رمادي فاتح، وقبعة رمادية من خزانة الملابس، ثم، بعد إعادة تفكير، حذاء فوقيا مطاطيا لحماية حذاء إدجار اللامع.
سأله سام: «هل أنت مستعد؟» لكن إدجار أومأ إيماءة مفادها: «انتظر لحظة.» يشاهد امرأة شابة جميلة تستضيف سيدة عجوزا. تصنع السيدة العجوز العرائس. العرائس مصنوعة من العجين. على الرغم من أنها ذات أحجام مختلفة، فترتسم على ملامحها جميعا التعبير نفسه، الذي هو، في رأي سام، تعبير أبله. يبدو إدجار منجذبا تماما لشكل العرائس. أو ربما هو منجذب للمرأة التي تجري المقابلة، ذات الشعر الذهبي المهوش.
ينتظر سام حتى ينتهي البرنامج. ثم تأتي نشرة الأحوال الجوية، ويشير إليه إدجار أن يجلس. هذا منطقي؛ حتى يعرفا الحال الذي سيكون عليه الجو قبل أن يشرعا في رحلة سير. ينوي سام التوجه إلى شارع أورانج - حيث حل مجمع خاص بكبار السن محل حلبة التزلج وأشجار الكرز - ثم يتوجهان إلى نزل كرناجان وباحة انتظار شركة كنديان تاير. بعد نشرة الأحوال الجوية، يظل سام جالسا يشاهد الأخبار؛ نظرا لأنه يوجد شيء حول قانون ضريبي جديد يثير اهتمامه. تواصل الإعلانات التجارية مقاطعة نشرة الأخبار، بالطبع، ولكن تنتهي نشرة الأخبار أخيرا. ثم يأتي حوار مع بعض المتزلجين البارزين. وبعد مرور ساعة أو ما يقرب من ذلك، يدرك سام عدم وجود أي أمل في زحزحة إدجار من أمام التليفزيون.
كلما تحدث سام بأي شيء، كان إدجار يرفع يده، كما لو أنه يقول له إنه سيستمع إليه في غضون دقيقة. لا ينزعج أبدا. يمنح كل شيء القدر نفسه من الانتباه القانع. يبتسم وهو يشاهد المتزلجين في زيهم اللامع. يبدو بريئا مثل الطفل، ولكن يلمس سام شعورا بالرضا لديه.
توجد على رف المدفأة الديكوري أعلى المدفأة الكهربية صورة فوتوغرافية لكالي وإدجار بملابس الزفاف. طرحة كالي، على غرار طراز زمن قديم مضى، مرتبطة بقبعة مزينة باللؤلؤ ومسدلة على جبهتها. تجلس في مقعد ذي ذراعين، ذراعاها مزدانتان بالورود، ويقف إدجار خلفها شامخا ونحيفا.
يعرف سام أن هذه الصورة لم تلتقط يوم زفافهما. كان الكثير من الناس في تلك الأيام يضعون ملابس زفافهم ويذهبون إلى استوديو المصور في مناسبة لاحقة. لكن لم تكن هذه حتى ملابس زفافهما. يتذكر سام أن امرأة لها علاقة بجمعية الشبان المسيحيين اشترت لكالي فستانا، وكان ثوبا لا طراز له ذا لون قرنفلي باهت. لم يكن إدجار يمتلك ملابس جديدة على الإطلاق، وتزوجا على عجل في تورونتو على يد قس لم يكن أي منهما يعرفه. الغرض من هذه الصورة هو أن يمنح انطباعا مختلفا تماما. ربما التقطت بعد الزفاف بسنوات. تبدو كالي أكبر كثيرا عما كانت عليه في يوم زفافها الحقيقي، وجهها أكثر عرضا، وثقلا، وتحكما. في حقيقة الأمر، تشبه الآنسة كرناجان قليلا.
ذلك هو الشيء الذي لا يمكن فهمه أبدا؛ لماذا تحدث إدجار أثناء الليلة الأولى في تورونتو وقال إنه وكالي سيتزوجان. لم يكن ثمة ضرورة لذلك، أي ضرورة يمكن أن تكون واضحة لسام. لم تكن كالي حبلى، وفي حقيقة الأمر، بقدر ما يعرف سام، لم تصبح حبلى قط. ربما كانت نحيفة جدا، أو أنها لم تنمو بالشكل الطبيعي. مضى إدجار قدما وفعل ما لم يجبره أحد على فعله، حصل ما كان يهرب من أجله. هل كان يشعر بوخز الضمير؟ هل كان يشعر بأن ثمة أشياء لا يمكن الهروب منها؟ قال إنه وكالي سيتزوجان. لكن لم يكن ذلك ما كانا سيفعلانه، لم يكن ذلك ما يخططان له، بالتأكيد. عندما نظر سام إليهما في القطار، وضحك ثلاثتهم في ارتياح، لم يكن ذلك لأنهم كانوا يتوقعون نتيجة كهذه. كانوا يضحكون فقط. كانوا سعداء. كانوا أحرارا.
إن خمسين عاما فترة طويلة جدا بحيث لا يمكن للمرء أن يسأل عن الأمر، هكذا يحدث سام نفسه. وحتى في ذلك الوقت كان مندهشا جدا. صار إدجار شخصا لا يعرفه. انطوت كالي على نفسها، على حالتها الأنثوية المؤسفة. بقيت لحظة السعادة التي شاركهما فيها في عقله، لكنه لم يعرف قط ماذا يصنع بها. هل تعني مثل هذه اللحظات حقيقة، مثلما تبدو، أننا نمتلك حياة سعيدة نصادفها عرضيا؟ هل تسلط هذه اللحظات هذا الضوء قبل وبعد كل ما حدث لنا في حياتنا - أو ما جعلناه يحدث - بحيث تجعلنا ننساه؟
عندما تصعد كالي السلالم، لا يشير إلى صورة الزفاف. تقول كالي: «أحضرت الكهربائي في الطابق السفلي ... لذا، علي أن أنزل مرة أخرى وأتابعه. لا أريده أن يجلس يدخن سيجارة ثم يطلب مني أموالا كثيرة.»
يتعلم الأشياء التي يجب ألا يتحدث عنها. الآنسة كرناجان، النزل، حلبة التزلج. الأوقات الخالية. هذا العزف على نغمة الأوقات الخالية من قبل شخص كان بعيدا لشخص ظل على حاله أمر مزعج؛ شكل بارع من أشكال الإهانة. وتتعلم كالي أنها يجب ألا تسأله كم تكلف منزله، كم تتكلف شقته في هاواي، وكم أنفق على الرحلات العديدة التي كان يذهب فيها في الإجازات وعلى زواج ابنته؛ باختصار، تتعلم أنها يجب ألا تعرف أبدا كم يمتلك من أموال.
يستطيع أن يرى شيئا آخر تتساءل بشأنه. يرى السؤال يغوص أكثر في التجويفين العميقين، المطليين باللون الأزرق حول عينيها، عينيها التي تطل منهما الآن حياة كاملة من الجهود والحسابات الناجحة.
ماذا يريد سام؟ ذلك ما تتساءل كالي بشأنه.
يحدث نفسه بأن يخبرها أنه ربما يمكث حتى يعرف. ربما يصبح أحد المقيمين في المنزل.
يقول سام: «لم يبد أن إدجار كان يريد الخروج ... لم يكن يبدو أنه يريد الخروج على أي حال.»
تقول كالي: «لا ... لا. هو سعيد هكذا.»
جسي وميريبيث
في المدرسة الثانوية، كانت تجمعني علاقة صداقة رقيقة، وفية، مملة بفتاة اسمها ماريبيث كروكر. استسلمت تماما لتلك الصداقة وأخلصت لها جدا، مثلما كنت أستسلم للمياه الدافئة، الضحلة، العكرة نسبيا في نهر ميتلاند في الصيف، عندما كنت أرقد على ظهري، وأحرك فقط يدي وقدمي، وأدع نفسي أحمل في التيار.
بدأت هذه الصداقة ذات يوم خلال حصة الموسيقى، عندما لم يكن ثمة كتب أغان كافية وطلب منا أن نقسم أنفسنا إلى أزواج لنتشارك الكتب المتاحة؛ بالطبع مع مراعاة أن يكون الصبية مع الصبية، والفتيات مع الفتيات. كنت أبحث حولي عن فتاة لم تكن لديها صديقة تجالسها، ووجدت ماريبيث وقد جاءت وجلست بالمقعد الذي بجانبي. كانت جديدة في المدرسة آنذاك؛ وكانت قد أتت لتعيش مع أختها بياتريس، التي كانت تعمل ممرضة في المستشفى المحلي. كانت أمهما ميتة، وكان أبوهما قد تزوج مرة أخرى.
كانت ماريبيث فتاة قصيرة، ممتلئة قليلا لكن قوامها كان رشيقا، ذات عينين كبيرتين يتراوح لونهما بين البندقي المخضر والبني الداكن، وبشرة داكنة قليلا خالية تماما من البثور أو النمش، وفم جميل يرتسم عليه عادة تعبير حيرة واستياء، كما لو كانت تستحضر ألما خفيا. كنت أستطيع شم رائحة الصابون الزهري الذي كانت تغتسل به. كان طيب الرائحة يتخلل طبقات الغبار والمطهر والعرق، وروائح المدرسة القديمة؛ الملل الحالم، والقلق الساكن. شعرت بالدهشة، بل ربما بالرعب، عندما اختارتني تلك الفتاة. لأسابيع بعدها، كنت أستيقظ في الصباح وأنا سعيدة ولا أعرف السبب. ثم كنت أتذكر هذه اللحظة.
أنا وماريبيث كنا نتحدث عادة عن الأمر. قالت إن قلبها كان يخفق بقوة عند انسلالها في خفة إلى مقعدي، لكنها حدثت نفسها بأنها إما أن تفعل ذلك في ذلك الوقت أو لا تفعل على الإطلاق.
في الكتب التي كنت قد قرأتها خلال طفولتي، كانت الفتيات يرتبط بعضهن ببعض في صداقات تتكون بسرعة، وتستمر في إخلاص رائع. كن يعدن ألا تفشي إحداهن سر الأخرى أو تخفي أي شيء عنها، أو تكون صداقة عميقة ودائمة مع فتاة أخرى. لم يكن الزواج يحدث أي فارق في تلك الصداقات. كن يكبرن ويقعن في الحب ويتزوجن، لكنهن كن يظللن في قلوب بعضهن يحتللن أعلى مكانة. كن يسمين بناتهن بأسماء بعضهن، وكن على استعداد للعناية بعضهن ببعض خلال فترات الإصابة بالأمراض المعدية أو للحنث باليمين في المحاكم من أجل خاطر بعضهن. كان هذا هو الميثاق المهيب للإخلاص، العلاقة العاطفية المعلنة التي أحتاج إليها الآن، أو أظنها ملائمة، والتي فرضتها على ماريبيث. أقسمنا على إخلاص كل منا للأخرى ووعدنا بأن نفعل ذلك، وأن تكون كل منا محل ثقة الأخرى. كانت على قدر المسئولية؛ فقد كانت طبيعتها رقيقة. كانت تفضل أن تحتضنني وتشبك يدها في يدي عندما كانت تفكر في شيء حزين أو مخيف.
في ذلك الخريف الأول سرنا خارج البلدة بحذاء خطوط السكك الحديدية وأخبرت كل منا الأخرى عن جميع الأمراض أو الحوادث التي مرت بها في حياتها، وعن الأشياء التي تخاف منها، وعن الألوان، والجواهر، والزهور، ونجوم السينما، وأصناف الحلويات، والمشروبات، ونكهات الآيس كريم المفضلة لديها. حددنا عدد الأطفال الذين سننجبهم ونوعهم، وماذا ستكون أسماؤهم. تحدثنا أيضا عن لون شعر وعيون زوجينا وماذا نحب أن يعملا. كانت ماريبيث خائفة من الأبقار في الحقول، والثعابين المختفية ربما بين خطوط السكك الحديدية. ملأنا يدينا بالحرير من أغلفة نباتات الصقلاب المفتوحة، أكثر الأشياء نعومة على الإطلاق على وجه الأرض، ثم تركناه لينسدل على الحشائش الجافة الأخرى، كقطع من الثلج أو الزهور.
قلت لماريبيث: «هذا ما تصنع منه المظلات في الحرب.» لم يكن هذا صحيحا، لكنني كنت أعتقد هذا.
في بعض الأحيان، كنا نذهب إلى المنزل حيث كانت ماريبيث تعيش في حجرة مشتركة مع بياتريس. كنا نجلس في الشرفة الخارجية نحيك أو نصعد إلى غرفتهما. كان المنزل كبيرا، بسيطا، مطليا باللون الأصفر، وكانت تبدو علامات الإهمال عليه. كان يقع في شارع متفرع من الشارع الرئيسي. كان مالكا المنزل رجلا كفيفا وزوجته، وكانت لديهما حجرتان في الجزء الخلفي من المنزل. كان الرجل الكفيف يجلس ويقشر البطاطس لزوجته، أو كان يحيك بعض مناديل المائدة ومفارش التسريحات التي كانت تذهب بها إلى المتاجر في البلدة وتحاول أن تبيعها.
ربما تتحدى الفتيات في المنزل بعضهن في النزول إلى الأسفل والتحدث إلى الرجل الكفيف عندما تكون زوجته في الخارج. كن يتحدين بعضهن في أن ينزلن إلى أسفل مرتديات حمالات الصدر والسراويل الداخلية فقط، أو لا شيء على الإطلاق. كان يبدو أنه يعرف أي نوع من الألعاب كن يمارسن. كان يقول: «هيا تعالي هنا ... اقتربي، لا أستطيع سماعك .» أو كان يقول: «هيا تعالي ودعيني ألمس ثوبك. دعيني أر هل كنت أستطيع معرفة لونه.»
لم تكن ماريبيث لتلعب تلك اللعبة؛ كانت تكره حتى أن تسمع بها. كانت تعتقد أن بعض الفتيات كن مثيرات للغثيان.
كانت الفتيات اللائي يعشن معها في حالة شجار دائم. كن يتشاجرن، ويشكلن تحالفات، ويمررن بنوبات لا يتبادلن الحديث فيها مع بعضهن البعض. ذات مرة، انتزعت فتاة كتلة من الشعر من رأس فتاة أخرى لاختلافهن حول طلاء أظافر.
كانت تلصق ملحوظات حادة اللهجة ومنذرة على خزانة الأدوية في الحمام: «يجب أن تجف السترات في غرفة صاحبتها؛ نظرا للرائحة العفنة التي تفوح منها مع جفاف الصوف. عناية، إيه إم وإس دي.» «إلى من يهمه الأمر، شممت رائحة عطري «إيفينينج إن باريس» تفوح منك، وأنا لا أشعر بالرضا عن ذلك. يمكنك أن تشتري زجاجة خاصة بك. تحياتي، بي بي.»
كانت الأشياء تغسل دوما: الجوارب، وحمالات الصدر، وأربطة الجوارب الطويلة، والسترات، وبالطبع، الشعر. لا يمكن أن يتحرك المرء في الحمام دون أن يضرب وجهه شيء.
كان الطهو يجري على موقد تسخين. كانت الفتيات اللائي يدخرن المال لشراء أشياء لجهاز زواجهن، أو للانتقال إلى المدينة، يطهون وجبات كرافت سريعة التحضير. كانت فتيات أخريات يشترين أطعمة جاهزة رائحتها شهية من المطعم الموجود على الناصية؛ بطاطس مقلية، شطائر هامبورجر، شطائر هوت دوج ضخمة، كعكا محلى. كانت الفتيات اللائي يتبعن نظاما غذائيا يلقين بالسباب ويغلقن أبوابهن بعنف عند صعود هذه الروائح إلى أعلى.
من وقت إلى آخر كانت بياتريس، أخت ماريبيث، تتبع نظاما غذائيا. كانت تشرب الخل حتى تفقد شهيتها. كانت تشرب الجليسرين لتقوية أظافرها.
قالت ماريبيث: «تريد أن يكون لها صديق؛ يشعرني هذا بالغثيان.»
عندما كانت ماريبيث وبياتريس صديقتين، كانت كل منهما تقترض ملابس الأخرى دون استئذان، كانتا تتحاضنان في الفراش، وكانت كل واحدة منهما تخبر الأخرى كيف كان شعرها يبدو من الخلف. عندما تخاصمتا، توقفتا عن الحديث فيما بينهما. في ذلك الوقت كانت ماريبيث تطهو حلوى عبارة عن خليط من السكر البني، والزبد ، وجوز الهند، على موقد التسخين، وتلوح بالقدر النافذ الرائحة تحت أنف بياتريس قبل أن نبدأ أنا وهي في تناوله بالملاعق. أو كانت تذهب إلى المتجر وتشتري كيسا من حلوى المارشملو، التي كانت تزعم أنها حلوى بياتريس المفضلة. كان الهدف أن تأكل هذه الأشياء أمامها. لم أكن أحب أن أتناول حلوى المارشملو دون تجهيز - كان قوامها المنتفخ الهش يثير اشمئزازي قليلا - لكن كانت ماريبيث تقذف بقطعة منها في فمها وتحتفظ بها هناك مثل قطعة فلين، مادة وجهها أمام وجه بياتريس لإغاظتها. لا أعرف تماما كيف أتصرف في تلك الأوقات؛ لذلك، كنت أقلب في الأشياء في خزانة الملابس.
لم يكن والد ماريبيث يرغب في أن تعيش معه، إلا أنه كان يعطيها أموالا كثيرة لشراء الملابس. كان لديها معطف شتوي داكن الزرقة ذو ياقة من الفرو كنت أظنه معطفا فاخرا. كانت لديها العديد من البلوزات ذات الأربطة، التي كانت موضة تلك الأيام؛ بألوان: قرنفلي، وأصفر، وموف، وأزرق سماوي، وليموني. ومجموعة من الأساور الفضية الرائعة. أتذكر تنورتين مكشكشتين، إحداهما باللونين الأزرق الداكن والأبيض، والأخرى باللونين الفيروزي والأحمر الكرزي. كنت أنظر إلى جميع هذه الأشياء بعين الإعجاب أكثر من عين الحسد. كنت أدلي الأساور الثقيلة بين أصابعي، وأتفحص علب البودرة الفاخرة وملاقط الحواجب. لم يكن مسموحا لي أن أنتزع الشعر من حاجبي، وكان علي أن أضع المكياج في الحمام في مقر مجلس البلدة في الطريق إلى المدرسة. خلال العام الدراسي، كنت أعيش في البلدة مع عمتي إنا، التي كانت متشددة. كل ما كان لدي كبودرة تجميل هو إسفنجة من الفلانيلة، مظهرها غاية في البؤس. إلى جانب ماريبيث، كنت أشعر، كما لو كنت قطعة عمل خام، برجلي القويتين وصدري الضخم؛ خام، ومتعرقة، ولا أرتدي ملابس جيدة، لا أثير الانتباه، ممتنة. وفي الوقت نفسه، على نحو طبيعي، وغير منطوق، وعفوي - لم أكن أستطيع التحدث أو التفكير في الأمر - كنت أرقى منها.
بعد إجازات الصيف، التي كانت تقضيها مع أبيها وزوجة أبيها في تورونتو، قالت ماريبيث إننا يجب ألا نسير مرة أخرى على قضبان السكة الحديدية؛ إذ إن ذلك قد يجلب لنا سمعة سيئة. قالت إن الموضة الجديدة ارتداء وشاح فوق الرأس، حتى في الأيام المشمسة، وجلبت عدة قطع قماش شفافة لهذا الغرض. أشارت علي أن أختار من بينها، فاخترت القطعة القرنفلية المائلة إلى الاحمرار، فصاحت في إعجاب: «أوه، هذه هي أجملها!» لذا، حاولت أن أعيدها إليها. تبادلنا حديثا مجاملا، ثم انتهى بي المطاف بالاحتفاظ بالقطعة التي اخترتها.
أخبرتني عن الأشياء المعروضة في متجري إيتونز وسيمبسونز، وكيف أن كعب حذائها كاد يعلق في أحد المصاعد، وعن بعض الأشياء غير اللطيفة التي قالتها لها زوجة أبيها، وقصص الأفلام التي شاهدتها. كانت قد تجولت كثيرا في المعرض الوطني الكندي ما جعلها تشعر بالغثيان، واقترب منها رجل في عربة ترام، كان يرتدي حلة رمادية وقبعة رمادية، وعرض عليها أن يصطحبها إلى حديقة حيوان ريفرديل.
في بعض الأحيان الآن، أشعر أن نفسي كانت تنسل مني حين كانت ماريبيث تتحدث. أشعر بأن أفكاري تشرد مني مثلما كان يحدث في المدرسة أثناء شرح مسألة رياضية، أو عند بداية الصلاة الطويلة قبل الموعظة في الكنيسة. لم يكن الأمر أنني كنت أريد أن أكون في مكان آخر، أو حتى أبقى وحدي. كنت أفهم أن الصداقة هكذا تكون.
كنا قد قررنا تغيير هجاء اسمينا. أصبح هجاء اسمي جسي بدلا من جيسي، واسمها ميريبيث بدلا من ماريبيث. وقعنا باستخدام هذه الأسماء على أوراق الاختبار في المدرسة.
لوحت المدرسة بورقتي في الهواء. قالت: «لا أستطيع أن أمنح درجة لهذا الشخص؛ لأنني لا أعرف من هو. من هذا الذي يدعى جسي؟» تهجت الاسم بصوت مرتفع. «هذا اسم صبي. هل يعرف أحد هنا صبيا اسمه جسي؟»
لم تقل كلمة واحدة عن اسم ميريبيث. والأسباب واضحة؛ كانت ماريبيث مفضلة لدى الجميع، بالنظر إلى مظهرها، وملابسها، ووضعها الغريب، فضلا عن صوتها الناعم، الجذاب، وأسلوبها المهذب. كانت الفتيات الفظات والمدرسات الناقدات يحبونها. كان الصبية أيضا، بالطبع، منبهرين بها، لكنها قالت إن أختها لن تسمح لها بالخروج معهم. لم أكن أعرف قط إن كان هذا صحيحا أم لا. كانت ماريبيث بارعة في ابتداع الأكاذيب الصغيرة، وفي رفض عروض الآخرين بأدب.
تخلت عن هجاء اسمها بالطريقة الجديدة، حيث إنني لم يكن مسموحا لي بتغيير هجاء اسمي. لكننا واصلنا استخدام الهجاء الجديد عندما كنا نوقع ملحوظاتنا التي ترسلها إحدانا للأخرى، أو نتبادل الرسائل في الصيف. •••
عندما كنت في منتصف العام الدراسي في السنة الثالثة في المدرسة الثانوية، جلبت لي عمتي إنا وظيفة. كنت سأعمل لدى الزوجين كرايدرمان، يومين في الأسبوع، بعد المدرسة. كانت العمة إنا تعرف الزوجين كرايدرمان؛ لأنها كانت المسئولة عن التنظيف لديهما. كنت سأقوم ببعض أعمال الكي والترتيب، وكنت سأعد الخضراوات للعشاء.
قالت العمة إنا: «هذا هو الغداء بالنسبة إليهما.» في نبرة رتيبة لا يستطيع المرء من خلالها تحديد ما إذا كانت تنتقد الزوجين كرايدرمان لتصنعهما، أم كانت تقر بعلو مكانتهما ما منحهما الحق في اختيار ما يريدانه من ألفاظ، أم أنها أرادت ببساطة أن تشير إلى أن أيا ما كانا يقولانه أو يفعلانه كان يقع تماما خارج نطاق فهمها ويجب أن يكون خارج نطاق فهمي.
كانت العمة إنا عمة أبي، وكانت طاعنة في السن. كانت معروفة في البلدة بأنها مسئولة النظافة، مثلما هو الحال بالنسبة لطبيب أو مدرس موسيقى المدينة. كانت محل احترام الجميع. لم تكن تقبل بقايا الطعام، مهما كان شهيا، ولم تكن تأخذ إلى المنزل الملابس القديمة، مهما كانت حالتها جيدة. كان كثير من النساء اللائي كانت تعمل لديهن يشعرن بالتزامهن بالقيام ببعض أعمال التنظيف السريعة قبل وصولها، وكن يلقين زجاجات الشراب الفارغة في القمامة. لم يكن ذلك يخدع العمة إنا.
كانت هي وابنتها فلوريس، وابنها جورج، يعيشون في منزل ضيق منظم يقع في شارع منحدر، تلتصق المنازل فيه بشدة وتكون قريبة جدا من الشارع حتى إن المرء يكاد يلمس درابزين الشرفة الخارجية من الرصيف. كانت غرفتي خلف المطبخ؛ حجرة تخزين سابقا، ذات جدران مصنوعة من ألواح معشقة بلون أخضر فاتح. حاولت أن أعد الألواح الخشبية أثناء رقودي في الفراش، لكنني كنت أستسلم دوما. في وقت الشتاء، كنت آخذ جميع ملابسي إلى الفراش في الصباح وكنت أرتدي ملابسي تحت الأغطية. فلم تكن ثمة وسيلة للتدفئة في غرفة التخزين.
عادت العمة إنا إلى المنزل منهكة تماما جراء ممارسة سلطتها في جميع أنحاء البلدة. لكنها تحاملت على نفسها، ومارست هذه السلطة علينا أيضا. جعلتنا نفهم - أنا وفلوريس وجورج - أننا جميعا أشخاص راقون على الرغم من فقرنا النسبي، أو ربما بسببه. جعلتنا نفهم أننا يجب أن نؤكد على هذه المسألة كل يوم في حياتنا من خلال تنظيف أحذيتنا والتأكد من أن جميع أزرار ملابسنا مكتملة ومربوطة، ومن خلال عدم استخدام اللغة الفظة، من خلال عدم التدخين (في حالة النساء)، من خلال الحصول على درجات مرتفعة (في حالتي أنا)، ومن خلال عدم الاقتراب من المشروبات الكحولية أبدا (بالنسبة للجميع). لا يوصي أحد اليوم باتباع مثل هذا التشدد، والحرص الشديد، والأدب القديم. وأنا بالطبع كذلك، لكنني لا أعتقد أنني كنت أعاني كثيرا من ذلك. تعلمت كيف أتهرب من بعض تلك القواعد وأتعايش مع أخرى، وعلى وجه العموم كنت أعتقد أن رقيا يعتمد على أفكار متشددة كهذه أفضل حالا من عدم وجود رقي على الإطلاق. ولكنني لم أكن أخطط للاستمرار في العيش هناك، مثل جورج وفلوريس.
كانت فلوريس قد تزوجت مرة لفترة قصيرة، لكن لم يبد أنها اكتسبت أي ميزة من هذا الزواج. كانت تعمل في متجر الأحذية، وكانت تتدرب على الإنشاد الكنسي، وكانت مدمنة لعب أحجيات الصور المقطعة، خاصة النوع الذي كان يستحوذ على مساحة كبيرة من منضدة اللعب. على الرغم من أنني كنت ألح عليها في ذلك، فلم تكن تخبرني كثيرا بما يرضيني عن علاقتها الحميمية أو زواجها أو موت زوجها الشاب جراء تسمم الدم؛ وهي قصة كنت أحب أن أرويها، لتقابل قصة ماريبيث المأساوية حقا حول وفاة أمها. كانت فلوريس تمتلك عينين كبيرتين زرقاوين مائلتين إلى الرمادي، كانتا على مسافتين كبيرتين إحداهما من الأخرى حتى ليظن المرء أنهما كانتا تنظران في اتجاهين مختلفين. كان ثمة تعبير بالاغتراب وقلة الحيلة فيهما.
لم يجتز جورج الصف الرابع في دراسته. كان يعمل في مصنع البيانو، حيث كان يرد دون إبداء أي تذمر أو حرج على من يناديه بالغبي. كان غاية في الخجل والهدوء بحيث تبدو فلوريس، التي كانت تتذمر في وهن، أكثر جرأة مقارنة به. كان يقطع الصور من المجلات ويثبتها بدبابيس في كل مكان في غرفته؛ ليست صور فتيات جميلات عاريات لكنها صور أشياء كان يحب شكلها: طائرات، كعك شوكولاتة، البقرة إلسي التي هي شعار منتجات ألبان بوردن. كان يستطيع ممارسة لعبة الداما الصينية، وفي بعض الأحيان كان يدعوني لمشاركته اللعب. عادة، كنت أخبره بأنني مشغولة جدا.
عندما دعوت ماريبيث إلى منزلي لتناول العشاء، انتقدت العمة إنا الضوضاء التي كانت الأساور التي ترتديها تتسبب فيها عند ارتطامها بالمنضدة، وكانت تتعجب من كيف أن فتاة في عمرها كان مسموحا لها أن تهذب شعر حاجبيها. قالت أيضا - في نطاق سمع جورج - إن صديقتي فيما يبدو لا تتمتع بذكاء كبير. لم أندهش. ولم نكن ننتظر أنا أو ماريبيث أي شيء إلا اتصالا مع عالم البالغين غاية في الاصطناع، والألم، والرسمية. •••
كان منزل الزوجين كرايدرمان لا يزال يسمى منزل ستيور. وحتى وقت قريب، كانت السيدة كرايدرمان تسمى إيفانجلين ستيور. كان قد شيد المنزل دكتور ستيور، أبوها. تم تشيده متراجعا عن حدود الشارع على مصطبة ممهدة، مشيدة، ولم يكن كأي منزل في البلدة. في حقيقة الأمر، لم يكن كأي منزل رأيته من قبل على الإطلاق، وكان يبدو لي دائما كمصرف أو مبنى حكومي مهم. كان مكونا من طابق واحد، مستوي السطح، ذي نوافذ فرنسية خفيضة، أعمدة كلاسيكية، وسور حول السطح يوجد وعاء ديكوري في كل ركن من أركانه. كانت الأوعية توجد على جانبي السلالم الأمامية أيضا. كانت الأوعية، والسور، والأعمدة جميعها مطلية بلون أبيض كريمي، وكان المنزل نفسه مغطى بجص بلون قرنفلي فاتح. بحلول هذا الوقت، كان الطلاء والجص قد بدآ يتقشران ويتغير لونهما.
بدأت في الذهاب إلى هناك في فبراير. كانت الأوعية ملآنة حتى آخرها بالثلج مثل أطباق ملآنة بالآيس كريم، وكانت الأجمات المختلفة في الفناء تبدو كما لو أن بسطا من جلد دببة قطبية ألقيت فوقها. كان ثمة ممر صغير ملتف إلى الباب الأمامي، بدلا من الممر العريض النظيف الذي كان الناس يزيحون الثلج عنه.
قالت السيدة كرايدرمان: «لا يزيح السيد كرايدرمان الثلج؛ لأنه يعتقد أن هذا أمر عابر ... يعتقد أنه سيستيقظ ذات صباح وسيكون الثلج قد اختفى، مثل الضباب. إنه ليس مستعدا للقيام بهذا!»
كانت السيدة كرايدرمان تتحدث بنبرة تأكيدية، كما لو كان كل شيء تقوله مهما جدا، وفي الوقت نفسه جعلت كل شيء يبدو كمزحة. كانت هذه الطريقة في الحديث جديدة جدا بالنسبة لي.
بمجرد الدخول إلى المنزل، ما من سبيل لرؤية ما يحدث في الخارج، اللهم إلا من خلال نافذة المطبخ فوق الحوض. كانت السيدة كرايدرمان تقضي معظم وقتها في غرفة المعيشة، راقدة على الأريكة، تحيطها المرامد، والأقداح، والأكواب، والمجلات والوسائد من كل مكان. كانت ترتدي روبا صينيا، أو روبا طويلا أخضر داكنا من الصوف المزغب، أو سترة من الساتان الأسود المبطن - سريعا ما تلطخ بالرماد - وبنطال حمل. كانت السترة تنفتح وتكشف عن جانب من بطنها المنتفخ بصورة غريبة. كانت قد أوقدت المصابيح وكانت الستائر خمرية اللون مسدلة على النوافذ، وفي بعض الأحيان كانت تحرق مخروطا صغيرا من البخور في طبق نحاسي. كنت أحب هذه المخاريط، ذات اللون القرنفلي الباهت، التي كانت توجد محفوظة مثل طلقات رصاص في علبتها الجميلة، محتفظة بشكلها على نحو سحري أثناء تحولها إلى رماد. كانت الحجرة ممتلئة بأشياء عجيبة؛ أثاث صيني من الخشب الأسود المنقوش، زهريات بها ريش طاووس وعيدان البامبس، مراوح مفرودة عبر الجدران الحمراء الباهتة، وأكوام من الوسائد المخملية، والوسائد الساتان ذات الشرابات الذهبية.
كان الشيء الأول الذي كان علي أن أفعله هو أن أرتب المكان. تناولت الجرائد المحلية المتناثرة على الأرض، ووضعت الوسائد في مكانها على المقاعد والأرائك، وجمعت الأكواب التي تحتوي على شاي أو قهوة باردة، والأطباق التي تحتوي على بقايا طعام متصلبة، والأكواب الزجاجية التي كانت لا تزال تحتوي ربما على شرائح من الفاكهة الطرية، وبقايا خمر؛ خليط مسكر، خفيف، لكن لا يزال له مذاق كحولي. في المطبخ، شربت كل ما كان فائضا ومصصت الفاكهة للحصول على المذاق الغريب للكحول.
كان من المنتظر أن تلد السيدة كرايدرمان في أواخر يونيو أو أوائل يوليو. كان عدم وضوح التاريخ على وجه التحديد يرجع إلى عدم انتظام دورتها الشهرية. (كانت هذه هي المرة الأولى التي سمعت بها على الإطلاق أحدا يقول «دورة شهرية». كنا نقول «الحيض» أو «العادة» أو كنا نستخدم تعبيرات غير مباشرة.) كانت هي نفسها متأكدة أنها حبلت في ليلة عيد ميلاد السيد كرايدرمان عندما كانت ثملة من احتساء الشامبانيا. التاسع والعشرين من سبتمبر. كان عيد الميلاد الثالث والثلاثين للسيد كرايدرمان. كانت السيدة كرايدرمان تبلغ أربعين عاما. قالت إنها تعترف بخطئها بزواجها من رجل أصغر منها. وكانت تدفع الثمن. كان عمر الأربعين أكبر مما ينبغي لحمل طفل. كان عمرا أكبر مما ينبغي لولادة الطفل الأول. كان خطأ.
أشارت لعواقب ذلك. أولا: البقع البنية الفاتحة الموجودة في وجهها ورقبتها، التي قالت إنها تغطي جسمها بالكامل. كانت تذكرني بثمرة الكمثرى الآخذة في التعفن؛ ذلك التحول الطفيف في اللون، التجعدات العميقة المحبطة. ثانيا: كشفت عن إصابتها بالدوالي في ساقيها، وهو ما كان يجعلها ترقد على الأريكة. كان الأمر أشبه بعناكب بلون التوت البري، كتل خضراء تغطي ساقيها بالكامل. كان كل ذلك يتحول إلى اللون الأسود عندما كانت تقف. وقبل أن تضع قدميها على الأرض، كان عليها أن تلف ساقيها في ضمادات مطاطية طويلة، ومشدودة.
قالت: «اتبعي نصيحتي وأنجبي أطفالا وأنت صغيرة في السن ... هيا اخرجي وكوني حبلى على الفور، إذا كان هذا ممكنا. كنت أعتقد أنني لن أمر بأي من ذلك. ها-ها!» كانت تمتلك بعض الفطنة؛ لأنها قالت لي: «لا تخبري عمتك أبدا عن الأشياء التي أتحدث معك بشأنها!»
عندما كانت السيدة كرايدرمان تدعى إيفانجلين ستيور، لم تكن تعيش في هذا المنزل، بل كانت تزوره من حين إلى آخر، عادة بصحبة أصدقاء لها. كان ظهورها في البلدة قصيرا وملحوظا. كنت قد رأيتها تقود سيارتها خافضة سقف السيارة، وكان ثمة وشاح برتقالي فوق شعرها القصير الداكن. كما رأيتها في الصيدلية، ترتدي سروالا قصيرا وقميصا بحمالة عنق، وكانت ساقاها وبطنها نحيلة ومسمرة كما لو كانت ملفوفة في حرير بني. كانت تضحك آنذاك، وبصوت مرتفع، معترفة بمعاناتها من صداع في رأسها بسبب الإسراف في الشراب. كنت قد رأيتها في الكنيسة ترتدي قبعة سوداء شفافة مزدانة بالورود الحريرية القرنفلية، قبعة حفلات. لم يكن هنا مكانها، كانت تنتمي إلى العالم الذي كنا نراه في المجلات والأفلام؛ عالم التفاهة البراقة، الممثلين الكوميديين الوقحين الساخرين، الموسيقى في قاعات الرقص العامة، كئوس الكوكتيل في ضوء النيون القرنفلي التي تقدم عند أبواب البارات. كانت هي حلقة الوصل بيننا وبين هذا العالم، دليلنا على أن ذلك العالم موجود، وعلى أننا موجودون معه، وعلى أن شروره القاصمة وروعته القاسية غير منفصلة عنا تماما. على الرغم من أنها كانت تقيم هناك، فإن زياراتها الخاطفة إلى هنا جعلت الناس تغفر لها، وربما جعلتها مثار إعجاب من بعيد. حتى عمتي إنا، التي كان عليها جمع زجاج الأكواب المكسورة من المدفأة، وإزالة بقايا الدجاج المشوي الذي جرى هرسه في البساط، وأخذ ورنيش الأحذية الموضوع على حافة حوض الاستحمام ووضعه في مكانه؛ منحت إيفانجلين ستيور امتيازا غير مقدس، على الرغم من أن الامتياز لم يكن إلا امتياز كونها نموذجا على كيف جعلها المال لا تخجل من أي شيء، وجعلها الفراغ إنسانة عديمة الفائدة، وينذر انغماسها في ملذاتها بتعرضها لكارثة مفجعة.
لكن ماذا فعلت إيفانجلين ستيور بعد ذلك؟ صارت زوجة، مثل الجميع. كانت قد اشترت الجريدة المحلية حتى يديرها زوجها. كانت تنتظر مولودا. كانت قد فقدت وظيفتها، وكانت تخلط بين الأشياء. فهناك فرق بين أن تكون فتاة عزباء فاتنة، مدخنة، شاربة للخمر، غير ورعة، وأن تكون أما فاتنة تنتظر طفلا، مدخنة، شاربة للخمر، غير ورعة. «لا تركزي معي كثيرا جيسي. لم يكن علي أن أرقد هكذا قط من قبل. كنت في قلب الأحداث دوما. كل ما يفعله هذا الطبيب المتوحش هو أنه يقول لي المشاكل التي سأتعرض لها قبل أن تتحسن حالتي. «أي شيء يدخل لا بد أن يخرج إلى النور. خمس دقائق متعة، تسعة أشهر من المعاناة.» سألته: «ماذا تعني ب «خمس» دقائق؟»»
ركزت معها كثيرا. إذ لم أسمع ولم أر أشياء على هذا النحو من قبل قط. أخبرت ماريبيث بكل شيء. وصفت لها غرفة المعيشة، ملابس السيدة كرايدرمان، الزجاجات الموجودة في خزانة أدوات المائدة ذات المحتويات الذهبية، والخضراء، والحمراء الداكنة، علب مأكولات غير مألوفة في خزائن المطبخ؛ محار مدخن، أنشوجة، كستناء مهروس، خرشوف، هذا فضلا عن علب كبيرة من لحم الخنزير وبودنج الفواكه. أخبرتها عن الدوالي، والضمادات، والبقع - جاعلة هذه الأشياء تبدو أسوأ مما هي عليه حقيقة - وعن مكالمات السيدة كرايدرمان مع أصدقائها الذين يعيشون بعيدا. كانت أسماء أصدقائها بونت، وبوكي، وباج، وسبيتي؛ لذا لم يكن بالإمكان تخمين ما إذا كانوا رجالا أم نساء. كان اسمها، كما هو معروف بينهم، جيلي. بعد فراغها من الحديث إليهم عبر الهاتف، كانت تخبرني عن المال الذي خسروه أو الحوادث التي وقعت لهم أو المقالب التي كانوا يقومون بها، أو العلاقات الغرامية المعقدة جدا وغير المعتادة التي دخلوها.
لاحظت العمة إنا أنني لم أكن أنجز الكثير من أعمال الكي. قلت إن هذا ليس خطئي؛ كانت السيدة كرايدرمان تبقيني في غرفة المعيشة، كي تتحدث إلي. قالت العمة إنا إنه ليس ثمة ما يمنع من وضع طاولة الكي في غرفة المعيشة إذا كانت السيدة كرايدرمان تصر على الحديث معي.
قالت العمة إنا: «دعيها تتحدث إليك ... وأنت تكوين. هذا هو ما تتقاضين مالا مقابل عمله.»
قالت السيدة كرايدرمان: «لا أمانع في أن تكوي هنا، لكن عليك أن تخرجي على الفور بمجرد وصول السيد كرايدرمان إلى المنزل ... فهو يكره ذلك؛ فهو يكره القيام بأي أعمال منزلية أثناء وجوده.»
أخبرتني أن السيد كرايدرمان كان قد ولد وكبر في مدينة بريزبن، بأستراليا، في منزل كبير تحيطه أشجار الموز من كل مكان، وأن أمه كان لديها خادمات زنجيات. كنت أعتقد أن الأمر بدا مشوشا قليلا، كما لو أن فيلم «ذهب مع الريح» انتقل إلى أستراليا، لكنني ظننت أن الأمر ربما كان صحيحا. قالت إن السيد كرايدرمان كان قد رحل عن أستراليا وصار صحفيا في سنغافورة، ثم عمل مع الجيش البريطاني في بورما عندما هزم على يد اليابانيين. رحل السيد كرايدرمان من بورما إلى الهند سيرا على الأقدام. «مع مجموعة صغيرة من الجنود البريطانيين وبعض الأمريكيين وفتيات محليات؛ ممرضات. لم تكن هناك علاقات جنسية مشبوهة. كل ما كانت تفعله هذه الفتيات هو غناء الترانيم. جميعهن تحولن إلى المسيحية. «إلى الأمام أيها الجنود المسيحيون!» على أي حال، لم يكونوا في حالة تسمح لهم بإقامة علاقات جنسية. فقد كانوا مرضى وجرحى، يسيرون يوما بعد يوم في ظل الحرارة الشديدة. يتعرضون لهجوم من أفيال برية. سيكتب كتابا عن هذه التجربة. سيفعل السيد كرايدرمان هذا. كان عليهم أن يصنعوا أطوافا وأن يبحروا مع التيار. أصيبوا بالملاريا. تخطوا جبال الهيمالايا. كانوا أبطالا ولم يسمع أحد عن ذلك قط.»
ظننت أن الأمر بدا مريبا أيضا. حرارة هائلة في الهيمالايا، التي كان معروفا عنها أنها مغطاة بالثلوج دوما. «قلت لبونت: «حارب إريك مع البريطانيين في بورما»، ورد بونت: «لم يحارب البريطانيون في بورما؛ ألحق اليابانيون هزيمة مذلة بالبريطانيين في بورما.» لا يعرف الناس أي شيء. إن بونت هذا لا يستطيع السير حتى إلى آخر شارع يونج.»
بعدها بسنوات، ربما بربع قرن، قرأت عن المسيرة التي قادها الجنرال ستيلويل من بورما إلى الهند، عبر الممر فوق تامو وعبر نهر تشيندوين. كان بصحبته بعض القادة البريطانيين، الذين كانوا قذرين وجوعى. ربما كان إريك كرايدرمان من بينهم.
حدث التعارف بين السيد كرايدرمان والسيدة كرايدرمان عندما جاء ذات يوم كي يستأجر من الباطن شقتها في تورونتو . كان يخطط للعمل كصحفي في كندا. كانت تخطط للسفر إلى المكسيك مع أصدقائها. لم تفعل ذلك من قبل قط. بمجرد أن رأت السيد كرايدرمان، كان ما كان من الأمر. قال لها أصدقاؤها جميعا ألا تتزوجه. فهو أصغر منها بسبع سنوات، مطلق - له زوجة وطفل في مكان ما في أستراليا - ولا يملك مالا. قال الجميع إنه مغامر. لكنها لم ترتدع. تزوجته في غضون ستة أسابيع ولم تدع أيا من أصدقائها إلى حفل الزفاف.
كنت أعتقد أنني يجب أن أسهم في الحديث؛ لذا قلت: «هل كانوا يعارضونه فقط لأنه كان مغامرا؟»
قالت السيدة كرايدرمان: «ها-ها! ... لم يكن هذا ما يقصدونه. كانوا يشيرون إلى أنه كان يسعى وراء مالي. لكني لا أستطيع حتى أن أقنعه بأن يعتمد على مالي بينما يكتب كتابا حول تجاربه. هو يرى أن عليه أن يكون مستقلا ماليا. عليه أن يكتب عما كانت وصيفات العرائس الحمقاوات ترتدينه، وعن حفلات الشاي للتباهي بجهاز وهدايا العرائس، وعن كل تلك الثرثرة التي تحدث في مجلس البلدة، وهو ما يدفعه إلى الجنون. هو أكثر رجل موهوب قابلته في حياتي، ويوما ما ستتباهين بأنك كنت تعرفينه!»
بمجرد سماعنا السيد كرايدرمان عند الباب، ألقيت سلة الكي بعيدا في المطبخ، مثلما قيل لي. كانت السيدة كرايدرمان تنادي، في صوت قلق، ساخر، سخيف وعذب في آن واحد، جديد: «هل عاد فتاي إلى المنزل؟ هل حضر لورد فونتلروي الصغير؟ هل حضر دنجو المجنون؟»
كان السيد كرايدرمان، وهو يخلع حذاءه في البهو، يجيب بأنه ديك تريسي، أو البحار بارنكل بيل. ثم يدخل إلى غرفة المعيشة ويتجه إلى الأريكة مباشرة، حيث ترقد هي فاتحة ذراعيها كي يحتضنها. يتبادلان القبلات الحارة، بينما أتسلل تدريجيا بعيدا حاملة طاولة الكي.
قلت لماريبيث: «تزوجها من أجل مالها.»
أرادت ماريبيث أن تعرف شكله.
قلت: «يشبه شيئا مستخرجا من مستنقع.» لكن كان هذا هو وصف العمة إنا بعد أن وقعت عيناها عليه للمرة الأولى. كررت وصفها لأنه أعجبني. لم أجد الوصف في حقيقة الأمر ملائما . صحيح أن السيد كرايدرمان كان نحيفا، طويلا ونحيفا، ويمتلك بشرة شاحبة، لكن هيئته لم تكن بالية أو شاحبة. في حقيقة الأمر، كان يمتلك هيئة حادة الملامح، خفيفة العظام، وجذابة؛ وهي هيئة شائعة جدا في ذلك الوقت؛ شاربا في صورة خط، عينين ضيقتين، وابتسامة خفيفة ساخرة.
أضفت قائلة: «مثل ثعبان في الحشائش ... لكنها مغرمة به بشدة.» أعدت تمثيل لقائهما اليومي، مصدرة صوت القبلات المرتفع من شفتي، ومطيرة ذراعي في الهواء.
أخبرت السيدة كرايدرمان السيد كرايدرمان أنني بارعة في القراءة وأنني عبقرية في التاريخ. كان هذا يرجع إلى أنني أزلت عنها بعض الحيرة فيما يتعلق برواية تاريخية كانت تحاول أن تقرأها. كنت قد بينت لها كيف أن بطرس الأول كان قريبا لكاثرين الثانية.
قال السيد كرايدرمان: «هل الأمر كذلك؟» جعلته لكنته يبدو أكثر نعومة وخبثا من أي شخص كندي. «من كاتبك المفضل؟»
قلت، أو ظننت أنني قلت: «دوستويفسكي.»
قال السيد كرايدرمان مطرقا: «دوستوي-فتسكي ... ما مؤلفه المفضل لديك؟»
كنت مرتبكة جدا حتى إنني لم ألحظ نطقه للاسم.
قلت: «الإخوة كارامازوف.» كان هذا هو الكتاب الوحيد الذي كنت قد قرأته لدوستويفسكي. كنت قد قرأت الكتاب أثناء الليل في الطقس البارد في غرفة النوم الخلفية، وأثناء قراءتي السريعة والنهمة له تخطيت جانبا كبيرا من فصل «المحقق الكبير» وأجزاء أخرى كنت قد توقفت أمامها.
قال السيد كرايدرمان، مبتسما كما لو كان قد ضيق الخناق علي: «أي الإخوة المفضل لديك؟»
قلت: «ميتيا.» حينئذ، كان قد قل توتري، وكنت أرغب في المضي قدما في الحديث، معللة ذلك؛ بأن أليوشا كان ملائكيا أكثر من اللازم، وكان إيفان عقلانيا أكثر من اللازم، وهكذا. في طريق عودتي إلى منزلي، تصورت أنني قد فعلت هذا، وأنه أثناء حديثي، كان التعبير المرتسم على وجه السيد كرايدرمان قد تغير إلى تعبير عن الاحترام والضيق الخفيف. ثم أدركت الخطأ الذي ارتكبته، في نطق الاسم.
لم تواتني الفرصة كي أواصل حديثي؛ لأن السيدة كرايدرمان نادت من على الأريكة قائلة: «المفضل، المفضل! من المرأة الحبلى العجوز المنتفخة الضخمة المفضلة لدى الجميع؟ هذا ما أريد أن أعرفه!»
مهما كنت أسخر من الزوجين كرايدرمان في حديثي إلى ماريبيث، كنت أريد شيئا منهما. الانتباه. التقدير. كنت أحب السيدة كرايدرمان وهي تقول عني إنني عبقرية في التاريخ، على الرغم من أنني كنت أعرف أن ذلك كان شيئا سخيفا. كنت سأقدر قيمة ما سيقوله أكثر. كنت أعتقد أنه يزدري هذه البلدة وكل من فيها. لم يكن يأبه بما كان الآخرون يظنون به فيما يتعلق بعدم إزاحة الثلوج من ممر السير أمام منزله. كنت أريد أن أحدث ثقبا صغيرا في دائرة ازدرائه.
بالمثل، كان عليه أن يتركها تناديه فتاي، ويستسلم لتلك القبلات. •••
كان لدى ماريبيث أخبار جديدة لتخبرني بها أيضا. كان لدى بياتريس صديق، وكانت تأمل في أن تخطب له. قالت ماريبيث إن كلا منهما متيم بالآخر بشدة.
كان صديق بياتريس متدربا لدى حلاق. كان يراها أثناء فترات ما بعد الظهيرة، عندما كانت تعود إلى المنزل من نوبة عملها في المستشفى، وكانت ثمة فترة ركود في مجال الحلاقة. كانت الفتيات اللائي كن يعشن في المنزل، في العمل آنذاك. ولم أكن أنا وماريبيث في المنزل أيضا؛ إذ كنا نتمتع بالكياسة الكافية حتى نتسكع حول المدرسة، أو نذهب لشراء أحد المشروبات الغازية، أو نضيع الوقت في النظر إلى واجهات العرض بالمحلات. لكن أصرت ماريبيث هذه المرة على أن تتوجه مباشرة إلى المنزل.
وجدنا بياتريس ترتب الفراش. نزعت جميع الأغطية ووضعت الملاءة في سرعة احترافية. ثم وضعت غطاء قطنيا ماصا على الملاءة في مكان استراتيجي. ذكرت بأيام الخزي التي كنت أنام فيها فوق غطاء بلاستيكي؛ لأنني كنت أبلل الفراش من حين إلى آخر.
وضعت بعد ذلك الأغطية العلوية، سوتها ورتبتها، مخبئة الغطاء السري. نفشت الوسائد، وثنت أحد أركان الملاءة العلوية فوق اللحاف. عاد إلي الشعور المزعج الخاص بشهوة الطفولة، ذكرى اللحظات الحميمة تحت البطانيات. بطانيات خشنة، ملاءات فلانيليت مريحة، أسرار.
سارت بياتريس عبر البهو في اتجاه الحمام، حتى تهندم نفسها مثلما هندمت الفراش. كان يرتسم على وجهها نظرة جادة، مسئولة، نظرة اهتمام ربة منزل. لم تتفوه بكلمة واحدة لنا.
قالت ماريبيث أثناء مرورنا على الحمام في طريقنا إلى أسفل: «لن أتعجب إذا مضت وفعلت الأمر أمام ناظرينا.» كان الماء يسيل. ماذا كانت بياتريس تفعل تحديدا؟ أظن أن الأمر كان يتضمن استخدام قطع من الإسفنج.
جلسنا على سلالم الشرفة الخارجية. كانت الأرجوحة قد رفعت في الشتاء ولم توضع مرة أخرى بعد.
قالت ماريبيث: «لا ينتابها أي شعور بالخجل ... وعلي أن أنام في الفراش نفسه. تظن أن وضع غطاء ماص على الملاءة سيجعل كل شيء على ما يرام. سرقت هذا الغطاء من المستشفى. لا يمكن أن يثق المرء فيها أبدا، حتى عندما كانت لا تزال صغيرة. ذات مرة، تشاجرنا وقالت: «دعينا نتصالح، نتصافح»، وعندما تناولت يدها لنتصافح، كانت تحمل ضفدعا صغيرا فيها، وكان الضفدع قد دخل عليها الحمام.»
لم يكن الثلج قد اختفى بعد؛ كانت ريح شديدة البرودة تأتي بروائح المستنقعات، والجداول، ومياه الفيضان إلى البلدة. لم يأبه صديق بياتريس بارتداء معطف. جاء مسرعا عبر الزقاق مرتديا رداء الحلاقة الأبيض، مطأطئا رأسه، عن عمد. لم يكن مستعدا لرؤيتنا.
قال في ثقة زائفة، ومرح عصبي: «أهلا!»
لم ترغب ماريبيث في الرد عليه، ولم أستطع الرد أنا أيضا، إخلاصا لها. لم ننهض، لكن ابتعدت كل منا عن الأخرى؛ مفسحة له المجال بما يكفي لصعود السلالم. حاولت سماع صوت فتح وغلق باب غرفة النوم، لكنني لم أسمع.
قالت ماريبيث: «يتصرفان ككلبين ... كلبين يتضاجعان.»
كنت أفكر فيما يحدث في هذه اللحظة تحديدا. التحية، تبادل النظرات، خلع الملابس. بأي ترتيب؟ بمصاحبة أي كلمات ولمسات؟ هل يتصرفان على نحو محموم أو منظم؟ هل يتضاجعان على الفراش نصف عاريين، أم يتم الأمر على الوضع الذي تكون عليه المريضة عند الكشف عليها في عيادة الطبيب؟ كنت أعتقد أن الطريقة الأخيرة كانت الأقرب بالنسبة لهما.
اخلعي هذا. نعم. ارقدي الآن. افتحي رجليك. أوامر هادئة، طاعة عمياء. بياتريس ساكنة، مستسلمة. الرجل، ذلك الشخص الهزيل، ذو البقع على الرقبة، زادت إثارته، وتأهب لممارسة سلطته المنحرفة. الآن. نعم. الآن.
قالت ماريبيث: «ذات مرة، طلب مني أحد الصبية أن أفعل ذلك ... كدت أتسبب في طرده.» أخبرتني كيف أن صبيا، في الصف السابع، مرر إليها رسالة تقول: «هل تريدين أن تضاجعيني؟» وقدمت الرسالة إلى المدرسة.
قلت: «يريد شخص ما أن أفعل ذلك.» كنت أتعجب تماما من نفسي، وأنا أقول ذلك. أبقيت عيني إلى أسفل ولم أنظر إلى ماريبيث. قالت: من؟ وماذا قال تحديدا؟ وأين قال ذلك؟ ومتى؟ وهل كان أحد زملائنا في الصف؟ ولماذا لم أخبرها؟
نزلت إلى الدرجة التالية للدرجة التي أجلس عليها، حتى تستطيع أن ترى وجهي. وضعت يديها على ركبتي. قالت: «تواعدنا أن تخبر كل واحدة منا الأخرى بكل شيء.»
هززت رأسي. «يجرح مشاعري كثيرا أنك لم تخبريني.»
مططت شفتي معا كما لو كنت أحافظ على السر داخلهما. قلت: «حقيقة، هو يحبني.» «جيسي! أخبريني!»
وعدتني بأن أستخدم قلمها الرصاص من نوع إيفرشارب حتى نهاية العام الدراسي. لم أرد. قالت إنني أستطيع أن أستخدم قلمها الحبر أيضا. قلمها الرصاص وقلمها الحبر، المجموعة الكاملة.
كنت أنوي أن أغيظها فترة أطول، ثم أخبرها أن الأمر كله لم يكن إلا مزحة. لم أكن حتى أضع اسما في رأسي، في البداية. لدي اسم الآن في رأسي، لكن كان ذلك أمرا خطيرا جدا. لم أعتقد أنني كنت سأتفوه بالاسم. «جيسي، سأعطيك سوارا. لن أقرضك واحدا. قلت «سأعطيك»، سأعطيك أي سوار ترغبين فيه ويمكنك الاحتفاظ به.»
قلت: «إذا كنت سأفصح عن اسمه، فلن أفعل ذلك مقابل سوار.» «أقسم لك أنني لن أخبر أحدا. أنا لا أكذب عليك.» «فقط أقسمي بالرب.» «سأفعل. أقسم بالرب، جيسي. أقسمت بالرب.»
قلت في نعومة: «السيد كرايدرمان.» شعرت بخفة مدهشة، لم أعد أحمل عبئا، بكذبتي. «إنه هو.»
سحبت ماريبيث يديها من على ركبتي وجلست في استقامة. قالت: «هو كبير في السن ... قلت إنه قبيح! ومتزوج!»
قلت: «لم أقل إنه قبيح قط ... وعمره ثلاثة وثلاثون عاما فقط.» «لكنك لا تحبينه!» «في بعض الأحيان عندما تحبين، يبدأ الأمر على هذا النحو.» •••
ذات مرة، تعرفت على امرأة عجوز قالت لي، عندما كانت تتحدث عن حياتها، إنها ارتبطت بعلاقة استمرت ثلاث سنوات بروبرت براونينج. لم تكن مخرفة بأي حال من الأحوال؛ كانت امرأة عجوزا تتمتع بلياقة ذهنية فائقة وكانت مباشرة جدا في حديثها. لم تقل إنها كانت تحب كتابات براونينج، أو إنها كانت تقضي وقتها كله تقرأ عنه. لم تقل إنها كانت ترى خيالات. قالت: «أوه، نعم ... ثم كانت العلاقة مع روبرت براونينج التي استمرت ثلاث سنوات.» انتظرت منها أن تضحك أو أن تضيف كلمات أخرى تفسر ما تقول، لكنها لم تفعل. علي أن أعتقد، إذن، أن العلاقة التي جرت في خيالها كانت غاية في الجدية والإجهاد حتى إنها حرمت على نفسها الإشارة إليها باعتبارها خيالا.
ربما لم تكن العلاقة التي أقمتها هذا الربيع مع السيد كرايدرمان - في رأسي، وأمام ماريبيث - بتلك الأهمية في حياتي، لكنها كانت تجعلني منشغلة دوما. لم يعد ثمة أي شعور بالتبعية والملل، عندما نكون أنا وماريبيث معا. كان علي أن أظل أرتب وأغير ترتيب الأمور، ثم أضعها في مكانها من خلال شذرات المعلومات التي اخترت أن أصرح بها. أقمت العلاقة لكنني لم أخبرها، وكنت سعيدة بعد ذلك؛ لأنني قررت ألا أكمل العلاقة. لم أستطع أن أتخيل على نحو ملائم ترتيب الخطوات أو ماذا سيقال لاحقا. لم أمانع قط في الكذب. بمجرد أن جربت الكذب - من خلال التفوه باسم السيد كرايدرمان - صار الكذب مريحا بالنسبة لي على نحو مدهش.
لم يقتصر الأمر فقط على ما قلت، بل شمل هيئتي، مبالغتي في تجسيد ما كان يجري. قمت ببعض الأشياء العكسية. لم أرتد ملابس ضيقة، وأضع مكياجا على وجهي، وأتظاهر بأنني امرأة شابة مغوية. بدلا من ذلك، صففت شعري في صورة ضفائر ملفوفة حول رأسي، ولم أضع أحمر شفاه أو أي طلاء على شفتي، وإن كنت قد وضعت بودرة بكثافة على وجهي حتى أبدو شاحبة. كنت أذهب إلى المدرسة في بلوزة فضفاضة من الكريب تملكها العمة إنا. قلت لماريبيث إن السيد كرايدرمان طلب مني أن أرتدي الملابس على هذا النحو وأن أضفر شعري. لم يستطع تحمل فكرة أن ينظر شخص آخر إلى شعري أو أن يرى تقسيمات صدري. كان يعاني من لوعة الحب. عانيت أنا أيضا. تظاهرت بالخضوع، تقمصت هيئة متأدبة. العواطف ليست مسألة هينة، كانت فحوى رسالتي إلى ماريبيث. يجب أن تتصور أن الذنب، والشك، والرغبة المحمومة هم رفاقي اليوميين.
وهكذا الحال بالنسبة للسيد كرايدرمان أيضا. في خيالي، كان يتجرأ أكثر. كان يلاطف، ويهمس، ثم يؤنب نفسه، يتأوه، ويزداد إخلاصا وقربا لي، ويقبل جفني.
ماذا عن السيد كرايدرمان في الحقيقة؟ هل جعلني كل هذا أرتجف عندما أسمعه عند الباب، أنتظر قدومه إلي، آمل في إشارة منه؟ على الإطلاق. عندما بدأ يلعب دوره في خيالي، خفتت صورته في الواقع. لم أعد آمل في حديث شائق معه، أو حتى إلى إيماءة في اتجاهي. في عقلي، كنت قد حسنت من شكله قليلا؛ منحته لونا أكثر نضارة، أزحت سخريته الخفيفة المعتادة للكشف عن رقة حزينة. كنت أتفادى النظر إليه عندما يكون حاضرا، لئلا أغير من هيئته الكاملة مرة أخرى.
طلبت مني ماريبيث مزيدا من التفاصيل، لكنها لم تجد أي متعة في أي منها. حثتني على ألا أستسلم أبدا. قالت: «ألا تستطيعين أن تخبري السيدة كرايدرمان عنه؟» «سيقضي عليها ذلك. ربما تموت على أي حال عندما تلد الطفل.» «هل ستتزوجان إذا ماتت؟» «لا أزال قاصرة.» «يستطيع أن ينتظر. إذا كان يحبك مثلما يقول. سيحتاج إلى من يعتني بالطفل. هل سيحصل على مالها كله؟»
جعلني ذكر الطفل أفكر في شيء حقيقي، وغير سار، ومحرج، كان قد حدث مؤخرا في منزل الزوجين كرايدرمان. كانت السيدة كرايدرمان قد نادتني كي آتي وأرى الطفل يركلها. كانت ترقد على الأريكة، وروبها مرفوعا إلى أعلى، وكانت ثمة وسادة تغطي عورتها. صرخت: «هناك، أترين!» ورأيت ذلك، لا حركة على السطح بل حركة تحتية وحركة دوران للبطن المنتفخة المغطاة بالبقع. كانت سرتها بارزة كما لو كانت سدادة فلينية على وشك الاندفاع. تصببت ذراعاي وجبهتي عرقا. شعرت بكرة صلبة من الاشمئزاز تندفع إلى أعلى في حلقي. ضحكت وسقطت الوسادة. وعدوت إلى المطبخ. «جيسي، مم تخافين؟ لا أعتقد أن ثمة أطفال تخرج إلى النور على هذا النحو!» •••
مشهدان آخران في منزل الزوجين كرايدرمان.
يعود السيد كرايدرمان إلى المنزل مبكرا. يكون هو والسيدة كرايدرمان معا في غرفة المعيشة عندما أعود من المدرسة. لا تزال السيدة كرايدرمان تجعل الستائر مسدلة طوال اليوم، على الرغم من أن الوقت كان ربيعا في الخارج، طقس شهر مايو الحار. تقول إنها تفعل هذا حتى لا يستطيع أحد أن ينظر إلى الداخل ويرى الشكل الذي هي عليه.
أدخل قادمة من طقس وقت ما بعد الظهيرة الساطع، الحار، وأجد البخور يحترق في الغرفة الخانقة، المسدلة الستائر، والزوجان كرايدرمان الشاحبان يضحكان، ويشربان. يجلس على الأريكة، وقدماها في حجره.
يقول السيد كرايدرمان: «وقت الانضمام إلى الاحتفال! ... هذه حفلة وداعنا! حفلة وداعنا لك يا جيسي. وداعا، اذهبي، مع السلامة!»
تقول السيدة كرايدرمان: «تحكم في نفسك!» ضاربة رجليه بكعبيها العاريين. «لن نرحل بعد. يجب أن ننتظر حتى يولد هذا الطفل الرهيب!»
ثمل، هكذا أحدث نفسي. كنت أجدهما كثيرا ثملين، لكن حتى الآن لم أستطع أن ألمس أي تغيير لافت في السلوك.
تقول السيدة كرايدرمان: «سيقوم إريك بتأليف كتابه.»
يقول السيد كرايدرمان، في صوت سخيف، عالي النبرة: «سيقوم إريك بتأليف كتابه.»
تقول السيدة كرايدرمان، ضاربة بكعبيها أكثر: «ستفعل ذلك! ... وسنرحل من هنا في اللحظة التي يولد فيها هذا الطفل الرهيب.»
يقول السيد كرايدرمان: «هل هو حقا رهيب؟ ... هل لديه رأسان؟ هل نستطيع أن نعرضه في عرض الأشخاص غريبي الشكل ونحقق من ورائه أموالا طائلة؟» «لا نحتاج إلى المال.» «أحتاج أنا إلى المال.» «أتمنى أن تتوقف عن ذلك. لا أعرف إذا كان لديه رأسان، لكنني أشعر كما لو كان طوله خمسين قدما. أخاف جيسي مؤخرا.»
تخبره كيف عدوت.
يقول السيد كرايدرمان: «عليك أن تعتادي على هذه الأشياء يا جيسي ... الفتيات في مثل عمرك في بعض أجزاء من العالم لديهن طفل أو اثنين. لا تستطيعين أن تخدعي الطبيعة. يكون لدى الفتيات الصغيرات من ذوي الأصول الآسيوية، اللائي هن أطفال في الأساس، أطفال.»
تقول السيدة كرايدرمان: «أوه، أنا متأكدة ... جيسي، كوني مطيعة. تعرفين الجين، أليس كذلك؟ ضعي قليلا منه في هذه الكأس واملئيه بعصير البرتقال، حتى أحصل على فيتامين سي.»
أتناول كأسها. يحاول السيد كرايدرمان النهوض، لكنها تمسك به وتجلسه حتى يقول: «السجائر. أظن أنها في غرفة النوم.»
عندما يعود من غرفة النوم، يدخل المطبخ، لا غرفة المعيشة. أقف عند الحوض، أملأ صينية مكعبات الثلج.
تنادي السيدة كرايدرمان: «هل وجدت أي جين؟» «ما زلت أبحث.»
يحمل علبة سجائر في يده، لكنه يفتش في الخزانة إلى جانب الحوض محدثا ضوضاء. يضغط بجسمه على جسمي، جانبه في جنبي. يضع يده على كتفي، ويضغط. يحرك يده على ظهري، يلمس رقبتي العارية. أقف حاملة صينية الثلج في يدي، وأنظر خارج النافذة إلى حافلة قديمة منتظرة في الحارة الخلفية، خلف القاعة الكنسية. الكلمات «كالفري تابرناكل» مكتوبة على جانبها.
تتحرك أطراف أصابع السيد كرايدرمان على حلقي. لمستها خفيفة في البداية مثل قطرات مياه. ثم تشتد وطأتها. ثم أشد فأشد، ثم يمرر يده على بشرتي كما لو كان سيترك أخاديد بها. «وجدت بعض الجين.»
عندما آخذ الشراب إلى السيدة كرايدرمان، يجلس السيد كرايدرمان على المقعد ذي الذراعين إلى جانب المرمدة الطولية.
تقول، في نبرة صوتها السخيفة والعذبة في آن واحد: «تعال واجلس حيث كنت.» «أنا أدخن.»
أشعر بوخز في حلقي كما لو كنت قد تلقيت ضربة فيه. •••
يقع المشهد الثاني بعد ذلك بعدة أيام، في يوم عملي المعتاد في الأسبوع التالي.
يعمل السيد كرايدرمان في الحديقة. يرتدي قميصه، ولا يزال يرتدي رابطة عنقه، يزيل باستخدام مجرفة بعض النباتات المعترشة التي تغطي ظلة صيفية صغيرة آيلة للسقوط في أحد أركان الفناء. يناديني محذرا، وينتظرني حتى آتي إليه عبر الحشائش غير المقصوصة. يقول إن السيدة كرايدرمان ليست على ما يرام. كان الطبيب قد أعطاها شيئا حتى تنام، حتى تبقى ساكنة، وهادئة، حتى لا يولد الطفل قبل الأوان. يقول إنه من الأفضل ألا أدخل إلى المنزل اليوم.
أقف على مسافة ياردتين منه. يقول: «تعالي إلى هنا. هنا. هناك شيء أريد أن أسألك عنه.»
أقترب أكثر، برجلين مرتجفتين، ولا يفعل إلا الإشارة إلى نبات أحمر الساق، مورق، قوي عند قدميه. «ما هذا الشيء، هل تعرفين؟ هل أستخرجه من الأرض؟ لا أستطيع أن أميز بين الحشائش الضارة وغير الضارة.»
هذا أحد أنواع نبات الراوند، أعرفه باعتباره نباتا أو حشائش ضارة.
أقول: «لا أعرف»، وفي تلك اللحظة لا أعرف حقيقة. «ألا تعرفين؟ ما فائدتك لي يا جيسي؟ أليس هذا مكانا غريبا؟» يلوح مشيرا إلى الظلة الصيفية. «لا أعرف لمن بنيت. لأقزام؟»
يمسك ببعض النباتات المتعرشة، يقطعها، ثم يقول: «ادخلي هنا.»
أفعل ذلك. في الداخل، المكان سري رائع، ظليل ومهمل، تكسو الأرضية غير المستوية كومة من بقايا أشجار مورقة. السقف منخفض جدا حقا. كان على كلينا الانحناء.
يسأل السيد كرايدرمان: «هل تشعرين بالحرارة؟» «لا.» في حقيقة الأمر، تمر موجات هواء باردة فوقي؛ موجات من الضعف، والتوتر الجسدي. «نعم، تشعرين بالحرارة. أنت متعرقة بالكامل تحت كتلة شعرك هذه.»
يلمس عنقي بطريقة لا عاطفة فيها، مثل طبيب يفحص حالة، ثم يحرك يده إلى خدي وحدود شعري. «حتى جبهتك متعرقة.»
أستطيع أن أشم رائحة السجائر في أصابعه، ورائحة حبر آلات الطباعة الموجودة في مقر الجريدة. كل ما أريده هو أن أكون على قدر ذلك. منذ أن لمس السيد كرايدرمان حلقي عند حوض المطبخ، كنت أشعر أنني أرى مدى قوة أكاذيبي، خيالاتي. أنا شخص قادر على القيام بأعمال مدهشة لكنني لا حول لي ولا قوة. لا أملك إلا الاستسلام، الاستسلام للعواقب. أتساءل عما إذا كان الهجوم الجنسي سيحدث هنا، دون إعداد مسبق؛ هنا داخل أركان الظلة الصيفية، على هذه الأرضية، بين الأوراق الميتة والأغصان الشائكة التي ربما تخفي أجساد فئران أو طيور ميتة. أعرف شيئا واحدا؛ ألا وهو أن الشكوى من التعاسة في الحب، التوسلات الرقيقة والتأوهات التي عادة ما يصرح بها السيد كرايدرمان في خيالي، لن يكون لها مكان في الواقع حقيقة.
يقول السيد كرايدرمان: «هل تعتقدين أنني سأقبلك يا جيسي؟ ... لا أشك في أنك ستسمحين لي بتقبيلك. لا.» يقول ذلك، كما لو كنت قد سألته بصورة محددة عن ذلك: «لا يا جيسي. دعينا نجلس.»
هناك ألواح خشبية ملحقة بجدران الظلة الصيفية وهي بمنزلة مقاعد. بعضها مكسور. أجلس على أحدها الذي ليس مكسورا، ويجلس هو على آخر. نميل إلى الأمام لتفادي الأفرع الخشنة التي انكسرت عبر جدران التعريشة.
يضع يده على ركبتي، على تنورتي القطنية. «ماذا عن السيدة كرايدرمان يا جيسي؟ هل تظنين أنها ستكون سعيدة جدا إذا رأتنا الآن؟»
أنظر للسؤال باعتباره سؤالا لا يحتاج إلى إجابة، لكنه يكرره، وعلي أن أجيب، «لا.» «لأنني فعلت بها ما ربما تحبين أن أفعل بك، فهي ستلد طفلا، ولن يكون الأمر سهلا بالنسبة إليها.»
يلمس رجلي من خلال القطن الخفيف. «أنت فتاة عفوية يا جيسي. يجب ألا تدخلي أماكن كهذه مع رجال لأنهم طلبوا منك ذلك. يجب ألا تكوني مستعدة هكذا حتى تدعيهم يقبلونك. أعتقد أنك عاطفية، أليس كذلك؟ أنت شخص عاطفي. لا يزال أمامك بعض الدروس التي يجب أن تتعلميها.»
وهكذا تسير الأمور، الملامسة، والوعظ، في آن واحد. يخبرني أن اللوم يقع علي، بينما تحدث أصابعه حركات خفقان تحت جلدي، مثيرة ألما خفيفا، بعيدا. يؤنبني صوته الجاف. تثيرني يده وتلقي كلماته باللوم علي، ويوجد شيء في صوته يسخر، يسخر إلى ما لا نهاية، من هذين الأمرين. لا أدرك أن هذا ليس عدلا. على الأقل، لا أفكر في القول بأن الأمر ليس عدلا. أشعر بالخزي حقيقة، وبالحيرة، والشوق. لكنني لا أستحي مما يخبرني أنني يجب أن أستحي منه. ولكن من أن يراني أحد في هذا الوضع، أن أبدو غبية، أن يتم إغوائي ثم أوبخ على ذلك. ولا أستطيع وقف هذا الشعور. «ثمة شيء عليك أن تتعلميه يا جيسي؛ أن تقدري الآخرين. تقدري حال الآخرين . يبدو الأمر بسيطا لكن يمكن أن يكون صعبا. سيكون الأمر صعبا بالنسبة إليك.»
ربما يشير إلى زوجته، التي لا أقدر حالها. لكنني أفهم هذا الأمر على نحو مختلف. أليس صحيحا أن جميع الأشخاص الذين أعرفهم في العالم حتى الآن لا يعدون أن يكونوا أكثر من مجرد عرائس متحركة بالنسبة إلي، يخدمون خطط خيالي المختلقة؟ هذا صحيح. أصاب كبد الحقيقة، مثلما تحب العمة إنا أن تقول. لكن إصابة كبد الحقيقة في أمر كهذا، في أمر يتعلق بالفشل في العلاقة الحميمة، لن يردع الآخرين ولن يجعلهم ممتنين، ومستعدين للتغيير من أساليبهم. يزداد العناد أكثر فأكثر، حقيقة، حيال الخطأ المدرك على نحو واضح. وهكذا يزداد عنادي. يزداد العناد، يتعامل العناد مع جميع تلك اللحظات المرغوبة من العذوبة، يخمد الأمل في المتعة، البريق العميق للدعوات الخفية. ماذا أريد من شخص يستطيع أن يعرف الكثير عني على هذا النحو؟ في حقيقة الأمر، إذا كنت أستطيع محوه محوا من على وجه البسيطة الآن، فسأفعل.
يشعر بحدوث تغير في. يسحب يده بعيدا وينهض. يطلب مني أن أخرج قبله، أن أعود إلى المنزل. ربما قال كلمتين تحذيريتين، إضافيتين، لكنني لم أكن أستمع. •••
فضلا عن ذلك، قالت ماريبيث إنها لا تصدقني. «كنت أصدقك في البداية. كنت. ثم بدأت أتساءل.»
قلت: «انفصلنا ... انتهى الأمر.»
قالت ماريبيث، بصوت مرتعش، آسفة، هازة رأسها: «لا أصدقك ... لا أصدق أن شيئا كان يجري بينك وبينه على الإطلاق. كان يجب علي أن أخبرك بهذا. لا تغضبي. كان علي أن أخبرك بذلك.»
لم أرد عليها. مضيت في السير مسرعة. كنا في طريقنا إلى المدرسة. كنا قد التقينا كالعادة بالقرب من بنك «دومنيون بانك»، وانتظرت حتى مررنا بثلاثة مربعات سكنية قبل أن تندفع في قول ما كانت تريد قوله. كان عليها أن تسرع من خطاها حتى تلاحقني في السير. قبل أن نلحق ببعض الفتيات الأخريات - قبل أن أنادي أسماءهن مبدية ودا كبيرا وروح دعابة طيبة - نظرت إليها نظرة قاسية؛ نظرة يستحقها خائن، وكنت أظن أنها تستحقها. كانت مخطئة؛ كان قد جرى الكثير بيني وبين السيد كرايدرمان. كانت محقة، أيضا، بالطبع. لكنني كبحت التفكير في ذلك في يسر مذهل. ربما يشعر المرء بنوبة الغضب المبرر نفسها، سواء جرى اتهامه عن حق أو عن غير حق.
دون أن أخطط تماما للأمر، تبنيت سياسة ألا أتحدث إلى ماريبيث. عندما أتت ناحيتي في غرفة وضع المعاطف والقبعات، وقالت في رقة: «ألن نسير إلى المنزل معا يا جيسي؟» لم أجبها. عندما سارت إلى جانبي، تظاهرت أنها لم تكن موجودة. كانت الاختبارات قد بدأت، اختلفت مواعيدنا؛ وكان من السهل تحاشيها.
اكتشفت خطابا، مطويا في كتابي الخاص باللغة الفرنسية. لم أقرأه كله. قالت فيه إنها تتعذب بسببي، إنها لا تستطيع أن تأكل، كانت تبكي في الفراش ليلا، كانت تتملكها نوبات صداع هائلة جراء البكاء حتى إنها كانت لا ترى الأسئلة في أوراق الاختبارات واعتقدت أنها لن تنجح. اعتذرت، وتمنت لو أنها لم تتحدث إلي عن الأمر؛ كيف يمكنها أن تخبرني بأنها آسفة وأنا حتى لم أكن أتحدث إليها؟ كانت متأكدة من شيء واحد؛ أنها لا تملك قلبا قاسيا بحيث تعاملني مثلما كنت أعاملها.
قفزت إلى نهاية الخطاب ووجدت قلبين متشابكين مرسومين من حرفي إكس صغيرين، داخلهما اسمانا. جسي وميريبيث. لم أقرأ المزيد.
كنت أريد أن أتخلص منها. سئمت من شكواها وأسرارها، وجهها الجميل، وطبيعتها الرقيقة. كنت قد تجاوزتها، تجاوزت الحاجة إلى أي شيء كان يمكن أن تقدمه لي. لكن كان في الأمر ما هو أكثر من ذلك. عيناها المنتفختان، نظراتها المعذبة كانت ترضي شيئا ما في داخلي. شعرت بأنني أفضل حالا حين جرحتها. لا شك في ذلك. استرجعت قليلا مما فقدته في الظلة الصيفية للزوجين كرايدرمان. •••
بعد هذا بسنوات قليلة - ليس وقتا طويلا بالنسبة إلي الآن، لكن كان وقتا طويلا آنذاك - كنت أسير في الشارع الرئيسي في تلك البلدة التي كنت أذهب إلى المدرسة الثانوية فيها. كنت طالبة دراسات عليا آنذاك. كنت قد حصلت على منح دراسية ولم أعد أنطق اسم دوستويفسكي بشكل خاطئ . ماتت العمة إنا. جلست وماتت، بعد أن لمعت الأرضية بالشمع مباشرة. تزوجت فلوريس. بدا كما لو أن الصيدلي الذي كان يملك متجرا إلى جانب متجر الأحذية الذي تعمل به، حاول التودد إليها لسنوات، سرا، غير أن العمة إنا اعترضت عليه؛ كان يشرب الخمر (بعبارة أخرى، كان يشرب قليلا)، وكان كاثوليكيا. أنجبت فلوريس صبيين، أحدهما في إثر الآخر مباشرة، ووضعت صبغة بنية مائلة إلى الاحمرار على شعرها، وكانت تشرب الجعة مع زوجها في الأمسيات. كان جورج يعيش معهما. كان يشرب الجعة، أيضا، وكان يساعد في العناية بالطفلين. لم تعد فلوريس حيية أو سريعة الغضب. أرادت أن تصبح صديقتي؛ أعطتني أوشحة عليها زهور، وإكسسوارات ملابس لم أستطع ارتداءها، ومستحضرات للعناية بالبشرة، وأحمر شفاه من الصيدلية وهو ما أسرني. دعتني إلى زيارتها متى أحببت ذلك. في بعض الأحيان كنت أفعل ذلك، ثم سرعان ما كانت الأعمال المنزلية المحمومة، الأعمال الروتينية والمسرات المتمحورة حول الطفلين، تدفعني إلى الخروج للسير.
كنت أسير في الشارع الرئيسي وسمعت صوت طرق على نافذة. كانت نافذة مكتب وكيل التأمين، وكان الشخص الذي يقرع النافذة ماريبيث، التي كانت تعمل هناك. خلال السنة الأخيرة لها في المدرسة الثانوية، كانت قد تلقت دورة تدريبية في الكتابة على الآلة الكاتبة ومسك الحسابات. كانت تعيش مع بياتريس وزوجها، الذي سرعان ما أصبح صاحب محل حلاقة خاص به. لم تحاول أن تصادقني خلال تلك السنة. كنا نعبر الشارع أو ننظر إلى واجهة عرض أحد المتاجر عندما كانت أي منا ترى الأخرى قادمة؛ على الرغم من أن ذلك كان يرجع إلى الشعور بالحرج أكثر من وجود عداوة حقيقية. ثم حصلت على الوظيفة في مكتب وكيل التأمين.
كان الزوجان كرايدرمان قد رحلا قبل ذلك. أغلقا المنزل ورحلا إلى تورونتو قبل ميلاد الطفل. كان صبيا؛ طبيعيا تماما، هذا ما كان الجميع يعرفه. كانت العمة إنا تشعر بالاشمئزاز منهما؛ لأنهما لم يغلقا المنزل كما يجب. قالت إن الفئران ستدخل إليه. لكنهما باعا المنزل. باعا الجريدة. رحلا تماما .
أشارت ماريبيث إلي كي أدخل.
قالت: «مر وقت طويل منذ أن رأيتك.» كما لو كنا قد تفرقنا على أفضل ما يكون. وضعت قابس الغلاية الكهربية، لتصنع لنا قهوة سريعة التحضير. لم يكن وكيل التأمين موجودا.
كانت أكثر بدانة مما كانت من قبل، لكنها كانت لا تزال جميلة، خاصة مع نظرتها التي تشبه فرخ الطير الصغير المجروح. كانت متأنقة في ملابسها كعادتها دوما، كانت تضع سترة زرقاء ناعمة جذابة، مع وجود صوف مزغب عند صدرها الرقيق. كانت تحتفظ بشوكولاتة في درج بالمكتب، وبقطع تارت مربى في علبة. قدمت لي حلوى المرزبان ملفوفة في ورق فويل. سألتني هل كنت لا أزال أدرس وأي دورات كنت أتلقاها. أخبرتها قليلا عن دراساتي وطموحاتي.
قالت دون خبث: «هذا رائع ... كنت أعلم دوما أنك ذكية.» ثم قالت إنها تشعر بالأسف لوفاة عمتي إنا، وكانت تعتقد أن الأمور تسير على ما يرام مع فلوريس. كانت قد سمعت أن صبيي فلوريس كانا لطيفين حقا.
كان لدى بياتريس بنات. كن لطيفات، أيضا، لكنهن كن مدللات.
تحدثت كلتانا عن أنها مصادفة رائعة أنها استطاعت رؤيتي، وتعاهدنا على أن نلتقي في وقت ما في زيارة حقيقية؛ وهو شيء كنت أعرف أنها لم تكن تنويه مثلما لم أكن أنا أيضا. أبدت إعجابها بوشاحي المصنوع من صوف الأنجورا وبالقبعة الاسكتلندية، وسألت عما إذا كنت قد اشتريتهما من المدينة.
قلت نعم، وكانت المشكلة الوحيدة بهما هي أن الخيوط كانت تتساقط منهما بكثرة.
قالت: «ضعيهما في الثلاجة ليلا ... لا أعرف لماذا، لكن هذا يفلح في الحفاظ عليهما.»
فتحت الباب، ودخل هواء شديد من الشارع.
قالت ماريبيث في صوت مليء بالدهشة الحزينة: «أتذكرين كيف كنا مجنونتين؟» كان عليها أن تتحرك في هذا الاتجاه وذاك، كي تمسك بالأوراق.
تذكرت السيد كرايدرمان وجميع أكاذيبي، وحيرتي المضنية في الظلة الصيفية.
قالت ماريبيث، متحركة في سرعة عبر المكتب للإبقاء على الأوراق حتى لا تتناثر: «لن تعود تلك الأيام مرة أخرى.»
ضحكت وقلت نفس الشيء، ثم أغلقت الباب بسرعة. ولوحت من الخارج.
شعرت بتلك التغييرات آنذاك - من سن الخامسة عشرة إلى السابعة عشرة، من السابعة عشرة إلى التاسعة عشرة - حتى إنه لم يخطر ببالي قط كيف كنت، طوال تلك الفترة. رأيت ماريبيث تنغلق على نفسها، على متعها وآلتها الكاتبة، تزداد جمالا وبدانة، ولا يزال الزوجان كرايدرمان كما هما، بعيدا، في مفاوضاتهما الأبدية، ورأيت نفسي أتخلى عن الأحلام، والأكاذيب، والعهود، والأخطاء، دون محاسبة. لم أر أنني كنت لا أزال الشخص نفسه، متحمسة، ناكرة. كنت أظن أنني أستطيع تغيير نفسي كلية، مرة بعد مرة، وأتلمس خطاي متعثرة في العالم دون أن يحاسبني أحد.
إسكيمو
تستطيع ماري جو سماع ما كان سيقوله دكتور ستريتر. «أمم متحدة مصغرة هنا.»
كانت ماري جو، التي تعرف كيف تتعامل معه، ستشير إلى أن أي طائرة بها درجة أولى.
وكان سيقول إنه لم يكن ليدفع مبلغا كبيرا من المال فقط للحصول على ميزة احتساء شمبانيا مجانية. «على أي حال، أنت تعلمين ما يجري في الدرجة الأولى. يابانيون. رجال أعمال يابانيون عائدون إلى بلادهم بعد شراء المزيد من بلادنا.»
ربما كانت ستقول ماري جو حينئذ إن اليابانيين لم يعودوا غرباء بالنسبة إليها. كانت ستقول هذا مطرقة، كما لو كانت تتساءل عن الأمر، وكأنها تتحدث إلى نفسها. «أعني، إنهم لم يعودوا جنسا غريبا بالنسبة لنا.» «حسنا، تبدين غريبة بالنسبة إليهم، ومن الأفضل ألا تنسي ذلك.»
وعندما يعبر دكتور ستريتر عن تلك الملاحظات، كان سيهدأ نفسيا. كان سيستقر إلى جانبها، مسرورا أنهما حصلا على هذه المقاعد الأمامية حيث يوجد مكان يتسع لرجليه. فهو رجل طويل، ضخم البنية، متورد البشرة وذو شعر أبيض، كان سيلفت النظر هنا كثيرا - كعملاق أخرق قليلا، لكنه نبيل - بين الأشخاص أصحاب البشرة الأكثر سمرة، الأجناس ذات الأجساد الأكثر اكتنازا والأدق عظما، في ملابسهم الزاهية أو ذات النقوش البراقة. كان سيستقر في مقعده كما لو كان يملك حقا في الوجود هنا، كما لو كان يملك حقا في الوجود على هذه الأرض؛ وهو حق لا يتساوى معه فيه إلا الرجال الآخرون الذين في نفس عمره وجنسه، الذين لهم نفس طريقة اللبس والتفكير.
لكنه لا يمد رجليه بجانبها، متبرما، مرتاحا. هي راحلة إلى تاهيتي بمفردها. هذه الإجازة هي هديته لها في الكريسماس. تجلس في المقعد المجاور للممر بالطائرة، والمقعد المجاور للنافذة خال. •••
قالت ابنة دكتور ستريتر، ريا، منذ فترة ليست بالطويلة، متحدثة إلى ماري جو عما يبدو أنه موضوعها المفضل؛ أبيها: «يملك عقل ديناصور، هذا كل ما في الأمر.» لديها قائمة بالموضوعات المفضلة، الموضوعات الجادة المفضلة - الانتشار النووي، الأمطار الحمضية، البطالة، فضلا عن التعصب العنصري ووضع المرأة - لكن يبدو أن نظرتها لهذه الموضوعات تكون دائما من خلال أبيها. ليس أبوها بعيدا عن التسبب في كل هذا، في تصور ريا. أبوها هو السبب في القنابل، والتلوث، والفقر، والتمييز. ولا تملك ماري جو إلا أن تقر بأن هناك أشياء يقولها تفضي بالمرء إلى هذا الاستنتاج.
قالت ماري جو: «هذه آراؤه.» تصورت نوعا من الديناصورات؛ الديناصور ذا الصفائح العظمية المتراصة بطول عموده الفقري؛ درع لافت، كقطعة ديكورية. «يجب أن يكون للرجال آراؤهم الخاصة بهم.»
يا له من شيء غبي يمكن أن يقوله أحد، خاصة إلى ريا. ريا بنت تبلغ من العمر خمسة وعشرين عاما، لا تعمل، بدينة، مرحة، جميلة، لديها دراجة بخارية تتنقل بها. عندما قالت ماري جو ذلك، حدقت ريا فيها مدة دقيقة، ثم ابتسمت ابتسامتها البدينة البطيئة. ثم قالت في لين: «لماذا، ماري جو؟ لماذا يجب على الرجال أن تكون لديهم آراء خاصة بهم؟ حتى تطقطق النساء بألسنتهن بينما يدمر الرجال العالم؟»
خلعت خوذة قيادة الدراجة البخارية التي كانت مبللة من المطر، ووضعتها على مكتب ماري جو. كانت تنفض شعرها الأسود، الطويل، المتشابك.
قالت ماري جو في حماسة، متناولة الخوذة وواضعة إياها على الأرض: «لا يدمر أي رجل عالمي.» لم تشعر بأنها واثقة في هذه المحادثة مثلما كانت تبدو. ماذا كانت ريا تريد، حقا، عندما جاءت إلى مكتب أبيها وبدأت في بسط هذه الشكاوى المتنوعة؟ لم تتوقع بالتأكيد أن تتفق ماري جو مع رأيها . لا. كانت تريد أن تدافع ماري جو عن أبيها وتنتظر منها هذا، وذلك حتى تتسلى وتسخر من الأمر (أوه، بالتأكيد، ماري جو، إنك تنظرين إليه كإله!) وتتأكد من صحة اعتقادها في الوقت نفسه. كان من المفترض أن تقوم ماري جو بالمهمة التي كان يجب على أم هذه البنت أن تقوم بها؛ أن تجعلها تفهم أبيها، وتسامحه، وتعجب به، لكن زوجة دكتور ستريتر لم تكن امرأة تغفر أو تعجب بأحد، خاصة زوجها. فهي تعاقر الخمر، وتظن نفسها ذكية جدا. في بعض الأحيان، تهاتف المكتب وتسأل عما إذا كانت تستطيع التحدث إلى «الشافي الأعظم». هي امرأة غير مهندمة، مرتفعة الصوت، كبيرة الحجم، ذات شعر أبيض مهوش، تحب أن تقضي وقتها مع الممثلين - هي عضو مجلس إدارة المسرح المحلي - وأساتذة اللغة الإنجليزية الذين يزعمون أنهم شعراء من الجامعة، التي تسعى للحصول منها على درجة الدكتوراه منذ عدة سنوات.
قالت ماري جو لريا؛ مشيرة إلى مسألة لطالما أشارت إليها من قبل: «رجل مثل والدك، ينقذ حياة الكثيرين كل يوم ... لا يمكن أن يقال عنه إنه يدمر العالم.» لم تكن ماري جو تدافع عن دكتور ستريتر فقط لأنه كان رجلا، وأبا؛ ليس هذا على الإطلاق: لم يكن السبب أنها كانت تعتقد أن زوجته كان يجب أن تزرع بعض الاحترام له في أطفاله. كان سبب دفاعها عنه أنه كان أفضل طبيب قلب في هذا الجزء من البلاد؛ لأنه كان يكرس نفسه يوميا لعلاج الأشخاص ذوي الوجوه الشاحبة في غرفة الانتظار، حالات مرضى القلب، الأشخاص الذين يعيشون في خوف، في ألم. كانت حياته مكرسة تماما لخدمة الآخرين.
على الرغم من ارتدائها الخوذة، تبللت بعض الأجزاء في شعر ريا، وكانت تنفض قطرات الأمطار فوق مكتب ماري جو. «ريا، راقبي شعرك، لو سمحت.» «ما الذي يوجد في عالمك يا ماري جو؟» «ليس لدي وقت لأخبرك.» «أنت مشغولة جدا في مساعدة أبي.»
تعمل ماري جو لدى دكتور ستريتر منذ اثني عشر عاما، وتعيش في الشقة الموجودة في الدور العلوي منذ عشرة أعوام. عندما كانت ريا أصغر سنا - مراهقة صاخبة، زائدة الوزن، عنيدة، لكن محبوبة - كانت معتادة على زيارة ماري جو في الشقة، وكان على ماري جو التأكد من إخفاء أي أثر للأوقات المنتظمة، وإن كانت ليست بالطويلة، التي كان يقضيها دكتور ستريتر هناك. الآن، لا بد أن ريا تعرف كل شيء عن ذلك، لكنها لا تسأل عن ذلك مباشرة. تبدو في كثير من الأحيان كما لو كانت تستقصي عن الأمر، تسأل عنه من طرف خفي. تظل ماري جو شخصا لطيفا وكتوما، غير أن الجهد الذي تبذله في ذلك يتعبها.
قالت ريا، وهي لا تزال تبتسم بطريقتها الخطرة، وشعرها وعيناها تلمع: «جميل أنك ذاهبة إلى تاهيتي ... هل كنت ترغبين دوما في الذهاب إلى هناك؟»
قالت ماري جو: «بالطبع ... ومن لا يرغب في ذلك؟» «إنه مدين لك بهذا. أعتقد أنه حان الوقت كي يرد لك بعض تفانيك في العمل معه.»
مضت ماري جو، دون أن تجيب، تملأ بعض السجلات. بعد فترة، هدأت ريا وبدأت في مناقشة إمكانية الحصول على بعض المال من أبيها لإجراء بعض الإصلاحات في دراجتها البخارية؛ وهو ما أتت من أجله إلى المكتب في المقام الأول. •••
لماذا تعرف ريا دوما كيف تطرح السؤال الصعب، على الرغم من سخريتها، ومحاضراتها، ودعايتها المتوقعة؟ «هل كنت ترغبين دوما في الذهاب إلى هناك؟» تاهيتي، في حقيقة الأمر، مكان لم تفكر ماري جو في الذهاب إليه مطلقا. تعني تاهيتي بالنسبة إليها أشجار النخيل، والزهور الحمراء، والأمواج الفيروزية اللولبية، والترف والكسل الاستوائيين اللذين لم يثيرا اهتمامها قط. يوجد شيء خال من الخيال، وإن كان مؤثرا، في الهدية، مثل تقديم الشوكولاتة في عيد الحب.
إجازة شتوية في تاهيتي! أراهن أنك تشعرين بالإثارة حيال الأمر!
حسنا، أشعر بالإثارة بالتأكيد!
أخبرت المرضى، وأصدقاءها، وأخواتها - الذين تشك أنهم يظنون أنها تعيش حياة رتيبة - كيف تشعر بالإثارة حيال ذلك. فهي لم تستطع النوم الليلة السابقة، إذا كان هذا يدل على شيء. وقبل الساعة السادسة في ذلك الصباح - يبدو مثل وقت طويل مضى - كانت تقف عند نافذة شقتها، مرتدية ملابس جديدة بالكامل، ومنتظرة سيارة الأجرة حتى تصحبها إلى المطار. رحلة قصيرة، وعرة إلى تورونتو، ثم رحلة أطول من تورونتو إلى فانكوفر، ثم ها هي، تطير فوق المحيط الهادئ. نقطة توقف في هونولولو، ثم الانطلاق إلى تاهيتي. لا تستطيع التراجع عن ذلك.
كانت اليونان ستكون أفضل. أو إحدى الدول الاسكندنافية. حسنا، ربما ليس الدول الاسكندنافية في هذا الوقت من العام. ربما أيرلندا. في الصيف الماضي، ذهب دكتور ستريتر وزوجته إلى أيرلندا. «تعمل» زوجته في رسالتها على أحد الشعراء الأيرلنديين. لا تفترض ماري جو لدقيقة واحدة أنهما قضيا وقتا طيبا هناك. من ذا الذي يقضي وقتا طيبا مع امرأة غير مهندمة كهذه، متقلبة المزاج، مثيرة للمتاعب؟ تعتقد أنهما سكرا كثيرا. ذهب لاصطياد السلمون. وأقاما في قصر. إجازاتهما - وإجازاته هو وحده، عادة ما تكون رحلات صيد - مكلفة دوما، وتبدو بالنسبة إلى ماري جو طقسية ومرهقة. منزله، أيضا، وحياته الاجتماعية وحياته العائلية؛ كل هذه الأشياء، مثلما تظن، رسمية كئيبة ومكلفة. •••
عندما بدأت ماري جو العمل لدى دكتور ستريتر، كانت قد حصلت على شهادة التمريض منذ ثلاث سنوات، لكن لم تكن تملك أي مال إضافي؛ لأنها كانت ترد الأموال التي اقترضتها لتكمل تعليمها وتساعد أخواتها في استكمال تعليمهن. جاءت من بلدة صغيرة في مقاطعة هورون. كان والدها يعمل ضمن طاقم الصيانة في البلدة. كانت أمها قد ماتت مما كان يطلق عليه «مرض بالقلب»؛ شيء عرفت ماري جو لاحقا أنه مشكلة في القلب كان دكتور ستريتر يمكن أن يشخصها ويوصي بإجراء عملية لعلاجها.
بمجرد أن حصلت على مال كاف، بدأت ماري جو في الاهتمام بأسنانها. كانت تهتم بها؛ فلم تكن تضع أحمر شفاه قط، وكانت حريصة في طريقة ابتسامها. خلعت النابين العلويين وحشت الأسنان الأمامية. كانت لا تزال لا تحب مظهر أسنانها؛ لذا وضعت دعائم أسنان. كانت تخطط لتفتيح لون شعرها - الذي كان بنيا خالصا - وشراء بعض الملابس الجديدة، وربما الانتقال بعيدا، والحصول على وظيفة مختلفة بمجرد فك الدعائم. بحلول الوقت الذي تم فيه فك الدعائم، تغيرت حياتها دون أي من هذه الخطط.
حدثت بعض التغييرات الأخرى، بمرور الوقت؛ فمن فتاة تبدو عليها علامات الجدية، ممتلئة عند الوسط، ذات أسلوب لبق وصوت رقيق وصدر كبير؛ صارت امرأة نحيفة القوام أنيقة ذات شعر قصير ذي خصلات صفراء - أكثر جمالا الآن من النساء الأخريات في نفس عمرها اللائي كن أكثر جمالا بكثير منها عندما كن صغيرات جميعا - فضلا عن امتلاكها لطريقة محببة لكن حازمة في الحديث. يصعب تحديد أي فرق يمثل أيا من هذا بالنسبة لدكتور ستريتر. كان كثيرا ما يطلب منها ألا تصبح جذابة أكثر مما ينبغي وإلا فسيلمحها أحدهم ويخطفها منه. لم تكن تشعر بالراحة في حديث كهذا، وكانت تجد رسالة غير مشجعة فيه. توقف عن قول أشياء كهذه، وكانت مسرورة. فقط مؤخرا عاد مرة أخرى إلى قول ملاحظات كهذه، مشيرا إلى رحلتها إلى هايتي. لكنها تعتقد أنها تعرف بصورة أفضل الآن كيف تتعامل معه، وتغيظه، قائلة: لا يعرف المرء أبدا، أو تقول: تحدث أشياء أكثر غرابة من هذا.
كان يحبها حين كانت لا تزال ترتدي دعائم الأسنان. كانت تضعها في المرة الأولى التي ضاجعها فيها. أدارت رأسها جانبا، ظانة أن فما مليئا بالأشياء المعدنية ربما لن يكون شيئا سارا. أغلق عينيه، وكانت تتساءل عما إذا كان ذلك يرجع إلى هذا السبب. لاحقا، عرفت أنه كان دوما يغلق عينيه. لا يريد أن يتذكر نفسه في هذه الأوقات، وربما لا يريد أن يتذكرها، أيضا. كان تلذذه نهما ولكن منفردا. •••
يوجد على الجانب الآخر من ممر الطائرة إلى جانب ماري جو مقعدان خاليان، ثم عائلة شابة؛ أم وأب ورضيع وفتاة صغيرة تبلغ حوالي عامين. إيطاليان، أو يونانيان، أو إسبانيان، هكذا تظن ماري جو، ثم سرعان ما تكتشف من خلال حديثهما مع المضيفة أنهما يونانيان، لكنهما يعيشان حاليا في بيرث، أستراليا. كان صف المقاعد الذي يجلسون فيه - والذي كان تحت شاشة عرض الأفلام - المكان الوحيد على متن الطائرة الذي كان يوفر مكانا لأشيائهما وجميع أنشطتهما العائلية؛ حقائب عازلة، وأطباق طعام بلاستيكية، ووسائد أطفال، والسرير القابل للطي الذي يتحول إلى مقعد، وزجاجات لبن، وزجاجات عصير، ودمية باندا كبيرة من أجل إسكات الفتاة الصغيرة. الأبوان منشغلان بصورة مستمرة بالطفلين؛ يلبسانهما بيجامتين بلون فاتح، يطعمانهما، يهدهدانهما، ينشدان الأغاني لهما. نعم، يخبران المضيفة المعجبة بالطفلين أنهما متقاربان جدا في العمر، لا يفصل بينهما سوى أربعة عشر شهرا. الرضيع صبي. لديه مشكلة بسيطة في التسنين. تنتاب الفتاة نوبات غيرة من حين إلى آخر. كلا الطفلين يحبان الموز حبا جما. هي تحب الموز كاملا، وهو يحبه مهروسا. أخرج فوطة الطعام الخاصة به، يا عزيزي، من الحقيبة الزرقاء. المنشفة، أيضا، يسيل لعابه قليلا. لا، المنشفة ليست هنا، في الحقيبة البلاستيكية. هيا أسرع. ها هي. أسرع. حسنا.
تشعر ماري جو بالدهشة حيال المشاعر العدائية التي تشعر بها إزاء هذه العائلة المسالمة. لماذا يكدسان فمه بالطعام هكذا؟ تشعر كما لو كانت تريد أن تقول ذلك (إذ إنهما خلطا بعض الحبوب في طبق أزرق). يعتبر الطعام الصلب لا فائدة منه في هذا العمر؛ إذ يجعل الأبوين يزيحان المزيد من الطعام عند طرفي الفم. يا لها من جلبة لا داعي لها! يا له من تكديس للأمور وتباه ورضاء، فقط لأنهما نجحا في الإنجاب! أيضا، هما يعطلان المضيفة عندما يكون من المفترض أنها تقدم المشروبات للركاب.
يوجد في الصف خلفهما عائلة أخرى شابة، هندية. ترتدي الأم ساريا أحمر مطرزا بتطريزات ذهبية، ويرتدي الأب بذلة ضيقة كريمية اللون. أم نحيفة، صامتة، ترتدي مجوهرات ذهبية كثيرة؛ وأب بدين، يبدو كسولا، يستمع إلى قناة أغاني الروك في السماعات التي يضعها على أذنيه. يمكن أن يعرف المرء أن قناة الأغاني التي يستمع إليها قناة أغاني الروك من خلال حركة أصابعه على بنطاله الكريمي اللون المفرود على فخذيه الممتلئتين. يجلس بين هذين الأبوين فتاتان صغيرتان، ترتديان ملابس حمراء بالكامل، وأساور وأقراطا ذهبية، وحذاءين لامعين من الجلد، وأخ أصغر، ربما في عمر الفتاة اليونانية التي في الأمام، يرتدي بذلة، صورة مصغرة من بذلة أبيه؛ نفس الصديري، ولسان البنطال، والجيوب، وما إلى ذلك. تقدم المضيفة أقلام تلوين وكتب تلوين، لكن الفتاتين اللتين تتلألآن بالذهب الذي ترتديانه، تضحكان وتخبئان وجهيهما. تحضر لهما كوبين من أحد المشروبات الغازية بنكهة الزنجبيل. يهز الأخ الصغير رأسه عند رؤية هذا. ويتسلق إلى حجر أمه، فتخرج من الساري ثديا حلمته داكنة، جاهزا للإرضاع. يستقر هناك، يهدأ ويرضع وعيناه مفتوحتان، ينظر نظرة سعيدة ومسيطرة في آن واحد.
طريقة سير الأمور لا تناسب ماري جو على الإطلاق. ليست معتادة على الشعور بهذا النفور؛ تعرف أن هذا ليس معقولا. لا تشعر بشعور كهذا في المكتب على الإطلاق. مهما كانت الصعوبات التي تحدث في المكتب، أو مهما كانت تشعر بالتعب، تتعامل بسهولة مع أي نوع من السلوك الغريب أو الفظ، مع العادات البغيضة، الروائح الكريهة، الأسئلة غير المعقولة. ثمة شيء ليس على ما يرام بها. لم تنم. تشعر بوجود التهاب بسيط في حلقها وبثقل في رأسها. يوجد صوت طنين في رأسها. ربما هي في طريقها للإصابة بالحمى. لكن على الأرجح يعلن جسدها رفضه انتقاله سريعا أكثر مما ينبغي، مع ازدياد المسافة أكثر فأكثر، من مكان تعلقه وراحته المعتاد عليه. ذلك الصباح، استطاعت رؤية جانب من متنزه فيكتوريا عبر نافذتها، الثلج تحت مصابيح الإضاءة في الشارع والأشجار الخالية من الأوراق. الشقة والمكتب موجودان في منزل جميل من الطوب القديم الذي يملكه دكتور ستريتر، وهو واقع في صف من المنازل المشابهة المكرسة لأغراض مشابهة. نظرت ماري جو إلى الشوارع المغطاة بالثلج الذائب، ثلوج فبراير القذرة، والجدران الرمادية لهذه المنازل، ومبنى تجاري مرتفع، وأنواره الليلية المضاءة، حتى إنها تستطيع رؤية ما وراء المتنزه. لم ترغب في شيء أكثر من البقاء. كانت ترغب في عدم الذهاب في السيارة الأجرة، وفي تغيير بذلتها الجديدة المصنوعة من الجلد الصناعي لترتدي زي العمل، وفي أن تنزل إلى أسفل وتعد بعض القهوة وتسقي النباتات، وتستعد ليوم طويل آخر من المشكلات والروتين، الخوف والطمأنينة، والخوف من أن تحصر نفسها - لبعض الوقت - في الحديث عن الطقس الكئيب. تحب المكتب، غرفة الانتظار، الأنوار المضاءة في أوقات ما بعد الظهيرة شديدة البرودة الآخذة في الإظلام؛ تحب التحدي والرتابة. في نهاية اليوم، يصعد دكتور ستريتر في بعض الأحيان معها إلى أعلى؛ تعد العشاء، ويمكث جانبا من المساء. زوجته تخرج لعقد مقابلات، حضور محاضرات، الاشتراك في جلسات لقراءة الشعر؛ تخرج لتشرب وتعود إلى المنزل لتخلد إلى النوم مباشرة.
عندما تستدير المضيفة لتسألها عما تريد، تطلب ماري جو فودكا مارتيني. تختار فودكا دوما، آملة في ألا يمكن لأحد شم رائحتها. لأسباب واضحة؛ لا يحب دكتور ستريتر أن تفوح من النساء رائحة مشروبات كحولية.
ها قد أتى زوجان جديدان عبر الممر، غيرا مقعديهما، فيما يبدو، وهو ما تسبب في مشكلة مع عربة المشروبات. تأتي مضيفة أخرى تتجادل خلفهما. تحمل المضيفة والمرأة الجديدة حقائب تسوق، وحقيبة سفر، ومظلة. يسير الرجل أمامهما ولا يحمل أي شيء. يجلسان في المقعدين على الجانب الآخر من الممر مباشرة، إلى جانب الأسرة اليونانية. يحاولان دس متعلقاتهما تحت المقعد، لكنهما لا يفلحان.
تقول المضيفة إن ثمة مكانا واسعا في الخزائن العلوية.
لا. زمجرات منخفضة الصوت من الرجل، اعتذارات في صورة همهمات من المرأة. يفهمان المضيفة أنهما يرغبان في مراقبة جميع متعلقاتهما. وبعد أن تتحرك عربة المشروبات، يمكن أن يجدا مكانا يمكن وضع الأشياء فيه؛ أمام ماري جو، وخلف المقعد الصغير القابل للطي الذي تجلس عليه المضيفات عند إقلاع الطائرة وهبوطها.
تقول المضيفة إنها تأمل في ألا يزعج ذلك ماري جو. يشير صوتها الصافي إلى وقوع قدر من الصعوبة في التعامل مع هذين الراكبين. ترد ماري جو أنها غير منزعجة، وأن الأمر سيكون على ما يرام. يجلس الزوجان، الرجل في المقعد المجاور للممر. يطلق زمجرة أخرى، آمرة لكن ليست فظة، وتأتي المضيفة بكأسي ويسكي. يرفع كأسه قليلا، في اتجاه ماري جو. إشارة رقيقة ربما كانت تعني شكرا. ليس هذا اعتذارا بالتأكيد.
هو رجل بدين، ربما أكبر في السن من دكتور ستريتر ، لكنه خفيف الظل أكثر. رجل قليل الحذر، لا يمكن التنبؤ بتصرفاته، ذو شعر رمادي طويل نسبيا، ويرتدي ملابس جديدة، غالية الثمن. يرتدي صندلا فوق جوربين بنيين، وبنطالا بلون الصدأ، وقميصا أزرق زاهيا، وسترة جلدية ذهبية أنيقة ذات ألسنة، وطيات، وجيوب صغيرة كثيرة. لون بشرته بني، وعيناه ضيقتان قليلا. ليس يابانيا أو صينيا؛ من هو إذن؟ يراود ماري جو شعور بأنها رأته من قبل. ليس كمريض، لم تره في المكتب. لكن أين؟
تنظر المرأة من وراء كتفه، مبتسمة ابتسامة مزمومة الشفاه، مما يغضن وجهها العريض على نحو سار. عيناها أكثر ضيقا من عينيه، ولون بشرتها أكثر شحوبا. شعرها الأسود مفروق في المنتصف، ومعقوص باستخدام رباط مرن في صورة ذيل حصان طفولي. ملابسها رخيصة، ومهندمة، وربما جديدة - بنطال فضفاض بني، وبلوزة عليها زهور - لكنها لا تجاري ملابسه. عندما جاءت عبر الممر حاملة حقائب التسوق، كانت تبدو في منتصف العمر، ممتلئة عند الوسط، وكتفاها محنيتان. أما الآن، وهي تبتسم إلى ماري جو خلف الكتف الضخمة للرجل، فتبدو صغيرة جدا. ثمة شيء غريب بشأن الابتسامة نفسها. تتضح طبيعة الابتسامة عندما تفتح فمها وتقول شيئا للرجل. لا توجد أسنان أمامية عندها، في الجانب العلوي كله. هذا هو ما يمنح الابتسامة هذا المظهر المتحفظ والبريء في آن واحد؛ نظرة فرح ماكر، دائم مثلما تبتسم امرأة عجوز، أو طفل رضيع.
تعتقد ماري جو الآن أنها عرفت أين رأت هذا الرجل من قبل. قبل أسابيع قليلة، كانت تشاهد برنامجا تليفزيونيا حول قبيلة كانت تعيش في أحد الوديان المرتفعة في أفغانستان، قرب حدود التبت. كان قد جرى تصوير الفيلم قبل سنوات قليلة، قبل أن يأتي الروس. كان أفراد القبيلة يعيشون في منازل مصنوعة من الجلد، وكانت ثروتهم تتمثل في قطعان من الأغنام، والماعز، والخيول الأصيلة. بدا أن أحد الرجال احتكر معظم هذه الثروة، وصار حاكم القبيلة، لا من خلال الحق الوراثي لكن من خلال قوة الشخصية وسطوة المال. كان يسمى «الخان». كانت لديه بسط جميلة في منزله المصنوع من الجلد، وراديو ، وعدة زوجات وجوار.
هذا هو ما يذكرها الرجل به؛ الخان. أوليس من الممكن، أليس من الممكن حقيقة، أن يكون هو ذلك الرجل؟ ربما رحل عن بلاده، تركها قبل أن يأتي الروس، مصطحبا معه بسطه ونساءه وربما كمية من الذهب، وإن لم يحمل معه على الأرجح معزاته، وأغنامه، وجياده. إذا كان المرء يسافر عبر العالم على متن طائرات شركات طيران كبيرة، أفلا يمكن أن يرى المرء شخصا، عاجلا أو آجلا، رآه في التليفزيون؟ ربما يكون حاكم أحد البلاد القصية، مثلما قد يكون مقدم أحد البرامج، أو سياسيا، أو معالجا روحيا. في أيام التحولات الهائلة هذه، ربما يكون شخصا جرى تصويره باعتباره شيئا مثيرا للاهتمام، بل تحفة قديمة، في دولة منعزلة، ثم جرى إطلاق سراحه مثل الجميع.
لا بد أن المرأة إحدى زوجاته، الزوجة الصغرى، ربما المحظية، حتى يجري اصطحابها في رحلة كهذه. كان قد اصطحبها إلى كندا أو الولايات المتحدة، حيث ألحق أبناءه بمدارس هناك. كان قد اصطحبها إلى طبيب أسنان حتى يصنع لها طقم أسنان صناعية. ربما تضع طقم الأسنان الصناعية في حقيبة يدها، لا تزال غير معتادة عليه، لا تضعه طوال الوقت.
تشعر ماري جو بابتهاج بسبب ما صنعه خيالها، وربما أيضا بسبب الفودكا. في رأسها، تبدأ في كتابة خطاب تصف فيه هذين الشخصين، وتذكر البرنامج التليفزيوني. بالطبع الخطاب موجه إلى دكتور ستريتر، الذي كان يجلس على المقعد إلى جانبها - لكنه كان قد خلد إلى النوم - بينما كانت هي تشاهد ذلك. تذكر أسنان المرأة وتشير إلى إمكانية أن تكون قد أزيلت عن عمد، للتوافق مع فكرة غريبة ما تتعلق بتحسين مظهر المرأة. «إذا طلب مني أن أنضم إلى حريمه، أعد أنني لن أوافق على أي من هذه الإجراءات العجيبة!»
يجري خفض شاشة عرض الأفلام. تطفئ ماري جو النور فوقها مذعنة. تفكر في طلب شراب آخر لكنها تقرر ألا تفعل. المشروبات الكحولية تكون أكثر تأثيرا في ظل هذا الارتفاع. تحاول أن تشاهد الفيلم، لكن ترى الصور ممدودة جدا من هذه الزاوية. يبدو الفيلم كئيبا وسخيفا. هناك جريمة قتل في أول دقيقتين في الفيلم؛ فتاة ذات شعر فضي رائع تجري مطاردتها عبر ممرات خالية وفيما يبدو يطلق عليها النار، بعد مقدمة الفيلم مباشرة. تفقد ماري جو في الحال الرغبة في مشاهدة الفيلم، وبعد فترة تنزع سماعاتها. عندما تفعل ذلك، تعي وجود مشادة ما عبر الممر.
تبدو المرأة، الفتاة، كما لو كانت تحاول النهوض. يدفعها الرجل إلى أسفل. يتذمر منها. تجيب في صوت يتراوح بين الشكوى والطمأنة ثم يعود مرة أخرى إلى الشكوى. يبدو كما لو كان يفقد الاهتمام بالأمر، يميل رأسه إلى الخلف لمشاهدة الشخصيات على الشاشة. تشق الفتاة طريقها من مقعدها وتتعثر فوقه. يزمجر في صوت مسموع الآن، ويمسك رجلها. لدهشة ماري جو، تتحدث الفتاة إليه بالإنجليزية.
تقول في عناد: «لست ... لست ثملة.» تقول هذا بنبرة حماسية، قانطة يستخدمها الثملون عادة عندما يجادلون أنهم ليسوا كذلك.
يدعها الرجل وهو يزمجر تعبيرا عن الاشمئزاز.
تقول، وثمة دموع الآن في صوتها وعينيها: «لا تصدر لي الأوامر هكذا ... أنت لست أبي.» بدلا من السير على الممر إلى الحمام - إذا كان هذا ما كانت تفكر فيه - تظل واقفة في متناول يده، تنظر في أسى إليه. يحاول مرة أخرى الإمساك بها دون أن يقصد ذلك فعلا، حركة سريعة، وحشية، كما لو كان هذه المرة، المرة التالية، ينوي حقا أن يؤذيها. تتعثر جانبا. يتحول بانتباهه مرة أخرى إلى الشاشة.
لا تزال الفتاة لا تتحرك في الممر. تميل ناحية ماري جو.
تقول: «عذرا.» تبتسم بعينين ممتلئتين بالدموع. يتغضن وجهها الحائر، المهان من خلال هذه الابتسامة الواسعة، مزمومة الشفاه، ابتسامة الاعتذار أو التآمر. «عذرا».
تقول ماري جو، معتقدة أن الفتاة تعتذر عن الشجار: «لا بأس.» ثم تدرك أن «عذرا» تعني «هل يمكن أن أمر؟» تريد الفتاة أن تمر من فوق رجلي ماري جو، الممددة في استرخاء، والمتقاطعتين عند الكاحلين. تريد أن تجلس في المقعد المجاور للنافذة.
تفسح لها ماري جو الطريق. تجلس الفتاة، تمسح عينيها بحركة مستقيمة من سبابتها، وتتنفس بصوت عال وبشكل بدا وكأنه جاد وحاسم. ماذا الآن؟
تقول الفتاة: «لا تخبري أحدا ... لا تخبري أحدا.»
تضع يدها العريضة على ركبة ماري جو، ثم تسحبها.
تقول ماري جو: «لن أفعل.» لكن من ستخبره عن هذا الشجار الصغير غير محدد المعالم ولماذا؟ «لا تخبري أحدا. أنا من الإسكيمو.»
بالطبع كانت ماري جو تعرف منذ أن سارت الفتاة في الممر وفتحت فمها أن كل أفكارها حيال الخان والزوجة المحظية هراء. تومئ برأسها، لكن كلمة «إسكيمو» تزعجها أكثر من الحقيقة نفسها. ليست هذه هي الكلمة المستخدمة الآن، أليس كذلك؟ «الإنويت». هذه هي الكلمة التي يستخدمونها الآن. «هو من الميتي. أنا من الإسكيمو.»
حسنا، إذن. ميتي وإسكيمو. رفقاء كنديون. انقلبت المزحة علي، تحدث ماري جو نفسها. في ذهنها، عليها أن تكتب خطابا مختلفا. «لا تخبري أحدا.»
تتصرف الفتاة كما لو كانت تعترف بشيء ما؛ سر مخز، خطأ قاتل. هي خائفة لكنها تحاول أن تبدو متماسكة. تقول مرة أخرى: «لا تخبري أحدا»، ثم تضع أصابعها لثوان معدودة على فم ماري جو. تستطيع ماري جو أن تشعر بحرارة بشرتها والارتعاشة التي تسري في أصابع الفتاة وجسدها بالكامل. تشبه حيوانا في حالة ذعر لا توصف.
تقول ماري جو مرة أخرى: «لا. لا، لن أفعل.» أفضل الأشياء التي تفعلها، هكذا تحدث نفسها، هو أن تتظاهر بأنها تفهم كل شيء ينطوي عليه هذا الرجاء.
تقول في نبرة حديث ودية: «هل ستذهبين إلى تاهيتي؟» تعلم كيف أن سؤالا عاديا في لحظة كهذه يمكن أن يجعل أي شخص يتخطى الرعب الذي يتملكه.
تتسع ابتسامة الفتاة كما لو كانت تقدر الغرض من السؤال، ومدى طيبته، على الرغم من أنه في حالتها غير كاف. تقول الفتاة: «إنه ذاهب إلى هاواي ... وأنا أيضا.»
تلقي ماري جو بنظرة عبر الممر. رأس الرجل يتدلى. ربما هو طريقه للحصول على غفوة. حتى عندما تستدير، تستطيع أن تستشعر حرارة الفتاة وارتعاشتها.
تقول ماري جو: «كم تبلغين من العمر؟» لا تعرف ماري جو حقيقة لماذا تسأل هذا السؤال.
تهز الفتاة رأسها، كما لو كان عمرها أمرا عبثيا وباعثا على الأسى. «أنا من الإسكيمو.»
ما علاقة هذا بالأمر؟ تقولها كما لو كانت شفرة ما، ستفهمها ماري جو في نهاية المطاف.
تقول ماري جو بثقة أكبر: «نعم. لكن كم يبلغ عمرك؟ ... عشرين عاما؟ أكثر من عشرين عاما؟ ثمانية عشر؟»
المزيد من هز الرأس والإحراج، والمزيد من الابتسام. «لا تخبري أحدا.» «كم يبلغ عمرك؟» «أنا من الإسكيمو. أنا في السادسة عشرة.»
تنظر ماري جو عبر الممر مرة أخرى للتأكد من أن الرجل لا يسمع. يبدو نائما. «ستة عشر؟»
تهز الفتاة رأسها في قوة، تكاد تضحك. ولا تتوقف عن الارتعاش. «هل أنت كذلك؟ لا؟ نعم؟ نعم.»
مرة أخرى، مرت تلك الأصابع السميكة مثل الريش فوق فم ماري جو. «هل تريدين أن تذهبي إلى هاواي معه؟ هل كل شيء على ما يرام؟» «سيذهب إلى هاواي. وأنا أيضا.»
قالت ماري جو، متحدثة في هدوء وحرص: «اسمعي ... سأنهض وأسير إلى مؤخرة الطائرة. سأذهب حيث توجد الحمامات. دورات المياه. سأنتظرك في الخلف هناك. بعد برهة، انهضي وتعالي إلى الخلف. اذهبي إلى مؤخرة الطائرة حيث توجد دورات المياه وسنتحدث هناك. من الأفضل أن نتحدث هناك. حسنا؟ هل تفهمينني؟ حسنا.»
تنهض في غير عجلة، تتناول سترتها، التي كانت قد انزلقت إلى أسفل على المقعد، تهندمها. يحرك الرجل رأسه على الوسادة، يلقي عليها نظرة باردة، مكفهرة، نظرة كلب نصف نائم. تختفي عيناه تحت جفنيه ويتحول رأسه بعيدا. «حسنا؟» تتفوه ماري جو بالكلمات باتجاه الفتاة دون أن تصدر أي صوت.
تضغط الفتاة بأصابعها على فمها، على ابتسامتها.
تسير ماري جو إلى مؤخرة الطائرة. في وقت سابق، خلعت حذاءها الطويل العنق وانتعلت خفا. تسير الآن في راحة، لكنها تفتقد شعور التمكين والثبات الذي يمنحه الحذاء الطويل العنق.
عليها أن تقف في الصف أمام الحمامات؛ إذ ليس ثمة مكان آخر تقف فيه. يمتد الصف إلى المساحة الصغيرة إلى جانب النافذة حيث كانت تعتزم أن تنتظر. تظل تنظر حولها ، منتظرة الفتاة أن تأتي خلفها. لم تأت بعد. ينضم أشخاص آخرون، أكثر طولا إلى الصف، وكان عليها أن تظل تتطلع حولها، تريد أن تتأكد أن الفتاة تستطيع أن ترى مكانها. عليها أن تتحرك إلى الأمام في الصف، وعندما يحل دورها لا تملك خيارا إلا الدخول. حان وقت دخولها الحمام على أي حال.
تخرج بأسرع ما تستطيع. الفتاة ليست موجودة بعد. ليست في الصف. لا تتجول في منطقة المطبخ أو تجلس في أي من المقاعد الخلفية. الصف أقصر طولا الآن، وهناك مساحة بحيث يمكن أن تقف ماري جو فيها إلى جانب النافذة. تنتظر هناك، ترتعش، متمنية لو أنها كانت قد جلبت سترتها.
في الحمام، لم تستغرق وقتا طويلا في وضع أحمر شفاه. تفعل هذا الآن، ناظرة إلى انعكاس صورتها على النافذة المظلمة. هب أنها قررت التحدث إلى شخص ما عن الفتاة؛ ماذا سيظنون بها؟ كانت تستطيع أن تتحدث إلى شخص ما الآن؛ تلك المضيفة الأكبر عمرا، ذات المظهر الكئيب، وظلال الجفون النحاسية اللون، التي تبدو أنها المسئولة، أو المضيف، الذي يبدو شارد الذهن لكنه ودود على نحو أكبر. كانت تستطيع أن تخبرهما بما قالته الفتاة، وعن ارتعاشها. كانت تستطيع أن تعلن عن شكوكها. لكن إلام يفضي هذا؟ لم تقل الفتاة شيئا حقيقة يمكن بناء أي شكوك حقيقية عليه. هي من الإسكيمو، تبلغ ستة عشر عاما، ستذهب إلى هاواي مع رجل أكبر منها بكثير وهو ليس أباها. هل سن الستة عشر تعني أنها ما زالت قاصرة؟ هل اصطحاب فتاة إلى هاواي جريمة؟ ربما تكون أكبر من ستة عشر عاما على أي حال؛ تبدو كذلك. ربما تكون ثملة وكاذبة. ربما تكون زوجته، على الرغم من أنها لا ترتدي خاتم زواج. ربما يكون أحد أقاربها. إذا قالت ماري جو أي شيء الآن، فسيجري النظر إليها باعتبارها امرأة متطفلة، تناولت كأسا من الخمر وربما تناولت ما هو أكثر. ربما يجري النظر إليها باعتبارها شخصا يحاول أن يسيطر على الفتاة لتحقيق أغراض شخصية لها.
على الفتاة نفسها أن تقول المزيد إذا كان يجب اتخاذ إجراء ما.
لا يمكن تقديم المساعدة لأحد إذا لم يطلبها.
يجب على المرء أن يقول ما يريد.
يجب أن يقول.
تسير ماري جو في بطء إلى مقعدها، ناظرة في طريقها ما إذا كانت الفتاة قد تحركت من مكانها، إذا كانت تجلس في مكان آخر. تبحث عن الرأس الخانع الكبير ذي ذيل الحصان الأسود.
غير موجودة في أي مكان.
لكنها عندما تقترب من مقعدها ترى أن الفتاة انتقلت من مكانها. كانت قد انتقلت إلى حيث كانت تجلس من قبل إلى جانب الرجل. قدم إليهما كأسا ويسكي أخريين.
ربما أمسك بها عندما نهضت، وأجبرها على الجلوس بجانبه. كان يجب على ماري جو التأكد من أن الفتاة قد سبقتها إلى الحمام. لكن هل كان باستطاعتها إقناعها، إفهامها؟ هل كانت الفتاة تفهم حقيقة أنها تعرض عليها المساعدة؟
تقف ماري جو في الممر وهي ترتدي سترتها. تنظر إلى الزوجين، لكنهما لا ينظران إليها. تجلس وتضيء زر ضوء القراءة فوقها، ثم تغلقه. لم يعد أحد يشاهد الفيلم. يبكي الطفل اليوناني، ويسير الأب حاملا إياه في الممر جيئة وذهابا. انقلبت الفتاتان الهنديتان الصغيرتان إحداهما فوق الأخرى، وأخوهما نائم في حجر أمه الصغير.
كان دكتور ستريتر سيضع الأمور في نصابها أمام ماري جو حيال هذا. تعتبر بعض أشكال الاهتمام - وهو ما جعلها تقر به - نوعا من الرعونة والإفراط. في ظل النوايا الطيبة المفرطة، يميل الناس إلى الإضرار بالآخرين أكثر من نفعهم. وربما كان هذا هو ما تفعله في هذه الحالة.
نعم. كان يستطيع دوما معرفة ما في داخل الناس، ما في داخل صدورهم. إذا كان لدى هذه الفتاة قلب مريض، حتى لو كانت أكبر بعشرين عاما، بأربعين عاما، مما هي عليه حقيقة، حتى لو كانت حياتها مضطربة، ولا فائدة منها على الإطلاق، وكان عقلها معطوبا جراء الشراب؛ حتى حينئذ كان سيضع نفسه في خدمتها بالكامل. لا يوقفه شيء، كان يبذل قصارى جهده في حالات إنقاذ أو محاولات إنقاذ كهذه؛ إذا كانت المشكلة في القلب الفعلي، القلب المثقل، الذي تتدفق الدماء عبره، الذي يضخ الدماء، الذي يوجد داخل الصدر.
يوجد حزن كامن في صوت دكتور ستريتر، ليس في صوته فقط؛ فنفسه حزين، حزن لا شفاء منه، هادئ، رقيق هو ما يزفره عبر الهاتف قبل أن يسمع المرء حتى صوته. كان سيشعر بالاستياء إذا أخبره المرء بذلك. ليس لأنه يرغب بصورة خاصة في أن يجري النظر إليه باعتباره مبتهجا. لكنه كان سيعتقد أن من غير الضروري، ومن سوء الأدب، بالنسبة إلى أي شخص أن يفترض أنه حزين.
يبدو أن سبب هذا الحزن هو الرضوخ. تستطيع ماري جو إدراك ذلك، ولكن لا تفهمه على الإطلاق. تعتقد أن الرجال لديهم إحساس بالرضوخ لا تستطيع النساء فهمه. (ماذا كانت ستقول ريا عن ذلك؟) ليس سبب هذا هو الأشياء التي يعرفها - كانت تستطيع ماري جو فهم ذلك - بل الأشياء التي يجب عليه تقبلها والتي تصنع فارقا. يحيرها، ويخضعها. تحب هذا الرجل حبا محيرا، حذرا، دائما.
عندما تتصوره، تراه دوما يرتدي البذلة البنية ذات القطع الثلاث، بذلة قديمة الطراز تجعله يشبه طبيبا في فترة طفولته الفقيرة، الريفية. لديه ملابس غير رسمية رائعة، وكانت قد رأته فيها، لكنها تعتقد أنه لا يشعر بالراحة فيها. لا يشعر بالراحة في كونه ثريا، هكذا تعتقد، على الرغم من أنه يشعر بأنه يجب أن يكون كذلك، مثلما يشعر بالكراهية تجاه أي حكومة تمنعه من أن يكون كذلك. رضوخ وتسليم وحزن تام.
لن يصدقها إذا أخبرته بذلك. لن يصدقها أحد.
ترتجف، حتى مع ارتداء سترتها. يبدو كما لو أنها أصيبت بشيء من حالة الاهتياج المستمرة والغريبة التي لدى الفتاة. ربما هي مريضة حقا، لديها حمى. تدير وجهها نحوهما، محاولة تمالك نفسها. تغمض عينيها لكنها لا تستطيع الاحتفاظ بهما مغلقتين. لا تستطيع منع نفسها من مراقبة ما يجري عبر الممر.
ما يجري شيء يجب أن تتحلى بالكياسة والأدب حتى تدير رأسها بعيدا عنه. لكنها لا تتحلى بأي من ذلك، ولا تفعل ذلك.
كأسا الويسكي خاليتان. كانت الفتاة قد مالت إلى الأمام وتقبل وجه الرجل. رأسه مستقرة على الوسادة ولا يتحرك. تميل فوقه، وعيناها مغمضتان، أو تكاد تكون مغمضتين، وجهها عريض، وشاحب، ولا يعبر عن أي شيء، وجه قمر حقيقي. تقبل شفتيه، خديه، جفنيه، جبهته. يستسلم لها؛ يدعها تقوم بذلك. تقبله وتلعقه. تلعق أنفه، الذقن الخفيفة النابتة في خديه، ورقبته، وذقنه. تلعق كل جزء من وجهه، ثم تلتقط أنفاسها، وتواصل التقبيل.
يجري هذا في غير عجلة، في غير نهم. ولا يجري الأمر بصورة آلية أيضا. لا يوجد أي أثر من آثار الإجبار. الفتاة متحمسة؛ تمر بنشوة هيام. هيام حقيقي. لا يوجد شيء غاية في الجرأة مثل الغفران أو السلوى. طقس يستحوذ على كل ذرة في تركيزها ونفسها، لكنه طقس تفقد نفسها فيه. كان يمكن أن يستمر الأمر إلى الأبد.
حتى عندما تنفتح عينا الفتاة، وتنظر مباشرة عبر الممر، مرتسما على وجهها تعبير غير ذاهل وغير غائب عن الوعي، بل تعبير مباشر وصادم؛ حتى حينها، لا تملك ماري جو إلا الاستمرار في النظر إليهما. فقط بعد جهد كبير، وبعد وقت طويل للغاية، تستطيع أن تبعد عينيها عنهما.
لو أن أحدا سألها عما كانت تشعر وهي تشاهد هذا، لكانت ماري جو ستقول إنها كانت تشعر بالغثيان. وكانت ستعني ما تقول. ليس هذا الشعور بالغثيان الذي يظهر مع بدايات الإصابة بالحمى أو أيا كان والذي يجعلها تشعر بالكآبة والارتعاش، لكن كانت تشعر بالغثيان بسبب النفور، كما لو كانت تشعر بالحركات البطيئة للسان الدافئ، السميك فوق وجهها. ثم، عندما تبعد ناظريها، ينطلق شيء آخر؛ ألا وهو الرغبة، بشكل مفاجئ وقاس مثل اندفاع الأتربة بسرعة شديدة على منحدر جبلي.
في الوقت نفسه، تستمع إلى صوت دكتور ستريتر، الذي يقول في وضوح: «تعرفين، ربما تكسرت أسنان هذه الفتاة بسبب لكمة شديدة. ربما في مشاجرة.»
هذا هو صوت الدكتور ستريتر المألوف، العقلاني، مطالبا بتمييز بعض الحقائق، وبعض الأحوال. لكنها أضافت بعدا جديدا إلى صوته؛ رضى ماكرا وطبيعيا. فهو ليس حزينا فقط، ليس راضخا فقط ؛ بل راض عن أن تكون بعض الأشياء على النحو الذي هي عليه. يقابل الرضى البادي في صوته الشعور بالقلقلة في جسدها. تشعر بالخزي وبالنفور الجسدي، حرارة تبدو كما لو كانت تنتشر من معدتها. ينتهي هذا، موجة هذا الأمر تنتهي، لكن يبقى النفور. النفور، الاشمئزاز، الكراهية التي تخرج من المرء يمكن أن تكون أسوأ من الألم. سيكون هذا وضعا أسوأ للعيش فيه. بمجرد التفكير في هذا، ووضع اسم لما تشعر به، باتت تشعر بثبات أكثر قليلا. لا بد أن السبب هو غرابة الوجود في رحلة طيران، والشراب، والحيرة التي سببتها لها هذه الفتاة، وربما فيروس ما، هذا الذي تتصارع معه. يمثل صوت دكتور ستريتر ما هو أكثر من الوهم الحقيقي، لكنه ليس وهما بالنسبة لها؛ تعرف أنها اختلقته بنفسها. اختلقت ما كانت تستطيع حينئذ التحول عنه، كراهيته كرها خالصا. إذا صار هذا الشعور حقيقيا، إذا تمكن وهم كهذا منها، فستكون في حالة من الكآبة لا تستطيع حتى التفكير فيها.
تبدأ في تهدئة نفسها عن عمد. تتنفس في عمق وتتظاهر بأنها ستغط في النوم. تبدأ في تخيل قصة تمضي الأمور فيها على نحو أفضل. افترضت أن الفتاة تبعتها إلى مؤخرة الطائرة منذ فترة؛ أنهما استطاعتا التحدث معا. تمضي القصة قدما، على نحو ما، إلى غرفة الانتظار في هونولولو. ترى ماري جو نفسها جالسة هناك في غرفة بها أشجار نخيل غير مكتملة النمو مزروعة في أصص، على مقعد مبطن. يمر الرجل والفتاة عليها. تسير الفتاة في المقدمة، حاملة حقائب التسوق. يحمل الرجل حقيبة السفر فوق كتفه، ويمسك المظلة. يلكز الفتاة بطرف المظلة المغلقة. لا شيء يؤلمها أو يفاجئها. مزحة. تهرول الفتاة، وتضحك، وتتلفت حولها، وعلى وجهها تعبير اعتذار، وإحراج، وعجز، وروح دعابة لا نهائية. ثم تشير إليها ماري جو بعينيها لتتبعها، دون أن يلاحظ الرجل. تنهض ماري جو وتسير عبر غرفة الانتظار وتصل إلى حمام السيدات المضيء، المكسو بالقرميد.
وفي هذه المرة تتبعها الفتاة.
تفتح ماري جو الماء البارد. تنضح وجهها بالماء، في إشارة على الحماس.
تحث الفتاة على أن تفعل مثلها.
تتحدث إليها في هدوء وعلى نحو لا يقاوم. «هذا جيد. بردي وجهك. حاولي أن تصفي ذهنك تماما. عليك أن تفكري في هدوء. يجب أن تفكري في هدوء. الآن. ما الأمر؟ ما الذي تريدينه؟ مم تخافين؟ لا تخافي. لا يستطيع المجيء إلى هنا. لدينا وقت. يمكنك أن تخبريني ماذا تريدين وأستطيع أن أساعدك. يمكن أن أتصل بالسلطات.»
لكن القصة تتوقف عند هذه النقطة. تصطدم ماري جو بمنطقة صماء، ويترجم حلمها - هي تحلم الآن - هذا بطريقة فجة إلى بقعة من الصدأ غير منتظمة، وغريبة، حيث تآكل طلاء المينا أسفل الحوض.
يا له من حمام سيدات مهمل! «هل الأمور هكذا دوما في المناطق الاستوائية؟» تقول ماري جو ذلك للسيدة الواقفة إلى جانبها في الحوض المجاور، وتغطي هذه المرأة حوضها بيديها كما لو كانت لا ترغب في أن تنظر ماري جو إليه أو أن تستخدمه. (مع أن ماري جو لم تكن تنتوي عمل ذلك.) هي امرأة ضخمة، بيضاء الشعر، ترتدي ساريا أحمر، وتبدو كما لو كانت تمتلك سلطة في حمام السيدات. تتلفت ماري جو حولها بحثا عن الفتاة التي من الإسكيمو وتندهش عندما تراها راقدة على الأرض. تضاءل حجمها، وترتسم على وجهها نظرة قاسية، وجه حاد مثل وجه دمية. لكن الصدمة الحقيقية تكمن في أن رأسها انفصل عن جسدها، على الرغم من أنها لا تزال متصلة به من خلال رباط مرن داخلي.
تقول المرأة ذات الشعر الأبيض: «سيكون لديك فرصة كي تختاري مصيرك.» تعتقد ماري جو أنها تعني بذلك طريقة عقابها. تعلم أن خطرا ما يتهددها في هذا الشأن؛ ليست مسئولة، لم تضرب الفتاة أو تدفعها على الأرض. المرأة مجنونة.
تقول: «آسفة ... لكن علي أن أعود إلى الطائرة.»
يحدث هذا لاحقا، ولكنهما لم يعودا في حمام السيدات.
يعودا إلى مكتب دكتور ستريتر وتشعر ماري جو بوجود تضارب بسيط في الأحداث بحيث لا تستطيع متابعتها، تشعر بفجوات في الزمن لم تلحظها. لا تزال تفكر في العودة إلى الطائرة، لكن كيف لها أن تجد غرفة الانتظار، هذا إلى جانب الذهاب إلى هونولولو؟
جسد ضخم ملفوف في ضمادات يمر، وتريد ماري جو أن تعرف لمن هذا الجسد، وماذا حدث، ولماذا يجلبون أحد ضحايا الحروق إلى هنا.
المرأة التي ترتدي ثوب الساري الأحمر هناك أيضا. تقول لماري جو، بطريقة ودية: «المحكمة في الحديقة؟»
ربما يعني هذا أن ماري جو لا تزال متهمة بشيء، وأن ثمة محاكمة تجري في الحديقة. على الجانب الآخر، ربما تشير كلمة «محكمة»
Court
إلى دكتور ستريتر. ربما تعني المرأة «كونت»
Count ، خالطة بين الهجاءين. إذا كان الأمر هكذا، فهي ترغب في أن تسخر منه. إطلاق لقب «كونت» عليه يعد مزحة، و«في الحديقة» تعني شيئا آخر، أيضا، وهو ما يجب على ماري جو التركيز جدا عليه لمعرفته.
تفتح المرأة يدها وتري ماري جو بعض الزهور الزرقاء الصغيرة - مثل قطرات الثلج، لكنها زرقاء - وتشير إلى أن هذه «محكمة» وإلى أن «محكمة» تعني زهورا.
خدعة، تعرف ماري جو ذلك، لكنها لا تستطيع أن تركز لأنها تستيقظ من النوم. في طائرة نفاثة جامبو فوق المحيط الهادئ، وشاشة الأفلام مغلقة، والأضواء مطفأة تقريبا، وحتى الطفل الرضيع نائم. لا تستطيع العودة عبر مراحل الحلم المختلفة إلى الجزء الواضح، في حمام السيدات، عندما كانتا تنضحان وجهيهما بالماء البارد وكانت هي - ماري جو - تقول للفتاة كيف يمكن أن تنقذ نفسها. لا تستطيع بلوغ ذلك. ينام الأشخاص حولها تحت البطاطين، رءوسهم على وسائد برتقالية صغيرة. بطريقة ما، جرى توفير وسادة وبطانية لها أيضا. الرجل والفتاة عبر الممر نائمان، فماهما مفتوحان، وصحت ماري جو من أحلامها على شخيرهما الثنائي المعبر، البريء. •••
هذه بداية إجازتها.
نزعة غريبة
(1) خطابات مجهولة المصدر
كان لدى أم فيوليت - العمة آيفي - ثلاثة صبية صغار، ثلاثة صبية رضع، وفقدتهم جميعا. ثم أنجبت الفتيات الثلاث. ربما لتواسي نفسها على الحظ السيئ الذي عانت منه بالفعل، في ركن خلفي من منطقة ساوث شيربروك - أو ربما حتى تعوض، على نحو مسبق، غياب مشاعر الأمومة - أطلقت على البنات أبهج الأسماء التي استطاعت التفكير فيها: أوبال فيوليت (حجر الأوبال البنفسجي)، دون روز (وردة الفجر)، وبوني هوب (الأمل المبهج). ربما لم تفكر في هذه الأسماء إلا باعتبارها مجرد أسماء جمالية مؤقتة. تساءلت فيوليت؛ هل تصورت أمها على الإطلاق أن بناتها سيضطررن إلى حمل هذه الأسماء مدة قد تصل لستين أو سبعين عاما لاحقة، عندما يصرن نساء ثقيلات الحركة، واهنات؟ ربما كانت تظن أن بناتها سيمتن أيضا. «الفقد» يعني موت أحد الأشخاص. تعني «فقدتهم» أنهم ماتوا. كانت فيوليت تعرف ذلك. على الرغم من ذلك، تصورت العمة آيفي - أمها - تخوض في حقل سبخي، عبارة عن قطعة أرض خالية خلف مخزن الحبوب، مكان قليل الضوء مليء بالحشائش الخشنة وأجمات جار الماء. هناك فقدت العمة آيفي، في الضوء الحزين، أطفالها الرضع. كانت فيوليت تنسل أسفل سياج فناء مخزن الحبوب إلى قطعة الأرض الخالية، ثم تدخلها في حذر. كانت تختفي خلف أجمات جار الماء حمراء الساق وأجمات شائكة أخرى مجهولة الاسم (كان هذا يحدث دائما في وقت كئيب، رطب من العام؛ في أواخر الخريف أو أوائل الربيع)، وكانت تدع الماء البارد يغطي أصابعها داخل حذائها المطاطي. كانت تتأمل معنى الفقد. فقدان أطفال رضع. يتصاعد الماء عبر الحشائش الخشنة. بعيدا أكثر، كانت ثمة برك وحفر مغمورة بالماء. كان قد جرى تحذيرها. وطئت بقدميها في ذلك في بطء، مراقبة الماء يتسلل إلى أعلى حذائها عالي الرقبة. لم تخبرهم قط. لم يعرفوا قط أين ذهبت. فقدت.
كانت غرفة الضيوف المكان الذي كانت تستطيع التسلل إليه بمفردها. كانت ستائر النافذة مسدلة بالكامل؛ كان الهواء ثقيلا وسميكا، كما لو كان قد تحول إلى كتلة ملأت الغرفة تماما. في أماكن ثابتة محددة كانت توجد الصدفة المدببة، المتوردة التي ينحبس فيها صوت زئير البحر، وتمثال الرجل الاسكتلندي الضئيل الذي يرتدي تنورة حاملا كأسا بها جعة تميل لكن لا تنسكب أبدا، ومروحة مصنوعة بالكامل من الريش الأسود اللامع، وطبق كان تذكارا من منطقة شلالات نياجرا عليه نفس الصورة الموجودة على علبة منتج «شريديد ويت». ولوحة موضوعة في برواز على الحائط كانت تؤثر على فيوليت أيما تأثير، حتى إنها لم تكن تستطيع النظر إليها عندما دخلت إلى الغرفة. كانت تضطر إلى أن تسير متفادية إياها، جاعلة إياها دوما خارج مجال نظرها. كانت اللوحة تظهر ملكا معتمرا تاجه، وثلاث سيدات طويلات يشبهن الملكات، يرتدين فساتين داكنة. كان الملك نائما، أو ميتا. كانوا جميعا على شاطئ البحر، وكان ثمة قارب منتظر، وكان ثمة شيء يخرج من هذه اللوحة إلى الغرفة؛ موجة ناعمة، داكنة من العذوبة والأسى غير المحتملين. بدا ذلك كعلامة بالنسبة إلى فيوليت؛ كان أمرا متصلا بمستقبلها، حياتها، بطريقة لم تستطع تفسيرها أو التفكير فيها. بل إنها لم تستطع النظر إلى اللوحة في وجود شخص آخر في الغرفة. لكن تلك الغرفة نادرا ما يكون فيها أحد. •••
كان والد فيوليت يدعى الملك بيلي، الملك بيلي تومس (على غرار لقب ملك إنجلترا وليام الثالث)، على الرغم من أن وليام لم يكن جزءا من اسمه. كان يوجد جواد أيضا يسمى الملك بيلي؛ جواد رمادي مرقط كان ركوبتهم، وكان يجر المزلجة في الشتاء والعربة في الصيف. (لم تكن توجد سيارة في ذلك المكان حتى كبرت فيوليت واشترت واحدة في ثلاثينيات القرن العشرين.)
كان اسم الملك بيلي متصلا عادة بالاحتفالية التي تكون في الثاني عشر من يوليو والتي تحيي ذكرى انتصار الملك وليام الثالث في معركة بوين. كانوا يختارون رجلا ليصبح الملك بيلي، ويجعلونه يرتدي تاجا من الكرتون وعباءة أرجوانية مهلهلة، ويسير في مقدمة الموكب بالاحتفالية. كان من المفترض أن يركب جوادا أبيض، لكن في بعض الأحيان لم يكن يوجد أفضل من جواد بلون رمادي مرقط. لم تعرف فيوليت قط إذا كان الجواد أو أبوها، أو كلاهما، يظهر في هذا الموكب، سواء بشكل منفصل أو معا. زادت الحيرة، في العالم مثلما كانت تعرفه، وكثيرا ما كان البالغون يستاءون من أن يطلب منهم وضع الأمور في نصابها.
لكنها كانت تعرف أن أباها، ذات مرة في حياته، كان يعمل في أحد خطوط القطارات في الشمال الذي كان يمر عبر الأدغال البرية حيث كانت توجد الدببة. كان الحطابون يركبون هذا القطار في إجازات نهاية الأسبوع، خارجين من الأدغال لتناول الشراب، وإذا أثاروا فوضى أكثر مما ينبغي في طريق عودتهم، كان الملك بيلي يوقف القطار ويركلهم خارجه، مهما كان مكان القطار في ذلك الوقت؛ في وسط البرية، لا يهمه ذلك، كان يركلهم خارج القطار. كان ملاكما. حصل على تلك الوظيفة لأنه كان ملاكما.
قصة أخرى، من مرحلة أقدم من ذلك في حياته. كان قد ذهب في حفل رقص، عندما كان شابا، على طريق سنو روود، حيث أتى. كان بعض الشباب الآخرين الذين كانوا موجودين هناك قد أهانوه، وكان مضطرا لتقبل إهاناتهم؛ لأنه لم يكن يعرف شيئا عن الملاكمة. لكن بعد ذلك تلقى بعض الدروس على يد ملاكم عجوز محترف، ملاكم حقيقي، كان يعيش في منطقة بحيرة شاربوت. في ليلة أخرى، حفل راقص آخر؛ الأمر نفسه كما حدث من قبل. الإهانات نفسها. فيما عدا هذه المرة أن الملك بيلي انفجر فيهم، وطرحهم أرضا، الواحد تلو الآخر.
انفجر فيهم، وطرحهم أرضا، الواحد تلو الآخر.
لا مزيد من الإهانات من ذلك النوع في أي مكان في تلك الأنحاء.
لا مزيد من الإهانات. (كانت الإهانات تتعلق بكونه ابنا غير شرعي. لم يقل ذلك، لكن فيوليت اكتشفت ذلك من خلال تمتمة أمها. قالت العمة آيفي، بطريقتها المبهمة، المحيرة، الحاقدة: «ليس لأبيك عائلة.» «لم يكن له قط. ليس له عائلة على الإطلاق.»)
كانت فيوليت أكبر عمرا من أختها دون روز بخمس سنوات، ومن بوني هوب بست سنوات. كانت هاتان الأختان الصغيرتان قريبتين جدا إحداهما من الأخرى، لكنهما كانتا طيعتين. كانتا ذواتي شعر أحمر، مثل الملك بيلي. كانت دون روز ممتلئة، ومتوردة البشرة، وعريضة الوجه. كانت بوني هوب ضئيلة الجسم وكبيرة الرأس، وذات شعر كان ينمو في بادئ الأمر في صورة خصلات وكتل متناثرة، حتى إنها كانت تبدو مثل طائر صغير متمايل. كانت فيوليت ذات شعر أسود، وكانت طويلة بالنسبة لعمرها، وقوية مثل أمها. كانت تمتلك وجها جميلا طويلا، وعينين داكنتي الزرقة كانتا تبدوان في بادئ الأمر سوداوين. لاحقا، عندما كان تريفور أوستن يحبها، كان يقول بعض الأشياء اللطيفة عن مدى توافق لون عينيها مع اسمها.
كانت أم فيوليت - فضلا عن والدها - تحمل اسما غريبا؛ إذ كانت تسمى العمة آيفي معظم الوقت حتى من قبل بناتها. كان ذلك يرجع إلى أنها كانت الأصغر بين أبناء عائلة كبيرة. كانت لديها عائلة كبيرة جدا، على الرغم من أنهم لم يكونوا يزورونها كثيرا. إن مصدر جميع الأشياء القديمة أو القيمة في المنزل - تلك الأشياء الموجودة في غرفة الضيوف، وصندوق مقتنيات كبير، وبعض الملاعق القديمة - هو عائلة العمة آيفي، التي كانت تمتلك مزرعة على شاطئ بحيرة وايت ليك. كانت قد ظلت العمة آيفي في المزرعة فترة طويلة، دون زواج، حتى إن الاسم الذي كان بنات وأبناء إخوتها وأخواتها ينادونها به ظل ملتصقا بها، واختارت بناتها، أيضا، أن ينادينها به بدلا من «ماما».
لم يعتقد أحد قط أنها ستتزوج. حدثت بذلك نفسها. وعندما تزوجت الرجل أحمر الشعر الجريء ضئيل الجسم الذي بدا غريبا جدا إلى جانبها، قال الناس: يبدو أنها لا تستطيع مجاراة التغيير الذي حدث في حياتها جيدا. ففقدت هؤلاء البنين الرضع في البداية، ولم تكن سعيدة جدا لتحمل مسئولية إدارة منزل. كانت تحب أن تعمل في الخارج، تعزق الأرض في الحديقة أو تقطع الأخشاب، مثلما كانت تفعل دوما في منزل عائلتها. كانت تحلب الأبقار وتنظف الحظيرة وترعى الدجاج. كانت فيوليت، مع تقدم عمرها، هي من تولت إدارة أعمال المنزل.
عند بلوغها العاشرة، كانت فيوليت قد صارت مغرمة جدا بالقيام بشئون منزلها وصارت تتعامل أحيانا بطريقة استبدادية. كانت تقضي طوال يوم السبت تنظف وتلمع الأرضيات بالشمع، ثم تصرخ وتلقي بنفسها على الأريكة، وتستشيط غضبا ممن يطئون في الطين والروث ثم يلطخون الأرضيات بأقدامهم.
قالت العمة آيفي، كما لو كانت تتحدث عن طفلة أحد الجيران: «ستكبر تلك الفتاة، ولن تملك شيئا إلا بقايا أسنان في فمها، وهو ما تستحقه بسبب طبعها.» كانت العمة آيفي هي من كان يطأ بأقدامه في الطين ويفسد الأرضية.
في يوم سبت آخر يكون هناك خبز وابتكار لوصفات جديدة للأطعمة. طوال صيف بأكمله، كانت فيوليت تحاول أن تبتدع مشروبا مثل الكوكاكولا، كان من المفترض أن يصبح مشروبا مشهورا، ولذيذا، ويعود عليها بثروة كبيرة. جربت بنفسها ومع أخواتها أمزجة كثيرة من عصير التوت، والفانيليا، وخلاصات الفواكه المعلبة، والبهارات. في بعض الأحيان، كن يخرجن جميعا إلى منطقة الحشائش الطويلة في البستان، يتقيأن. كانت الأختان الصغيرتان تفعلان ما تخبرهما فيوليت به، وكانتا تصدقان ما كانت تقوله لهما. ذات يوم، جاء الرجل الذي كان يعمل لدى الجزار لشراء العجول الصغيرة، وكانت فيوليت تقول لدون روز وبوني هوب إن هذا الرجل لم يكن يرضى في بعض الأحيان عن اللحم الموجود في جسم العجول، وكان يفضل الأطفال المفعمين بالحيوية لعمل شرائح بفتيك، وريش، وسجق منها. قالت هذا على نحو مفاجئ وعلى سبيل التسلية، وذلك حسبما كانت تتذكر لاحقا عندما كانت تحول الأحداث إلى قصص. كانت الفتاتان الصغيرتان تحاولان الاختباء في مخزن التبن، وكان الملك بيلي يسمع الجلبة التي كانتا تصدرانها، ويخرجهما خارج الكومة. كانتا تذكران ما قالته لهما فيوليت، وكان الملك بيلي يقول إنهما يجب أن تضربان لتصديقهما هراء كهذا. قال إنه رجل ذا زوجة عنيدة جدا وابنة فظة تدير له المنزل. عدت دون روز وبوني هوب حتى تواجها فيوليت. «كاذبة! لا يقطع الجزارون الأطفال إلى شرائح! أنت تكذبين، كاذبة!»
لم تقل فيوليت، التي كانت تنظف الموقد آنذاك، شيئا. تناولت وعاء به بعض الرماد الذي أزاحته - والذي كان دافئا لكنه، لحسن الحظ، غير ساخن - وأفرغته فوق رأسيهما. تعلمتا ألا تكررا ما قالتاه مرة أخرى. عدتا إلى الخارج وتدحرجتا على الحشائش وأخذتا تهزان أنفسهما مثل الكلاب، محاولتين نفض الرماد عن شعرهما، وآذانهما، وعيونهما، وملابسهما الداخلية. في أحد أركان البستان، بدأتا في بناء منزل صغير تلعبان فيه، جاعلتين الحشائش المقطوعة المكومة بمنزلة المقاعد وأجزاء من أطباق مكسورة كأطباق. أقسمتا ألا تخبرا فيوليت شيئا عن هذا المنزل.
لكنهما لم تستطيعا الابتعاد عنها. كانت تلف شعرهما مستخدمة قطع قماش بالية، وكانت تلبسهما ملابس مصنوعة من ستائر قديمة، وتطلي وجهيهما، مستخدمة أمزجة من عصير التوت، والدقيق، وملمع الموقد. اكتشفت أمر منزل اللعب واقترحت عليهما فكرا لتأثيثه كانت أفضل من فكرهما. حتى في الأيام التي لم يكن لديها متسع من الوقت لهما، كان عليهما مشاهدة ما كانت تفعل.
كانت ترسم تصميما عبارة عن زهور حمراء على مشمع أرضية المطبخ الأسود، البالي.
كانت تقطع حافة من النتوءات المدورة في كل ستائر النوافذ الخضراء القديمة لإضفاء لمسة جمالية.
كان يبدو كما لو أن الحياة العائلية العادية معكوسة في هذا المنزل. في المنازل الأخرى، كان الأطفال هم عادة من يراهم المرء أولا عند الاقتراب من المنزل؛ أطفالا يلعبون، أو يؤدون بعض المهام المنزلية. تكون الأم مختفية تعمل داخل المنزل. لكن ها هي العمة آيفي، تكوم ثمار البطاطس، أو تتجول في أنحاء الفناء أو في حظيرة الدجاج، مرتدية حذاء مطاطيا طويل العنق، وقبعة رجال، ومجموعة بالية من السترات، والتنورات، والقمصان الداخلية الطويلة والمرايل، والجوارب المتغضنة، المنقطة. كانت فيوليت هي من يتحكم في الأمور في المنزل، كانت هي التي كانت تقرر متى وما إذا كان يمكن إعطاء قطع الخبز، والزبد، وشراب الذرة. كان الأمر يبدو كما لو كان الملك بيلي والعمة آيفي لم يفهما تماما كيف يصنعان معا حياة عائلية عادية، حتى لو كانا قد أرادا ذلك.
لكن العائلة مضت في طريقها. كانوا يحلبون الأبقار، ويبيعون اللبن لمصنع الجبن، ويربون العجول لبيعها للجزار، ويجمعون التبن. كانوا من رعاة الكنيسة الأنجليكانية، على الرغم من أنهم لم يكونوا يذهبون إلى الكنيسة في أغلب الوقت، نظرا لصعوبة إقناع العمة آيفي بالاغتسال. كانوا يذهبون في بعض الأحيان إلى حفلات لعب الورق في مبنى المدرسة. كانت العمة آيفي تلعب ألعاب الورق، وكانت تخلع مريلتها، وقبعتها حتى تلعب، على الرغم من أنها لم تكن تغير حذاءها عالي الرقبة. كان معروفا عن الملك بيلي أنه مغن جيد، وبعد لعب ألعاب الورق، كان الناس يحاولون جعله يسليهم بأن يغني لهم. كان يحب أن يغني الأغاني التي كان قد تعلمها من الحطابين والتي لم تكتب قط. كان يغني ضاما قبضتيه، ومغلقا عينيه، في ثبات:
كنت أقود مارا بعدد من الخلجان على خط أوبونجو،
في الصيف ذات مرة مرتديا هوليجان وهايز،
أما وقد اختفت الخلجان الآن وصرت عجوزا متجهما،
أحلم بأنني أقود عربتي، على خط أوبونجو.
من هوليجان؟ من هايز؟
قال الملك بيلي، شاعرا بالراحة من الغناء: «نوع من الملابس.» •••
كانت فيوليت تذهب إلى المدرسة الثانوية في البلدة، وبعد ذلك إلى معهد المعلمين في أوتاوا. كان الناس يتساءلون من أين كان يحصل الملك بيلي على المال اللازم لذلك. فإذا كان ما زال لديه بعض المال المدخر من عمله في السكك الحديدية، فكان هذا يعني أنه حصل على بعض المال من عائلة العمة آيفي عندما اختطفها من بين أيديهم واشترى المزرعة. قال الملك بيلي إنه لن يحرم فيوليت من التعليم؛ كان يعتقد أن مهنة المدرسة ستكون مناسبة لها. لكنه لم يكن يملك شيئا آخر إضافيا يقدمه لها. قبل بدئها الدراسة في المدرسة الثانوية، ذهبت عبر الحقول إلى المزرعة المجاورة، حاملة قطعة من قماش الكريب المخطط متعدد الألوان كانت قد وجدتها في صندوق المقتنيات. كانت تريد أن تتعلم كيفية استخدام ماكينة الخياطة، بحيث تستطيع صناعة ثوب لنفسها. وهكذا فعلت، على الرغم من أن جارتها قالت إن الثوب كان أغرب ثوب ترتديه طالبة.
كانت فيوليت تعود إلى المنزل في نهاية كل أسبوع عندما كانت في المدرسة الثانوية، وكانت تخبر أختيها عن دروس اللغة اللاتينية وكرة السلة، وكانت تعتني بالمنزل مثلما كان الحال من قبل. لكنها عندما ذهبت إلى أوتاوا، مكثت هناك حتى الكريسماس. كانت دون روز وبوني هوب كبيرتين بما يكفي حينئذ بحيث تستطيعان العناية بالمنزل، لكن سواء أكانتا تفعلان هذا أم لا فتلك كانت مسألة أخرى. كانت دون روز كبيرة بما يكفي حتى تلتحق بالمدرسة الثانوية، لكنها كانت قد أخفقت العام السابق في المدرسة المحلية، وكانت تعيد السنة. أصبحت هي وبوني هوب في الصف نفسه.
عندما عادت فيوليت إلى المنزل في إجازات الكريسماس، كانت قد تغيرت كثيرا. لكنها كانت تعتقد أن كل شيء قد تغير، وأن الجميع هم الذين قد تغيروا.
كانت تريد أن تعرف ما إذا كانوا يتحدثون دوما بهذه الطريقة. ما هذه الطريقة؟ يتحدثون بلكنة. ألم يكونوا يتحدثون على هذا النحو عمدا، حتى يبدوا مضحكين؟ ألا يتحدثون بهذه اللكنة عمدا، حتى يبدوا مضحكين؟
كانت قد نسيت أماكن الاحتفاظ ببعض الأشياء، واندهشت عندما وجدت المقلاة تحت الموقد. بدأت تكره الكلب، تيجر، الذي أصبح مسموحا له بالبقاء داخل المنزل الآن بعد أن بدأ يكبر في السن. قالت إنه أصبح كريه الرائحة، وأن غطاء الأريكة أصبح ممتلئا بشعر الكلب.
قالت إن غرفة الضيوف كانت تفوح منها رائحة عفنة، وأن الجدران في حاجة إلى تغطيتها بورق حائط.
كانت أختاها هما من أثارتا فعلا كامل دهشتها واستيائها. كانتا قد كبرتا منذ الصيف. صارت دون روز فتاة ضخمة، وبدينة الآن، ذات ثديين مترهلين يهتزان داخل ملابسها، ووجه متورد طفولي كان تعبير التكتم الطفولي المرتسم عليه قد تغير إلى نظرة بدت غبية وعنيدة. كانت قد بدأت تفوح منها روائح النساء، ولم تكن تغتسل. كانت بوني هوب لا تزال طفلة جسديا، لكن لم يكن شعرها الأحمر الجعد يمشط جيدا قط، وكان يغطي بشرتها علامات قرص البراغيث التي جاءتها من اللعب مع قطط المزرعة.
استطاعت فيوليت بالكاد تنظيف هاتين البنتين. كان أسوأ ما في الأمر هو أنهما صارتا متمردتين، تنظر إحداهما إلى الأخرى وتضحكان ضحكة نصف مكتومة عندما كانت تتحدث إليهما، وكانتا تتجاهلانها، وكانتا عنيدتين وصامتتين. كانتا تتصرفان كما لو كانتا تخفيان سرا سخيفا.
هكذا كان الأمر؛ كانتا تحتفظان بسر، لكنه لم يفصح عنه إلا بعد فترة طويلة لاحقا، ليس إلا بعد أحداث الصيف التالي، ثم بصورة غير مباشرة، عندما أخبرت بوني هوب بعض الفتيات اللائي أخبرن أخريات قد أخبرن أخريات، وسمعت أخريات بالأمر، ثم الجارة، التي أخبرت فيوليت في نهاية المطاف!
في أواخر الخريف من تلك السنة - في السنة التي ذهبت فيها فيوليت إلى معهد المعلمين - كانت قد بدأت دون روز تحيض. شعرت بالإهانة البالغة جراء هذا التطور حتى إنها ذهبت إلى الخليج الصغير وجلست في المياه الباردة، عازمة على وقف النزيف. خلعت حذاءها، وجوربها، وسروالها التحتي، وجلست هناك، في المياه الباردة، الضحلة. أزالت الدماء من سروالها التحتي، واعتصرته، وارتدته مبتلا. لم تصب بالبرد، ولم تمرض، ولم تحض مرة أخرى طوال العام. قالت الجارة إن هذه الفعلة كان من الممكن أن تؤثر على عقلها. «بدفعها كل هذا الدم الفاسد مرة أخرى إلى جهازها التناسلي، كان من الممكن أن يؤثر هذا على عقلها.»
كانت متعة فيوليت الوحيدة في الكريسماس هي الحديث عن صديقها، الذي كان يدعى تريفور أوستن. عرضت صورته على أختيها. كانت عبارة عن قصاصة من صحيفة. كان يرتدي ياقة قس.
قالت دون روز، ضاحكة ضحكة نصف مكتومة: «يبدو مثل قس.» «هو قس. تعود هذه الصورة إلى وقت ترسيمه. ألا تعتقدين أنه وسيم؟»
كان تريفور أوستن وسيما. كان شابا ذا شعر داكن، ذا عينين ضيقتين، وأنف رائع، وذقن مرتفع إلى أعلى، وابتسامة مزمومة الشفتين، واثقة، بل ولطيفة.
قالت بوني هوب: «لا بد أنه كبير في السن، حتى يصبح قسا.»
قالت فيوليت: «لقد صار قسا منذ فترة بسيطة ... يبلغ ستة وعشرين عاما. ليس قسا أنجليكانيا، بل قس تابع للكنيسة المتحدة.» قالت ذلك، كما لو أن ذلك كان يشكل فرقا. وبالنسبة إليها، كان ذلك يمثل فرقا حقا. كانت فيوليت قد غيرت من انتمائها الكنسي في أوتاوا. قالت إن الكنيسة المتحدة ذات نشاط أكبر. كان هناك ناد لكرة الريشة - كانت هي وتريفور يلعبان هناك - وناد لتمثيل المسرحيات، فضلا عن حفلات تزلج بأحذية التزلج، وحفلات تزلج بالزلاجات، ورحلات في عربات مزينة بالقش، وحفلات تعارف. التقت فيوليت وتريفور للمرة الأولى، في إحدى الحفلات بمناسبة الهالووين في بدروم الكنيسة، عندما كانا يحاولان الإمساك بتفاحة بأسنانهما. أو كانت هذه هي المرة الأولى التي تحدثا فيها، حيث إن فيوليت كانت قد لاحظت وجوده من قبل في الكنيسة، حيث كان مساعدا للقس. قال إنه لاحظ وجودها أيضا. وظنت أنه ربما لاحظ ذلك. كانت مجموعة من الفتيات من معهد المعلمين يذهبن جميعا إلى تلك الكنيسة معا، جزئيا لرؤية تريفور، وكن يلعبن لعبة، في محاولة للفت انتباهه. عندما كان الجميع يقف منشدا الترانيم، كن يحدقن فيه، وإذا نظر إليهن، كن يخفضن أنظارهن في الحال. كانت موجات من الضحك تنتشر بطول الصف. لكن فيوليت كانت تغني ناظرة إليه كما لو كانت عيناها وقعت عليه مصادفة:
هبوا يا رجال الرب
وضعوا دروعكم ...
عيون مغمضة أثناء إنشاد الترانيم. الترانيم الحماسية لأتباع الكنيسة الميثودية القديمة، والمزامير القاسية لأتباع الكنيسة المشيخية التحما معا في هذه الكنيسة المتحدة الجديدة. آنذاك، كانت الهيئة القائمة على تلك الكنيسة تجتذب الشباب المتحمس المتطلع إلى السلطة، لا يختلفون كثيرا عن الشباب الذين انخرطوا في السياسية. صوت جميل ومظهر لا بأس به.
عيون مغمضة. قبلات عند باب النزل الذي تسكن فيه فيوليت. الخد البارد، الخد الذكوري الحليق بطريقة جيدة، ولكن الخشن والغريب قليلا، ورائحة بودرة التلك ومرطب ما بعد الحلاقة الرقيقة والواعدة في آن واحد. سرعان ما ينسلان إلى الظلام إلى جانب مدخل الباب، يتضاغط جسماهما عبر ملابس الشتاء. كان عليهما أن يتحدثا في جدية عن التحكم في الذات، وكانت هذه الأحاديث نفسها ملهبة للمشاعر. صارا مقتنعين أكثر فأكثر أنهما إذا تزوجا، فسيشعران باللذات التي تجعل المرء يكاد يفقد الوعي عند التفكير فيها.
بعد عودة فيوليت مباشرة من إجازات الكريسماس، خطبا. ثم صارت لديهما أشياء أخرى يفكران فيها ويتطلعان إليها إلى جانب الجنس. كانت أمامهما حياة مليئة بالمسئولية والأهمية. دعيا إلى تناول العشاء بصفتهما مخطوبين، من قبل قساوسة أكبر سنا، وأعضاء في الكنيسة أكثر ثراء ونفوذا. صنعت فيوليت ثوبا جميلا لنفسها، من الصوف بلون التوت البري الأحمر عليه ثنيات طولية؛ ثوبا أفضل كثيرا من الثوب المصنوع من قماش الكريب المخطط متعدد الألوان.
في دعوات العشاء تلك ، كانا يتناولان عصير طماطم في البداية. كانت دوارق الماء المثلج موضوعة على الموائد. لم يكن ثمة أحد في تلك الكنيسة يستطيع الاقتراب من المشروبات الكحولية. حتى خمر عشائهم الرباني كان عبارة عن عصير عنب. لكن كان هناك أنواع عديدة من اللحم المشوي، سواء لحم الأبقار أو الخنازير أو الديوك الرومية، على أطباق تقديم فضية، وبطاطس وبصل مشوي، وكميات هائلة من مرق اللحم، ثم الكعكات والفطائر الدسمة والبودنج المصنوع بطريقة رائعة بإضافة الكريم المخفوق. لم يكن تناول الطعام خطيئة. كان لعب ألعاب الورق خطيئة، فيما عدا لعبة كنسية ميثودية محددة تسمى «الوريث المفقود»، وكان الرقص خطيئة عند البعض، وكان الذهاب إلى السينما خطيئة عند البعض، وكان الذهاب إلى أي نوع من الحفلات الترفيهية، فيما عدا حفلات الموسيقى الكنسية التي لا يدفع أحد فيها أي مقابل لدخولها، خطيئة عند الجميع أيام الآحاد.
كان هذا يمثل تغييرا بالنسبة إلى فيوليت بعد الكنيسة الأنجليكانية الأكثر تيسيرا التي كانت تتبعها في طفولتها، والقواعد - إذا كان ثمة أي قواعد - المفروضة في المنزل. كانت تتساءل عما سيقوله تريفور عندما يرى الملك بيلي يحتسي جرعته من الويسكي كل صباح قبل أن يبدأ في أداء عمله. كان تريفور قد تحدث عن الذهاب معها إلى المنزل لمقابلة عائلتها، لكنها استطاعت أن تثنيه عن ذلك. كانا لا يستطيعان الخروج يوم الأحد بسبب قداسه في الكنيسة، وكانا لا يستطيعان الخروج خلال أيام الأسبوع بسبب دراستها. حاولت أن تخرج فكرة الذهاب للقاء عائلتها من رأسها في الوقت الحالي.
ربما كان التشدد في عقيدة الكنيسة المتحدة شيئا يمكن الاعتياد عليه، لكن مشاعر الهدف والجدوى منها، السرعة والحيوية، كانت أشياء متوافقة تماما مع فيوليت. كان الأمر كما لو كان القساوسة وأعضاء الكنيسة الأكثر نفوذا يمتلكون جميعا وظائف في شركة مزدهرة ومهمة. كانت ترى دور زوجة القس صعبا وينطوي على كثير من التحديات، لكن هذا لم يثبط من عزمها. كانت تستطيع تخيل نفسها تدرس في مدرسة الأحد، وتجمع الأموال لصالح الإرساليات التبشيرية، وتقود الآخرين في الصلوات ، وتجلس مرتدية ملابس بهية في الصف الأول تستمع إلى تريفور، وتصب الشاي في غير كلل من إبريق فضي.
لم تكن تخطط لأن تقضي الصيف في المنزل. كانت ستذهب إلى المنزل لمدة أسبوع، بمجرد انتهاء اختباراتها، ثم كانت تعمل في الصيف في مكتب الكنيسة في أوتاوا. كانت قد تقدمت إلى وظيفة تدريس في مدرسة بلز كورنرز، القريبة منها. كانت تخطط لأن تدرس لمدة عام، ثم تتزوج. •••
في الأسبوع السابق على بدء الاختبارات، تلقت خطابا من موطنها. لم يكن من الملك بيلي أو العمة آيفي - كلاهما لا يكتبان خطابات - لكن من جارتهم في المزرعة المجاورة، مالكة ماكينة الخياطة. كان اسمها أنابيل ويرلي، التي كانت تحب فيوليت. لم يكن لديها ابنة. كانت تعتقد أن فيوليت بمنزلة مصدر للقلق، لكنها صارت تعتقد الآن أنها شخص يعتمد عليه.
كتبت أنابيل قائلة إنها تأسف لإزعاج فيوليت في ذلك الوقت، لكنها تعتقد أنه يجب أن تخبرها بالأمر. كانت ثمة مشكلات في بيتها. أما ماهية هذه المشكلات، فلم ترغب أن تفضي بها في خطاب. إذا كانت فيوليت تستطيع العودة لبيتها على متن القطار، فيمكن أن تذهب إلى البلدة وتلاقيها. تمتلك وزوجها سيارة الآن.
وهكذا عادت فيوليت لبيتها على متن القطار.
قالت أنابيل: «يجب أن أخبرك بالأمر مباشرة ... الأمر يتعلق بوالدك. والدك في خطر.»
كانت فيوليت تعتقد أنها كانت تقصد أن الملك بيلي مريض. لكن الأمر لم يكن كذلك. كان يتلقى خطابات غريبة، خطابات رهيبة؛ كانت خطابات تتضمن تهديدات بإنهاء حياته.
ما كانت تتضمنه تلك الخطابات، مثلما قالت أنابيل، كان داعيا إلى الاشمئزاز بما يتجاوز التصديق.
في المنزل، كان يبدو كما لو أن كل مظاهر الحياة اليومية قد توقفت. كانت العائلة كلها خائفة؛ كانوا خائفين من الذهاب إلى المرعى الخلفي للإتيان بالأبقار، خائفين من الذهاب إلى خلف القبو، أو إلى البئر أو الحمام بعد حلول الظلام. كان الملك بيلي رجلا مستعدا حتى الآن للدخول في معركة، لكنه فقد أعصابه جراء فكرة وجود عدو مجهول يستعد للانقضاض في أي وقت . لم يكن يستطيع السير من المنزل إلى مخزن الحبوب دون الالتفات ليرى ما إذا كان ثمة أحد خلفه. عندما كان يحلب الأبقار، كان يديرها في مرابطها بحيث يكون في ركن لا يستطيع أحد التسلل من خلفه ومفاجأته. كانت العمة آيفي تفعل المثل.
كانت العمة آيفي تدور حول المنزل حاملة عصا، مطرقة بها على أبواب الصوانات وأعلى الخزائن والصناديق، قائلة: «إذا كنت هنا، فمن الأفضل أن تبقى كذلك حتى تختنق، حتى الموت! أيها القاتل!»
قالت فيوليت إن القاتل لا بد أن يكون قزما حتى يختبئ في أي من تلك الأماكن.
كانت دون روز وبوني هوب تمكثان في المنزل ولا تذهبان إلى المدرسة، على الرغم من أنه في هذا الوقت من العام كان عليهما الاستعداد لاجتياز اختبارات القبول. كانتا خائفتين من خلع ملابسهما ليلا، وكانت ملابسهما متجعدة ورائحتها كريهة.
لا يتم طهي أي طعام بالمنزل. كان الجيران يأتون لهم بالطعام. كان يبدو أن ثمة دائما زائرا ما يجلس عند منضدة المطبخ، جار، أو حتى شخص لا تعرفه العائلة جيدا ممن سمع عن مشكلتهم هذه وجاء من مكان بعيد. كانت الأطباق تغسل في الماء البارد، هذا إن غسلت من الأساس، وكان الكلب هو الكائن الوحيد المهتم بتنظيف الأرضيات.
كان الملك بيلي يجلس طوال الليل يحرس البيت. حصنت العمة آيفي نفسها وراء باب غرفة النوم.
سألت فيوليت عن الخطابات. أحضروا لها الخطابات، وطرحوها على مشمع المائدة حتى تتفحصها، مثلما جرى طرحها من قبل أمام جميع الجيران والزائرين.
ها هو أول خطاب وصل إليهم، بالبريد العادي. ثم الخطاب الذي تلاه، والذي وصل أيضا بالبريد. بعد ذلك كانت هناك رسائل قصيرة يجري العثور عليها في أماكن مختلفة حول المزرعة.
أعلى صفيحة قشدة في الحظيرة.
معلقة على باب مخزن الحبوب.
ملفوفة حول مقبض دلو اللبن الذي كان الملك بيلي يستخدمه يوميا.
ثار خلاف حول أماكن العثور على كل رسالة من تلك الرسائل.
قاطعتهم فيوليت قائلة: «ماذا عن ختم البريد؟ ... أين أظرف الخطابات التي جاءت عبر البريد؟»
لا يعرف أحد . لا يعرف أحد أين ذهبت الأظرف.
قالت فيوليت: «أريد أن أرى الجهة التي أرسلت منها.»
قالت العمة آيفي: «لا يهم من أين جاءت طالما يعرف المرسل كيف يجدنا ... على أي حال، لا يرسل أي رسائل بالبريد الآن. يتسلل هنا بعد حلول الظلام ويتركها. يتسلل هنا بعد حلول الظلام ويتركها، يعرف كيف يجدنا.»
قالت فيوليت: «ماذا عن تيجر؟ ... هل كان ينبح؟»
لا. صار تيجر كبيرا في السن جدا بحيث لم يعد يؤدي مهمته ككلب حراسة. ومع قدوم وذهاب هذه الأعداد من الزائرين توقف تقريبا عن النباح.
قال الملك بيلي: «كان سيتوقف عن النباح بالتأكيد بعد أن رأى كل هؤلاء الزائرين وهم يدخلون عبر البوابة.»
أشارت الرسالة الأولى للملك بيلي إلى أن من الأفضل له بيع جميع أبقاره، وأنه رجل مراقب، وأنه لن يعيش أبدا حتى يصنع التبن اللازم لإطعام الأبقار، وأنه ميت لا محالة.
أدى ذلك إلى ذهاب الملك بيلي إلى الطبيب. ظن أن ثمة شيئا ليس على ما يرام به يمكن قراءته من خلال وجهه. كشف الطبيب عليه، واستمع إلى قلبه، وسلط ضوءا في عينيه ليفحصهما، وطلب منه دفع دولارين مقابل الفحص، وأخبره أنه سليم.
كان ما يلي هو نص الرسالة:
يا لك من شخص أحمق جهول حتى تذهب إلى الطبيب. كان من الممكن أن تدخر الدولارين لتنظف بها مؤخرتك القذرة العجوز. لم أخبرك قط أنك ستموت جراء مرض ما. أنت ستقتل. هذا ما سيحدث لك. لست في مأمن مهما كانت صحتك جيدة. أستطيع أن آتي إلى منزلك ليلا وأقطع رقبتك، أستطيع أن أطلق النار عليك من خلف شجرة. أستطيع أن أتسلل من الخلف وألقي بحبل حول رقبتك، وأخنقك، ولن ترى وجهي، ما رأيك إذن في ذلك؟
إذن، لم يكن عرافا أو شخصا يستطيع قراءة المستقبل. كان عدوا، يخطط لأن يقوم بالأمر بنفسه:
لن أجد حرجا في قتل زوجتك القبيحة وأطفالك الأغبياء وأنا أقوم بالأمر.
يجب وضع رأسك في قاعدة الحمام. أيها الخنزير العفن، الغبي، ذو السيقان المقوسة . يجب قطع أعضائك بشفرة حلاقة. أنت كاذب أيضا. كل هذه الشجارات التي قلت إنك انتصرت فيها ما هي إلا كذبة.
أستطيع أن أطعنك بسكين وأجمع دماءك في إناء وأعمل بودنج بالدماء وأعطيه كطعام للخنازير.
ما رأيك بوضع مسعر مدفأة شديد الحرارة في عينك؟
عندما فرغت من القراءة، قالت فيوليت: «الشيء الذي يجب عمله أن نقدم هذه الخطابات إلى الشرطة.»
كانت قد نسيت أن الشرطة لم تكن موجودة هنا على هذا النحو المجرد، الرسمي. كان ثمة رجل شرطة، لكنه كان في البلدة، بالإضافة إلى ذلك كان الملك بيلي قد دخل في مشادة معه الشتاء الماضي. وفق رواية الملك بيلي، كانت السيارة التي كان يقودها المحامي بووت لوماكس قد اصطدمت بزلاجة الملك بيلي التي يجرها حصان عند أحد التقاطعات، وكان لوماكس قد استدعى الشرطي.
صاح بووت لوماكس (وهو ثمل)، ملوحا بيديه في قفازه الكبير المبطن بالفراء: «ألق القبض على هذا الرجل لعدم قدرته على التوقف عند التقاطع!»
قفز الملك بيلي على الثلج المكوم الصلب متأهبا بقبضتيه للدفاع عن نفسه. وقال: «لن يضع أي شرطي الأصفاد في يدي!»
جرى تسوية المسألة برمتها في النهاية، لكن مسألة استعدائه لهذا الشرطي كانت لا تزال خطوة غير حكيمة. «لا شك في أنه سيكون عازما على إيذائي. وربما يكون هو من كتب هذه الرسائل.»
لكن العمة آيفي قالت إن من يرسل إليهم بتلك الرسائل هو ذلك المتشرد رث الهيئة الذي كان قد جاء إلى باب منزلهم منذ عدة سنوات، وعندما أعطته قطعة من الخبز، لم يشكرها. لكنه قال: «أليس لديك بعض شرائح المورتاديلا؟»
كان الملك بيلي يعتقد أن من يهدده على الأرجح هو الرجل الذي كان قد استأجره لمساعدته في عمل التبن. رحل الرجل بعد يوم ونصف لأنه لم يستطع تحمل العمل في مخزن التبن. قال إنه كاد يختنق حتى الموت وسط الغبار وبذور القش، وكان يريد الحصول على خمسين سنتا إضافية للضرر الذي وقع لرئتيه.
صرخ الملك بيلي فيه قائلا: «سأعطيك الخمسين سنتا التي طلبتها!» ووجه طعنة في الهواء بالمذراة. ثم قال: «تعال إلى هنا كي تأخذ الخمسين سنتا!»
أو هل يمكن أن يكون شخصا يسوي مسألة قديمة؛ أحد هؤلاء الذين كان يركلهم من القطار منذ وقت طويل؟ أو أحد هؤلاء الأشخاص من فترة أبعد من ذلك، ممن أوسعهم ضربا في الحفل الراقص؟
تذكرت العمة آيفي صبيا كان معجبا بها بشدة عندما كانت صغيرة. كان قد رحل إلى الغرب لكنه ربما عاد، وسمع بأنها قد تزوجت.
قال الملك بيلي: «بعد كل هذا الوقت جاء ليطاردك؟ ... ليس هذا مما أعتبره محتملا!» «لكنه مع ذلك ما زال معجبا بي بشدة.»
أخذت فيوليت تتفحص الرسائل مليا. كانت مكتوبة بالقلم الرصاص، على ورق مسطر رخيص. كان الخط واضحا، كما لو كان الكاتب يضغط بالقلم بقوة. لم يكن ثمة محو للكلمات أو مشكلة في الهجاء. كان تركيب الجمل واضحا ومحددا. لكن بأي قدر يمكن أن تستفيد من ذلك؟ •••
كان الباب يغلق بإحكام ليلا. وتسدل الستائر بالكامل. كان الملك بيلي يضع البندقية على المائدة وكأس ويسكي إلى جانبها.
ألقت فيوليت بالويسكي في دلو المهملات وقالت: «أنت لست بحاجة إلى ذلك.»
رفع الملك بيلي يده نحوها؛ على الرغم من أنه لم يكن الرجل الذي يمكن أن يضرب زوجته أو أطفاله.
تراجعت فيوليت لكنها استمرت في حديثها قائلة: «لست بحاجة إلى البقاء متيقظا. سأبقى أنا متيقظة. أشعر بالنشاط وأنت متعب. هيا يا بابا. تحتاج إلى النوم، لا الشراب.»
بعد بعض المجادلة، جرى الاتفاق على هذا. طلب الملك بيلي من فيوليت أن تريه أنها تعرف كيف تستخدم البندقية. ثم ذهب إلى النوم في غرفة الضيوف، على الأريكة الخشنة هناك. كانت العمة آيفي قد دفعت التسريحة إزاء باب غرفة النوم وتطلب الأمر الكثير من الصياح والتفسير حتى تقتنع بدفعها بعيدا.
أضاءت فيوليت المصباح، وتناولت زجاجة الحبر من الرف، وبدأت في الكتابة إلى تريفور لإخباره عن الأمر. دون مباهاة، فقط إخباره بما كان يجري، جعلته يدرك كيف كانت تتولى الأمور وتهدئ من روع الآخرين، وكيف كانت مستعدة للدفاع عن عائلتها. أخبرته حتى عن إلقاء الويسكي، موضحة أن التوتر العصبي الذي كان يعاني منه أبوها هو الذي جعله يفكر في اللجوء لتناول الويسكي في المقام الأول. لم تقل إنها كانت خائفة. أشارت إلى حالة السكون، والظلام، والوحدة في ليالي أوائل الصيف. وبالنسبة إلى من كان يعيش في بلدة أو مدينة، في تلك الليالي يكون الظلام دامسا والوحدة قاسية، لكن ليس هناك سكون كبير، على أي حال. ليس إلا إذا كان المرء يستمع إلى شيء ما. كان المكان مترعا بالأصوات الخافتة، القصية والقريبة، للأشجار في تحركها وتقلبها، وأصوات الحيوانات في تنقلها وأكلها. راقدا خارج الباب، كان تيجر يصدر صوتا مرة أو مرتين وهو ما كان يعني أنه كان يحلم بالنباح.
وقعت فيوليت خطابها: «زوجتك المستقبلية المحبة والمشتاقة دائما إليك»، ثم أضافت: «مع خالص حبي وإخلاصي.» أطفأت المصباح، ورفعت ستارة النافذة، وجلست هناك تراقب الوضع. في خطابها، كانت قد ذكرت أن الريف يبدو جميلا في ذلك الوقت مع إزهار نباتات الحوذان بطول الطرق، لكنها وهي جالسة تراقب لترى ما إذا كان ثمة شيء يتحرك منفصلا عن الظلال المتكتلة في الفناء، وتتسمع وقع أقدام خفيفة، فكرت أنها كانت تكره الريف حقا. كانت المتنزهات أكثر جمالا في وجود الحشائش والزهور، وكانت الأشجار بطول الشوارع في أوتاوا في أجمل صورة يمكن أن يرجوها المرء. كان هناك نظام، وبعض الذكاء. هنا يوجد فراغ، وشائعات، وعبث. ماذا كان سيعتقد الناس الذين كانوا قد دعوها إلى حفلات العشاء إذا رأوها تجلس هنا وأمامها بندقية؟
هب أن المتطفل، القاتل، صعد السلالم؟ كان عليها أن تصوب البندقية تجاهه. أي جرح جراء إطلاق النار من البندقية سيكون مروعا، من هذه المسافة. ستكون ثمة محاكمة وستظهر صورتها في الصحف، تحت عنوان: «نزاع ريفي».
إذا لم تطلق النار عليه، فسيكون الأمر أسوأ.
عندما سمعت صوت طرقة، هبت واقفة على قدميها، وقلبها ينبض. بدلا من تناول البندقية، دفعتها بعيدا. كانت تعتقد أن الصوت آت من الشرفة الخارجية، لكنها عندما سمعته مرة أخرى علمت أنه آت من الدور العلوي. علمت، أيضا، أنها كانت نائمة.
لم يكن ذلك إلا أختيها. كانت بوني هوب ذاهبة إلى الحمام.
أضاءت فيوليت المصباح لهما وقالت: «لم تكونا في حاجة إلى الاستيقاظ معا ... كنت سأذهب معك.»
هزت بوني هوب رأسها وشدت على يد دون روز وقالت: «أريدها أن تذهب معي.»
بدا هذا الرعب الذي كان يتملكهما كما لو كان يجعلهما أقرب إلى البلهاء. لم تكونا تنظران إلى فيوليت. هل تستطيعان حتى تذكر الأيام التي كانتا ترجعان فيها إليها في كل شيء، وكانت هي ترشدهما وتدللهما، وتحاول أن تجعلهما تبدوان جميلتين؟
قالت فيوليت في حزن قبل أن تغلق الباب: «لماذا لا تستطيعان ارتداء ثوب النوم؟» أخذت تراقب وبيدها البندقية حتى عادتا وذهبتا إلى الفراش. ثم أضاءت الموقد وصنعت قهوة؛ لأنها كانت تخشى أن تنام مرة أخرى.
عندما رأت أن الفجر بدأ يظهر، فتحت الباب. وقف الكلب، وهز كل جسده، وذهب ليشرب من الوعاء المثبت إلى جانب المضخة. كان الفناء محاطا بضباب أبيض. كان ثمة مطب صخري بين المنزل ومخزن الحبوب، وكانت الصخور داكنة اللون جراء رطوبة الليل. ماذا كانت مزرعتهم سوى مساحة صغيرة من الأرض الضحلة المتناثرة بين التلال المكونة من كسارة الصخور ومستنقع؟ يا لها من حماقة الاعتقاد في إمكانية الاستقرار هنا والعيش وتكوين عائلة.
كان ثمة شيء غريب على الدرجة العلوية من السلالم؛ حافظة فضلات حصان كاملة، ولامعة. بحثت فيوليت عن عصا تزيحها بها، ثم رأت ورقة تحتها:
لا تظن أن ابنتك المتكبرة العاهرة تستطيع مساعدتك. أراكما طوال الوقت وأكرهها وأكرهك. كيف ترغب في أن يحشر هذا حشرا في حلقك؟
لا بد أنه وضعها هنا أثناء الساعة الأخيرة من الليل، بينما كانت تحتسي قهوتها عند مائدة المطبخ. ربما نظر عبر النافذة، ورآها. عدت لتوقظ أختيها لتسأل عما إذا كانتا قد رأتا شيئا عندما خرجتا، فقالتا: لا، لا شيء. لقد نزلتا على تلك السلالم، ثم صعدتا حاملتين المصباح، ولم يكن ثمة شيء. كان قد وضعها مذاك.
دل هذا على شيء كانت فيوليت مسرورة به. ربما لم يكن للعمة آيفي أي علاقة بالأمر. كانت العمة آيفي تحبس نفسها في غرفتها طوال الليل. ليس هذا لأن فيوليت كانت تعتقد أن أمها كانت حاقدة أو مجنونة إلى درجة تجعلها تفعل شيئا كهذا، لكنها كانت تعلم ماذا كان الناس يقولون. كانت تعلم أنه سيكون هناك أشخاص سيقولون إنهم لم يكونوا يشعرون بدهشة بالغة مما كان يحدث هنا. كانوا سيقولون إن ثمة أشخاصا بأعينهم تقع لهم أشياء غريبة؛ إنه بالقرب من أشخاص بأعينهم يزيد احتمال وقوع تلك الأشياء.
كانت فيوليت تقوم طوال اليوم بأعمال التنظيف. كان خطابها إلى تريفور موضوعا على التسريحة. لم تضعه في صندوق البريد قط. جاء الناس، وسارت الأمور مثل اليوم السابق؛ الحديث، والشكوك، والتخرصات نفسها. كان الفرق الوحيد هو عرض الرسالة الجديدة على الزائرين.
أحضرت أنابيل لهم خبزا طازجا. قرأت الرسالة وقالت: «يجعلني هذا أشعر برغبة في التقيؤ. إنه قريب جدا أيضا. ربما كان بإمكانك سماعه يتنفس تقريبا يا فيوليت. لا بد أنك كدت تفقدين أعصابك كلية.»
قالت العمة آيفي في فخر: «لا يوجد أحد يمكنه أن يدرك الأمر ... أن يدرك ما نمر به هنا.»
قال الملك بيلي: «إذا خطا أي شخص عبر هذا المكان بعد حلول الظلام ... من الآن فصاعدا، فسيطلق عليه النار على الأرجح. هذا كل ما لدي.»
بعد أن تناولوا العشاء، وحلبوا الأبقار وجمعوها، أخذت فيوليت خطابها إلى صندوق البريد حتى يأخذه رجل البريد في الصباح. وضعت البنسات فوق الخطاب كثمن لوضع طابع عليه. تسلقت المنحدر خلف صندوق البريد وجلست هناك.
لم يمر أحد في الطريق. كانت الأيام أطول ما يكون في ذلك الوقت؛ وكانت الشمس تكاد تغرب. مر طائر زقزاق يغرد بالقرب منها، وهو يجرجر أحد جناحيه، يحاول أن يجعلها تتابعه. من المفترض أن بيضه موجود في مكان قريب من هنا. كانت طيور الزقزاق تضع بيضها على الطريق، على الحصى، ثم تقضي وقتها تحاول أن تجذب الناس بعيدا عنها.
كانت حالتها تسوء مثل الملك بيلي، ظانة أنها كانت تشعر بشخص خلفها. كانت تحاول ألا تتلفت، لكنها لم تستطع منع نفسها من ذلك. قفزت والتفتت، بغتة، ورأت أثر شعر أحمر أظهرته الشمس الآخذة في المغيب، خلف شجيرة عرعر.
لم يكن ذلك إلا دون روز وبوني هوب.
قالت فيوليت في مرارة: «ماذا تفعلان هناك، أتحاولان إخافتي؟ ... ألسنا جميعا مذعورات بما يكفي؟ أستطيع أن أراكما! ماذا تظنان أنكما فاعلتان؟»
خرجتا، وبينتا لها ما كانتا تفعلانه؛ كانتا تلتقطان فراولة برية.
بين الوقت الذي رأت فيه أثر الشعر الأحمر والوقت الذي رأت فيه حبات الفراولة الحمراء في أيديهما، أدركت فيوليت الأمر. لكنها لم تكن لتعلم بالأمر منهما إلا من خلال استدراجهما ومعرفة مبرراتهما، فضلا عن إبداء إعجابها وتعاطفها. ربما ليس حتى حينها.
قالت: «ألا يمكنني الحصول على حبة فراولة ... هل أنتما غاضبتان مني؟ أعرف سركما.»
قالت: «أعرف ... أعرف من كتب تلك الخطابات. أعرف أنه أنتما. خدعتمانا على نحو جيد، أليس كذلك؟»
بدأ وجه بوني هوب في الارتعاش. جزت بأسنانها على شفتها السفلية. لم يتغير وجه دون روز على الإطلاق. لكن فيوليت رأت قبضتها وهي تنغلق على حبات الفراولة التي التقطتها. كانت العصارة الحمراء تتسرب من بين أصابع دون روز. ثم بدا أنها رأت أن فيوليت كانت إلى جانبها - أو أنها لم تكن تأبه بالأمر - وابتسمت. كانت هذه الابتسامة، أو الابتسامة العريضة، ابتسامة اعتقدت فيوليت أنها لن تنساها أبدا. كانت بريئة وشريرة، مثل ابتسامة شخص موثوق فيه اتضح أو اكتشف أنه عدو في حلم. كانت ابتسامة دون روز الصغيرة الممتلئة، أختها، والابتسامة العريضة لشخص غريب بارد، ماكر، ناضج، فاسق، شرير.
كان ذلك كله من صنيع دون روز. انكشف الأمر. انكشف كل شيء الآن. كانت دون روز قد كتبت جميع الخطابات والرسائل ودبرت أين تضعها، ولم تفعل بوني هوب أي شيء سوى المشاهدة وعدم الإفصاح عن الأمر. تم إرسال أول خطابين من البلدة. أرسل الخطاب الأول عندما أخذت دون روز إلى البلدة لزيارة الطبيب لمعاناتها من ألم في أذنها. أرسل الخطاب الثاني عندما ذهبتا إلى المدينة في صحبة أنابيل في سيارتها. (وجدت أنابيل حجة للذهاب إلى البلدة كل يوم، بعد أن أصبح لديها سيارة الآن.) كان يسهل الذهاب إلى مكتب البريد في كلتا المرتين. ثم بدأت دون روز في وضع الرسائل في أماكن أخرى.
أخذت بوني هوب تضحك في خفوت. ثم بدأت في الشهق، ثم الانتحاب.
قالت فيوليت: «اهدئي ... لم يكن أنت من فعل ذلك!»
لم تبد دون روز أي علامة من علامات الخوف أو الندم. رفعت يديها مضمومتين إلى وجهها لتناول حبات الفراولة المهروسة. لم تسأل حتى عما إذا كانت فيوليت ستخبر أحدا بما عرفته أم لا. ولم تسألها فيوليت لماذا فعلت ذلك. ظنت فيوليت أنها لو سألتها، بشكل مباشر، فربما ستقول دون روز إنها صنعت ذلك من قبيل المزاح. سيكون ذلك سيئا بما يكفي. لكن ماذا إذا لم تقل أي شيء على الإطلاق؟
بعد أن صعدت أختاها إلى الدور العلوي تلك الليلة، أخبرت فيوليت الملك بيلي أنه ليس عليه أن يظل ساهرا بعد الآن. «لماذا؟» «ائت بأمي هنا وسأخبركما.» كانت تقصد قول «أمي» بدلا من «العمة آيفي» أو حتى «ماما».
قرع الملك بيلي بعنف على باب غرفة النوم. «انقلي هذا الشيء بعيدا واخرجي من هنا! فيوليت تريدك!»
رفعت فيوليت ستار النافذة، وفتحت المزلاج، وفتحت الباب. وقفت وكانت البندقية في ركن الغرفة.
أخذا وقتا طويلا حتى بدآ يعيان ما تقوله لهما فيوليت. جلس الوالدان وأكتافهما متهدلة، وأيديهما موضوعة على ركبهما، وكانت ترتسم على وجهيهما ملامح الحرمان والدهشة. بدا أن الملك بيلي قد استوعب الأمر أولا.
قال: «لماذا تفعل هذا بي؟»
كان ذلك هو ما ظل يردده، وكان كل ما استطاع أن يقوله عندما كان يفكر في الأمر. «ماذا تظنين السبب في أنها تفعل هذا بي؟»
نهضت العمة آيفي ووضعت قبعتها. شعرت بهواء الليل يدخل من الباب السلكي الخارجي.
قالت: «سنصبح أضحوكة الناس الآن.»
قالت فيوليت: «لا تخبرا أحدا.» (كما لو كان ذلك ممكنا.) «لا تخبرا أحدا بأي شيء. دعا الأمر ينحسر تدريجيا .»
هزت العمة آيفي نفسها على الأريكة، مرتدية قبعتها وثوب النوم الكئيب والحذاء طويل العنق المطاطي. وقالت: «سيقولون الآن إن لدينا نزعة غريبة في هذه العائلة، هذا لا شك فيه.»
قالت فيوليت لأبويها أن يذهبا إلى الفراش كي يناما، وذهبا، كما لو كانا هما الأبناء. وعلى الرغم من أنها لم تخلد إلى الفراش في الليلة السابقة وكانت عيناها تبدوان كما لو كان جرى حكهما بورقة صنفرة، كانت متأكدة أنها لن تستطيع النوم أبدا. تناولت جميع الخطابات والرسائل التي كانت دون روز قد كتبتها من موضعها خلف الساعة، وطوتها دون أن تنظر إليها ووضعتها في ظرف. كتبت رسالة ووضعتها معها، وكتبت عنوان تريفور على الظرف. وقالت في رسالتها:
عرفنا من كتب هذه الخطابات والرسائل، إنها أختي. تبلغ أربعة عشر عاما. لا أعلم ما إذا كانت قد جنت، أم ماذا. لا أعرف ماذا يجب أن أفعل. أريدك أن تأتي، وتصطحبني، وتأخذني بعيدا. أكره المكان هنا. ترى كيف تفكر. لا أستطيع النوم هنا. رجاء إذا كنت تحبني، فتعال، واصطحبني، وخذني بعيدا.
أخذت هذا الظرف إلى صندوق البريد في الظلام، ووضعت البنسات فوقه ثمنا للطابع الذي سيوضع عليه. كانت قد نسيت حقيقة الخطاب الآخر والبنسات الموضوعة فوقه بالفعل. بدا كما لو أن ذلك الخطاب قد أرسل قبل أيام.
رقدت على الأريكة الخشنة في غرفة الضيوف. في الظلام، لم تستطع أن ترى اللوحة التي كانت تعتقد أنها مؤثرة، وساحرة جدا. حاولت جاهدة أن تتذكر الشعور الذي كانت تمنحها إياه. وراحت في النوم سريعا جدا. •••
لماذا فعلت فيوليت هذا؟ لماذا أرسلت تلك الخطابات والرسائل القبيحة إلى تريفور، وأرفقت رسالة كهذه معها؟ هل كانت تريد حقا أن يقوم بإنقاذها، أن يخبرها ماذا تفعل؟ هل كانت تريد مساعدته في مشكلة دون روز؛ أن يساعدها ولو بصلواته؟ (منذ أن بدأ هذا الأمر كله، لم تكن فيوليت قد فكرت في الصلاة على الإطلاق، أو في الرب على أي نحو.)
لم تكن لتعرف أبدا لماذا فعلت ذلك. كانت لا تستطيع النوم، وكانت أعصابها متوترة ، وخانتها قدرتها على الحكم على الأمور على نحو صائب. كان هذا هو كل ما في الأمر.
في اليوم الذي تلا أخذ تلك الخطابات ووضعها في ظرف لإرساله إلى تريفور، كانت فيوليت تقف إلى جانب صندوق البريد في الصباح. كانت تريد أن تذهب مع رجل البريد إلى البلدة، حتى تلحق بقطار الساعة الواحدة المتوجه إلى أوتاوا.
قال رجل البريد: «هل تواجهون مشكلة ما؟ ... مشكلة متعلقة بوالدك؟»
قالت فيوليت: «الأمور على ما يرام ... انتهى هذا الأمر تماما.»
كانت تعلم أن البريد الذي يرسل من هنا يصل إلى أوتاوا في اليوم التالي. كان ثمة مرتان لإرسال الخطابات والطرود؛ إحداهما في الصباح والأخرى فيما بعد الظهيرة. إذا لم يكن تريفور موجودا طوال اليوم - وهو كذلك عادة - كانت الخطابات توضع في انتظاره على مائدة الردهة في المنزل حيث كان يقطن، منزل أرملة أحد القساوسة. كان الباب الأمامي يترك مفتوحا عادة. كانت فيوليت تستطيع الوصول إلى الخطابات قبل أن يقرأها. •••
كان تريفور في المنزل. كان مصابا ببرد صيف شديد. كان يجلس في غرفة مكتبه طاويا وشاحا أبيض حول رقبته مثل ضمادة.
قال بينما كانت فيوليت تعبر الغرفة في اتجاهه: «لا تقتربي مني، أنا مليء بالجراثيم.» من خلال نبرة صوته، كان المرء سيعتقد أنها تقترب منه.
قال: «نسيت أن تتركي الباب مفتوحا.» كان يجب ترك باب غرفة المكتب مفتوحا عندما كانت فيوليت داخلها، حتى لا يتسبب ذلك في فضيحة لأرملة القس.
مبسوطة على مكتبه، بين كتبه وأوراق العظات، كانت ترقد الخطابات الملطخة، المكرمشة، المخزية التي كانت دون روز قد كتبتها.
قال تريفور، بصوت متعب، أجش: «اجلسي ... اجلسي يا فيوليت.»
لذا، اضطرت إلى الجلوس أمام مكتبه، مثل عضو غير سعيد في الكنيسة، امرأة شابة فقيرة وقعت في مشكلة.
قال إنه ليس مندهشا لرؤيتها. كان قد ظن أنها ستأتي. كانت تلك هي الكلمات التي استخدمها: «تأتي.»
قال: «كنت ستمزقينها إذا كنت وصلت إليها أولا.»
نعم. بالضبط.
قال: «لذا ما كنت سأعرف أبدا بالأمر.» «كنت سأخبرك يوما ما .»
قال تريفور ، في صوت بائس أجش: «أشك في ذلك.» ثم تنحنح قائلا: «معذرة، لكنني أشك في ذلك.» في محاولة لأن يصبح أكثر لطفا، وصبرا، وودا.
تحدثا من فترة منتصف ما بعد الظهيرة حتى خيم الظلام. كان تريفور يتحدث. حك حلقه من الخارج حتى يبقي على صوته. تحدث حتى صار حلقه جافا تماما، ثم توقف لأخذ راحة، ثم تحدث مجددا. لم يقل شيئا لم تتوقعه فيوليت، منذ اللحظة التي رفع عينيه إليها، من اللحظة التي قال فيها: «لا تقتربي مني.»
وفي الخطاب الذي تلقته منه، بعدها بأيام - الذي قال فيه الأشياء التي لم يستطع حمل نفسه على قولها في وجهها - لم يكن ثمة كلمة واحدة أيضا لم تكن تعرفها مقدما. كان من الممكن أن تكتبه له. (كانت جميع الخطابات التي كتبتها دون روز مرفقة بالخطاب.)
ليس القس، لسوء الحظ، حرا تماما في الحب أو في الاختيار. يجب أن تكون زوجة القس امرأة لا تجلب معها أي مشكلات قد تتسبب في تشتيت انتباه زوجها وصرف تركيزه عن خدمة الرب ورعيته. يجب ألا يوجد أي شيء أيضا في خلفية زوجة القس أو أقاربها مما يثير القيل والقال بشأنها أو يسبب فضيحة. حياتها عادة صعبة، ويتحتم أن تتمتع بأفضل صحة جسدية وعقلية، دون أي عيب وراثي أو ضعف، حتى تتحمل واجباتها.
جاء كل ذلك مع وجود قدر عظيم من التكرار، والتضخيم، ومحاولة الانحراف عن الموضوع، وفي وسط كل هذا، بعض الجدل حول الإتيان بدون روز كي يفحصها بعض الأطباء هنا، وعزلها في مكان ما بعيد. قال تريفور إن دون روز لا شك شخص مختل عقليا جدا.
لكن بدلا من أن تشعر أنها كانت ترغب في أن يحل تريفور مشكلة دون روز من أجلها، بدت فيوليت الآن تشعر أن عليها حماية دون روز منه.
قالت: «ألا يمكن أن نسأل الرب أن يشفيها؟»
كانت تعرف من خلال نظرته أنه كان يظنها متطاولة. كان الأمر يرجع إليه في ذكر الرب، لا إليها. لكنه قال في هدوء إن الرب يشفي الناس من خلال الأطباء والعلاج. من خلال الأطباء، والعلاج، والقوانين، والمؤسسات. هكذا يجري الرب مقاديره.
قال: «هناك نوع من الجنون الأنثوي الذي يصيب النساء في هذه السن ... أنت تعرفين ما أقصد. يكرهن الرجال. يلمنهم. هذا جلي. لديها كراهية مجنونة للرجال.»
لاحقا، تساءلت فيوليت عما إذا كان يحاول الإبقاء على الباب مفتوحا لها آنذاك. وإذا كانت قد وافقت على عزل دون روز في مكان ما، فهل كان سيفسخ خطبتهما؟ ربما لا. على الرغم من أنه كان يحاول أن يبدو أرقى وأكثر عقلانية، كان هو، أيضا، ربما يشعر باليأس.
مرات عديدة، كان يقول الشيء نفسه لها. «لن أتحدث إليك، لا أستطيع التحدث إليك، إلا إذا توقفت عن البكاء.»
دخلت زوجة القس، وسألت عما إذا كانا يرغبان في تناول العشاء. قالا لا، فذهبت، ممتعضة. قال تريفور إنه لا يستطيع البلع. عندما كان الظلام آخذا في الحلول، خرجا. سارا في الشارع متوجهين إلى الصيدلية، وطلبا اثنين من شراب مخفوق اللبن، وشطيرة دجاج لفيوليت. كان مذاق الدجاج مثل قطع الخشب في فمها. سارا إلى جمعية الشابات المسيحيات، حيث كانت تستطيع أن تجد غرفة تقضي فيها الليلة. (كانت الغرفة في نزلها محجوزة لها، لكنها لم تستطع مواجهة الذهاب إلى هناك.) قالت إنها ستركب قطار الصباح الباكر.
قال تريفور: «لست مضطرة إلى ذلك ... نستطيع أن نتناول الإفطار. ذهب صوتي الآن.»
ذهب صوته. كان يهمس.
همس قائلا: «سأصطحبك ... سأصحبك في الثامنة والنصف.»
لكنه لم يلمس قط، مرة أخرى، بفمه أو خده البارد فمها أو خدها. •••
غادر قطار الصباح الباكر في الساعة الثامنة إلا عشر دقائق، وكانت فيوليت على متنه. كانت تخطط لأن تكتب رسالة إلى المرأة في النزل الذي تقيم فيه وإلى مكتب الكنيسة حيث كانت تنوي أن تعمل. لن تؤدي اختباراتها. لا تستطيع البقاء في أوتاوا يوما آخر. كان رأسها يؤلمها على نحو رهيب تحت أشعة شمس الصباح. هذه المرة، لم يغمض لها جفن طوال الليل. عندما بدأ القطار في التحرك، كان الأمر كما لو كان تريفور يسحب بعيدا عنها. بل إن الأمر يتجاوز تريفور. كانت حياتها بأسرها تسحب منها بعيدا؛ مستقبلها، حبها، نصيبها، آمالها. كل ذلك كان ينزع مثل جلد، وكان مؤلما للغاية، ما جعلها عارية من أي غطاء ومصابة بآلام حادة.
هل كانت تحتقره، حينئذ؟ إذا كانت كذلك، فلم تكن تعرف ذلك. لم يكن هذا شيئا تستطيع معرفته. لو أنه جاء في أعقابها، لكانت ستعود إليه؛ وهي مسرورة. حتى اللحظة الأخيرة، كانت تأمل في أن يأتي مهرولا إلى رصيف المحطة. كان يعلم متى يغادر قطار الصباح الباكر. ربما يستيقظ، ويعرف ماذا كانت تفعل، ويأتي في أعقابها. لو كان قد فعل ذلك، لكانت ستستسلم بشأن دون روز؛ كانت ستفعل أي شيء كان يريده.
لكنه لم يأت وراءها، لم يأت. وجهه غير موجود بين الوجوه الموجودة في المحطة؛ لم تستطع احتمال النظر إلى أي شخص.
في لحظات كهذه، كانت فيوليت تحدث نفسها، لا بد أن الناس يفعلون الأشياء التي يسمع المرء بها، ويقرأ عنها في الصحف. الأشياء التي يحاول المرء تصورها، أو يحاول ألا يتصورها. كانت تستطيع تصور الأمر، كانت تستطيع أن تشعر كيف سيكون الأمر. الرحلة المشمسة السريعة، ثم الارتطام بالمنحدر الحصوي. سيكون إغراق المرء نفسه أمرا أفضل، لكن كان سيتطلب عزما أكبر. على المرء أن يظل راغبا في شيء كهذا، ويستمر على هذا النحو، يستسلم للماء، ويبتلعه بكميات كبيرة حتى الموت.
إلا إذا قفز المرء من أعلى جسر.
هل من الممكن أن تكون هذه هي فيوليت؟ هل من الممكن أن تكون هذا الشخص الذي يفكر في فكر كهذه، جرى اختزالها إلى هذه الاحتمالات، شخص حياته منقلبة رأسا على عقب؟ شعرت كما لو كانت تشاهد مسرحية، وإن كانت أحد أبطالها. وداخل المسرحية، كانت في خطر عظيم. أغمضت عينيها، وصلت بسرعة؛ وهو ما كان، أيضا، جزءا من المسرحية، لكنه كان حقيقيا؛ المرة الأولى في حياتها، هكذا حدثت نفسها، التي صلت ودعت فيها حقيقة.
نجني. نجني. أعدني إلى رشدي. أرجوك. أرجوك أسرع. أرجوك.
وما رأت بعد ذلك أنها تعلمته على متن رحلة القطار هذه، التي استغرقت أقل من ساعتين إجمالا، هو أن دعواتها أجيبت. الدعوات اليائسة تجاب. كانت تعتقد أنها لم يكن لديها أدنى فكرة عن ماهية الصلوات، أو الإجابات. وها قد هبط شيء عليها في القطار، ولفها لفا. هبطت الكلمات عليها، وكانت مثل ملابس باردة، باردة تلفها.
لم يكن هدفك أن تتزوجيه.
لم يكن هدف حياتك.
أن تتزوجي تريفور. ليس هدف حياتك.
هناك هدف لحياتك، وتعرفين ما هو. «أن تعتني بهم. جميعهم، كل عائلتك، ودون روز على وجه الخصوص. أن تعتني بهم جميعا، ودون روز على وجه الخصوص.»
كانت تنظر خارج النافذة، وهي تدرك ذلك. كانت الشمس تسطع على الحشائش الخفيفة في شهر يونيو، ونباتات الحوذان، والتودفلاكس، والصخور الناعمة القديمة، المتناثرة في الريف المترامي كله الذي لم تكن لتعيره أدنى اهتمام، وكانت الكلمة التي وردت على خاطرها «ذهبية».
فرصة ذهبية.
من أجل ماذا؟
تعرفين من أجل ماذا. للتسليم. للاستسلام. للعناية بهم. للحياة من أجل الآخرين.
كانت هذه هي الطريقة التي رأت فيوليت من خلالها كيف تتخلص من ألمها. حمل ثقيل زال عن كاهلها. إذا كان من الممكن أن تركع وتخلف نفسها القديمة وراءها أيضا، وجميع فكرها حول كيف تكون حياتها، لكان الحمل الثقيل، الألم، الإهانة، كل ذلك سيختفي على نحو سحري. هكذا ستؤدي المطلوب منها. يمكن أن تكون مثل الحشائش في شهر يونيو التي كان يتخللها ضوء الصباح، ويضيئها مثل الريش القرنفلي أو خطوط من سحابة وقت شروق الشمس. إذا صلت بما يكفي وحاولت بما يكفي، فسيكون ذلك ممكنا. •••
قال الناس إن الملك بيلي لم يعد كسابق عهده بعد التجربة التي تعرض لها. لم يعد كسابق عهده قط. قالوا إنه صار شيخا، أخذ يذبل بصورة ملحوظة. لكنه كان شيخا، شيخا طاعنا، عندما حدث كل ذلك. لم يتزوج حتى تخطى الأربعين. واصل حلب الأبقار، والتحرك ذهابا وإيابا إلى مخزن الحبوب في شتاءات قليلة أخرى شديدة البرودة، ثم مات جراء الالتهاب الرئوي.
كانت دون روز وبوني هوب قد ذهبتا إلى العيش في البلدة في ذلك الوقت. لم تذهبا إلى المدرسة الثانوية. حصلتا على وظيفة في مصنع الأحذية. صارت بوني هوب جميلة واجتماعية إلى حد بعيد، وجذبت انتباه بائع اسمه كولارد. تزوجا، وانتقلا إلى إدمنتن. أنجبت بوني هوب ثلاث بنات. وكانت تكتب خطابات رصينة إلى أهلها.
تحسن مظهر وسلوك دون روز أيضا. كانت معروفة في مصنع الأحذية كعاملة مجدة، شخص لا يستحسن إغضابه، شخص يستطيع إلقاء بعض النكات الجيدة إذا كان مزاجها يسمح بذلك. تزوجت، أيضا؛ مزارعا يسمى كيمب، من الجزء الجنوبي من المقاطعة. لم يظهر منها أي سلوك غريب أو شذوذ أو شطط مرة أخرى. كان يقال إن ثمة شيئا فظا بها؛ وكان هذا هو كل شيء. أنجبت ولدا.
استمرت فيوليت في العيش مع العمة آيفي في المزرعة. حصلت على وظيفة في شركة الهاتف المحلية. اشترت سيارة، حتى تستطيع الذهاب والرجوع من العمل. ألم تكن تستطيع أن تجري اختبارات التدريس في عام آخر؟ ربما نعم، ربما لا. عندما تخلت عن الأمر، تركته تماما. لم تعتقد في إمكانية إعادة المحاولة مرة أخرى. كانت تتمتع بكفاءة في عملها.
كانت العمة آيفي لا تزال تجوس في الفناء والبستان، تبحث عن الأماكن التي ربما خبأت بعض الدجاجات فيها بيضها. كانت ترتدي قبعتها وحذاءها طويل العنق. كانت تحاول أن تتذكر أن تنظف حذاءها عند الباب، حتى لا تثور فيوليت غضبا.
لكن فيوليت لم تعد تفعل ذلك مجددا. •••
ذات ظهيرة عندما كانت في راحة من العمل، قادت فيوليت سيارتها لترى دون روز. كانتا على ود، كان زوج دون روز يحب فيوليت، لم يكن ثمة سبب ألا تذهب على غير موعد.
وجدت أبواب المنزل مفتوحة. كان يوم صيف دافئا. خرجت دون روز، التي صارت بدينة جدا الآن، إلى الشرفة الخارجية وقالت إن اليوم لم يكن يوما مناسبا للزيارة، وكانت تلمع الأرضيات. هكذا كان الأمر فعلا؛ كانت فيوليت تشم رائحة مادة التلميع. لم تقدم دون روز عصير ليمون أو تطلب من فيوليت أن تجلس في الشرفة الخارجية . فقد كانت مشغولة جدا ذلك اليوم.
جاء ابنها الصغير السمين الخجول، الذي كان يحمل الاسم الغريب دين، وتعلق برجليها. كان يحب فيوليت، لكنه تصرف اليوم بشكل غريب.
رحلت فيوليت. لم تكن تعلم، بالطبع، أنه في غضون عام كانت دون روز ستموت جراء جلطة ناشئة عن التهاب وريدي مزمن. لم تكن دون روز هي من تفكر فيه، لكن كانت تفكر في نفسها، أثناء قيادتها على رقعة خفيضة من الطريق ذات الأشجار والأجمات الكثيفة على الجانبين وحينئذ سمعت صوتا يقول: «حياتها مأساوية.» «حياتها مأساوية»، هكذا قال الصوت في وضوح ودون إبداء أي عاطفة خاصة، وأسرعت فيوليت، كما لو كانت أصيبت بالعمى، بالسيارة وخرجت عن الطريق. لم يكن ثمة مصرف على جانب الطريق، لكن كانت الأرض سبخية، فلم تستطع إخراج السيارة منها. نزلت من السيارة ونظرت إلى حيث انغرست عجلاتها، ثم وقفت إلى جانب السيارة في انتظار شخص يأتي ويدفع السيارة.
لكنها عندما سمعت صوت سيارة قادمة، كانت تعلم أنها لا ترغب في أن يجدها أحد. لم تطق أن يجدها أحد. عدت بعيدا عن الطريق إلى الغابة، إلى الأجمات، وعلقت. علقت في شجيرات التوت البري، شجيرات الزعرور البري الصغيرة. تمسكت. اختبأت لأنها لم تكن تريد أن يراها أحد، إذا كانت حياتها مأساوية. (2) تلبس
يعتقد دين أنه يتذكر شيئا عن فيوليت - خالته - من الفترة التي سبقت وفاة أمه. يتذكر قليلا جدا من ذلك الماضي البعيد. يتذكر أمه بصعوبة. يمتلك صورة لأمه وهي تقف أمام المرآة عند حوض المطبخ، عاقصة شعرها الأحمر تحت قبعتها المصنوعة من القش ذات اللون الأزرق الداكن. يتذكر وجود شريط أحمر براق على القبعة. لا بد أنها كانت تستعد للذهاب إلى الكنيسة. يرى رجلا متورمة، ذات لون بني باهت، ويربط بينها وبين مرضها الأخير. لكنه يشك في أنه رأى ذلك من قبل. لماذا تكون رجلها بهذا اللون؟ لا بد أنه سمع أشخاصا يتحدثون عن ذلك. سمعهم يقولون إن رجلها كانت كبيرة مثل البرميل.
يظن أنه يتذكر فيوليت آتية على العشاء، مثلما كانت تفعل عادة، حاملة معها بودنج، كانت تضعه في الخارج في الثلج حتى تحافظ على برودته. (لم يكن أي من منازل المزارع يمتلك ثلاجات في تلك الأيام.) ثم سقطت الثلوج، وغطى الثلج طبق البودنج، الذي غاب عن الأنظار. يتذكر دين فيوليت وهي تطأ بقدمها هنا وهناك في الفناء المغطى بالثلوج بعد حلول الظلام، منادية: «بودنج، بودنج، تعال هنا، بودنج!» كما لو كان كلبا. لم يتمالك نفسه من الضحك، وكانت أمه وأبوه يضحكان عند عتبة الباب، وأخذت فيوليت تتقن أداءها، فتوقفت وأخذت تصفر.
بعد فترة ليست بالطويلة من وفاة أمه، ماتت جدته؛ التي كانت تعيش مع فيوليت، وكانت ترتدي قبعة سوداء، وكانت تنادي على الدجاج بطريقة بدت مماثلة للغته تماما، دندنة وقرقرة متواصلان. ثم باعت فيوليت المزرعة وانتقلت إلى البلدة، حيث حصلت على وظيفة لدى شركة بيل للهواتف. كان ذلك خلال الحرب العالمية الثانية، عندما كان ثمة نقص في الرجال، وسرعان ما صارت فيوليت مديرة. كان ثمة شعور بأنها كان يجب أن تتنحى عن موقعها عندما انتهت الحرب، وأن تتخلى عن الوظيفة لأحد الرجال ممن لديهم أسر يعولونها. يتذكر دين أنه سمع أحدهم يقول ذلك؛ امرأة، ربما إحدى عماته، وهي تقول إن ذلك كان سيصبح شيئا محمودا. لكن رفض أبوه ذلك، وقال إن فيوليت فعلت الشيء الصحيح. قال إن فيوليت تمتلك الشجاعة والإصرار.
بدلا من الفساتين الكئيبة، الفضفاضة، المزينة بالخرز التي كانت النساء المتزوجات - الأمهات - ترتدينها، كانت ترتدي تنورات وبلوزات. كانت ترتدي تنورات مكشكشة من الجبردين ذات نقوش مربعة مفعمة بالحيوية، باللون الأزرق الداكن، أو الرمادي، مع بلوزات رائعة عاجية اللون من الساتان، أو بيضاء مكشكشة من الجورجيت، أو قرنفلية أو صفراء أو فضية اللون من كريب الرايون. كان لون معطفها الجميل أحمر أرجوانيا، وكان ذا ياقة من فراء الثعالب الفضية. لم يكن شعرها متموجا أو مفرودا بشكل دائم، لكنه كان مصففا في صورة لفة بهية، سميكة، داكنة. كانت تضع بودرة تجميل على بشرتها، بلون قرنفلي خفيف، مثل الصدفة الكبيرة التي كانت تمتلكها وكانت تدع دين يستمع إليها. يعرف دين الآن أنها كانت تشبه في ملابسها، وشكلها، سيدات الأعمال، السيدات العاملات، في تلك الأيام. مسايرة للموضة ومتأنقة في آن واحد، جميلة القد وإن لم تكن نحيفة تماما، لا هو قد امرأة ناضجة ولا فتاة. ما اعتبره مميزا وفريدا لم يكن كذلك حقا. كانت هذه هي الحقيقة التي اكتشفها حيال معظم الأشياء عندما صار أكبر سنا. بالمثل، تحمي ذاكرته فيوليت من أي نوع من التكرار، أو التصنيف، لا توجد طريقة في ذلك الماضي البعيد يمكن اختزال فيوليت من خلالها.
في البلدة، كانت فيوليت تعيش في شقة فوق بنك رويال. كان على المرء للوصول إليها صعود سلالم طويلة، ذات درجات متقاربة. كانت النوافذ الطويلة في غرفة المعيشة تسمى النوافذ الفرنسية. كانت تفتح على شرفتين صغيرتين ذواتي درابزين يبلغ حتى الوسط فقط مصنوع من الحديد المطاوع. كانت الحوائط مطلية، وليست مغطاة بورق حائط. كان لونها أخضر فاتحا. اشترت فيوليت أريكة جديدة ومقعدا منجدا بقماش أخضر طحلبي فاخر، ومائدة قهوة كانت توضع أعلاها صينية زجاجية. كان يطلق على الستائر السدائل، وكانت ذات حبال شد. مع انغلاقها على النوافذ، كان ثمة نمط من الأوراق الكريمية اللون البراقة التي تظهر عبر الخلفية الكريمية الباهتة. لم يكن ثمة ضوء في السقف؛ فقط مصابيح طويلة توضع على الأرضيات. في المطبخ، كان ثمة خزائن وركن للأكل من خشب الصنوبر المليء بالعقد. كانت هناك سلالم أخرى - كانت هذه متباعدة وشديدة الميل - تفضي إلى فناء خلفي مسيج صغير، لم يكن يستخدمه إلا فيوليت. كان مطوقا بشكل رائع، جاهزا للترتيب والتزيين، مثل أي غرفة معيشة. •••
خلال العامين الأولين اللذين كان يذهب خلالهما إلى المدرسة الثانوية في البلدة، كان دين يزور فيوليت كثيرا جدا. كان يبيت ليلا في الشقة عندما يكون الجو عاصفا. كانت فيوليت تعد له فراشا على الأريكة ذات اللون الأخضر الطحلبي. كان صبيا نحيفا، نهما، أحمر الشعر في تلك الأيام - لا يستطيع أحد الثناء على النحافة الآن - وكانت فيوليت تطعمه جيدا . كانت تصنع له شوكولاتة ساخنة بالكريمة المخفوقة وقت النوم. كانت تقدم له دجاجا بالكريمة في قوالب التارت، وكعكا مكونا من عدة طبقات، وشيئا يسمى فطيرة شراب القيقب. كانت تأكل قطعة واحدة، ويأكل هو الباقي. كان هذا تغييرا كبيرا مقارنة بالوجبات سريعة التجهيز وغير المعدة بإتقان في المنزل التي كان يتناولها مع أبيه والرجل الذي كان يعمل عندهم. كانت فيوليت تحكي له قصصا عن طفولتها في المزرعة، مع أمه وخالته، التي تعيش في إدمنتن الآن، وأمها وأبيها، الذين كانت تطلق عليهم جميعا «شخصيات». كان كل شخص يمثل شخصية في تلك القصص؛ كان كل شيء مصاغا بحيث يكون مضحكا.
كانت قد اشترت مشغل أسطوانات، وأسمعته بعض الأسطوانات، وطلبت منه أن يختار الأسطوانة المفضلة لديه. كانت أسطوانته المفضلة هي تلك التي حصلت عليها كهدية عندما انضمت إلى أحد نوادي الأسطوانات الموسيقية الذي قدمها إلى عالم الموسيقى الكلاسيكية. كانت هذه هي الأسطوانة الخاصة بمقطوعة «الطيور»، لريسبيجي. كانت أسطوانتها المفضلة تلك الخاصة بكينيث ماكيلر التي تضم مجموعة من أغانيه الدينية والعادية.
لم تعد تذهب إلى مزرعة دين. لم يكن والد دين، عندما كان يذهب لاصطحاب دين، يملك وقتا على الإطلاق لتناول قدح من القهوة في بيت فيوليت. ربما كان خائفا من أن يجلس في شقة أنيقة كهذه بملابس المزرعة. ربما كان لا يزال يحمل بعض الضغينة تجاه فيوليت لما فعلته في الكنيسة.
كانت فيوليت قد اتخذت قرارا هناك، في بداية حياتها في البلدة. كان للكنيسة بابان. كان يستخدم أحد البابين الريفيون - وكان السبب في ذلك هو أنه كان أقرب إلى سقيفة العربات وغيرها من وسائل النقل الريفية - وكان الأشخاص الذين يقطنون في البلدة يستخدمون الباب الآخر. في الداخل، كان هناك نفس التقسيم؛ أهل البلدة في جانب من الكنيسة، والريفيون في الجانب الآخر. لم يكن ثمة شعور محدد بعلو المنزلة أو الدونية؛ لكن هكذا كانت تسير الأمور. حتى الريفيون الذين كانوا قد تقاعدوا وانتقلوا إلى البلدة كانوا حريصين ألا يستخدموا باب أهل البلدة، على الرغم من أن ذلك ربما كان يعني الانحراف عن طريقهم، والسير متجاوزين باب أهل البلدة وصولا لباب الريفيين.
جعل بالتأكيد انتقال فيوليت للعيش بالبلدة، وعملها فيها، منها شخصا منتميا إلى البلدة. لكنها عندما جاءت إلى تلك الكنيسة للمرة الأولى، كان دين ووالده هما الشخصين الوحيدين اللذين كانت تعرفهما. كان اختيار جانب الريفيين سيعبر عن الوفاء، وبعض الاعتزاز بالنفس، التخلي عن الامتياز الممنوح لها. (كان صحيحا أن معظم القساوسة، والمدرسين المساعدين، ومدرسي مدارس الأحد كانوا يختارون من جانب أهل البلدة، مثلما كانت القبعات الرائعة وملابس السيدات التي تساير الموضة تظهر في هذا الجانب.) كان اختيار جانب أهل البلدة، وهو ما فعلته فيوليت، تعبيرا عن قبول هذه المكانة، وربما حتى الرغبة في المزيد.
لامها والد دين أثناء سيرهم على الرصيف بعد ذلك. «هل أعجبتك الصحبة هناك؟»
قالت فيوليت، متظاهرة بأنها لا تعرف عما كان يتحدث: «بدا الأمر أسهل فقط ... لا أعرف شيئا عن تلك الصحبة. أعتقد أن أحد الأشخاص لديه سيجار مطفأ في جيبه.»
كان دين يتمنى بشدة ألا تفعل فيوليت ذلك. لم يكن ذلك لأنه كان يريد أن تتطور علاقة ما بشكل جدي بين فيوليت وأبيه؛ زواج، على سبيل المثال. لم يكن يستطيع تخيل ذلك. كان يريدهما فقط أن يكونا في الجانب نفسه، حتى يكونا في جانبه.
في ظهيرة أحد أيام شهر يونيو، عندما كان قد فرغ من أداء أحد اختباراته، قصد دين شقة فيوليت لاسترجاع كتاب كان قد تركه هناك. كان مسموحا له باستخدام الشقة للمذاكرة فيها بينما كانت هي في العمل. كان يفتح النوافذ الفرنسية ويسمح بدخول رائحة الريف المتحرر لتوه من الثلوج، بكل جداولها ومستنقعاتها المتسربة، وأشجار الصفصاف الآخذة في الاصفرار والأخاديد التي تتصاعد منها الأبخرة. كان الغبار يدخل، أيضا، لكنه كان يظن دائما أنه يستطيع تنظيف ذلك قبل أن تعود إلى المنزل. كان يجوب في غرفة المعيشة ذات الإضاءة الباهتة، مجمعا بعض المعلومات، شاعرا بالعظمة. كان كل شيء في الغرفة يرتبط بشيء مما يتعلمه. كان ثمة لوحة ألوانها داكنة لملك ميت وسيدات نبيلات كان ينظر إليها دوما عندما كان يحفظ الشعر. كانت السيدات يذكرنه بطريقة غريبة بفيوليت.
لم يكن يعرف ما إذا كانت فيوليت ستعود إلى المنزل أم لا؛ لأن راحتها في فترة ما بعد الظهيرة كانت تختلف من أسبوع إلى آخر. لكنه سمع صوتها أثناء صعوده السلالم.
نادى قائلا: «هذا أنا»، وانتظرها حتى تخرج من المطبخ وتسأل عن أدائه في الاختبار.
بدلا من ذلك، قالت له: «دين! دين، لم أكن أتوقع حضورك! تعال وتناول القهوة معنا!»
قدمته إلى شخصين في المطبخ، رجل وزوجته. آل تيبيت. كان الرجل يقف إلى جانب الطاولة وكانت المرأة تجلس في ركن الأكل. كان دين يعرف الرجل شكلا. وايك تيبيت، الذي كان يبيع وثائق التأمين. كان من المفترض أن يصير لاعب بيسبول محترفا، لكن كان ذلك منذ وقت طويل مضى. كان رجلا أنيقا، صغير الحجم، مهذبا، يرتدي ملابس أنيقة دوما، يمتلك ثقة متواضعة لرجل رياضي بارع.
لم تسأل فيوليت دين عن أي شيء فيما يتعلق باختباره، لكنها أخذت تركز على إعداد القهوة. أولا، أخرجت أقداح قهوة الإفطار، ثم عدلت رأيها، وأخرجت طقم الخزف الصيني. بسطت مفرشا على منضدة ركن الأكل. كان ثمة علامة احتراق طفيفة عليها جراء عملية الكي.
قالت فيوليت ضاحكة: «حسنا، أنا محرجة.»
ضحك وايك تيبيت أيضا وقال: «يجب أن تكوني كذلك، يجب أن تكوني كذلك!»
أزعجت ضحكة فيوليت العصبية، وتجاهلها إياه، دين إلى حد بعيد. كانت قد قضت عدة سنوات في البلدة حتى الآن، وكانت قد أجرت عدة تغييرات على نفسها، ويبدو أنه لم يلحظ هذا إلا الآن وحسب. لم يعد شعرها ملفوفا؛ كان قصيرا ومتموجا. ولم يعد لونه البني الداكن مثلما كان سابقا. صار له الآن مظهر باهت، ومهندما، مثل فادج الشوكولاتة. كان أحمر الشفاه الذي تضعه ثقيلا جدا، لون أحمر براق أكثر مما ينبغي، وكانت الحبات في بشرتها قد ازدادت خشونة. أيضا، زاد وزنها كثيرا، خاصة حول ردفيها. كان التناغم في جسدها قد فسد؛ بدت كما لو كانت ترتدي قفصا أو شيئا غريبا تحت تنورتها.
بمجرد أن تم صب قهوته، قال وايك تيبيت إنه يرغب في تناول قدحه في الفناء؛ لأنه كان يريد أن يرى كيف كانت شجيرات الورود الجديدة تلك تنمو.
قالت فيوليت، كما لو أن ذلك سرها: «أوه، أعتقد أنها مصابة بآفة ما! ... أخشى أنها كذلك يا وايك!»
طوال هذا الوقت، كانت الزوجة تتحدث، وواصلت الحديث، لا تكاد تلاحظ أن زوجها قد نزل للفناء. تحدثت إلى فيوليت بل وإلى دين، لكنها كانت تتحدث إلى الهواء حقيقة. تحدثت عن مواعيدها مع الطبيب، واختصاصي تقويم العمود الفقري. قالت إن لديها صداعا مثل مطارق حديدية شديدة السخونة تدق صدغيها. كان لديها أيضا نوع من الألم الحاد في جانب عنقها مثل مئات الإبر التي توخز في لحمها. لم تكن تتوقف عن الحديث؛ كانت مثل مشغل أسطوانات صغير لا حول له ولا قوة، موضوع في أحد جوانب ركن الأكل، وكانت عيناها الحزينتان الكبيرتان تخلوان من أي تعبير بمجرد تثبيتهما على أي شخص.
كان هذا هو نمط الأشخاص، كان هذا هو نمط الحديث، الذي كانت فيوليت غاية في البراعة في محاكاته.
وها هي الآن تفسح المجال. كانت تستمع، أو تتظاهر بأنها تستمع، إلى هذه المرأة في اهتمام لم تلاحظه المرأة حتى أو تحتاج إليه. هل كان ذلك لأن الزوج قد خرج؟ هل كانت فيوليت تشعر بقلق ما حيال فظاظته تجاه زوجته؟ كانت تواصل النظر إلى أسفل في الفناء الخلفي.
قالت: «يجب أن أرى ماذا يعتقد وايك بشأن تلك الآفة»، ثم مضت، نزلت عبر السلالم الخلفية، فيما بدا مثل هرولة ثقيلة الوقع، لا تنطوي على أي قدر من اللياقة.
قالت الزوجة: «لا يهتمون إلا بالمال.»
نهض دين حتى يجلب لنفسه مزيدا من القهوة. وقف عند الموقد ورفع إناء القهوة بينما كانت تتحدث متسائلا ما إذا كانت تريد مزيدا من القهوة.
قالت: «ما كان لي أن أحتسي الكمية التي تناولتها ... تسعون بالمائة من معدتي متقرحة.»
نظر دين إلى زوجها وفيوليت، كانا ينحوان معا باتجاه شجيرات الورود الصغيرة. لا شك في أنهما كانا يتحدثان عن الورود، والآفات، والمبيدات، والآفات الزراعية الأخرى. لم يكن هناك احتمال لحدوث شيء فظ مثل لمسه إياها. فقد كان وايك يحمل في يد قدح القهوة ورفع في رقة ورقة شجيرة، ثم رفع أخرى بقدمه. نظرت فيوليت منصاعة إلى أسفل إلى الورقة المرفوعة فوق حذائه المصقول.
سيكون من الخطأ القول إن دين فهم أي شيء آنذاك. لكنه نسي المرأة التي كانت تتحدث وإناء القهوة الذي كان يحمله. استشعر سرا، نفحة من حميمية الآخرين، شيئا لم يرد أن يعرف عنه شيئا، لكن عليه أن يفعل.
بعد فترة ليست بالطويلة، كان مع والده في الشارع، ورأى وايك يأتي تجاههما. قال والده: «أهلا وايك»، بصوت هادئ، محترم يستخدمه الرجال لتحية الرجال الآخرين الذين لا يعرفونهم - أو ربما الذين لا يريدون أن يعرفونهم - جيدا. انحرف دين ليرى بعض الأشياء في واجهة متجر لبيع الأدوات المعدنية.
قال والده: «ألا تعرف وايك تيبيت؟ ... كنت أظن أنك قابلته عند فيوليت.»
ثم شعر دين مرة أخرى بما شعر به من قبل، النفحة التي كان يكرهها. كان يكرهها الآن أكثر؛ لأنها كانت تحيط به من كل جانب. كانت تحيط به من كل جانب حتى لو أن والده كان يعرف.
لم يرد أن يفهم مدى خيانة فيوليت. كان يعرف بالفعل أنه لن يغفر لها أبدا. •••
دين الآن رجل عريض المنكبين، متورد البشرة، يمتلك الملامح المرهقة للدب اللعبة تيدي، ولحية تكاد تكون كلها رمادية اللون. كان كلما كبر يصير أشبه بأمه أكثر فأكثر. يعمل مهندسا معماريا. رحل من المنزل إلى الجامعة، ولفترة طويلة عاش وعمل في أماكن أخرى، لكنه عاد منذ عدة سنوات، وهو مشغول الآن بترميم الكنائس، وقاعات مجالس البلدات، والمناطق التجارية، والمنازل التي كانت تعد بحق قبيحة المظهر في الوقت الذي رحل فيه. يعيش في المنزل الذي نشأ فيه، المنزل الذي ولد ومات أبوه فيه، منزل حجري عمره مائة وخمسون عاما أعاده هو وثيو تدريجيا إلى ما يشبه حالته الأصلية .
يعيش مع ثيو، الذي يعمل أخصائيا اجتماعيا.
عندما أخبر دين وايك وفيوليت للمرة الأولى (كان قد سامحها - سامحهما - منذ فترة طويلة) أن شخصا يدعى ثيو سينتقل للعيش معه، قال وايك: «أفهم من ذلك أنك عثرت أخيرا على رفيقة جادة.»
لم تقل فيوليت أي شيء.
قال دين في رفق: «رفيق رجل ... ليس من السهل تخمين نوع الشخص، من خلال هذا الاسم الذي يطلق على الرجال والنساء.»
قال وايك في دماثة: «حسنا. هذا شأنك وشأنه.» كانت العلامة الوحيدة التي ألمح بها والتي ربما تشير إلى انزعاجه في قوله «شأنه» دون أن يلاحظ.
قالت فيوليت: «ثيو. نعم ... يصعب تخمين ذلك.»
حدث ذلك في المنزل الصغير المكون من غرفتي نوم على حافة البلدة الذي انتقلت فيوليت إليه بعد أن تقاعدت من شركة الهاتف. كان وايك قد انتقل للعيش معها بعد وفاة زوجته وصارا قادرين على الزواج. كان المنزل واحدا ضمن مجموعة من المنازل المتراصة المتشابهة جدا الممتدة على طريق زراعي أمام حقل ذرة. جرى وضع أشياء وايك بجانب تلك الخاصة بفيوليت، وبدت الغرف منخفضة السقف مزدحمة، وترتيب الأشياء مؤقتا وعشوائيا. بدت الأريكة ذات اللون الأخضر الطحلبي ضخمة وقديمة الطراز تحت الغطاء الملون الكبير الذي صنعته زوجة وايك. احتلت لوحة مخملية سوداء كبيرة، خاصة بوايك، معظم حائط غرفة المعيشة. كانت تظهر ثورا ومصارع ثيران. كانت جوائز وايك الرياضية القديمة والصينية الفضية المقدمة له من قبل شركة التأمين موضوعة على رف المدفأة إلى جانب صدفة فيوليت القديمة وتمثال الرجل الاسكتلندي.
كانت فيوليت تسمي تلك الأشياء مصايد الغبار. •••
لكنها أبقت على أشياء وايك في مكانها حتى بعد رحيل وايك نفسه. مات وهو يشاهد مباراة بدوري كرة القدم الكندي، في نهاية شهر نوفمبر. هاتفت فيوليت دين، الذي كان يستمع إليها في البداية بينما كانت عيناه مشدودتين إلى شاشة التليفزيون.
قالت فيوليت: «ذهبت إلى الكنيسة ... أخذت بعض الأشياء إلى مكان بيع الأشياء القديمة، ثم ذهبت واشتريت لنا زجاجة من الويسكي، وعندما عدت، بمجرد أن فتحت الباب، ناديت على وايك ، ولكنه لم يجب. رأيت الجزء الخلفي من رأسه في وضع غريب. كان محنيا تجاه ذراع كرسيه. استدرت أمامه وأغلقت التليفزيون.»
قال دين: «ماذا تعنين؟ ... خالة فيوليت! ما الأمر؟»
قالت فيوليت، كما لو كان دين يستجوبها: «أوه، لقد مات ... كان يجب أن يكون ميتا حتى يدعني أغلق التليفزيون أثناء عرض مباراة كرة القدم.» كانت تتحدث في صوت عال، حاد في حبور غير طبيعي؛ كما لو كانت تخفي شعورها بالاضطراب.
عندما قاد السيارة إلى البلدة، وجدها تجلس على درجة السلالم الأمامية.
قالت: «أنا حمقاء ... لا أستطيع أن أدخل. يا لي من بلهاء يا دين!» كان صوتها لا يزال خشنا، ومرتفعا، وحادا.
قال ثيو لاحقا إن كثيرا من كبار السن يكونون على هذه الحالة عندما يموت شخص قريب لهم. قال: «إنهم يتجاوزون الحزن ... أو ربما يشعرون بنوع مختلف من الحزن.»
طوال الشتاء، بدت فيوليت على ما يرام، تقود سيارتها عندما يسمح الطقس بذلك، وتذهب إلى الكنيسة، وتذهب إلى نادي كبار السن للعب ألعاب الورق. ثم، عندما حلت الشهور الحارة، وظن المرء أنها كانت ستستمتع بالخروج، قالت لدين إنها لا تنوي القيادة مرة أخرى.
كان يظن أن المشكلة كانت في بصرها. اقترح عليها الذهاب إلى الطبيب لترى ما إذا كانت تحتاج إلى نظارات أقوى.
قالت: «أرى على نحو جيد ... المشكلة أنني لست متأكدة تماما مما أرى.»
ماذا كانت تعني بذلك؟ «أرى أشياء أعرف أنها ليست موجودة.»
كيف عرفت أنها ليست موجودة؟ «لأنه ما زال لدي وعي بما يكفي، مما يجعلني أعرف ذلك. يستوعب عقلي الرسالة ويخبرني أن الأمر مضحك. لكن ماذا إذا لم يستوعبها عقلي طوال الوقت؟ كيف لي أن أعرف؟ أستطيع أن أرسل في طلب بقالتي. يرسل معظم كبار السن في طلب بقالتهم. أنا شخص عجوز. لن يفتقدوني كثيرا في متجر إيه آند بي.»
لكن كان دين يعرف كم كانت تستمتع كثيرا بالذهاب إلى هذا المتجر، وكان يعتقد أنه وثيو عليهما أن يحاولا أن يجعلاها تذهب إلى هناك مرة أسبوعيا. كانت تحصل هناك على القهوة القوية المخصوصة التي كان وايك يتناولها، وكانت تحب عادة النظر إلى اللحوم المدخنة وشرائح لحم الخنزير - كلتاهما كانتا من الأكلات المفضلة لدى وايك - على الرغم من أنها كانت نادرا ما تشتري أيا منهما.
قالت فيوليت: «على سبيل المثال ... ذلك الصباح، رأيت الملك بيلي.»
قال دين، ضاحكا: «رأيت جدي؟ ... حسنا. كيف كان؟»
قالت فيوليت في حدة: «رأيت جوادنا الذي يدعى الملك بيلي ... خرجت من غرفتي وهناك كان يقحم رأسه من نافذة غرفة الطعام.»
قالت إنها عرفته على الفور. رأسه المألوف، الأحمق، الرمادي المرقط. طلبت منه أن يتحرك، وأن يخرج رأسه من هناك، فأخرج رأسه من فوق عتبة النافذة وبدأ يرحل ببطء. مضت فيوليت إلى المطبخ للبدء في إعداد إفطارها، ثم خطر على بالها أشياء كثيرة.
كان هذا الجواد قد مات منذ خمسة وستين عاما تقريبا.
لم يكن من الممكن أن يكون هذا جواد بائع اللبن أيضا؛ لأن بائعي اللبن لم يعودوا يقودون أي جياد منذ حوالي عام 1950. كانوا يقودون شاحنات.
لا، لم يكونوا يقودون أي شيء؛ لأن اللبن لم يعد يوصل إلى المنازل من قبل بائعي اللبن. لم يعد اللبن يباع حتى في زجاجات. يشترى من المتجر في عبوات كرتونية أو أكياس بلاستيكية.
كان ثمة زجاج في نافذة غرفة الطعام لم يكن قد انكسر.
قالت فيوليت: «لم أكن مغرمة قط بهذا الجواد على وجه الخصوص أيضا ... لكن لم أكن قط كارهة له، لكن إذا كان ثمة خيار لدي في أن أرى شيئا أو شخصا قد مات، فلن يكون ذلك الجواد.»
قال دين، محاولا الإبقاء على الحديث على نحو لطيف، على الرغم من أنه لم يكن سعيدا قط بما كان يسمع: «ماذا سيكون؟ ماذا سيكون خيارك؟»
لكن فيوليت صنعت صوتا بغيضا - نخرة عنيدة - كما لو كان سؤاله أغضبها وأثار سخطها. ارتسم تعبير من الغباء المتعمد، وحتى الشرير - وهو المكافئ البصري لتلك النخرة - على وجهها.
حدث أن دين بعد ذلك ببضع ليال كان يشاهد برنامجا تليفزيونيا عن أشخاص من أمريكا الجنوبية - معظمهم من النساء - كانوا يؤمنون بأن الأرواح الشريرة تتلبسهم وتسيطر عليهم، من وقت إلى آخر وفي بعض الظروف الخاصة. ذكره التعبير الذي كان على وجوههم بالتعبير الذي كان على وجه فيوليت. كان الفرق هو أنهم كانوا لا يمانعون في هذا التلبس، وكان متأكدا أن فيوليت كانت ترفضه. لم يكن ثمة شيء داخلها يرغب في أن يجري السيطرة عليها من قبل امرأة عجوز عنيدة وكئيبة، عاجزة ومشوشة، تمتلك ذاكرة أو خيالا خارج السيطرة، يبرز عشوائيا خلال المشهد الراهن. كانت محاولة إيقاف تلك المرأة العجوز عند حدها يجعلها نافدة الصبر. في حقيقة الأمر، كان قد رآها - تذكر الآن - كان قد رآها تميل رأسها إلى الجانب وتصفع نفسها صفعة سريعة، مثلما يفعل الأشخاص الذين يرغبون في التخلص من روح مزعجة، غير مرحب بها.
بعد مرور أسبوع أو نحو ذلك في الصيف، هاتفته. وقالت له: «دين، هل أخبرتك عن الشخصين اللذين أراهما، يمران بجوار منزلي؟» «أي شخصين يا خالة فيوليت؟» «فتاتان، أعتقد هذا؛ لم يعد يطيل الصبية شعورهم، أليس كذلك؟ ترتديان ملابس الجيش، فيما يبدو، لكنني لا أعرف هل كان ذلك يعني شيئا. إحداهما قصيرة والأخرى طويلة. أراهما تمران بهذا المنزل وتنظران إليه. تعرجان خارج الطريق ثم تعودان.» «ربما تجمعان الزجاجات. يفعل الناس ذلك.» «ليس معهما أي شيء تضعان الزجاجات فيه. لا بد أنهما تقصدان هذا المنزل. لا بد أنهما مهتمتان به على نحو ما.» «خالة فيوليت! هل أنت متأكدة؟» «نعم، أعرف ذلك، أسأل نفسي أيضا. لكنهما ليستا ممن أعرفهم على الإطلاق. ليستا ممن أعرفهم ممن ماتوا. هذا شيء مثير للاهتمام حقا.»
ظن أن عليه أن يمر عليها ليراها، ليرى ماذا يحدث. لكن قبل أن يذهب إلى هناك، هاتفته مرة أخرى. «دين، كنت فقط أريد أن أخبرك عن هاتين الفتاتين اللتين لاحظتهما تسيران بجوار المنزل. هما فتاتان. ترتديان ملابس جيش. أتتا وقرعتا بابي. قالتا إنهما كانتا تبحثان عن فيوليت تومس. قلت: ليس ثمة أحد بهذا الاسم يعيش هنا، وبدا عليهما الحزن الشديد. ثم قلت إن ثمة امرأة تدعى فيوليت تيبيت، هل هي من تبحثان عنها؟»
بدت في حالة معنوية مرتفعة. كان دين مشغولا؛ كان لديه اجتماع مع بعض أعضاء مجلس البلدة خلال نصف ساعة. كان لديه أيضا ألم في الأسنان. لكنه قال: «أنت على حق. إذن، من هما؟»
قالت فيوليت: «هذه هي المفاجأة ... ليستا فقط مجرد فتاتين. إحداهما ابنة خالتك. أعني، ابنة ابنة خالتك. ابنة دونا كولارد. هل تعرف عمن أتحدث؟ ابنة خالتك دونا كولارد؟ اسمها بعد الزواج ماكني.»
قال دين: «لا.» «خالتك بوني هوب، في إدمنتن، تزوجت رجلا اسمه كولارد، روي كولارد، وأنجبت ثلاث بنات. إلينور، وروث، ودونا. هل تعرف عمن أتحدث الآن؟»
قال: «لم أقابلهن قط.» «لا. حسنا، تزوجت دونا كولارد من شخص يدعى ماكني، نسيت اسمه الأول، ويعيشون في برينس جورج، بكولومبيا البريطانية، وهذه هي ابنتهما. هيثر. هذه ابنتهما هيثر التي كانت تمر بمنزلي. الفتاة الأخرى صديقتها جيليان.»
لم يتفوه دين بشيء طوال دقيقة كاملة، وقالت فيوليت: «دين! آمل ألا تعتقد أن الأمر اختلط علي بشأن هذا الأمر؟»
ضحك وقال: «سآتي وأراهما.»
قالت فيوليت: «هما غاية في الأدب والطيبة ... على الرغم مما قد يبدو من مظهرهما.»
كان متأكدا للغاية من أن هاتين الفتاتين كانتا حقيقيتين، لكن كان كل شيء غير واضح تماما بالنسبة إليه في ذلك الوقت. (كان مصابا بحمى خفيفة، على الرغم من أنه لم يكن يدرك ذلك بعد، وكان عليه أن يعالج قناة جذر إحدى أسنانه.) كان يعتقد أن عليه أن يسأل في البلدة إذا كان ثمة أحد آخر رآهما. عندما ذهب ليفعل ذلك، في وقت لاحق، اكتشف أن فتاتين لهما نفس الأوصاف كانتا مقيمتين في الفندق، وأنهما كانتا تملكان سيارة داتسون زرقاء متهالكة لكنهما كانتا تسيران كثيرا، في البلدة وخارجها، وكان يعتقد بوجه عام أنهما تنتميان إلى إحدى حركات تحرير المرأة. لم يتحدث الناس كثيرا عن ملابسهما، لكنهما لم تتسببا في أي مشكلات، فيما عدا أنهما تجادلتا فقط مع راقصة التعري في الفندق.
في غضون ذلك، كان قد سمع الكثير من فيوليت عن الفتاتين. هاتفته في المنزل، عندما كان فمه يؤلمه إلى درجة أنه كان بالكاد يتحدث، وقالت له إنه لسيئ للغاية أنه كان مريضا؛ وإلا كان باستطاعته أن يذهب لمقابلة هيثر وجيليان.
قالت فيوليت: «هيثر هي الطويلة ... شعرها طويل أشقر، وبنيتها غير عريضة. إذا كانت تشبه بوني هوب في أي شيء، ففي أسنانها. لكن أسنان هيثر تتلاءم مع وجهها أكثر وهي بيضاء على نحو جميل. جيليان فتاة جميلة، ذات شعر متموج، وسمرة في بشرتها. تمتلك هيثر بشرة شديدة البياض تتأثر بشدة عند التعرض للشمس. كانتا ترتديان نوعية الملابس نفسها؛ مثلما تعرف، بناطيل الجيش، وقمصان العمل، وأحذية الصبية طويلة العنق، لكن جيليان كانت ترتدي دوما حزاما وكانت ترفع ياقة قميصها، وكان ذلك يبدو عليها كموضة تسايرها. جيليان أكثر ثقة في نفسها، لكنني أعتقد أن هيثر أكثر ذكاء. هي الأكثر اهتماما حقيقة.»
قال دين: «بماذا؟ ... من هما، على أي حال؟ طالبتان؟»
قالت فيوليت: «كانتا طالبتين بالجامعة ... لا أعرف ماذا كانتا تدرسان. ذهبتا إلى فرنسا والمكسيك. في المكسيك، أقامتا في جزيرة كان يطلق عليها جزيرة النساء. كانت مجتمعا تحكمه النساء. تعملان الآن في مسرح وتؤلفان مسرحيات. تؤلفان مسرحياتهما. لا تقدمان مسرحيات كتاب آخرين أو مسرحيات تم تقديمها من قبل. كل العاملين في هذا المسرح، من النساء. أعدتا لي عشاء رائعا. دين، كنت أتمنى لو أنك كنت هنا. أعدتا سلاطة بها قلوب خرشوف.»
قال دين لثيو: «تبدو فيوليت كما لو كانت تتناول مخدرات ... تبدو كما لو أنهما قد سيطرا على تفكيرها.» •••
عندما استطاع التحدث مرة أخرى، اتصل بها، وقال لها: «بم تهتم هاتان الفتاتان، يا خالة فيوليت؟ هل هما مهتمتان بأواني الخزف الصيني القديمة والمجوهرات وما شابه؟»
قالت فيوليت في غضب: «لا ... هما مهتمتان بتاريخ العائلة. مهتمتان بعائلتنا وما أتذكره عما كانت عليه الحياة فيها. كان علي أن أخبرهما عن الخزان الذي يوجد بأعلى الموقد.» «لماذا تريدان أن تعرفا ذلك؟» «أوه. تدور في خلدهما فكرة. تدور في خلدهما فكرة خاصة بتأليف مسرحية.» «ماذا تعرفان عن المسرحيات؟» «ألم أخبرك أنهما تمثلان في مسرحيات؟ تؤلفان مسرحياتهما وتمثلان فيها، في مسرح النساء هذا.» «أي نوع من المسرحيات تؤلفانها؟» «لا أعرف. لا أعرف إذا كانتا ستؤلفانها أم لا. هما فقط مهتمتان بما كانت الأمور عليه في الأيام الخوالي.»
قال دين: «هذه هي الموضة الآن ... أن يكون المرء مهتما بذلك.» «لا أعتقد أنهما تدعيان ذلك، دين. أعتقد أنهما كذلك حقا.»
لكنه كان يعتقد أنها لم تكن مبتهجة جدا هذه المرة.
قالت: «تعرف أنهما تغيران كل الأسماء ... عندما تؤلفان مسرحية، تغيران جميع الأسماء والأماكن. لكني أعتقد أنهما تحبان فقط استكشاف الأمور، والتحدث. ليستا صغيرتين تماما، لكنهما تبدوان كذلك، وهما شغوفتان جدا. ومرحتان.» •••
قال دين لفيوليت عندما زارها مرة أخرى: «يبدو وجهك مختلفا ... هل نقص وزنك؟»
قالت فيوليت: «لا أعتقد ذلك.»
كان دين قد خسر اثني عشر رطلا، لكنها لم تلاحظ. بدت مبتهجة ولكن منفعلة. ظلت تنهض وتجلس، تنظر خارج النافذة، تنقل الأشياء حول طاولة المطبخ دون سبب.
كانت الفتاتان قد رحلتا.
قال دين: «ألن تعودا ثانية؟»
نعم، كانتا ستعودان. ظنت فيوليت أنهما كانتا ستعودان. لم تكن تعرف فقط متى.
قال دين: «أظن أنهما رحلتا للبحث عن جزيرتهما ... جزيرتهما التي تحكمها النساء.»
قالت فيوليت: «لا أعرف ... أظن أنهما ذهبتا إلى مونتريال.»
لم يكن دين يحب أن يعتقد أنه مرغم على الشعور بالانفعال والشك الشديدين تجاه فتاتين لم يلتق بهما قط. كان مستعدا أن يلقي باللوم على الدواء الذي كان لا يزال يتناوله من أجل أسنانه. كان ثمة شعور بأن ثمة شيئا يجري إخفاؤه عنه - شيئا موجودا حوله في كل مكان، لكنه مخفي - سر مزعج، وسخيف، وخبيث.
قال: «لقد قصصت شعرك.» لذلك كان وجهها يبدو مختلفا. «قصاه لي. قالتا لي إنه على غرار قصة شعر جان دارك.» ابتسمت فيوليت في سخرية، مثلما كانت معتادة دوما، ولمست شعرها. ثم قالت: «أخبرتهما أنني كنت آمل ألا ينتهي بي المطاف بالإعدام حرقا وأنا مقيدة إلى عمود خشبي.»
وضعت رأسها بين يديها، وأخذت تهتز للأمام والخلف.
قال دين: «لقد أرهقتاك ... لقد أرهقتاك يا خالة فيوليت.»
قالت فيوليت: «عقلي يفكر في كل ذلك.» هزت رأسها في اتجاه غرفة النوم الخلفية. «هذا هو ما يجب أن أتمه.»
في غرفة نوم فيوليت الخلفية كان ثمة صناديق أوراق، وصندوق مقتنيات قديم كان مملوكا لأمها. ظن دين أنها كانت مليئة بالأوراق أيضا. رسائل المدرسة الثانوية القديمة، رسائل معهد المعلمين، بطاقات التقييم الدراسي، وسجلات ومراسلات ترجع إلى أيام عملها في شركة الهاتف، محاضر اجتماعات، خطابات، بطاقات بريدية. كل شيء كان عليه كتابة، ربما كانت تحتفظ به.
قالت إن جميع هذه الأوراق كان يجب فرزها. يجب عمل ذلك قبل عودة الفتاتين. كانت هناك أشياء قد وعدتهما بها. «أي أشياء؟» «مجرد أشياء.»
هل ستعودان سريعا؟
قالت فيوليت نعم. نعم، كانت تتوقع ذلك. عندما كانت تفكر في هذا، كانت يداها تربت وتحك على سطح الطاولة. قضمت قضمة من كعكة محلاة، وفتتت ما تبقى منها. رآها دين تجمع الكسرات في يدها وتضعها في قهوتها.
قالت: «هذا هو ما أرسلتاه.» ثم دفعت أمامه بطاقة كان قد لاحظ استنادها إلى سلطانية السكر. كانت بطاقة يدوية الصنع ذات علامات بألوان بنفسجية مرسومة على نحو طفولي، وقلوب حمراء. بدت وكأنها تقصد أن يقرأها، وهكذا فعل:
شكرا جزيلا لمساعدتك وسعة صدرك. أوحيت لنا بقصة رائعة. قصة كلاسيكية تدور حول الغضب الشديد إزاء السيطرة الأبوية. هديتك لنا، هل نستطيع أن نهديها إلى آخرين؟ ما يطلق عليه «الجنون الأنثوي» ليس إلا قرونا من «الإحباط» و«القمع». الجزء الخاص بالخليج الصغير رائع في حد ذاته وتفعله الكثير من النساء!
كتب أسفل الرسالة بخط كبير: «نتوق شغفا للاطلاع على الوثائق. رجاء في المرة القادمة. مع حبنا وامتناننا.»
قال دين: «لماذا كل هذا؟ ... لماذا يجب أن تفرزي كل شيء من أجلهما؟ لماذا لا تنقبان وسط كل هذه الفوضى وتعثران على ما تريدان بأنفسهما؟»
قالت فيوليت في حدة: «لأنني غاية في الخجل! ... لا أريد أي شخص أن يرى هذا.»
أخبرها أنه ليس ثمة ما تخجل منه . «كان يجب ألا أستخدم كلمة «فوضى». لا يعدو الأمر كونك راكمت الكثير من الأشياء، عبر السنوات. ربما يكون بعضها شائقا جدا.» «هناك أشياء لا يعرفها أحد غيري! أنا الوحيدة التي يجب أن تتعامل مع الأمر!»
قال دين: «الغضب الشديد إزاء السيطرة الأبوية»، متناولا البطاقة مرة أخرى. «ماذا تعنيان بذلك؟» تساءل عن استخدامهما لعلامات الاقتباس حول الجنون الأنثوي والإحباط والقمع.
قالت فيوليت: «سأخبرك ... سأخبرك. لا تعرف ما تعين علي مواجهته. هناك أشياء غير طيبة. ذهبت إلى هناك، وفتحت هذا الصندوق لألقي نظرة على ما في داخله، وماذا تظنني وجدت يا دين؟ كان مليئا بأشياء قذرة؛ روث خيول موضوعا في صفوف، عمدا. داخل صندوقي في بيتي، هذا ما وجدت.» بدأت تشهق، على نحو غير مميز، غير جذاب، منطو على شفقة ذاتية.
عندما أخبر دين ثيو بهذا، ابتسم ثيو، ثم قال: «آسف، ماذا قالت بعد ذلك؟» «قلت لها إنني سأذهب وأنظف الصندوق، فقالت إنها نظفت كل شيء.» «نعم، حسنا. يبدو الأمر وكأنها فقدت رشدها، أليس كذلك؟ كنت أظن أن بمقدوري توقع هذا الأمر قبل أن يحدث.»
تذكر دين الأشياء الأخرى التي قالتها، لكنه لم يذكرها. فلم تكن مهمة.
كانت قد قالت، متذمرة: «هذا عمل حقير مثير للاشمئزاز، أليس كذلك؟ ... هذا عمل لا يفعله إلا شخص ذو عقل متخلف!» •••
كان باب فيوليت الأمامي مفتوحا عند الظهيرة في اليوم التالي عندما مر دين عبر الطريق الذي يوجد به منزلها، متجها خارج البلدة. لم يكن عادة يسلك هذا الطريق. ما فعله اليوم لم يكن مثيرا للدهشة، بالنظر إلى كيف كانت فيوليت تشغل عقله في الساعات العديدة الأخيرة.
لا بد أنه دخل من الباب بينما كانت ألسنة اللهب تتصاعد في المطبخ. رأى ضوءها أمامه على جدار المطبخ. عدا إلى هناك، وأمسك بكومة أوراق فيوليت التي كانت موضوعة أعلى موقد الغاز. كانت قد أوقدت الشعلات.
أخذ دين بساطا صغيرا من الردهة لحماية نفسه بحيث يستطيع إغلاق الغاز. كانت الأوراق المحترقة تتطاير في الهواء. توجد أكوام من الورق متناثرة على الأرض، لا تزال بعض الأوراق في صناديق. كانت فيوليت تنوي فيما يبدو جليا أن تحرقها كلها.
كان دين يصرخ: «أوه، يا إلهي، خالة فيوليت! ... يا إلهي، يا إلهي، ماذا تفعلين! اخرجي من هنا! اخرجي!»
كانت فيوليت تقف في منتصف المطبخ، مزروعة هناك مثل جذل شجرة داكن كبير، تتناثر حولها الأوراق المحترقة في كل مكان.
صرخ دين: «اخرجي!» ثم أدارها ودفعها تجاه الباب الخلفي. ثم، فجأة، تحركت بسرعة غير عادية مثلما كان سكونها غير عادي. عدت أو ترنحت في اتجاه الباب، فتحته، وعبرت الشرفة الخارجية الخلفية. بدلا من النزول على السلالم، وقعت من الحافة، ساقطة برأسها أولا على بعض شجيرات الورود التي كان وايك قد زرعها.
لم يعرف دين على الفور أنها سقطت. كان مشغولا جدا في المطبخ.
لحسن الحظ، لا تحترق الأوراق المربوطة في أكوام أو حزم بسرعة مثلما يظن الكثيرون. كان دين يخشى أكثر من إمساك النيران بالستائر، أو بالطلاء الجاف خلف الموقد. لم تعد فيوليت مدبرة منزل حريصة مثلما كانت، وكانت الحوائط مغطاة بالشحم. وضع البساط على ألسنة اللهب التي كانت تتصاعد من الموقد، ثم تذكر مطفأة الحريق التي كان قد اشتراها بنفسه من أجل فيوليت وأصرت هي على الاحتفاظ بها على طاولة المطبخ. تنقل متعثرا حاملا مطفأة الحريق، مطاردا الأوراق المحترقة التي كانت تسقط في صورة فتات من الورق المفحم. أعاقته أكوام الورق على الأرض. لم تمسك النيران بالستائر. كان الجدار خلف الموقد قد تشقق في صورة فقاعات طلاء، لكن لم تمسك النيران به أيضا. ظل يطارد ألسنة النيران، وفي غضون خمس دقائق، وربما أقل، أخمد النيران. فقط فتات أوراق محترقة، أشبه بأجنحة عثة قذرة، كانت متناثرة فوق كل شيء؛ في فوضى هائلة.
عندما رأى فيوليت على الأرض بين شجيرات الورود، راودته أسوأ الفكر. خشى أن تكون أصيبت بسكتة دماغية، أو نوبة قلبية، أو على الأقل كسر أحد مفصلي وركيها نتيجة لسقوطها. لكنها كانت واعية بما يدور حولها، تحاول النهوض، وهي تتأوه. أمسك بها ، ورفعها. في ظل كثير من أصوات النخر وتعبيرات الفزع من كليهما، ساعدها على الصعود إلى درجات السلالم الخلفية وأجلسها هناك.
قال: «ما هذا الدم الذي عليك؟» كانت ذراعاها ملطختين بالأوساخ والدم.
قالت فيوليت: «هذا بسبب الورود.» كان يعرف حينها، من خلال صوتها، أنه ليس ثمة أي كسر بجسمها.
قالت: «خدشتني الورود بشدة ... يا دين، منظرك فظيع. منظرك فظيع، أنت مسود بالكامل!»
سالت الدموع والعرق معا على وجهه. رفع يده إلى خده، ثم نظر إليها فوجدها سوداء. قال: «الدخان.»
كانت هادئة تماما حتى ظن أنها ربما أصيبت بسكتة دماغية خفيفة، فقدان ذاكرة، مما يجعل عقلها ينسى أمر الحريق. لكن هذا لم يحدث.
قالت: «لم أستخدم حتى الكيروسين ... يا دين، لم أستخدم الكيروسين أو أي شيء آخر. ما الذي جعل ألسنة اللهب تتصاعد هكذا؟» «لم يكن موقدا خشبيا يا خالة فيوليت. كان فوق شعلات موقد الغاز.» «أوه، يا إلهي.» «لا بد أنك كنت تعتقدين أنك كنت تحرقين الأوراق في الموقد الخشبي.» «لا بد أن الأمر كذلك. كيف فعلت هذا؟ ثم جئت أنت وأخمدت النيران.»
كان يحاول التقاط فتات الورق الأسود من شعرها، لكنها كانت تتحلل تحت أصابعه. تفتتت إلى قطع أصغر، وتبددت.
قالت فيوليت: «يجب أن أشكرك.»
قال: «ما يجب أن نفعله الآن ... هو أن آخذك إلى المستشفى، فقط للتأكد من أنك بخير. يمكن أن تستريحي عدة أيام وسأتابع عملية تنظيف المطبخ. ما رأيك في هذا؟»
أصدرت بعض أصوات الهمهمة الهادئة التي كانت تعني نعم. «ثم ربما ترغبين في الخروج والمكوث معنا فترة.»
كان سيتحدث إلى ثيو تلك الليلة؛ كان عليهما أن يقوما بأمر ما. «عليك أن تتأكد من أنني لن أحرق المكان بأكمله.» «لا بأس.» «أوه، دين. هذه ليست مزحة.» •••
ماتت فيوليت في المستشفى، في الليلة الثالثة، دون سابق إنذار. رد فعل متأخر، ربما صدمة. أحرق دين جميع الأوراق في المحرقة في الفناء الخلفي. لم تطلب منه أن يفعل ذلك قط؛ لم تخبره قط بما كانت تفعله. لم تذكر الفتاتين مرة أخرى، أو أي شيء كان قد حدث ذلك الصيف. كان يشعر فقط أن عليه إكمال ما كانت قد بدأته. أعد، أثناء حرقه الأوراق، ما كان سيقوله لهاتين الفتاتين، لكن عند انتهائه، كان يظن أنه كان قاسيا أكثر مما ينبغي تجاههما؛ كانتا قد أدخلتا عليها السعادة، مثلما جلبتا عليها المتاعب. •••
بينما كانا لا يزالان جالسين على درجات السلالم الخلفية، في أوائل فترة ما بعد الظهيرة حيث كان الجو حارا وتوجد بعض السحب الخفيفة، ومع وجود حاجز أخضر من الذرة أمامهما، كانت فيوليت قد لمست الخدوش التي أصيبت بها وقالت: «تذكرني هذه الخدوش بأشياء.»
قال دين: «يجب أن أضع بعض الديتول عليها.» «لا تتحرك من مكانك. هل تعتقد أن ثمة نوعا من العدوى لم يسر في عروقي بعد؟»
لم يتحرك من مكانه، وقالت له: «أتعرف يا دين أنني أنا ووايك كنا صديقين، قبل وقت طويل جدا من زواجنا؟» «نعم.» «حسنا، تذكرني هذه الخدوش بالطريقة التي التقينا بها، لنصبح صديقين على النحو الذي صرنا عليه؛ لأننا بالطبع كان يعرف كل منا الآخر شكلا فقط. كنت أقود سيارتي الأولى، ذات المحرك «ڤي-8» التي لن تتذكرها، وعرجت بها خارج الطريق. انحرفت بها في مصرف ولم أستطع الخروج منه. وهكذا سمعت صوت سيارة آتية، فانتظرت، ثم لم أستطع أن أواجه الأمر.» «هل كنت محرجة أنك انحرفت عن جادة الطريق؟» «كانت حالتي النفسية سيئة. لهذا السبب انحرفت عن الطريق. كانت حالتي سيئة دون سبب، أو لسبب تافه فقط. لم أستطع مواجهة أحد، وقدت السيارة تجاه الشجيرات، ثم ما لبثت أن علقت. كنت أستدير، وألف، لكنني لم أستطع أن أتحرر، وكلما استدرت خدشت أكثر. كنت أرتدي فستانا صيفيا خفيفا. لكن السيارة توقفت على أي حال. كان وايك هو قائد تلك السيارة. ألم أخبرك بذلك يا دين؟»
نعم. «كان ذلك وايك يقود سيارته متجها لمكان ما. قال: ابقي ساكنة حيث أنت. ثم جاء إلي، وبدأ في إبعاد أعواد وأغصان التوت عني. شعرت وكأنني مثل جاموسة وقعت في شرك. لكنه لم يضحك على منظري؛ لم يبد عليه أدنى اندهاش لعثوره على شخص في تلك الحالة. كنت أنا من بدأ في الضحك. عندما رأيته يسير نحوي بتلك الجدية في بذلته الصيفية ذات اللون الأزرق الفاتح.»
مررت يديها على ذراعيها صعودا وهبوطا، متلمسة الخدوش بأطراف أصابعها، لامسة إياها بلطف. «عم كنت أتحدث لتوي؟» «عندما علقت في الشجيرات، وكان وايك يخلصك.»
مررت يديها بسرعة على ذراعيها وهزت رأسها وأصدرت تلك النخرة عبر حلقها، تعبيرا عن نفاد الصبر أو الاشمئزاز.
استقامت في جلستها، وقالت، في صوت واضح مسر: «هناك خنزير بري يجري عبر أعواد الذرة.»
قال دين، كما لو لم يكن قد سمع ذلك: «وكنت تضحكين.»
قالت فيوليت، مومئة برأسها عدة مرات ومحاولة أن تكون صبورة: «نعم ... نعم. كنا نضحك.»
حلقة الصلاة
ألقت ترودي بدورق عبر الغرفة. لم يبلغ الجانب المقابل من الجدار؛ لم يؤذ أحدا، ولم ينكسر.
كان ذلك هو الدورق الذي بدون يد - ذا اللون الأسمنتي المزين بخطوط بنية، الخشن مثل ورق الصنفرة في ملمسه - الذي صنعه دان أثناء الشتاء الذي كان يتلقى دروس صناعة الفخار فيه. صنع ستة أكواب صغيرة بلا يد كي تصبح هي والدورق طقما واحدا. كان من المفترض أنه صنع هذا الطقم من أجل شراب الساكي الياباني، لكن متجر المشروبات الكحولية المحلي لا يبيع شراب الساكي. ذات مرة، أحضرا بعض الساكي إلى المنزل من إحدى الرحلات، لكنه لم يعجبهما حقيقة. لذا يوجد الدورق الذي صنعه دان بأعلى رف مفتوح في المطبخ، ويجري الاحتفاظ ببعض الأشياء الغريبة القيمة بداخله: خاتم زواج ترودي، وخاتم خطبتها، والميدالية التي فازت بها روبين لتحقيقها الامتياز في جميع المواد في الصف الثامن، وعقد طويل مزدوج من حبات الكهرمان الذي كانت تمتلكه أم دان ووصت بأن يعطى لروبين. ولكن لم تكن ترودي تدعها ترتديه.
عادت ترودي إلى المنزل من العمل بعد وقت قليل من منتصف الليل؛ دخلت إلى المنزل في الظلام. كان ضوء الموقد الصغير مضاء؛ كانت هي وروبين تتركان هذا الضوء دوما كل للأخرى . لم تكن ترودي في حاجة إلى أي ضوء آخر. وقفت على مقعد دون أن تترك حقيبتها، وأنزلت الدورق، وفتشت بيديها داخله.
اختفى. بالطبع. عرفت أنه سيختفي.
سارت عبر المنزل المظلم إلى حجرة روبين، لا تزال حاملة حقيبتها فوق ذراعها، والدورق في يدها. أضاءت ضوء السقف. زمجرت روبين وتقلبت على الفراش، وجذبت الوسادة فوق رأسها. تتظاهر.
قالت ترودي: «عقد جدتك ... لماذا فعلت ذلك؟ هل فقدت صوابك؟»
تظاهرت روبين بأنها تصدر زمجرة شخص نائم. كانت جميع الملابس التي كانت تمتلكها، فيما يبدو، القديمة والجديدة، النظيفة والقذرة؛ مبعثرة على الأرض، على المقعد، المكتب، التسريحة، وحتى على الفراش نفسه. علق على الحائط ملصق ضخم يظهر فرس نهر، كتبت تحته الكلمات الآتية: «لماذا ولدت جميلا هكذا؟» وملصق آخر يظهر الرياضي والناشط تيري فوكس وهو يجري على طريق سريع ممطر، ويسير خلفه موكب كبير من السيارات. أكواب قذرة، عبوات زبادي فارغة، كراسات مدرسية، سدادة قطنية تامباكس لامتصاص دم الدورة الشهرية لا تزال في ورقتها، دميتا الثعبان والنمر المحشوتان اللتان كانت روبين تمتلكهما قبل أن تذهب إلى المدرسة، مجموعة ملصقة من الصور لقطتها سوسيدج، التي دهستها سيارة منذ أكثر من عامين. أوشحة حمراء وزرقاء كانت قد فازت بها في مسابقات قفز، أو عدو، أو لعبة تصويب كرة السلة.
قالت ترودي: «أجيبيني! أخبريني لماذا فعلت ذلك!»
ألقت بالدورق. لكنه كان أثقل مما كانت تظن، أو أنها في لحظة إلقائه غيرت رأيها؛ لأنه لم يرتطم بالحائط، بل سقط على البساط إلى جانب التسريحة وتدحرج على الأرض، دون أن يصيبه أي شيء. •••
قذفت دورقا نحوي في تلك المرة. كان من الممكن أن تقتليني.
ليس تجاهك. لم ألقه نحوك.
كان من الممكن أن تقتليني. •••
الدليل على أن روبين كانت تتظاهر أنها نائمة أنها قفزت من مكانها في رعب، لكن ذلك لم يكن الرعب المحض لشخص كان نائما. بدت مذعورة، لكن تحت هذه النظرة المذعورة، الطفولية كان ثمة نظرة أخرى؛ عنيدة، ماكرة، مزدرية. «كان في غاية الجمال. وكان نفيسا. كان ملكا لجدتك .»
قالت روبين: «كنت أعتقد أنه ملكي أنا.» «تلك الفتاة لم تكن حتى صديقتك. يا إلهي! لم تتفوهي بكلمة طيبة عنها صباح اليوم.» «أنت لا تعرفين من صديقتي!» تورد وجه روبين بلون قرنفلي براق وامتلأت عيناها بالدموع، لكن ظل تعبير الازدراء والعناد كما هو لم يتغير. «أعرفها. وتحدثت إليها. هيا قومي إذن!» •••
تعمل ترودي في دار رعاية ذوي الإعاقة العقلية البالغين. يطلق عليه القليل من الناس ذلك. لا يزال الأشخاص الأكبر سنا في البلدة يطلقون عليها «دار السيدة وير»، ويطلق عليها آخرون - بما في ذلك روبين، وربما معظم من هم في عمرها - دار أصحاب أنصاف العقول.
يوجد في الدار الآن ممر منحدر للمقاعد المتحركة، نظرا لأن بعض أصحاب الإعاقة العقلية ربما يكونون من أصحاب الإعاقة الجسدية أيضا، وهناك مسبح في الفناء الخلفي، وهو ما أثار وجوده بعض الخلاف عندما جرى إنشاؤه من أموال دافعي الضرائب. بخلاف ذلك تبدو الدار تماما مثلما كانت دوما؛ الجدران الخشبية البيضاء، والزخارف داكنة الخضرة في الجمالونات، السقف شديد الانحدار والشرفة الخارجية الجانبية المسيجة بسلك داكن، والحشائش الخفيضة في الواجهة التي تظللها أشجار قيقب ناعمة.
هذا الشهر، تعمل ترودي في النوبة التي تستمر من الرابعة مساء إلى منتصف الليل. في فترة ما بعد الظهيرة أمس، تركت سيارتها أمام الدار، وسارت على الممر وهي تتأمل كيف تبدو الدار جميلة وهادئة مثلما كانت أيام السيدة وير، التي لا بد أنها كانت تقدم شايا مثلجا، وكانت تقرأ كتبا من المكتبة، أو تلعب الكروكيه، أو أيا ما كان يفعل الناس آنذاك.
دوما أخبار جديدة، شجار أو موقف مثير، بمجرد دخول المرء إلى هناك. كان الرجال قد أتوا لإصلاح المسبح لكنهم لم يفعلوا. رحلوا مرة أخرى. المسبح غير جاهز بعد.
قالت جوزفين: «نحن بحاجة إليه، سرعان ما سينتهي الصيف.»
قال كلفن: «لم نصل إلى منتصف شهر يونيو بعد، تقولين إن الصيف سينتهي ... فكري قبل أن تتحدثي.» ثم قال مخاطبا ترودي: «هل سمعت عن الفتاة الصغيرة التي قتلت في الريف؟»
كانت ترودي قد بدأت في خلط كميتين من عصير الليمون المجمد، إحداهما قرنفلية اللون والأخرى عادية. عندما قال ذلك، ضغطت بالملعقة على الكتلة المجمدة بقوة جدا حتى إن بعض العصير انسكب. «كيف يا كلفن؟»
كانت تخشى أن تسمع أن فتاة جرى اختطافها من على طريق ريفي، اغتصبت في الغابة، وجرى خنقها، وضربت، ثم تركت هناك. تجري روبين على الطرق الريفية وهي ترتدي بنطالا قصيرا وتي-شيرت أبيض، واضعة عصابة رأس حول شعرها المتطاير. شعر روبين ذهبي اللون، وهكذا كانت رجلاها وذراعاها. كان خداها وأطرافها ناعمة لكنها غير لامعة؛ لن يندهش المرء إذا رأى سحابة من حبوب اللقاح تتطاير وتستقر خلفها عندما تعدو. تطلق السيارات أبواقها كي تفسح الطريق ولكنها لا تأبه. تهديدات بذيئة تقال لها، وترد عليها بتهديدات مماثلة.
قال كلفن: «وهي تقود شاحنة.»
شعرت ترودي بالراحة. لا تعرف روبين قيادة السيارات بعد.
قال كلفن: «أربعة عشر عاما، لم تكن تعرف كيف تقود ... صعدت إلى الشاحنة، وفجأة اصطدمت بشجرة. أين كان والداها؟ هذا ما أود أن أعرفه. لم يكونا يراقبان تصرفاتها. ركبت الشاحنة بينما لم تكن تعرف كيف تقود واصطدمت بشجرة. أربعة عشر عاما. هذه سن صغيرة جدا.»
يذهب كلفن إلى الجزء الراقي من البلدة بمفرده، ويسمع كل الأخبار. يبلغ من العمر اثنين وخمسين عاما، لا يزال نحيفا، ويبدو مثل صبي، حليق، ذي شعر ناعم، قصير، أسود خالص. يذهب إلى الحلاق يوميا؛ لأنه لا يستطيع الحلاقة وحده. صرع، ثم جراحة، تلوث أثناء فتح الجمجمة، مزيد من الجراحات، صعوبة دائمة خفيفة في تحريك القدمين وأصابع اليدين، تشتت ذهني بسيط لا يطمس حقائق الأشياء، فقط الدوافع. ربما يجب ألا يظل في دار الرعاية على الإطلاق، لكن إلى أين يذهب؟ على أي حال، هو يحب هذه الدار. يقول إنه يحبها. يقول للآخرين إنهم يجب ألا يتذمروا؛ فهم يجب أن يكونوا أكثر حرصا، ويجب أن يراقبوا تصرفاتهم. يجمع عبوات المشروبات الغازية وزجاجات البيرة التي يلقيها الناس في الفناء الأمامي؛ على الرغم من أن ذلك لا يقع في نطاق عمله على الإطلاق.
عندما جاءت جانيت قبل منتصف الليل لتحل محل ترودي في نوبة العمل، كانت تريد أن تروي لها نفس القصة. «أظن أنك سمعت عن الفتاة التي تبلغ من العمر خمسة عشر عاما؟»
عندما تبدأ جانيت في إخبارك بشيء كهذا، تبدأ دائما بعبارة «أظن أنك سمعت.» «أظن أنك سمعت عن انفصال ويلما وتيد.» «أظن أنك سمعت أن ألفين ستيد أصيب بنوبة قلبية.»
قالت ترودي: «أخبرني كلفن بقصتها ... لكنه قال إنها في الرابعة عشرة من عمرها.»
قالت جانيت: «خمسة عشر عاما ... لا بد أنها في صف روبين نفسه في المدرسة. لم تكن تعرف كيف تقود. لم تخرج حتى من الحارة التي كانت تقود السيارة فيها.»
قالت ترودي: «هل كانت ثملة؟» لم تكن روبين لتقترب من المشروبات الكحولية، أو المنشطات، أو السجائر، أو حتى القهوة، لديها هوس شديد لما تدخله بجسدها. «لا أعتقد ذلك. ربما كانت واقعة تحت تأثير المخدرات. كان الوقت مبكرا في المساء. كانت في المنزل مع أختها. كان أبواها في الخارج. جاء رفيق أختها؛ كانت شاحنته التي ركبتها، وقد أعطاها مفاتيح الشاحنة أو أنها أخذتها منه. تسمعين روايات مختلفة. تسمعين أنهما أرسلاها لتجلب لهما شيئا، كانا يريدان التخلص منها، وتسمعين أنها أخذت المفاتيح وذهبت. على أي حال، اصطدمت بشجرة في الحارة.»
قالت ترودي: «يا إلهي!» «أعرف. هذا غباء شديد. يبلغ الأمر حدا يجعل المرء معه يكره تصور فكرة نضوج الأبناء. هل تناول الجميع أدويتهم؟ ماذا يشاهد كلفن؟»
كان كلفن لا يزال مستيقظا، جالسا في غرفة المعيشة يشاهد التليفزيون.
قالت ترودي لجانيت: «هناك لقاء مع أحد الأشخاص. كتب كتابا عن مرضى الانفصام في الشخصية.»
أي شيء يصادفه حول المشكلات العقلية، كان كلفن يشاهده، أو يحاول أن يقرأه.
قالت جانيت: «أعتقد أن هذا يحبطه، كلما شاهد هذه الأشياء ... هل تعرفين أنني عرفت اليوم أن علي عمل خمسمائة وردة من المناديل الورقية القرنفلية من أجل زفاف ابنة أخي لوريل؟ لتزيين السيارة. قالت إنني وعدت أنني سأصنع ورودا للسيارة. حسنا، لم أفعل. لا أتذكر أنني وعدت بشيء كهذا. هل ستأتين وتساعدينني؟»
قالت ترودي: «بالتأكيد.»
قالت جانيت: «أظن أن السبب الحقيقي وراء رغبتي في جعله يترك مشاهدة الحوار الخاص بمرضى الانفصام في الشخصية هو أن أشاهد مسلسل «دالاس» القديم.» تختلف هي وترودي حول ذلك. لا تستطيع ترودي تحمل مشاهدة هذه الإعادات لمسلسل «دالاس»؛ مشاهدة الشخصيات، ذات الوجوه الشابة، الممتلئة، وهي تخوض المحن وتقع في شرك التعقيدات الرومانسية التي نسيت هي والجمهور كل شيء عنها الآن. تقول جانيت إن هذا هو المضحك جدا حقا؛ هذا غير قابل للتصديق تماما إلى درجة أنه رائع. كل هذا يحدث ثم تنسيان الأمر برمته ثم تواصلان حياتهما. لكن بالنسبة لترودي يبدو من المستعصي على التصديق أن تنتقل الشخصيات من حالة إلى أخرى؛ هذه القدرة على النسيان، والتحلي بالأمل، والتألق، وتغيير الملابس باستمرار. وهذا الاستعصاء على التصديق هو ما لا تستطيع تحمله حقا. •••
في صباح اليوم التالي، قالت روبين: «أوه، ربما. كل أولئك الأشخاص الذين تتسكع معهم يشربون الخمر. يقيمون حفلات طوال الوقت. يدمرون أنفسهم بأنفسهم. هذا خطؤها. حتى إذا طلبت منها أختها أن تذهب، لم يكن عليها أن تذهب. لم يكن يجب أن تكون بهذا الغباء.»
قالت ترودي: «ماذا كان اسمها؟»
قالت روبين في نفور: «تريسي لي.» خطت على دواسة صفيحة القمامة، وألقت فيها عبوة الزبادي التي أفرغتها توا بدلا من أن تضعها في رفق. كانت ترتدي سروالا تحتيا وتي- شيرت مكتوبا عليه: «إذا كان علي أن أستمع إلى شخص أحمق، فسيكون أنت».
قالت ترودي: «ما يزال هذا التي-شيرت يضايقني. بعض الأشياء تكون مقززة لكنها مضحكة وبعض الأشياء تكون مقززة أكثر منها مضحكة.»
قالت روبين: «ما المشكلة؟ ... أنام وحدي.» •••
جلست ترودي في الخارج، في روبها الفضفاض، تحتسي القهوة بينما كان اليوم يزداد حرارة. ثمة مساحة صغيرة مرصوفة بالطوب إلى جانب الباب الجانبي كانت هي ودان يطلقان عليها دائما الفناء المرصوف. جلست هناك. هذا منزل تجري تدفئته بالطاقة الشمسية، ذو ألواح شمسية كبيرة من الزجاج على السطح المائل جهة الجنوب ؛ أغرب منزل في البلدة. منزل غريب من الداخل، أيضا، ذو أرفف مفتوحة في المطبخ بدلا من الخزائن، وغرفة معيشة أعلى يتم الصعود إليها ببعض الدرجات، وهي تطل على الحقول خلف المنزل. أطلقت هي ودان، كنوع من المزاح، على أجزاء من المنزل أكثر الأسماء تقليدية، وارتباطا بالضواحي، مثل الفناء المرصوف، دورة المياه، غرفة النوم الرئيسية. كان دان يمزح دوما حول الطريقة التي كان يعيش بها. شيد المنزل بنفسه - قامت ترودي بالكثير من أعمال الطلاء والنقاشة - وكان عملا ناجحا. لم تكن الأمطار تتسرب إلى الألواح الشمسية، وكان ثمة جزء من الطاقة التي تدفئ المنزل يأتي حقا من الشمس. ليس معظم الأشخاص الذين يمتلكون الأفكار، أو المثل العليا، التي يمتلكها دان عمليين جدا. لا يستطيعون إصلاح أو صنع الأشياء؛ لا يفهمون في الأعمال الكهربية أو النجارة، أو أي مما يحتاجون إلى فهمه. دان بارع في كل شيء؛ في أعمال الحديقة، وقطع الأخشاب، وبناء المنازل. هو بارع بوجه خاص في إصلاح المحركات. كان معتادا على السفر من مكان إلى آخر للحصول على وظيفة ميكانيكي سيارات، فني محركات صغيرة. هكذا انتهى به المطاف هنا. أتى إلى هنا لزيارة مارلين، وحصل على وظيفة ميكانيكي، وصار شريكا في شركة إصلاح سيارات، وسريعا جدا - بعد أن تزوج من ترودي، لا مارلين - وجد نفسه رجل أعمال في بلدة صغيرة، عضوا في مؤسسة كينزمنز للأعمال الخيرية. كل هذا دون أن يحلق لحيته التي ترجع في شكلها إلى الستينيات أو يهذب شعره أكثر مما كان يرغب. كانت البلدة صغيرة جدا وكان دان أكثر ذكاء من أن يرى أيا من ذلك ضروريا.
يعيش دان حاليا في منزل في ريتشموند هيل مع فتاة تدعى جينفيف. وهي تدرس القانون. تزوجت عندما كانت صغيرة جدا، ولديها ثلاثة أطفال. التقاها دان منذ ثلاث سنوات عندما تعطلت سيارة التخييم التي كانت تتنقل بها على بعد أميال قليلة خارج البلدة. تحدث إلى ترودي عنها تلك الليلة؛ سيارة التخييم المؤجرة، الأطفال الثلاثة الصغار جدا في السن ، الأم المطلقة الصغيرة المفعمة بالنشاط ذات الشعر المجدول؛ شجاعتها، وفقرها، وخططها للالتحاق بكلية القانون. إذا لم يجر إصلاح سيارة التخييم بسرعة، كان سيدعوها وأطفالها لقضاء تلك الليلة عنده. كانت في طريقها إلى المنزل الصيفي لأبويها في بوينت أو باريل.
قالت ترودي: «إذن لا يمكن أن تكون فقيرة جدا.»
قال دان: «يمكن أن يكون المرء فقيرا وأبواه ثريان.» «لا، لا يمكن.»
في الصيف الماضي، ذهبت روبين إلى ريتشموند هيل لتقضي شهرا مع أبيها في منزله. عادت قبل ذلك. قالت إن المنزل كان أشبه بمستشفى مجانين. يجب على الطفل الأكبر الذهاب إلى عيادة متخصصة لمن لديهم صعوبات في القراءة، وكان الطفل الأوسط يبلل الفراش. جينفيف تقضي وقتها كله في مكتبة الكتب القانونية، تذاكر. لا عجب في ذلك. يذهب دان يبحث عن عروض مخفضة، ويطهو، ويعتني بالأطفال، ويزرع الخضراوات، ويقود سيارة أجرة في أيام السبت والأحد. يريد أن يؤسس شركة لإصلاح الدراجات البخارية في الجراج، لكنه لا يستطيع الحصول على ترخيص بذلك؛ يعارض الجيران ذلك.
أخبر روبين أنه سعيد. قال إنه لم يكن قط أسعد من ذلك. عادت روبين إلى المنزل ناضجة تماما؛ قاسية، ساخرة، حازمة. كانت لديها ضغينة بسيطة، مستمرة لم تكن لديها من قبل. لم تستطع ترودي اقتلاعها منها، لم تستطع استخلاصها منها؛ كان قد فات الوقت الذي كانت تستطيع فيه عمل ذلك. •••
عادت روبين إلى المنزل في الظهيرة وبدلت ملابسها. ارتدت بلوزة قطنية خفيفة، عليها ورود وكوت تنورة قطنية بلون أزرق فاتح. قالت إن بعض الفتيات في الصف ربما يذهبن إلى الجنازة بعد انتهاء اليوم الدراسي.
قالت ترودي: «نسيت أن لديك تلك التنورة.» إذا كانت تظن أن ذلك سيؤدي إلى بدء حديث، فقد كانت مخطئة. •••
في المرة الأولى التي التقت فيها ترودي دان، كانت ثملة. كانت تبلغ من العمر تسعة عشر عاما، طويلة ونحيفة (ولا تزال)، ذات شعر أسود مهوش متموج (قصير الآن ويبدو رماديا مثلما كان يبدو أسود). كانت مسمرة جدا، ترتدي بنطال جينز وتي-شيرت ذا ألوان زاهية جدا. لم تكن ترتدي صديرية ولم يكن ثمة حاجة إليها. كان هذا في ماسكوكا في شهر أغسطس، في مشرب أحد الفنادق حيث كان ثمة فرقة موسيقية. كانت تعسكر مع صديقات لها. كان هناك مع خطيبته، مارلين. كان قد اصطحب مارلين إلى منزله للقاء أمه، التي كانت تعيش في ماسكوكا في جزيرة في فندق خال. عندما كانت ترودي في التاسعة عشرة، كان هو في الثامنة والعشرين. كانت ترقص وحدها، دائخة وثملة، أمام المائدة التي كان يجلس هو ومارلين عليها، التي كانت شقراء وديعة ذات صديرية قرنفلية كبيرة مطرزة بحبات لؤلؤ صغيرة صناعية. رقصت ترودي أمامه حتى نهض وانضم إليها. في نهاية الرقصة، سأل عن اسمها، وأخذها وقدمها إلى مارلين.
قال: «هذه جودي.» سقطت ترودي، وهي تضحك، في المقعد المجاور لمارلين. جعل دان مارلين تقوم وترقص معه. أتت ترودي على جعة مارلين وذهبت تبحث عن أصدقائها.
قالت لهن: «كيف حالكن؟ أنا جودي!»
لحق بها عند باب المشرب. كان قد ترك مارلين عند رؤية ترودي ترحل. رجل يستطيع تغيير مساره بسرعة، يرى الاحتمالات، يشتعل بحماس جديد. أخبر الناس لاحقا أنه وقع في حب ترودي قبل أن يعرف اسمها الحقيقي. لكنه أخبر ترودي أنه بكى عندما افترق هو ومارلين.
قال: «لدي مشاعر ... لا أخجل من التعبير عنها.»
لم تكن ترودي تكن أي مشاعر تجاه مارلين على الإطلاق. تخطت مارلين سن الثلاثين؛ ماذا كانت تتوقع؟ لا تزال مارلين تعيش في البلدة، تعمل في شركة هايدرو، وهي غير متزوجة. عندما كانت ترودي ودان يتحدثان حول جينفيف، قالت ترودي: «لا بد أن مارلين تظن أنني نلت جزاء ما فعلته.»
قال دان إنه كان قد عرف أن مارلين انضمت إلى زمالة أتباع الكتاب المقدس التي لم يكن يسمح للنساء فيها بوضع المكياج وكان عليهن ارتداء نوع من القلنسوات في الكنيسة أيام الآحاد.
قال دان: «لن تستطيع أن تحمل ضغينة ضد أي أحد الآن.»
قالت ترودي: «أراهن على ذلك.» •••
هذا هو ما حدث في مكان الجنازة، مثلما سمعت ترودي القصة من كلفن وجانيت.
ذهبت إلى هناك جميع الفتيات في صف تريسي لي جميعا معا بعد انتهاء اليوم الدراسي. كان هذا خلال ما كان يسمى بزيارة الوداع، عندما كانت العائلة توجد إلى جانب تابوت تريسي لي لاستقبال أصدقائها. كان أبواها موجودين، وكذلك كان أخوها المتزوج وزوجته، وأختها، بل حتى رفيق أختها، الذي كان يملك الشاحنة. وقفوا في صف وتراص الحاضرون في صف لتعزيتهم. أتى الكثير من الناس. يأتون دوما، في ظروف كهذه. كانت جدة تريسي لي تجلس في نهاية الصف في مقعد مغطى بقماش مطرز. لم تكن قادرة على الوقوف فترات طويلة.
كانت جميع المقاعد في مكان الجنازة منجدة بهذا القماش المطرز باللونين الأبيض والذهبي. كانت الستائر مطرزة على النحو نفسه، ويكاد ورق الحائط يطابقها. هناك مصابيح جدارية صغيرة خلف الزجاج القرنفلي المعتم. ذهبت ترودي إلى هناك عدة مرات وتعرف كيف يبدو المكان. لكن لم تكن روبين ومعظم هؤلاء الفتيات قد دخلن المكان من قبل. لم يكن يعرفن ماذا سيجدن. بدأ بعضهن في البكاء بمجرد دخولهن من الباب.
كانت الستائر مسدلة. كانت هناك موسيقى هادئة مسموعة؛ ليست موسيقى كنسية تماما، لكنها كانت تبدو مثل ذلك. كان تابوت تريسي لي أبيض ذا حواف ذهبية، متوافقا في لونه مع كل التطريز في المكان وورق الحائط. كانت به بطانة من الساتان القرنفلي المكشكش. وسادة من الساتان القرنفلي. لم يكن ثمة أي علامة على وجه تريسي لي. لم تكن تبدو في صورتها المعتادة؛ لأن الحانوتي كان قد زينها بنفسه. لكنها كانت ترتدي أقراطها المفضلة، المثلثة ذات اللون الفيروزي والهلالية الصفراء، قرطين في كل أذن. (لم يعجب ذلك بعض الأشخاص.) في الجزء من التابوت الذي كان يمتد من وسطها إلى أسفل، كان ثمة وسادة كبيرة على شكل قلب من الورود القرنفلية.
تراصت الفتيات في صف للتحدث إلى العائلة. صافحنهم، وعزينهم، مثلما كان يفعل الجميع. عندما فرغن من ذلك، عندما تركن جميعا الجدة تضغط بشدة على أياديهن الباردة بين يديها الدافئة، المنتفخة، المنمشة، تراصصن مرة أخرى ، على نحو غير مرتب إلى حد ما، وبدأن في المرور بجانب التابوت. كان العديد منهن يبكين الآن، ويرتجفن. ماذا يمكن أن يتوقع المرء في ظرف كهذا؟ فهن في نهاية الأمر فتيات صغيرات.
لكنهن بدأن في الغناء عند مرورهن بجانب التابوت. في صعوبة في البداية، في خجل، لكن في ثقة متزايدة بأصواتهن الحزينة، العذبة، كن يغنين:
الآن، بينما لا تزال الزهرة تتعلق بالكرمة،
سأتذوق حبات الفراولة الخاصة بك، سأشرب خمرك العذب ...
كن قد خططن للأمر بأسره، بالطبع، مسبقا؛ كن قد استمعن إلى هذه الأغنية من أسطوانة. كن يعتقدن أنها ترنيمة قديمة.
لذا، مررن الواحدة تلو الأخرى، يغنين وينظرن إلى أسفل إلى تريسي لي، ولوحظ أنهن كن يلقين بأشياء في التابوت. كن يخلعن الخواتم من أصابعهن والأساور من أيديهن، والأقراط من آذانهن. كن يخلعن العقود، وينحنين لجذب السلاسل وخيوط الخرز الطويلة فوق رءوسهن. وضعت كل منهن شيئا. كانت كل هذه الجواهر تومض وتتلألأ على جسد الفتاة الميتة، وترقد إلى جانبها في تابوتها. جذبت إحدى الفتيات دبابيس الشعر البراقة من شعرها، وألقت بها.
لم يتحرك أحد لإيقاف ذلك. كيف يمكن أن يقاطع أحد ذلك؟ كان الأمر بمنزلة طقس ديني. تصرفت الفتيات كما لو كن قد قيل لهن أن يتصرفن على هذا النحو، كما لو كان هذا هو ما يحدث دائما في مناسبات كهذه. غنين، وانتحبن، وألقين بمجوهراتهن. جعل الشعور بممارسة هذه الطقوس كل واحدة منهن متألقة.
لم تكن العائلة لتوقف هذا. كانوا يعتقدون أن الأمر جميل.
قالت أم تريسي لي: «كان المكان أشبه بالكنيسة»، وقالت جدتها: «كل تلك الفتيات الصغيرات الجميلات أحببن تريسي لي. إذا كن يردن أن يهبن جواهرهن حتى يظهرن مدى حبهن لها، فهذا شأنهن. ليس هذا شأن أحد آخر. أعتقد أن الأمر كان جميلا.»
انهارت أخت تريسي لي وبكت. كانت هذه هي المرة الأولى التي تفعل فيها ذلك. •••
قال دان: «هذا اختبار محبة.»
كان يقصد محبة ترودي. بدأت ترودي تغني: «رجاء حررني، دعني أنصرف ...»
ضمت يديها إلى صدرها، ورقصت في حركات مفاجئة حول الغرفة، وهي تغني. كان دان بين أن يضحك، وأن يبكي. لم يستطع منع نفسه؛ اقترب منها، واحتضنها، ورقصا معا، وتمايلا. كانا ثملين جدا. طوال شهر يونيو ذاك (كان هذا منذ عامين)، كانا يشربان الجين، أثناء لقاءاتهما معا وفي غيرها من الأوقات. كانا يشربان، ينتحبان، يتجادلان، يفسران الأمور، وكان على ترودي أن تذهب كثيرا إلى متجر المشروبات الكحولية. لكنها لا تستطيع أن تتذكر على الإطلاق أنها كانت تشعر بأنها ثملة أو أنها كانت تعاني من الصداع بسبب آثار الخمر. فيما عدا أنها كانت تشعر بأنها مرهقة جدا طوال الوقت، كما لو كان ثمة قطع خشبية مقيدة إلى كعبيها.
ظلت تمزح. أطلقت على جينفيف اسم «جيني الهزيلة».
قالت: «يشبه الأمر الرغبة في التخلي عن الشركة والعمل كخزاف ... ربما كان عليك أن تفعل ذلك. لم أكن حقيقة أعارض الأمر. أنت استسلمت ولم تتم الأمر. ويشبه أيضا عندما أردت أن تذهب إلى بيرو. لا يزال بإمكاننا أن نفعل ذلك.»
قال دان: «كل تلك الأشياء لم تكن إلا إشارات لأشياء مستقبلية.»
قالت ترودي: «كان علي أن أعرف ذلك عندما بدأت مشاهدة ديوان المظالم في التليفزيون ... كانت الزاوية القانونية، أليس كذلك؟ لم تكن مهتما بأمور كهذه من قبل.»
قال دان: «سيفتح هذا الحياة أمامك، أيضا، على مصاريعها ... ستصبحين أكثر من مجرد زوجتي.» «بالتأكيد. أظن أنني سأصبح جراحة مخ وأعصاب.» «أنت ذكية جدا. أنت امرأة رائعة. أنت شجاعة.» «بالتأكيد أنت لا تتحدث عن جيني الهزيلة.» «لا، أنت. أنت يا ترودي. لا أزال أحبك. لا تستطيعين أن تفهمي أني لا أزال أحبك.»
لم يتحدث منذ فترة طويلة هكذا عن مقدار حبه لها. كان يحب نحافتها، شعرها المتموج، بشرتها الآخذة في الخشونة، طريقتها في دخول الغرفة في خطوة واسعة كانت تهز النوافذ، نكاتها، حركاتها البهلوانية، حديثها الفظ. كان يحب عقلها وروحها. كان سيحبهما دوما. لكن كان الجزء من حياته الذي كان مرتبطا بالعيش معها قد انتهى.
قالت ترودي: «هذا مجرد كلام. هذه طريقة حديث تشبه طريقة حديث البلهاء! ... روبين ، عودي إلى فراشك!» كانت روبين تقف أعلى السلالم مرتدية ثوب نومها القصير.
قالت روبين: «أستطيع سماعكما تصيحان وتصرخان.»
قالت ترودي: «لم نكن نصيح ونصرخ ... كنا نحاول أن نتحدث عن موضوع خاص.» «ماذا؟» «قلت لك، موضوع خاص.»
عندما عادت روبين متذمرة إلى الفراش، قال دان: «أظن أننا يجب أن نخبرها. من الأفضل أن يعرف الأبناء. لا تخفي جينفيف أي أسرار عن أطفالها. تبلغ جوسي خمسة أعوام، وجاءت إلى غرفة النوم ذات مرة فيما بعد وقت الظهيرة ...»
ثم بدأت ترودي في الصياح والصراخ بالفعل. نشبت يديها في غطاء وسادة. «توقف عن التحدث معي عن حبيبتك جينفيف اللعينة وعن غرفة نومها اللعينة وأطفالها الملعونين. اخرس، توقف عن الكلام! لست إلا فما ثرثارا كبيرا دون أي عقل. لا آبه بما تفعل، فقط اخرس!» •••
رحل دان. حزم حقيبته، ورحل إلى ريتشموند هيل. عاد في غضون خمسة أيام. خارج البلدة، كان قد توقف بالسيارة لشراء باقة ورود برية لترودي. قال لها إنه عائد بصفة نهائية، انتهى الأمر.
قالت ترودي: «لست أنت الذي تقرر ذلك؟»
لكنها وضعت الورود في الماء. ورود صقلاب قرنفلية متربة رائحتها مثل بودرة الوجه، زهور سوزان ذات عيون سوداء، بازلاء عطرية برية، وزنابق برتقالية لا بد أنها أخذت من حدائق قديمة لم تعد موجودة.
قالت: «إذن، ألم تستطع تحمل إيقاع الحياة هناك؟»
قال دان: «كنت أعلم أنك لن ترتمي في أحضاني تماما ... لن تكوني أنت لو فعلت ذلك. ولم آت إلا من أجلك أنت.»
ذهبت إلى متجر المشروبات الكحولية، واشترت هذه المرة شامبانيا. لمدة شهر - كان الوقت لا يزال صيفا - عاد كل منهما إلى الآخر وكانا سعيدين جدا. لم تعرف قط حقيقة ماذا جرى في منزل جينفيف. قال دان إنه كان يمر بأزمة منتصف العمر، هذا كل ما في الأمر. ثاب إلى رشده. كانت حياته هنا، معها ومع روبين.
قالت ترودي: «تتحدث مثلما في عمود النصائح الزوجية.» «حسنا. انسي الأمر برمته.»
قالت: «يستحسن هذا.» كانت تستطيع تخيل الأطفال، الفوضى، الأصدقاء - الرفقاء القدامى، ربما - الذين لم يكن مستعدا للتعامل معهم. نكات وآراء لا يمكنه فهمها. كان هذا ممكنا. الموسيقى التي كان يحبها، الطريقة التي كان يتحدث بها - حتى شعره ولحيته - ربما لا تساير الجو العام هناك.
كانا يذهبان في رحلات عائلية، نزهات. كانا يرقدان على الحشائش خلف المنزل ليلا، يتطلعان إلى النجوم. كانت النجوم موضع اهتمام جديد لدان، كان لديه خريطة لها. كانا يتحاضنان، ويقبل أحدهما الآخر، كثيرا، وجربا أشياء جديدة - أو أشياء لم يفعلاها منذ وقت طويل - عندما كانا يتضاجعان.
في هذا الوقت، كان الطريق أمام منزل يرصف. كانا قد شيدا منزلهما على جانب تل على حافة البلدة، وراء المنازل الأخرى، لكن الشاحنات كانت تستخدم هذا الطريق كثيرا، متجنبة الشوارع الرئيسية؛ لذا كانت البلدة تتولى رصفه. اعتادت ترودي جدا على الضوضاء والاهتزاز المستمر، حتى إنها كانت تقول إنها كانت تشعر بنفسها تهتز طوال الليل، حتى عندما يكون كل شيء ساكنا. كان العمل يبدأ في الساعة السابعة صباحا. كانا ينهضان وسط كم كبير من الضوضاء. كان دان يجر نفسه جرا من الفراش آنذاك، مفتقدا ساعة النوم التي كان يحبها أكثر من أي ساعة أخرى. كان ثمة رائحة وقود ديزل في الهواء.
استيقظت ذات ليلة لتجده غير موجود في الفراش. أنصتت لتسمع ما إذا كان هناك صوت ضوضاء في المطبخ أو غرفة النوم، لكنها لم تستطع أن تسمع شيئا. نهضت وتجولت عبر المنزل. لم يكن ثمة أي ضوء مضاء. وجدته جالسا في الخارج، خارج باب المنزل، لا يتناول شرابا أو كوبا من اللبن أو قهوة، جالسا وظهره إلى الشارع.
نظرت ترودي إلى الأرض المكسرة وإلى الآلات الكبيرة المنتظرة. وقالت: «أليس الهدوء رائعا؟»
لم يقل أي شيء.
أوه. أوه.
أدركت ما كانت تفكر فيه عندما وجدت مكانه في الفراش خاليا ولم تستطع سماعه في أي مكان في المنزل. ليس الأمر أنه تركها، لكنه فعل ما هو أسوأ. كانت تظن أنه تخلص من نفسه. من كل سعادتهما، وأحضانهما، وقبلاتهما، ونجومهما، ونزهاتهما.
قالت: «أنت لا تستطيع أن تنساها ... أنت تحبها.» «لا أعرف ماذا أفعل.»
كانت مسرورة أنها فقط تستطيع سماعه يتحدث. قالت: «عليك أن تذهب وتحاول مرة أخرى.»
قال: «لا يوجد ما يضمن أنني سأستطيع البقاء هناك ... لا أستطيع أن أطلب منك أن تنتظريني.»
قالت ترودي: «لا ... إذا رحلت، فهذه هي نهاية الأمر.» «إذا رحلت، فهذه هي نهاية الأمر.»
بدا مشلولا. شعرت أنه ربما سيبقى جالسا في مكانه، يكرر ما قالت، ولن يستطيع أن يتحرك أو ينطق أبدا بشيء آخر.
قالت: «إذا كان شعورك هكذا، فهذا هو كل ما في الأمر ... لست مضطرا إلى الاختيار. لقد اخترت بالفعل.»
نجح ذلك. نهض متصلبا، جاء إليها، وطوقها بذراعيه. مرر يده برفق على ظهرها.
قال: «هيا نعد إلى الفراش ... يمكننا أن نستريح قليلا.» «لا. عليك أن تكون قد رحلت عندما تستيقظ روبين. إذا عدنا إلى الفراش، فسيبدأ الجدال بيننا من جديد.»
صنعت له ترمسا من القهوة. حزم الحقيبة التي كان قد أخذها معه قبل ذلك. بدت جميع حركات ترودي ماهرة ورائعة، مثلما لم تكن من قبل، في الغالب. كانت تشعر بهدوء نفسي. كانت تشعر كما لو كانا زوجين هرمين يتحركان في تناغم، في حب صامت، متجاوزين الألم، متجاوزين الغفران. لم يكن وداعهما صعبا. ذهبت معه إلى الخارج. كانت الساعة بين الرابعة والنصف والخامسة؛ كانت السماء تبدأ في الإشراق، والطيور في الاستيقاظ، وكان كل شيء غارقا في الندى. كانت الآلات المسالمة الكبيرة تقف هناك، عالقة في أخاديد الطريق.
قالت: «لعل ما هو طيب في الأمر أنك لم تخرج في الليلة السابقة؛ لم تكن ستستطيع أن ترحل.» كانت تعني أن السير في الطريق كان مستحيلا. مهدوا أمس فقط مسارا ضيقا لسير المرور المحلي عليه.
قال: «أمر طيب.»
وداعا. ••• «كل ما أريد أن أعرفه هو لماذا فعلت ذلك. هل فعلت ذلك فقط من أجل التباهي؟ مثل أبيك؛ من أجل التباهي؟ لا يتعلق الأمر بالعقد كثيرا. لكنه كان جميلا، أحب العقود المصنوعة من الكهرمان. كان الشيء الوحيد الذي نملكه من جدتك. صحيح أنه من حقك ، لكنك ليس لديك الحق في أن تفاجئيني هكذا. أستحق منك أن تقدمي لي تفسيرا للأمر. أفضل دوما هذا النوع من العقود. لماذا؟» •••
تقول جانيت: «ألقي باللائمة على العائلة ... كان من المفترض أن يوقفوا الأمر. كانت بعض الأشياء مصنوعة من البلاستيك - تلك الأقراط والأساور المقلدة - أما بخصوص ما ألقته روبين، فكان ذلك جريمة. ولم تكن هي الوحيدة التي فعلت هذا. كانت هناك خواتم من الأحجار الكريمة وسلاسل ذهبية. قال أحدهم إنه كان هناك خاتم ماسي، لكنني لا أعرف إذا كان يمكن أن أصدق هذا أم لا. قالوا إن الفتاة ورثته، مثل روبين. أنت لم تثمنيه من قبل، أليس كذلك؟»
تقول ترودي: «لا أعرف إذا كانت العقود المصنوعة من الكهرمان تساوي الكثير.»
يجلسان في غرفة جانيت الأمامية، يصنعان ورودا من المناديل الورقية قرنفلية اللون.
تقول ترودي: «هذا غباء.»
تقول جانيت: «حسنا. يوجد شيء واحد يمكن أن تفعليه ... لا أعرف كيف أذكره.» «ماذا؟» «صلي.»
كان يخالج ترودي الشعور، من خلال نبرة صوت جانيت، بأنها كانت ستقول لها شيئا خطيرا وغير سار، شيئا عن نفسها - ترودي - يؤثر على حياتها وبأن الجميع كانوا يعرفونه سواها. تريد أن تضحك الآن، بعد تأهبها. لا تعرف ماذا تقول.
تقول جانيت: «أنت لا تصلين، أليس كذلك؟»
تقول ترودي: «ليس لدي أي اعتراض ضد الصلاة ... لم تتم تربيتي كي أصبح متدينة.»
تقول جانيت: «لا يتعلق الأمر بالتدين حرفيا ... أعني، لا يتعلق الأمر بالارتباط بأي كنيسة. يصلي بعضنا مع بعض فحسب. لا أستطيع أن أخبرك بأسماء الجميع، لكنك تعرفين معظمهم. من المفترض أن يكون الأمر سرا. تسمى حلقة الصلاة.»
تقول ترودي: «مثلما في المدرسة الثانوية ... كانت ثمة مجموعات سرية في المدرسة الثانوية، ولم يكن من المفترض أن يجري ذكر أسماء من كان بها. لم أكن في أي منها.»
تتنهد جانيت قائلة: «كنت جزءا من كل شيء يحدث ... هذا الأمر جدي حقيقة. على الرغم من أن بعض الأشخاص لا يأخذون الأمر على محمل الجدية بما يكفي، فأنا لا أعتقد هذا. بعض الأشخاص ، يصلون حتى يجدوا مكانا للانتظار، أو يصلون من أجل أن يكون الطقس جيدا في أيام عطلاتهم. ليست الحلقة من أجل ذلك. ليست هذه إلا صلاة فردية. تدور الأمور في الحلقة حقيقة كما يلي: تقومين بالاتصال بشخص ما فيها وتخبرينه ما الذي يقلقك، أو يزعجك، وتطلبين منه أن يصلي من أجلك. وسيفعل ذلك. ويهاتف هذا الشخص شخصا آخر في الحلقة، ثم يهاتف الشخص الآخر شخصا ثالثا، وهكذا دواليك، الكل يصلي من أجل شخص واحد.»
تقذف ترودي وردة بعيدا. وتقول: «هذا أمر سقيم. هل تكون الحلقة كلها من النساء؟» «لا توجد أي قاعدة تقول إنه يجب أن تكون الحلقة كلها من النساء. لكنها كذلك، نعم. سيشعر الرجال بإحراج بالغ. كنت محرجة في البداية. لا يعرف سوى أول شخص تهاتفينه اسمك، وما الشيء أو الشخص الذي يجري الصلاة من أجله، لكن في بلدة كهذه يمكن للجميع تقريبا تخمين هوية الشخص المتصل. لكننا إذا بدأنا في النميمة حول بعضنا والإفصاح عن أمور تتعلق بنا، فلن ينجح الأمر، والجميع يعرف هذا؛ لذا لا نفعل هذا. وهكذا ينجح الأمر.»
تقول ترودي: «هل يمكن أن تعطيني أمثلة؟» «حسنا، أحدثت إحدى الفتيات تلفيات بالغة بسيارتها. كلفها ذلك ثمانمائة دولار، وكان موقفا صعبا؛ حيث لم تكن متأكدة مما إذا كان تأمينها سيغطي ذلك أم لا، وهكذا كان زوجها - كان في شدة الغضب - لكننا صلينا جميعا، فكان أن غطى التأمين ذلك دون أي مشكلات. ليس هذا إلا مجرد مثال.»
تقول ترودي: «لن تفيد كثيرا الصلاة لاسترجاع العقد بينما هو في التابوت والجنازة هذا الصباح.» «لست أنت من تحددين ذلك. لا يمكنك تحديد ما هو ممكن وما هو غير ممكن. لا تملكين إلا طلب ما تريدين؛ لأن الكتاب المقدس يقول: «اسألوا تعطوا.» كيف يمكن أن تتوقعي المساعدة إذا لم تطلبيها؟ لا يمكنك ذلك، هذا مؤكد. ماذا عن دان عندما رحل؛ ماذا لو كنت صليت حينها؟ لم أكن عضوة في الحلقة آنذاك، وإلا كنت سأطلب منك أن تصلي. حتى إذا كنت أعرف أنك ستعارضين، كنت سأطلب منك أن تصلي. يعارض الكثير من الناس ذلك. الآن، صحيح أن الأمر لا يبدو مجديا جدا مع تلك الفتاة، لكن من يعرف؟ ربما ينجح الأمر الآن، ربما لا يكون الوقت متأخرا أكثر مما ينبغي.»
تقول ترودي، في صوت قوي، مبتهج: «حسنا ... حسنا.» تزيح كل الورود اللينة عن حجرها. «سأجثو على ركبتي الآن وأصلي كي أستعيد دان مجددا. سأصلي لأستعيد العقد مرة أخرى ولأستعيد دان، ولماذا يجب أن أقف عند هذا الحد؟ يمكن أن أصلي لئلا تموت تريسي لي. سأصلي كي تعود إلى الحياة. لماذا لم تفكر أمها قط في ذلك؟» •••
أخبار طيبة. جرى إصلاح المسبح. سيستطيعون ملأه بالماء غدا. لكن كلفن محبط. في وقت مبكر من وقت ما بعد الظهيرة في هذا اليوم - وكان من أسبابه أن يحول دون إزعاجهما الرجال الذين كانوا يصلحون المسبح - اصطحب ماري وجوزفين إلى الجزء الراقي من البلدة. اشترى لهما آيس كريم. طلب منهما أن ينتبها وأن يتناولا الآيس كريم بسرعة؛ لأن الشمس كانت شديدة وكان الآيس كريم سيذوب. كانتا تلعقان الآيس كريم من وقت إلى آخر، كما لو كان أمامهما اليوم بأكمله. سرعان ما سال الآيس كريم على ذقنيهما وذراعيهما. كان كلفن قد تناول عددا من المناديل الورقية، وحاول أن يمسح آثار الآيس كريم ولكنه لم يتمكن من القيام بذلك بالسرعة الكافية. سال الآيس الكريم عليهما في كل مكان. كان مشهدا لافتا للأنظار. لم تأبها. أخبرهما كلفن أن منظرهما ليس رائعا حتى يمكن أن تخاطرا بأن تبدوا على هذا النحو.
قال: «لا يفضل بعض الناس رؤيتنا على أي حال ... لا يعتقد بعض الناس حتى أننا يجب أن يسمح لنا بالذهاب إلى الجزء الراقي من البلدة. اعتاد الناس فقط على رؤيتنا، وعدم التحديق فينا مثل مسوخ، وها أنتما تصنعان فوضى وتفسدان كل شيء.»
سخرتا منه. كان يمكن أن يخضع ماري إذا كانت وحدها، لكنه لا يستطيع ذلك عندما تكون مع جوزفين. كانت جوزفين هي من تحتاج إلى نوع من التأديب على غرار النمط القديم، من وجهة نظر كلفن. كان كلفن قد عاش في أماكن لم يكن أحد يفلت فيها من العقاب عن أي شيء خاطئ فعله مثلما يحدث هنا. لم يكن يوافق على الضرب. كان قد رأى الكثير منه، لكنه لم يكن يتفق مع ذلك، حتى على اليد. أما شخص مثل جوزفين فيمكن حبسه في غرفته. يمكن إرغامها على الجلوس في ركن، يمكن إرغامها على تناول الخبز والماء فقط، وهو ما سيفضي إلى نتائج طيبة. كل ما كانت ماري تحتاج إليه هو التحدث إليها؛ كانت شخصيتها ضعيفة. لكن كانت جوزفين شيطانة.
تقول ترودي: «سأتحدث إلى كلتيهما ... سأطلب منهما أن تتأسفا.»
يقول كلفن: «أريدهما أن تشعرا بالأسف على ما فعلتاه ... لا آبه إذا قالتا إنهما آسفتان. لن أصطحبهما أبدا مرة أخرى.»
لاحقا، بينما الجميع نائمون، تقنعه ترودي بأن يجلس ليلعب إحدى ألعاب الورق معها في الشرفة المسيجة بالأسلاك. يلعبان لعبة الثمانية المجنونة. يقول كلفن إن هذا ما يستطيع فعله في تلك الليلة؛ يشعر بصداع في رأسه.
في الجزء الراقي من البلدة، قال رجل له: «مرحى! أيهما رفيقتك من بين الاثنتين؟»
تقول ترودي: «غبي ... هذا رجل أحمق.»
قال الرجل الذي كان يتحدث إلى الرجل الأول: «أيهما ستتزوج؟» «لا يعرفانك يا كلفن. إنهما أحمقان.»
لكنهما كانا يعرفانه. كان أحدهما يدعى رج هوبر، والآخر باد دلايل. باد دلايل الذي كان يبيع العقارات. كانا يعرفانه. كانا قد تحدثا إليه لدى الحلاق، وكانا يناديانه باسم كلفن. «مرحى كلفن! أيهما ستتزوج؟»
تقول ترودي: «مخبولان ... هذا ما ستقوله روبين.»
يقول كلفن: «يظن المرء أنهما صديقان له، لكنهما ليسا كذلك ... يحدث هذا كثيرا.»
تذهب ترودي إلى المطبخ لتعد بعض القهوة. تريد أن تعد قهوة طازجة تقدمها لجانيت عندما تأتي. اعتذرت هذا الصباح، وقالت جانيت: لا بأس في ذلك، أعلم أنك لست على ما يرام. لا بأس على الإطلاق. في بعض الأحيان أعتقد أنها صديقة لي، وهي كذلك بالفعل.
تنظر إلى جميع الأقداح المعلقة في مشاجبها. ذهبت هي وجانيت تتسوقان في أماكن كثيرة بحثا عنها. قدح باسم كل شخص: ماري، جوزفين، آرثر، كلفن، شيرلي، جورج، دورندا. ربما يعتقد المرء أن اسم دورندا هو أصعب الأسماء في العثور عليه، لكن في حقيقة الأمر، كان الاسم الأصعب على الإطلاق هو شيرلي. حتى الأشخاص الذين لا يستطيعون القراءة عرفوا كيف يتعرفون على أقداحهم، من خلال اللون والرسوم.
ذات يوم، ظهر قدحان، اشتراهما كلفن. كان أحدهما يحمل اسم ترودي، والآخر جانيت.
قالت جانيت: «لست سعيدة جدا لوجود قدح عليه اسمي ضمن صف الأقداح هذا ... لكنني لن أجرح شعوره مهما كان الأمر.» •••
من أجل شهر العسل، اصطحب دان ترودي إلى الجزيرة حيث البحيرة التي يطل عليها فندق أمه. كان الفندق مغلقا، لكن كانت أمه لا تزال تعيش هناك. كان والد دان ميتا، وكانت تعيش هناك وحدها. كانت تقود زورقا ذا محرك خارجي عبر البحيرة لشراء بقالتها. في بعض الأحيان كانت تخطئ، فتنادي ترودي باسم مارلين.
لم يكن الفندق فخما. كان عبارة عن صندوق خشبي أبيض على أرض خالية بالقرب من الشاطئ. كان ثمة صناديق صغيرة عبارة عن كبائن ملتصقة خلفه. أقام دان وترودي في واحدة من تلك الكبائن. كان ثمة موقد خشبي في كل كابينة. كان يشعل دان نارا ليلا للتخفيف من وطأة البرد. لكن الأغطية كانت رطبة وثقيلة عندما استيقظ هو وترودي في الصباح.
اصطاد دان بعض الأسماك وطهاها. تسلق هو وترودي الصخرة الكبيرة الموجودة خلف الكبائن وجمعا بعض حبات التوت الأزرق. سألها هل كانت تعرف كيف تصنع عجينة فطيرة، لكنها لم تكن تعرف. لذا، أوضح لها كيف تصنعها، فاردا العجينة باستخدام زجاجة ويسكي.
في الصباح كان هناك ضباب رقيق فوق البحيرة، مثلما يرى المرء في الأفلام أو في اللوحات.
في ظهيرة أحد الأيام، ظل دان بالخارج أكثر من المعتاد، يصطاد. انشغلت ترودي فترة في المطبخ، تزيل الغبار عن الأشياء، وتغسل بعض الدوارق. كان أقدم المطابخ وأكثرها ظلاما التي رأتها في حياتها، وكان ذا رفوف خشبية لحمل أطباق الغذاء حتى تجف. خرجت وتسلقت الصخرة وحدها ، ظانة أنها ستقتطف بعض حبات التوت الأزرق. لكن كان الظلام حالا بالفعل تحت الأشجار؛ جعلت الأشجار الدائمة الخضرة المكان تحت الأشجار مظلما، وكانت تخاف من ظهور حيوانات برية. جلست على الصخرة ناظرة إلى سطح الفندق، وأوراق الأشجار الميتة القديمة، وألواح السقف المتكسرة. سمعت صوت موسيقى تعزف على البيانو. نزلت عن الصخرة وتتبعت صوت الموسيقى إلى واجهة المبنى. سارت بطول الشرفة الخارجية الأمامية وتوقفت عند نافذة، ناظرة إلى الغرفة التي كانت تستخدم كقاعة انتظار؛ الغرفة ذات المدفأة الحجرية المسودة، المقاعد الجلدية الضخمة، السمكة المريعة المعلقة.
كانت أم دان موجودة هناك، تعزف على البيانو. كانت امرأة طويلة، عجوزا، مستقيمة الظهر، ذات شعر أسود مائل إلى الرمادي معقوص في عقدة صغيرة. كانت تجلس وتعزف على البيانو، دون إضاءة أي أنوار، في الغرفة شبه المظلمة، شبه الخالية من الأثاث.
كان دان قد قال لترودي إن أمه تنتمي إلى عائلة ثرية. كانت قد تلقت دروسا في عزف البيانو، ودروسا في الرقص؛ كانت قد طافت حول العالم عندما كانت فتاة صغيرة. كانت ثمة صورة لها تمتطي جملا. لكنها لم تكن تعزف مقطوعة موسيقية كلاسيكية، نوع الموسيقى التي يتوقع المرء أنها تعلمته. كانت تعزف مقطوعة «إنها الثالثة صباحا». عندما بلغت نهايتها، بدأت مرة أخرى. ربما كانت مقطوعة مفضلة لديها، مقطوعة كانت ترقص على وقع نغماتها في الأيام الخوالي. أو ربما أنها تكررها لأنها لم تكن راضية عن عزفها لها.
لماذا تتذكر ترودي هذه اللحظة الآن؟ ترى نفسها الشابة تنظر عبر النافذة إلى المرأة العجوز التي تعزف على البيانو؛ الغرفة المعتمة، ذات المدفأة ودعائم السقف الضخمة، والمقاعد الجلدية الوحيدة. صوت قعقعة وتردد وتواصل موسيقى البيانو. تتذكر ترودي ذلك بوضوح جدا، ويبدو كما لو أنها تقف خارج جسدها، الذي كان يتألم آنذاك جراء ملذات الحب المنهكة. وقفت خارج سعادتها في مد من الحزن. وحدث عكس هذا في صباح اليوم الذي رحل دان فيه. حينها وقفت خارج تعاستها في مد ما بدا شيئا مثل الحب على نحو غير معقول. لكن لم يكن الأمر مختلفا حقا عما كان عندما تخرج. ما تلك الأوقات التي تظل عالقة بالذهن، أوقات بارزة في حياة المرء؛ ماذا على المرء أن يفعل بها؟ ليست هذه إشارات مستقبلية تماما. فترات راحة. هل هذا هو كل ما في الأمر؟ •••
تمضي إلى الردهة الأمامية وتتسمع أي ضوضاء صادرة من أعلى. كل شيء هادئ، الجميع تناول دواءه. •••
يرن جرس الهاتف إلى جانب رأسها مباشرة.
تقول روبين: «ألا تزالين هنا؟ ... ألن ترحلي؟» «لا أزال هنا.» «هل أستطيع أن آتي إليك جريا ثم أعود راكبة معك؟ لم أمارس رياضة الجري في وقت مبكر اليوم؛ لأن الجو كان شديد الحرارة.» •••
قذفت الدورق. كان من الممكن أن تقتليني.
نعم. •••
يبدو كلفن، الذي كان ينتظر عند مائدة اللعب، تحت الضوء، مبيضا وشيخا. ثمة فيض من الضوء يبيض شعره البني. ينحني وجهه، منتظرا. يبدو شيخا، منكفئا على نفسه، ملفوفا في غطاء سميك من الحيرة، لا يشعر بوجودها تقريبا.
تقول ترودي: «هل تصلي؟» لم تكن تعلم أنها كانت ستسأله عن ذلك. «أعني، هذا أمر لا يخصني. لكن، هل تصلي من أجل أي شيء محدد؟»
يجيب عليها بنعم، وهو ما يدهشها إلى حد ما. يمتعض وجهه، كما لو كان قد شعر بالحبل الذي هو بحاجة إليه ليطفو إلى السطح.
يقول: «إذا كان لدي من الذكاء ما يمكنني من أن أعرف الأشياء التي يمكن أن أصلي من أجلها، عندئذ لن أكون مضطرا للصلاة من الأساس.»
يبتسم لها، بنوع من التآمر الخفي، ذاكرا مزحته المعروفة. ليس مقصودا من المزحة الإسعاد، على وجه الخصوص. لكنها مع ذلك كانت تتخللها؛ فالمزحة التي قالها، والطريقة التي قالها بها، ومجرد حقيقة أنه موجود هناك مرة أخرى، كل هذا كان يتخللها بالطريقة التي تتخلل بها بعض السخافات نفس المرء عندما يكون في غاية التعب. على هذا النحو، عندما كانت شابة، وتتمتع بروح معنوية مرتفعة، قد يصبح أي شخص أو أي لحظة من حياتها أشبه بزنبقة تطفو على ماء النهر الملتحف بالضباب، لحظة مثالية ومألوفة.
الكومة البيضاء
1
تقول دينيس: «لا أعرف أي لون طلاء كان هنا»، مجيبة على سؤال طرحته ماجدة عليها. «لا أتذكر حقيقة أي لون طلاء في هذا المنزل على الإطلاق.»
تقول ماجدة في تعاطف: «بالطبع لا تتذكرين ... لم يكن ثمة ضوء في هذا المنزل؛ لذا لم يكن ثمة أي لون. لم يكن ثمة حتى محاولة لطلاء المنزل. كان كئيبا جدا، لدرجة لا يمكن تصورها.»
فضلا عن هدم الشرفة القاتمة، القديمة، الحاجزة للضوء في المنزل الخشبي المصنوع من جذوع الأشجار، وضعت ماجدة - التي هي متزوجة الآن من والد دينيس، لورنس - كوات في السقف، وطلت بعض الجدران باللون الأبيض، والبعض الآخر باللون الأصفر. كانت قد علقت بعض المنسوجات المجلوبة من المكسيك والمغرب، وبسطا من كيبيك. حلت الخزائن والموائد المصنوعة من خشب الصنوبر محل الأثاث القديم المطلي بشكل رديء. هناك جاكوزي تحيطه النوافذ والخضرة، ومطبخ رائع. لا بد أن كل هذا تكلف أموالا كثيرة. لا شك في أن لورنس ثري بما يكفي الآن حتى يدفع ثمن كل هذا. يمتلك مصنعا صغيرا للبلاستيك، قرب أوتاوا، متخصص في صناعة ألواح النوافذ وأغطية المصابيح التي تبدو مثل الزجاج المعشق. التصميمات جميلة، الألوان غير صارخة أكثر مما ينبغي، وكانت ماجدة قد وضعت بعضها في هذا المنزل في أماكن غير ظاهرة.
ماجدة امرأة إنجليزية، ليست مجرية مثلما قد يوحي اسمها. كانت راقصة، ثم صارت مدرسة رقص. وهي امرأة قصيرة، ممتلئة الخصر، لا تزال جميلة، ذات عنق شاحب ناعم، ذات شعر جميل، منسدل ذهبي اللون يتخلله اللون الفضي. ترتدي ثوبا رماديا وشالا بألوان زهرية خافتة، يسدل أحيانا على الأريكة في غرفة نومها.
قالت دينيس ذات مرة لأخيها بيتر: «ماجدة صاحبة ذوق رفيع جدا.»
قال بيتر: «ما العيب في ذلك؟» يعمل بيتر مهندس كمبيوتر في كاليفورنيا، ويعود إلى موطنه ربما مرة سنويا. لا يفهم لماذا لا تزال دينيس مهتمة جدا بمثل هؤلاء الأشخاص.
قالت دينيس: «لا شيء ... لكن عندما تذهب إلى المنزل الخشبي، لن تجد حتى كومة من أغطية المائدة ملقاة على خزانة قديمة. ثمة كومة «محسوبة». لا يوجد مضرب بيض أو سلطانية معلقة في المطبخ إلا وتكون أفضل مضارب البيض أو السلطانيات التي يمكن أن يشتريها المرء.»
نظر بيتر إليها ولم يقل شيئا. قالت دينيس: «حسنا.»
كانت دينيس قد قادت سيارتها آتية من تورونتو، مثلما تفعل مرة أو مرتين كل صيف، لزيارة والدها وزوجته. يقضي لورنس وماجدة الصيف كله هنا، ويتحدثان عن بيع منزلهما في أوتاوا، وعن العيش هنا طوال السنة. يجلس ثلاثتهم في الفناء المرصوف المصنوع من الطوب الذي حل محل الشرفة، في فترة ما بعد الظهيرة في يوم الأحد في نهاية أغسطس. تمتلئ الأصص البنية الخاصة بماجدة بزهور تتفتح في الخريف؛ لا تعرف منها دينيس إلا زهور الغرنوقي. يشربون خمرا بالصودا؛ المشروبات الرئيسية ستقدم عندما يصل الضيوف على العشاء. حتى الآن، لا توجد مجادلات سخيفة. في طريقها إلى هنا، قررت دينيس ألا تدخل في مجادلات كهذه. في السيارة، استمعت إلى شرائط لموسيقى موتسارت لاسترجاع شعورها بالثبات ولتشجيع نفسها. اتخذت قرارات. وحتى الآن، تسير الأمور على ما يرام.
تدير دينيس مركزا لرعاية حقوق النساء في تورونتو. تحصل للنساء اللائي يمارس ضدهن العنف على مأوى، وتبحث لهن عن أطباء ومحامين، وتسعى للحصول على دعم خاص وحكومي، وتلقي خطبا، وتعقد اجتماعات، وتتعامل مع مشكلات حياتية مختلفة وفي بعض الأحيان تكون خطرة. تكسب مالا أقل من بائع في متجر مشروبات كحولية حكومي.
يقول لورنس إن ابنته تعد نموذجا للفتيات ذوات الخلفية متيسرة الحال.
يقول لورنس إن هذا المركز فكرة طيبة بالنسبة لأولئك اللائي يحتجنه بالفعل. لكنه لديه بعض التساؤلات أحيانا.
عم يتساءل أحيانا؟
بصراحة، يتساءل أحيانا هل كانت بعض تلك النساء - بعضهن - لا يستحققن كل هذا الاهتمام اللائي يحصلن عليه؛ إذ تدعين أنهن جرى الاعتداء عليهن واغتصابهن، إلى آخره.
عادة يلقي لورنس الطعم، وتلتقطه دينيس. (تنأى ماجدة بنفسها عن هذه المحادثات، وتتأمل مبتسمة زهورها.)
أموال دافعي الضرائب. مساعدة أولئك الذين لا يساعدون أنفسهم. التخلص من الأمطار الحمضية. نفقد وظائف؛ ستحتج نقاباتك . «ليست «نقاباتي».» «إذا صوت لصالح الديمقراطيين الجدد، فهي نقاباتك. من يدير الديمقراطيين الجدد؟»
لا تستطيع دينيس أن تعرف إذا كان حقا يصدق ما يقول، أو يصدق نصفه، أو يشعر فقط بأنه مجبر على قول أشياء محددة لها. تخرج أكثر من مرة من عنده وهي تبكي وتركب سيارتها وتعود إلى تورونتو. يقول حبيبها، وهو ماركسي مرح من جزيرة كاريبية، والذي لا تأتي به إلى منزلها، إن الرجال الشيوخ، الرجال الشيوخ الناجحين، في مجتمع صناعي رأسمالي يكونون في معظم الأحيان أشرارا؛ لم يعد متبقيا فيهم إلا دفاعاتهم الشرسة وجشعهم الهائل. تتجادل معه دينيس أيضا. بادئ ذي بدء، أبوها ليس شيخا. كما أن أبوها من داخله شخص طيب.
تقول: «سئمت من تعريفاتك الذكورية ومجادلاتك الذكورية التي لا تفسح مجالا لأحد.» ثم تقول في إطراق: «أيضا، سئمت من سماع نفسي أقول «ذكوري» على هذا النحو.» تفهم جيدا أنها إذا استطاعت الصمود في الجدال، فسيمنحها أبوها شيكا من أجل المركز.
لكن اليوم لم يلن عزمها. كانت قد التقطت جزءا يسيرا من الطعم لكنها استطاعت الإفلات منه، سمكة حاذقة تبدو بريئة، تتحدث في أغلب الأحيان إلى ماجدة، معبرة عن إعجابها بالتفاصيل المختلفة للتجديدات في المنزل. ينهض لورنس - الذي يبدو كرجل ساخر، وسيم ذي شارب ناعم رمادي بالكامل، وشعر ناعم بني مائل إلى الرمادي آخذ في النحول، رجل طويل به تدل بسيط في كتفيه وبطنه - من مكانه عدة مرات ويسير إلى البحيرة ثم يعود، ويسير إلى الطريق ثم يعود، يتنهد في عمق، مظهرا عدم رضائه عن طريقة الحديث الأنثوية هذه.
أخيرا، يتحدث فجأة إلى دينيس، مقاطعا ما تقول ماجدة. «كيف حال أمك؟»
تقول دينيس: «بخير ... بقدر ما أعلم، هي بخير.»
تعيش إيزابيل بعيدا، في وادي كومكس، في كولومبيا البريطانية. «إذن، كيف حال تربية الماعز؟»
الرجل الذي تعيش إيزابيل معه صائد سمك تجاري كان يعمل مصورا في التليفزيون. يعيشان في مزرعة صغيرة، ويؤجران الأرض، أو جزءا منها، إلى رجل يربي الماعز. في وقت ما، أسرت دينيس بهذا إلى لورنس (تحرص على ألا تفضي له بأن الرجل أصغر من إيزابيل بعدة سنوات وأن العلاقة بينهما «غير مستقرة» بصورة دورية)، ويصر لورنس من حينها على أن إيزابيل وخليلها (هذه هي كلمته) يقومان بتربية الماعز. تستحضر أسئلته إلى الذهن عالما من المشاق الريفية؛ جهدا جهيدا في الطين مع حيوانات حرنة، فقرا، نوعا من المثالية المروعة التي عفا عليها الزمن.
تقول دينيس، مبتسمة: «بخير.»
عادة تجادل، تشير إلى الأخطاء، تتهمه بتشويه الحقائق، سوء النية، والأذى. «هل لا يزال هناك معتنقون للثقافة المضادة يرغبون في شراء لبن ماعز؟» «أعتقد ذلك.»
ترتعش شفتا لورنس تحت شاربه في نفاد صبر. تظل تنظر إليه، محافظة على تعبير من الانشراح البريء والوقح. ثم يطلق ضحكة مفاجئة.
يقول: «لبن ماعز!»
تقول ماجدة: «هل هذه المزحة الجديدة الخاصة؟ ... ماذا ينقصني هنا حتى أفهمها؟ لبن ماعز؟»
يقول لورنس: «ماجدة، هل تعلمين أن في عيد ميلادي الأربعين اصطحبتني دينيس على متن طائرة؟»
تقول دينيس: «لم أقد الطائرة في حقيقة الأمر.» «عيد ميلادي الأربعون، عام 1969. العام الذي جرى فيه أول هبوط على القمر. كانت لقطة الهبوط على القمر في حقيقة الأمر بعد عيد ميلادي بيومين. كانت قد سمعتني أقول كثيرا إنني أتمنى أن أستطيع أن ألقي نظرة على هذه البلاد من مسافة قدرها ألف قدم. كان يمكن أن أستقل طائرة من أوتاوا إلى تورونتو، لكني لن أستطيع أن أرى شيئا على الإطلاق.»
تقول دينيس: «دفعت ما يكفي حتى نستأجر الطائرة، لكن كما حدث، طرنا جميعا معا، في طائرة من خمسة مقاعد ... بنفس السعر العادي.»
يقول لورنس: «طرنا جميعا باستثناء إيزابيل ... كان على أحدنا أن يتخلف، وهكذا فعلت.»
تقول دينيس مخاطبة ماجدة: «جعلته يقود السيارة - جعلت أبي يقود السيارة - معصوب العينين إلى المطار ... لا، لم أجعله يقود معصوب العينين» - كانوا جميعا يضحكون - «بل جعلته يركب معصوب العينين، بحيث لا يعرف إلى أين كنا متوجهين ويكون الأمر مفاجأة بالكامل بالنسبة له.»
يقول لورنس: «قادت أمي السيارة ... أظن أنني كنت سأقود السيارة معصوب العينين بصورة أفضل. لماذا قادت هي السيارة وليس إيزابيل؟» «كان علينا الذهاب في سيارة جدتي. لم تكن سيارة البيجو تسعنا جميعا، وكان علي أن أتأكد من مراقبتنا جميعا لك؛ لأن ذلك كان مفاجأتي الكبرى. هديتي. كنت مديرة مسرح مريعة.»
يقول لورنس: «طرنا جميعا فوق بحيرة ريدو ... أحبت أمي الطيران. أتذكران أنها مرت بتجربة سيئة ذلك الصباح، مع الهيبيز؟ لذا كان الأمر طيبا بالنسبة إليها. كان الطيار كريما للغاية. بالطبع، جعل زوجته تعمل. كانت تصنع الكعكات، أليس كذلك؟»
تقول دينيس: «كانت متعهدة توريد أطعمة.»
يقول لورنس: «صنعت كعكة عيد ميلادي ... يوم عيد الميلاد ذلك. اكتشفت ذلك لاحقا.»
تقول ماجدة: «ألم تقم بذلك إيزابيل؟ ... ألم تصنع إيزابيل الكعكة؟»
تقول دينيس، التي صار صوتها حذرا وآسفا قليلا: «لم يكن الموقد يعمل.»
تقول ماجدة: «آه ... ما المؤسف في التجربة إذن؟» •••
عندما تصل دينيس، وبيتر، ووالدهما إلى المنزل الخشبي كل صيف من أوتاوا، تكون جدة الأطفال صوفي موجودة هناك بالفعل، قادمة من تورونتو، ويكون المنزل مفتوحا، مهوى، ومنظفا قدر الإمكان. كانت دينيس تجري عبر الغرف خافتة الإضاءة التي تشبه الكهوف وتحتضن الوسائد المتكتلة، صانعة نوعا من القصص الدرامية للتعبير عن سرورها لوجودها في المنزل. لكنه كان سرورا حقيقيا. كانت تفوح من المنزل رائحة أجزاء خشب أرز موطوءة، رطوبة لم تبدد قط، ورائحة فئران الشتاء. كان كل شيء دوما كما هو. كانت توجد هنا لعبة الورق المملة التي كانت تستخدم في تعليم أسماء الزهور البرية الكندية، ولعبة سكرابل، ضاع منها حرفا واي ويو، كما توجد الكتب المريعة التي لا تقاوم التي تعود إلى طفولة صوفي، كتاب كرتون عن الحرب العالمية الأولى، الأطباق غير المتجانسة، صحون الفناجين المكسورة التي كانت صوفي تستخدمها كمرامد، السكاكين والشوك ذات المذاق الباهت، الغريب والرائحة التي كانت تبدو إما مثل رائحة المعدن أو مياه غسيل صحون.
كانت صوفي هي الوحيدة التي تستخدم الموقد. أعدت بطاطس مشوية غير ناضجة، وكعكات لم تنضج بعد في الجزء الأوسط منها، ودجاجا لا تزال هناك دماء في عظامه. لم تفكر قط في استبدال الموقد. هي ابنة رجل ثري، لكنها فقيرة الآن؛ كانت أستاذا مساعدا متخصصة في اللغات الإسكندنافية، وخلال معظم حياتها العملية، كانت تعتقد أن معظم زملائها فقراء؛ فقد كان لديها عادات إنفاق غريبة. كانت دوما تغلف مجموعة من الشطائر لتأكلها في رحلات القطار، ولم تكن تذهب إلى مصفف الشعر قط، لكنها لم تكن لتحلم قط بإرسال لورنس إلى مدرسة عادية. كانت تنفق المال على المنزل الخشبي على مضض، لا لأنها لم تكن تحب المنزل (كانت تحبه)، لكن لأن غريزتها أشارت عليها بأن تضع أصصا تحت أماكن التسريب، وأن تضع شرائط لاصقة حول أطر النوافذ، وأن تعتاد على الميل في الأرضية وهو ما كان يشير إلى أن أحد دعائم الأساسات كان ينهار. ومهما احتاجت إلى المال، فلم تكن لتفكر في بيع أي من ممتلكاتها التي توجد حول المنزل، مثلما باع إخوتها منذ وقت طويل ما يملكونه على كلا الجانبين، بسعر مربح للغاية، إلى ساكني الأكواخ.
كانت أم دينيس وأبوها يطلقان على صوفي اسما كان بمنزلة مزحة بينهما، وسر. النوردية القديمة. يبدو أنه بعد فترة قصيرة من لقائهما، كان لورنس قد قال، واصفا صوفي لإيزابيل: «أمي ليست أما تقليدية تماما. تستطيع أن تقرأ اللغة النوردية القديمة. في حقيقة الأمر، تشبه قليلا النورديين القدماء.»
في السيارة في الطريق إلى المنزل الخشبي، مستشعرين وجود صوفي في انتظارهم، كانوا قد لعبوا هذه اللعبة: «هل يمكن إصلاح نافذة سيارة نوردية قديمة عن طريق شريط لاصق أسود؟» «لا. إذا كسرت نافذة سيارة نوردية قديمة، فلا يمكن إصلاحها.» «ما البرنامج الإذاعي المفضل لدي شخص نوردي قديم؟» «لنر. لنر. أوبرا متروبوليتان؟ كرستن فلاجستد تغني فاجنر؟» «لا. الأمر مكشوف أكثر من اللازم. نخبوي أكثر مما ينبغي.» «الأغاني الشعبية من بلاد كثيرة؟»
قالت دينيس من المقعد الخلفي: «ما إفطار الشخص النوردي القديم؟ ... العصيدة!» كانت العصيدة أكثر الأطعمة التي تكرهها.
قال لورنس: «العصيدة مع سمك القد ... لا تخبري جدتي عن هذه اللعبة أبدا يا دينيس. أين يقضي النوردي القديم إجازة الصيف؟»
قالت إيزابيل في حدة: «لا يقضي النوردي القديم أي إجازة صيفية ... يقضي النوردي القديم إجازة شتوية. ويتجه شمالا.»
قال لورنس: «سبيتسبرجن ... أراضي خليج جيمس باي المنخفضة.»
قالت إيزابيل: «رحلة بحرية ... من ترومسو إلى آركانجل.» «ألا توجد هناك ثلوج كثيرة؟» «حسنا، رحلة بحرية على متن كاسحة ثلوج. الجو مظلم جدا؛ لأن تلك الرحلات تسير فقط في شهري ديسمبر ويناير.»
قالت دينيس: «ألن تظن جدتي أن ذلك كان مضحكا أيضا؟» تصورت جدتها تخرج من المنزل وتسير عبر الشرفة الخارجية لتقابلهم؛ تلك المرأة العجوز المنمشة، القوية، العريضة، ذات الشعر الأبيض المائل إلى الاصفرار، التي تفوح من ستراتها، وبلوزاتها، وتنوراتها القديمة رائحة المنزل، والتي كانت تحيتها ودودة في هدوء، وحائرة قليلا في آن واحد. هل تعجبت لأنهم وصلوا إلى هنا بسرعة جدا، أن الأطفال قد كبروا، أن لورنس صار فجأة صاخبا جدا، أن إيزابيل بدت شديدة النحافة والشباب؟ هل كانت تعرف كيف كانوا يتمازحون حولها في السيارة؟
قال لورنس في نبرة غير مشجعة: «ربما.»
قالت إيزابيل: «في تلك القصائد القديمة التي تقرؤها ... تعرفين تلك القصائد الأيسلندية القديمة، هناك تلك الدماء الرهيبة المراقة وتقطيع الناس إربا؛ النساء على وجه الخصوص، تشق إحداهن رقبة أطفالها وتخلط الدماء في نبيذ زوجها. قرأت ذلك. لكن صوفي مسالمة واشتراكية، أليس الأمر غريبا؟» •••
قادت إيزابيل سيارتها إلى أوبريفيل في الصباح للإتيان بكعكة عيد الميلاد. ذهبت دينيس معها لحمل الكعكة طوال الطريق إلى المنزل. كانت رحلة الطائرة قد جرى ترتيبها لخمسة أشخاص فيما بعد الظهيرة. لم يكن أحد يعرف هذا سوى إيزابيل، التي كانت قد ذهبت مع دينيس إلى المطار الأسبوع السابق. كانت هذه كلها فكرة دينيس. كانت قلقة الآن بشأن السحب.
قالت إيزابيل: «لا بأس من هذه السحب المتفرقة ... إنها هذه السحب البيضاء الكبيرة المتجمعة التي ربما تشير إلى وجود عاصفة.»
قالت دينيس: «السحب الركامية ... أعرف. هل تعتقدين أن أبي برج سرطان صرف؟ يحب البيت والطعام؟ يتعلق بالأشياء؟»
قالت إيزابيل: «أظن هذا.» «ماذا كنت تعتقدين عندما قابلته للمرة الأولى ؟ أعني، ماذا جذبك إليه؟ هل كنت تعرفين أن هذا هو الشخص الذي سينتهي بك المطاف لتتزوجيه؟ أعتقد أن الأمر برمته غريب جدا.»
كان لورنس وإيزابيل قد التقيا في كافيتريا الجامعة، حيث كانت إيزابيل تعمل صرافة. كانت طالبة في السنة الأولى، فتاة ذكية، فقيرة من الجانب الذي يقع المصنع فيه في البلدة، ترتدي سترة قرنفلية ضيقة كان لورنس يتذكرها دوما. (قالت إيزابيل: «متاجر وولوورث ... لم أكن أعرف أي متاجر أفضل منها. كنت أعتقد أن عضوات أندية الطالبات كانت عتيقات في طراز ملابسهن.»)
كان أول شيء قالته للورنس: «هذا خطأ.» كانت تشير إلى اختياره، فطيرة الراعي.
كان لورنس محرجا أو عنيدا جدا بحيث لا يستطيع إرجاعها. قال: «تناولتها من قبل وكانت جيدة.» انتظر للحظة قبل أن يحصل على الباقي. «يذكرني هذا بما تصنع أمي.» «لا بد أن أمك طاهية مريعة.» «هي كذلك.»
هاتفها تلك الليلة، مراوغا حتى يعرف اسمها. قال في عدم ثبات: «أنا صاحب فطيرة الراعي ... هل تذهبين معي إلى السينما؟»
قالت إيزابيل، تلك الفتاة الفظة، التي ترتدي سترة ضيقة، والتي ستكون بمنزلة مفاجأة بالنسبة إلى صوفي بالتأكيد: «أنا مندهشة لأنك لا تزال حيا ... بالتأكيد.»
كانت دينيس تحفظ هذا عن ظهر قلب. كانت تسعى إلى شيء مختلف. «لماذا خرجت معه؟ لماذا قلت: «بالتأكيد»؟»
قالت إيزابيل: «كان وسيما ... بدا مثيرا.» «هل هذا كل ما في الأمر؟» «حسنا. لم يكن يتصرف كما لو كان عطية الرب إلى النساء. كانت يتورد خجلا عندما كنت أتحدث إليه.»
قالت دينيس: «إنه يتورد خجلا أحيانا ... وهكذا أنا. هذا أمر مريع.»
كانت تظن أن هذين الشخصين، لورنس وإيزابيل، أباها وأمها؛ يخفيان عنها شيئا. شيئا بينهما. تستطيع أن تشعر بشيء يبرز حديثا ومعذبا، أو كامنا في الأسفل ومرا، لكنها لم تتوصل قط إلى ماهية الأمر، أو كيف كان الأمر يمضي. لم يكونا ليسمحا لها.
كانت أوبريفيل بلدة بيوتها مصنوعة من الحجر الجيري، مشيدة بحذاء النهر. كان مسبك المواقد القديم، الذي كان مصدر دخل والد صوفي، لا يزال موجودا هناك على ضفاف النهر . كان قد تحول جزئيا إلى مركز صناعات، حيث يصنع الناس الزجاج، وينسجون الأوشحة، ويصنعون بيوت الطيور، التي كانت تباع في مقر المركز. كان اسم فوجلسانج - الاسم الألماني الذي كان يظهر أيضا على المواقد وكان قد أسهم في سقوط الشركة خلال الحرب العالمية الأولى - لا يزال موجودا، منحوتا في الصخر، فوق الباب. تحول المنزل الجميل الذي ولدت صوفي فيه إلى دار رعاية.
كانت المتعهدة تعيش في أحد شوارع البلدة الجديدة؛ الشوارع التي كانت صوفي تكرهها. كانت الشوارع مرصوفة حديثا، عريضة وسوداء، ذات حواف ناعمة. لم يكن ثمة أرصفة. لم يكن ثمة أشجار أيضا، ولا وشائع أو سياجات، فقط بعض شجيرات الزينة الصغيرة تحوطها بكرات من الأسلاك لحمايتها. كانت المنازل ثلاثية المستويات التي على غرار بيوت المزارع يلي بعضها بعضا. كانت بعض الطرق الخاصة مرصوفة بحجر مسحوق أبيض لامع يسمى، في أوبريفيل، «رخاما أبيض». وسط إحدى المروج، كان ثمة ثلاث غزالات بلاستيكية منقطة، وعند عتبة باب، صبي أسمر صغير يحمل مصباحا للعربات. كان ثمة مجموعة من الصخور الضخمة الملطخة باللونين القرنفلي والرمادي تمنع الناس من عبور قطعة أرض جانبية.
قالت إيزابيل: «صخور بلاستيكية ... أتساءل هل كانت ثقيلة أم أنها ملتصقة بالأرض؟»
أخرجت المتعهدة الكعكة إلى السيارة. كانت بدينة، داكنة الشعر، امرأة جميلة إلى حد ما في الأربعينيات من عمرها، ذات ظلال عينين خضراء كثيفة، وتسريحة شعر رائعة، لامعة، ومنفوشة.
قالت: «كنت أترقب مجيئك ... علي أن أعد بعض الفطائر من أجل رابطة المحاربين القدماء. هل تريدين أن تلقي نظرة على هذه الكعكة وترين هل كانت على ما يرام؟»
قالت إيزابيل، مخرجة محفظتها: «أنا متأكدة أنها رائعة.» تناولت دينيس صندوق الكعكة ووضعته على حجرها. قالت المرأة: «أتمنى أن تكون لدي فتاة بهذا الحجم لمساعدتي.»
نظرت إيزابيل إلى الصبيين - كانا في الثالثة والرابعة من عمرهما - كانا يقفزان إلى حوض سباحة منفوخ على المرجة وخارجه. قالت في أدب: «هل هذان الصبيان ابناك؟» «هل تمزحين؟ هذان ابنا ابنتي تركتهما معي. لدي ابن متزوج وابنة متزوجة، وابن آخر ، المرة الوحيدة التي أراه فيها يكون مرتديا خوذة دراجته البخارية. لقد أنجبت مبكرا.»
كانت إيزابيل قد بدأت في الرجوع بسيارتها إلى الخلف عندما أطلقت دينيس صيحة دهشة. «أمي! هذا هو الطيار!»
كان رجل قد خرج من الباب الجانبي وكان يتحدث إلى المتعهدة.
قالت إيزابيل: «اللعنة، دينيس، لا تخيفيني هكذا! ... كنت أظن أن أحد الأطفال يجري خلف السيارة.» «هذا هو الطيار الذي كنت أتحدث إليه في المطار!» «لا بد أنه زوجها. حافظي على توازن الكعكة.» «لكن أليس هذا غريبا؟ في يوم عيد ميلاد أبي؟ المرأة التي صنعت هذه الكعكة متزوجة من الرجل الذي سيقود الطائرة التي سيستقلها. «ربما» يكون هو. لديه زوجة. يعطي هو وزوجته دروسا في الطيران ويطيران بصائدي الحيوانات شمالا في الخريف ويطيرون بصائدي السمك إلى البحيرات التي لا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق الطيران. أخبرني بذلك. أليس هذا غريبا؟» «الأمر غريب قليلا في مكان في حجم أوبريفيل. دينيس، يجب أن تحذري عند حمل هذه الكعكة.»
تراجعت دينيس قليلا، شاعرة ببعض الإهانة. إذا كان أحد البالغين قد صرخ في دهشة كما فعلت، فلم تكن إيزابيل لتظهر مثل هذا الاستياء البالغ. إذا كان أحد البالغين قد علق على هذه المصادفة الغريبة، لكانت إيزابيل ستتفق أن الأمر غريب حقا. كانت دينيس تكره أن تعاملها إيزابيل مثل طفلة. مع جدتها، أو لورنس، كانت تتوقع نوعا من الغلظة وعدم المرونة. كان هذان الاثنان لا يتغيران أبدا. لكن إيزابيل قد تكون موضع ثقة، ودودة، متفهمة إلى أبعد الحدود، ثم تصير فجأة غير ودودة وسريعة الانفعال. في بعض الأحيان كلما أعطت، شعر المرء برضاء أقل. كانت دينيس تظن أن أباها كان يشعر بذلك تجاه إيزابيل، أيضا.
كانت إيزابيل ترتدي اليوم تنورة طويلة ملفوفة من القطن الهندي - تنورة الهيبيز، مثلما يطلق عليها لورنس - وقميصا بحمالة عنق داكن الزرقة. عن بعد، كانت تبدو نحيفة وبنية البشرة - كانت بشرتها مسمرة جدا، بالنظر إلى حمرة شعرها - في حوالي الخامسة والعشرين من عمرها. حتى عندما يقترب المرء منها، لم تكن تبدو أكثر من التاسعة والعشرين من عمرها. هكذا كان لورنس يقول. لم يكن يدعها تقص شعرها الأحمر الداكن، وكان يتأكد من أنها تحتفظ بلون بشرة مسمر مناسب، مناديا إياها: «إلى أين أنت ذاهبة؟» بصوت محذر، منزعج، عندما كانت تحاول الانتقال إلى الظل أو الصعود إلى المنزل قليلا. «إذا تركتها، ستتسلل إيزابيل بعيدا عن الشمس في كل مرة أدير فيها ظهري.» كان هذا ما قاله لورنس للزائرين، وسمعت دينيس إيزابيل تضحك. «هذا صحيح. علي أن أشكر لورنس. لم أكن لأستطيع وحدي الحصول على بشرة مسمرة. أشعر وكأن مخي يحمر.»
قال لورنس، بطريقة استعلائية، هازلة، مربتا على البطن الناعمة التي يكشف عنها بكيني إيزابيل: «من يأبه بالمخ المحمر إذا كان لديك جسد بني رائع؟»
جعلت هذه التربيتات الإيقاعية الصغيرة معدة دينيس تضطرب. كانت الطريقة الوحيدة التي كانت تستطيع من خلالها منع نفسها من الصياح قائلة «توقف!» هي القفز، والهروع إلى البحيرة فاتحة ذراعيها، ومطلقة أصوات صياح سخيفة من فمها. •••
عندما رأت دينيس المتعهدة مرة أخرى، كان قد مر أكثر من عام. كان ذلك تقريبا في نهاية أغسطس، يوم غائم، دافئ، قليل الهواء، قرب نهاية إقامتهما الصيفية في المنزل الخشبي. كانت إيزابيل قد ذهبت إلى البلدة في واحدة من الزيارات الصيفية المعتادة إلى طبيب الأسنان. كان ثمة علاج أكثر تعقيدا في أوبريفيل؛ لأنها كانت تحب طبيب الأسنان بها أكثر من طبيب الأسنان في أوتاوا. لم تكن صوفي قد مكثت في المنزل الخشبي منذ بداية الصيف. كانت في مستشفى ويلسلي، في تورونتو، تجري بعض الفحوصات.
كانت دينيس وبيتر وأبوهما في المطبخ يصنعون شطائر لحم خنزير مقدد بالطماطم للغداء. هناك بضعة أكلات يعتقد لورنس أنه يستطيع طهيها أفضل من أي شخص آخر، وكانت إحداها لحم الخنزير المقدد. كانت دينيس تقطع الطماطم، وكان من المفترض أن يضع بيتر الزبد على الخبز المحمص، لكنه كان يقرأ كتابا. كان الراديو مفتوحا، يقدم نشرة أخبار الظهيرة. كان لورنس يحب سماع الأخبار عدة مرات يوميا.
ذهبت دينيس لترى من على الباب الأمامي. لم تتعرف في الحال على المتعهدة، التي كانت ترتدي ثوبا أكثر شبابا هذه المرة - ثوبا فضفاضا بألوان متموجة من اللون الأحمر، والأزرق، والأرجواني - ولم تكن تبدو جميلة مثلما كانت. كان شعرها مسدلا على كتفيها.
قالت هذه المرأة: «هل أمك في المنزل؟»
قالت دينيس، في أدب جم كانت تعلم أنه جارح قليلا: «آسفة، إنها ليست هنا الآن.» كانت تظن أن المرأة تبيع شيئا ما.
قالت المرأة: «ليست هنا.» «لا. ليست هنا.» كان وجهها منتفخا وغير مبتسم، وكان أحمر الشفاه الذي تضعه ثقيلا على نحو مبهرج، وكان مكياج عينيها غير تام. كان صوتها غليظا ينطوي على بعض التلميحات لم تتمكن دينيس من إدراكها تماما. لم تكن لتتكلم على هذا النحو إذا كانت تحاول أن تبيع شيئا. هل يمكن أن يكونوا مدينين لها بالمال؟ هل تعدى بيتر على ملكيتها الخاصة أو أزعج كلبها؟
قالت دينيس في شيء من الأسف: «أبي هنا ... هل ترغبين في التحدث إليه؟»
قالت المرأة، مطوحة حقيبة يدها الكبيرة، الحمراء اللامعة تحت إبطها: «أبوك، نعم، سأتحدث إليه ... لماذا لا تذهبين وتأتين به إذن؟»
أدركت دينيس أن هذا هو الصوت نفسه الذي كان قد قال: «أتمنى أن تكون لدي فتاة بهذا الحجم لمساعدتي.»
قالت لأبيها: «السيدة التي تتولى خدمات التعهيد على الباب.»
كرر قائلا، في صوت غير مسرور، غير مصدق، كما لو كانت قد ادعت وجود هذه السيدة فقط لمقاطعته: «السيدة التي تتولى خدمات توريد الأطعمة؟»
لكنه مسح يديه ومضى إلى الردهة. سمعته يقول في خفوت: «نعم، حقا، ماذا أستطيع أن أفعل من أجلك؟»
وبدلا من العودة في دقائق قليلة، اصطحب المرأة إلى غرفة الطعام، وأغلق الباب. لماذا ذهب إلى غرفة الطعام؟ كان الزائرون يصحبون إلى غرفة المعيشة. كان لحم الخنزير المقدد، الذي كان موضوعا على منشفة ورقية، يبرد.
كان ثمة نافذة صغيرة مرتفعة في الباب بين المطبخ وغرفة الطعام. عندما كانت صوفي فتاة صغيرة، كان ثمة طاهية في المطبخ. كانت الطاهية تراقب تناول الغداء من خلال هذه النافذة حتى تعرف متى تغير الأطباق وترفعها.
نهضت دينيس على أطراف أصابعها.
قال بيتر، دون أن يرفع عينيه من الكتاب: «جاسوسة.» كان كتاب خيال علمي يسمى «عالم الشيطان».
قالت دينيس: «أريد فقط أن أعرف ماذا أصنع بالشطائر.»
رأت أن ثمة سببا في الذهاب إلى غرفة الطعام. كان أبوها يجلس في مكانه المعتاد، عند رأس المائدة. كانت المرأة تجلس في مكان بيتر المعتاد، أقرب ما يكون إلى باب الردهة. وضعت محفظتها على المائدة، وكانت يداها متشابكتين أعلاها. أيا ما كان ما يتحدثان بشأنه كان يتطلب طاولة ومقاعد مستقيمة الظهر، ووضع جلوس جادا مستقيما. كان اللقاء مثل مقابلة. تعطى المعلومات، وتسأل الأسئلة، ويجري طرح مسألة ما.
حسنا، حسنا، حدثت دينيس نفسها. كانا يتحدثان عن مسألة ما. كانا سيفرغان من الحديث عنها، وسيسويانها، وسيجري تخطي الأمر. كان أبوها سيخبر العائلة بشأنها، أو لا يخبرهم على الإطلاق. سينتهي الأمر.
أغلقت الراديو. صنعت الشطائر. تناول بيتر نصيبه. انتظرت فترة، ثم تناولت نصيبها. شربا كوكاكولا، التي كان والدها يسمح لهما بها على الغداء. تناولت دينيس شطائرها وشربت مشروبها سريعا. جلست على المائدة في هدوء تتجشأ وتعيد تذوق لحم الخنزير المقدد، وسمعت صوتا رهيبا لغريب يبكي في منزلهم.
من على متن الطائرة في عيد ميلاد أبيها، كانوا قد رأوا بعض السحب المتراكمة، الشفافة تقريبا، الرقيقة في الناحية الغربية من السماء، وكانت دينيس قد قالت: «سحب ركامية.»
قال الطيار: «هذا صحيح ... لكنها بعيدة تماما.»
قال لورنس: «لا بد أن الطيران عبر عاصفة رعدية أمر في غاية الإثارة.»
قال الطيار: «ذات مرة، نظرت إلى الخارج ورأيت حلقات زرقاء من النار حول مراوح الطائرة ... حول المراوح وأطراف الأجنحة. ثم رأيت الشيء نفسه حول مقدمة الطائرة. مددت يدي للمس الزجاج - هذا الزجاج، الذي من نوعية بلكسيجلاس - وبمجرد أن اقتربت من لمس الزجاج، تصاعدت ألسنة لهب من أصابعي. لا أعرف هل كنت لمست الزجاج أم لا. لم أشعر بأي شيء. ألسنة لهب زرقاء صغيرة، ذات مرة أثناء عاصفة رعدية . هذا ما يطلقون عليه «نار القديس إلمو».»
قال بيتر من المقعد الخلفي: «ينشأ هذا جراء تفريغ كهربائي في الغلاف الجوي.»
أجاب الطيار قائلا: «أنت على حق.»
قال لورنس: «هذا غريب.» «جعلني ذلك أجفل.»
كان لدى دينيس صورة في عقلها للطيار تنطلق ألسنة اللهب الباردة من أطراف أصابعه، وهو ما بدا لها علامة على الألم، على الرغم من أنه قال إنه لم يشعر بأي شيء. تذكرت المرة التي لمست فيها السياج الكهربي. جعلتها الأصوات الصادرة عن غرفة الطعام تتذكر. واصل بيتر القراءة، ولم يقولا أي شيء، على الرغم من أنها كانت تعرف أنه كان يسمع الأصوات أيضا. •••
ماجدة في المطبخ تعد السلاطة. تدندن بنغمات أوبرالية. «نعود إلى جبالنا». دينيس في غرفة الطعام ترتب المائدة. تسمع أباها يضحك في الشرفة الخارجية. وصل الضيوف؛ زوجان ثريان، حسنا المظهر، ليسا من سكان الأكواخ. جاء أحد الأزواج من بوسطن، والزوج الآخر من مونتريال. يمتلكان منزلا صيفيا في ويستفيلد.
تسمع دينيس أباها يقول: «الحزن من التفكير في شرور العالم.» يقولها كما لو كانت اقتباسا. لا بد أنه يشير إلى شيء ما يعرفونه جميعا، من مجلة يقرءونها جميعا.
تحدث نفسها، يجب أن أكون مثل بيتر. يجب أن أتوقف عن القدوم إلى هنا.
لكن ربما يكون كل شيء على ما يرام، وهذه هي السعادة، وهي عنيدة وطفولية أكثر مما ينبغي، سياسية على نحو مقبض - منغمسة حتى النخاع في ماض هجره الجميع - بحيث لا يمكن أن تقبلها.
كان قد تم توسيع غرفة الطعام لتضم المساحة التي كان يشغلها جزء من الشرفة الخارجية، الامتداد كان من الزجاج؛ جدران وسقف مائل، كله من الزجاج. ترى نفسها في الزجاج الآخذ في الإظلام؛ امرأة حذرة، طويلة ذات جديلة طويلة، ترتدي ملابس لا توجد بها أي تطريزات أو زخارف، تجلس إلى المائدة الطويلة التي من خشب الصنوبر، بين السلطانيات الممتلئة عن آخرها في بهاء بنبات أبو خنجر، والأطباق الزجاجية الزرقاء الصغيرة الممتلئة بالملح. مناشف كتانية باللونين الأحمر والبرتقالي، شموع صفراء مثل أكوام مدورة من الزبد، وأطباق ريفية بيضاء سميكة ذات زخارف من الكرم حول الحواف. طبقات من الطعام والخمر الجاهز، والحديث الذي يقطع هواء الحياة؛ طبقات من التناغم والرضاء.
تتوقف ماجدة، التي تحمل السلاطة، عن الدندنة. «أمك، هل هي سعيدة، في كولومبيا البريطانية؟»
تحدث دينيس نفسها بأن هذا هو خطؤها. خطأ إيزابيل.
يمكن أن ترد إلى ذهنها الآن فكر غير منصفة، غير مرحب بها، تتردد في عنف، بلا هدف.
تقول: «نعم ... نعم. أعتقد هذا.» وهو ما تعني به أن إيزابيل، على الأقل، لا تأسف على شيء.
2
جعل وقع أقدام صوفي الألواح الخشبية في الأرضية تهتز. كانت حافية القدمين، عارية تحت ثوب الاستحمام المخطط الوبري، في الصباح الباكر. كانت تسبح في البحيرة عارية منذ أن كانت طفلة وكان هذا الشاطئ كله ملكا لأبيها، حتى مزرعة برايس. إذا أرادت أن تسبح هكذا الآن، فكان عليها أن تستيقظ باكرا في الصباح. كان لا بأس في ذلك. كانت تستيقظ باكرا. كان كبار السن يفعلون ذلك.
بعد أن تسبح، كانت تحب أن تجلس على الصخور وتدخن سيجارتها الأولى. كان هذا هو ما تبحث عنه الآن؛ لا سجائرها بل ولاعتها. نظرت إلى الرف فوق الحوض، في درج سكاكين المائدة - غير قاصدة أن تصدر أصوات صلصلة كهذه - وفي خزانة غرفة الطعام. ثم تذكرت أنها كانت جالسة في غرفة المعيشة الليلة الماضية، تشاهد مسلسل «ديفيد كوبرفيلد» في التليفزيون. وها هي، ولاعتها، على الذراع القذر للمقعد المكسو بقماش قطني مزخرف.
كان لورنس قد استأجر تليفزيونا حتى يروا صورة الهبوط الأول على القمر. كانت قد اتفقت على أن هذه مناسبة يجب ألا تفوت الأطفال - يجب ألا تفوت أحدا منهم، قال لورنس في حدة - لكنها كانت تفترض أن ذلك يعني استئجار التليفزيون مدة أربع وعشرين ساعة، ووجود التليفزيون في المنزل حتى صباح اليوم التالي. أشار لورنس إلى خطئها. سيجري تصوير مشهد القمر يوم الأربعاء، بعد غد، وسيكون الهبوط، إذا سار كل شيء على ما يرام، يوم الأحد. هل كانت تظن أن الرحلة لن تستغرق سوى ساعات؟ وقال لورنس إنه لا أمل في استئجار تليفزيون جيد إذا انتظروا حتى اللحظة الأخيرة. كان سكان الأكواخ جميعهم سيستأجرون التليفزيونات الجيدة. لذا، استأجروا تليفزيونا قبل الموعد المحدد بعشرة أيام، ومنذ أن جاء التليفزيون إلى المنزل ظل لورنس يحاول حث صوفي على أن تشاهد عملية الهبوط. كان محظوظا، اكتشف إعادة حلقات «ناشونال جيوجرافيك» الخاصة بالشتاء الماضي، حلقة عن جزر جلاباجوس، التي كانت صوفي تشاهدها دون اعتراض، وحلقة عن متنزهات أمريكا العامة، التي قالت إنها كانت جيدة ولم يفسدها إلا روح التباهي الأمريكية. ثم كان هناك مسلسل «ديفيد كوبرفيلد»، مسلسل تليفزيوني بريطاني يعرض كل ليلة أحد في حلقات تمتد ساعة كاملة.
قال لورنس لصوفي: «أرأيت ماذا كان يفوتك؟» كانت قد رفضت أن يكون لديها تليفزيون كل هذه السنوات، ليس فقط في المنزل الخشبي، بل في شقتها في تورونتو.
قالت إيزابيل: «أوه، لورنس. لا تكرر الحديث عن هذا الموضوع.» كانت نبرة صوتها ودودة لكن ضجرة. كانت صوفي، التي لم تقل شيئا، منزعجة بسبب إيزابيل أكثر من لورنس. كم كانت هذه الفتاة قليلة المعرفة بزوجها إذا كانت تتوقع منه أن يأخذ أي انتصار يحققه على محمل متحفظ! وكم كانت قليلة المعرفة بصوفي إذا كانت تتوقع أن حث لورنس إياها يزعجها! كان هذا هو أسلوبه، أسلوبهما. كان يضغط ويضغط على صوفي، ومهما كان ما يأخذه منها لم يكن كافيا قط. اتضح أن استسلام صوفي لوجود تليفزيون لم يكن كافيا؛ لم تكن تعبأ بما يكفي، وكان هذا هو ما يعرفه لورنس.
كان الأمر نفسه ينطبق على درجات السلم. (كانت صوفي تمضي في طريقها الآن نزولا من الضفة إلى البحيرة، شاقة طريقها بصعوبة عبر الهياكل الخشبية.) لم تكن صوفي تريد درجات سلم أسمنتية، مفضلة قطعا خشبية توضع في الضفة، لكنها استسلمت، أخيرا، إلى شكاوى لورنس من تعفن القطع الخشبية والمجهود الذي كان يبذله في استبدالها. الآن كان يناديها يوميا ليريها التقدم الذي كان يحرزه.
قال معلنا، في إيماءة تنم عن الجلالة: «أصنع هذا من أجل الأجيال القادمة.» كان قد صنع درجة سلم تذكارية لكل منهم: صورة مطبوعة براحة اليد، الأحرف الأولى، التاريخ؛ يوليو، 1969.
انسلت صوفي من الصخور إلى الماء، وسبحت نحو وسط البحيرة، في ضوء الشمس. ثم استدارت خلفها. على الرغم من وجود أكواخ بطول الشاطئ، كان معظم الناس لطفاء للغاية بحيث لم يقطع أحد الأشجار. يمكنها أن ترقد هنا في الماء وتتطلع إلى الضفة المرتفعة التي تتناثر عليها أشجار الصنوبر، والأرز، والحور، والقيقب الرخو، والبتولا البيضاء والذهبية. لم يكن ثمة رياح، ولا وجود لموجات في البحيرة اللهم إلا ما كانت تصنعها صوفي، غير أن أوراق البتولا والقيقب كانت تتحرك عفويا، تلمع مثل العملات المعدنية في الشمس.
كان ثمة حركة، ليس فقط في الأوراق. رأت صوفي أشكالا بشرية. كانوا يأتون إلى الضفة، خارجين من بين الأشجار القريبة من الصخور حيث كانت قد تركت ثوب استحمامها. أنزلت جسدها في الماء، بحيث لم تعد طافية وإنما تخوض في الماء، تراقب الأشكال البشرية.
صبيان وفتاة. كان جميعهم يملكون شعرا طويلا، يصل إلى الخصر أو ما يقرب من ذلك، وإن كان أحد الصبيين قد عقص شعره في صورة ذيل حصان. كان للصبي صاحب ذيل الحصان لحية، ويضع نظارة سوداء، وسترة بذلة دون قميص تحتها. كان الصبي الآخر يرتدي بنطال جينز فقط. كان ثمة سلاسل أو قلائد، ربما ريش، يتدلى من صدره البني النحيف. كانت الفتاة بدينة وغجرية، ترتدي تنورة حمراء طويلة، ورابطة رأس معقودة حول جبهتها. كانت قد ربطت تنورتها في صورة عقدة مرنة في الأمام، بحيث تستطيع النزول إلى الضفة بسهولة.
لم يكن الأطفال - الشباب - الذين كانوا يبدون على هذا النحو يبدون غرباء بالنسبة إلى صوفي. يرى المرء الكثير منهم حول البحيرة في عطلات نهاية الأسبوع؛ أبناء من يعيشون في الأكواخ، يأتون زائرين ومصطحبين أصدقاءهم. في بعض الأحيان، كانوا يحتلون الأكواخ، في غياب الآباء، ويقيمون حفلات طوال عطلة نهاية الأسبوع. كانت نشرة أصحاب الأملاك قد اقترحت فرض حظر على الشعر الطويل و«أشكال الملابس الغريبة»، وأن يجري الإشراف على ذلك طوعا من جانب كل مالك على أملاكه. كان قد جرى دعوة الناس إلى كتابة خطابات تدعم أو تعارض هذا الحظر، وكانت صوفي قد كتبت خطابا تعارضه. كانت قد قالت في خطابها إن هذا الجانب بأكمله من البحيرة كان ملكا لفوجلسانج، وأن أوجستوس فوجلسانج كان قد ترك الراحة النسبية في ألمانيا في عصر بسمارك للبحث عن الحرية في العالم الجديد، الذي كان جميع الأفراد فيه يقررون ماذا يرتدون، ويقولون، ويعبدون، إلى آخره.
لكنها لم تكن تظن أن أيا من هؤلاء الثلاثة كان يعيش في أي من هذه الأكواخ. كانوا لا شك معتدين على ملكية الآخرين، رحالة. لماذا كانت تعتقد ذلك؟ هناك شيء مراوغ حيالهم؛ لكنه أيضا جريء، يدعو إلى الازدراء. لم تعتقد، مع ذلك، أنهم قد يتسببون في أي أذى. كانوا كممثلين متجولين، مستغرقين في حياتهم، لكنهم ليسوا لصوصا حقيقيين.
كانوا قد رأوا ثوب استحمامها. كانوا ينظرون إليها، عبر الماء.
لوحت لهم صوفي. نادت: «صباح الخير»، في نبرة مرحة، محيية، لتشير إلى أن الأمر يقتصر على التحية، ولا يوجد ما هو أكثر من ذلك تتوقعه منهم.
لم يلوح أي منهم أو يجيب. جلست الفتاة.
تناول الصبي عاري الصدر ثوب استحمام صوفي وارتداه. وجد السجائر والولاعة في جيب الثوب، وألقاهما إلى الفتاة، التي تناولت سيجارة وأشعلتها. جلس الصبي الآخر وخلع حذاءه طويل العنق ووضع قدميه في الماء.
تراقص الصبي الذي ارتدى ثوب الاستحمام قليلا. كان شعره أسود، يلمع في بهاء، يرفرف على كتفيه. كان يقلد امرأة، على الرغم من أنه لم يكن يقلد صوفي بالتأكيد. (ورد إلى خاطرها الآن أنهم ربما كانوا يرقبونها، ربما رأوها تخلع ثوب الاستحمام، وتنزل إلى الماء.)
نادت صوفي: «هل يمكن أن تخلع هذا من فضلك؟ ... لا مشكلة في تناول سيجارة، لكن رجاء أعد العلبة إلى الجيب!»
تراقص الصبي مرة أخرى، هذه المرة موليا ظهره إياها. ضحك الصبي الآخر. كانت الفتاة تدخن، ولم يبد أنها تعير ما يحدث أدنى اهتمام. «اخلع ثوب استحمامي وأعد سجائري!»
بدأت صوفي في السباحة نحو الشاطئ، جاعلة رأسها أعلى الماء. خلع الصبي ثوب الاستحمام، وأمسكه، ومزقه نصفين. تمزق قماش الثوب البالي بسهولة. كوم أحد النصفين وألقاه في الماء.
صرخت صوفي: «أيها الحثالة الصغير!»
ألقى النصف الآخر.
كان الصبي صاحب ذيل الحصان يرتدي حذاءه طويل العنق.
مد الصبي ذو الشعر الأسود يديه إلى الفتاة. هزت رأسها. أدخل رأسه في ثنيات تنورتها، لكن صرخت معترضة. ألقى شيئا آخر في الماء، بعد قطع ثوب الاستحمام.
ولاعة صوفي.
سمعت صوفي الفتاة تقول شيئا - بدا شيئا مثل «أيتها الحثالة اللعينة» - ثم بدأ الثلاثة في تسلق الضفة دون إلقاء نظرة أخرى نحو البحيرة. كان الصبي ذو الشعر الأسود يقفز في رشاقة، وكان الصبي الآخر يتبعه بسرعة وإن كان في ارتباك أكثر، وكانت الفتاة تتسلق في مشقة رافعة تنورتها. غابوا جميعا عن الأنظار عندما خرجت صوفي من الماء ورفعت نفسها فوق الصخور.
لم تكن سيجارة الفتاة - سيجارة صوفي - قد أطفئت جيدا بل ألقي بها في صدع صغير مليء بالقاذورات، قاذورات وأحجار متكسرة بين الصخور.
جلست صوفي على الصخور، تأخذ أنفاسا عميقة، متقطعة. لم تكن ترتجف؛ كان جسمها ساخنا بسبب الغضب الشديد النكد الذي لا طائل من ورائه والذي كانت تشعر به. كانت في حاجة إلى تمالك نفسها.
كانت لديها صورة ذهنية عن قارب التجديف الذي كان مربوطا هنا عندما كانت طفلة. مركب قديم آمن شبيه بقارب التجديف، يتأرجح في الماء في مرسى القوارب. في كل مساء، بعد العشاء، كانت صوفي - أو صوفي وأحد إخوتها (هم أموات كلهم الآن)، لكن عادة ما تكون صوفي وحدها - تجدف عبر البحيرة حتى مزرعة برايس للحصول على اللبن. كانت تأخذ صفيحة ذات غطاء، تنظف وتطهر جيدا من قبل طاهية آل فوجلسانج؛ حيث لم يكن يمكن الوثوق في أي وعاء من مزرعة برايس. لم يكن لدى آل برايس مرسى قوارب. كان ظهر منزلهم وفناؤهم ناحية البحيرة، وكانا يطلان على الطريق. كان على صوفي أن تسير بالقارب عبر الجريد، وأن تلقي بالحبل إلى أبناء برايس الذين كانوا يأتون للقائها . كانوا يخطون بأقدامهم في الطين، ويجذبون الحبل، ويصعدون إلى القارب بينما كانت تعطي صوفي تعليماتها المعتادة. «لا ترفعوا المجداف من الماء! لا تغرسوه في الطين! لا تصعدوا جميعا في جانب واحد!»
حافية القدمين، مثلما كانوا، كانت تقفز خارج القارب وتعدو إلى مصنع الألبان الحجري. (كان المصنع لا يزال هناك، وأصبح الآن، مثلما عرفت صوفي، معملا لتحميض أفلام الكاميرات الفوتوغرافية لأحد سكان الأكواخ.) كان السيد أو السيدة برايس تصب اللبن المزبد الدافئ في الصفيحة.
بعض أطفال آل برايس كان في عمر صوفي، وبعضهم كان أكبر سنا، لكنهم كانوا جميعا أصغر حجما. كم كان عددهم؟ ماذا كانت أسماؤهم؟ تستطيع صوفي أن تتذكر ريتا، شيلدون أو سيلون، جورج، آني. كانوا دوما أطفالا شاحبين، على الرغم من شمس الصيف، وكانت أجسادهم تمتلئ بالعضات، والخدوش، وقشور الجروح، وعضات البعوض، وعضات بعوض القرس، وعضات البراغيث، دامية ومتقيحة. كان ذلك لأنهم كانوا أطفالا فقراء. بسبب فقرهم، كانت ريتا - أو آني - حولاء، وأحد الصبية كان لديه كتفان غير مستويتين على نحو غريب، كما أنهم كانوا يتحدثون على نحو غير صحيح مما جعل صوفي تجد صعوبة في فهم كلامهم. لم يكن أحد منهم يعرف كيف يسبح. كانوا يتعاملون مع القارب كما لو كان قطعة أثاث غريبة؛ شيئا يجري تسلقه، والدخول فيه. لم يكن لديهم أدنى فكرة عن التجديف.
كانت صوفي تحب أن تذهب لكي تحضر اللبن بنفسها، ليس مع أحد إخوتها، بحيث تستطيع أن تتأخر وتتحدث إلى أطفال برايس، وتوجه إليهم أسئلة، وتخبرهم عن أشياء؛ وهو ما لم يكن إخوتها يفكرون في القيام به. أين كانت مدارسهم؟ ما الهدايا التي كانوا يتلقونها في الكريسماس؟ هل يحفظون أي أغان؟ عندما اعتادوا عليها، بدءوا في إخبارها ببعض الأشياء. أخبروها عن المرة التي تحرر فيها الثور من قيده واقترب من الباب الأمامي، وعن المرة التي رأوا فيها كرة من البرق ترقص عبر أرضية غرفة النوم، وعن الدمل الكبير في عنق سيلون وما كان يسيل منه.
كانت صوفي تريد أن تدعوهم إلى المنزل الخشبي. كانت تحلم بتحميمهم، وغسل ملابسهم، ووضع مراهم على العضات في أجسادهم، وتعليمهم كيفية الحديث بصورة صحيحة. في بعض الأحيان، أخذت تحلم حلم يقظة معقدا طويلا كان كله يدور حول الكريسماس في عائلة برايس. كان الحلم يشمل إعادة تزيين وطلاء منزلهم، فضلا عن تنظيف شامل لفنائهم. ظهرت نظارات سحرية، لعلاج العيون الحولاء. كان ثمة كتب مصورة، وقطارات كهربية، ودمى ترتدي أثوابا من التفتة، وجيوش من الجنود اللعبة، وأكوام من حلوى المرزبان التي على شكل فواكه وحيوانات. (كانت المرزبان حلوى صوفي المفضلة. كشفت محادثة مع عائلة برايس عن الحلوى أنهم لم يكونوا يعرفون ما هي.)
ذات مرة، حصلت على إذن أمها لدعوة أحدهم إلى المنزل. كانت الفتاة التي دعتها للحضور إلى المنزل - ريتا أو آني - قد تراجعت في اللحظة الأخيرة، نظرا لخجلها الشديد، فجاءت الأخرى بدلا منها. كانت آني أو ريتا هذه ترتدي أحد أثواب استحمام صوفي، الذي كان فضفاضا عليها بصورة مثيرة للسخرية. وظهر أنه من الصعب تسليتها. فلم تبد تفضيلا لأي شيء. فلم تشر إلى أي نوع من الشطائر أو الحلوى أو الشراب كانت تريد، ولم تشر إلى أنها تريد اللعب بالأرجوحة، أو بجوار الماء أو بالدمى. كان يبدو أن ثمة شيئا راقيا في عدم إبداء اهتمامها بأي شيء، كما لو كانت تلتزم بقواعد سلوكية معينة لم تستطع صوفي أن تعرف عنها شيئا. قبلت الحلوى التي أعطيت إياها، وسمحت لصوفي بدفعها في الأرجوحة، في ظل غياب كامل للحماس. أخيرا، أنزلتها صوفي إلى الماء وبدأت في إمساك الضفادع. كانت صوفي تريد نقل مستعمرة من الضفادع بالكامل من الخليج الصغير المغطى بالجريد من أحد جانبي مرسى القوارب، إلى رف وكهف جميل في الصخور على الجانب الآخر. كانت الضفادع تنتقل من جانب إلى آخر عبر الماء. أمسكت صوفي وابنة برايس بالضفادع، ووضعتها في أنبوب داخلي، ودفعتا بها حول مرسى القوارب - كانت المياه ضحلة، لذا استطاعت ابنة برايس أن تخوض فيها - إلى موطنها الجديد. في نهاية اليوم، كان قد جرى نقل الضفادع كلها .
كانت هذه الفتاة التي من عائلة برايس قد ماتت في حريق بالمنزل، مع بعض الأطفال الصغار، بعد ذلك بسنوات. أو ربما كانت هذه هي الفتاة الأخرى، التي تراجعت عن المجيء. باع الأخ الذي ورث المزرعة إياها إلى مطور عقاري، قيل إنه خدعه في ثمنها. لكن هذا الأخ اشترى سيارة كبيرة - ربما سيارة كاديلاك؟ - وكانت صوفي تراه في أوبريفيل في الصيف. كان ينظر إليها نظرة كان مفادها أنه لن يتحدث إليها إلا إذا تحدثت هي.
تذكرت صوفي أنها حكت قصة نقل الضفادع إلى والد لورنس؛ الذي كان مدرس لغة ألمانية، والذي جذبت انتباهه في البداية من خلال جدلها الشديد، في الصف، حول نطق إحدى الكلمات الألمانية. وبحلول الوقت الذي صارت فيه طالبة دراسات عليا، كانت مغرمة به جدا. وأصبحت حبلى منه، لكن كان كبرياؤها يمنعها من أن تطلب منه أن يتخلى عن كل شيء، أن يترك زوجته، أن يتبعها إلى المنزل الخشبي، حيث كانت تنتظر أن يولد لورنس، لكنها كانت تعتقد أنه كان عليه فعل ذلك. جاء إلى هنا، لكن مرتين فقط، في زيارة. جلسا عند مرسى القوارب، وتحدثت معه عن الضفادع وابنة برايس.
قالت: «بالطبع، عادوا جميعا إلى منطقة الجريد في اليوم التالي.»
ضحك، وعلى نحو ما يفعل الرفاق ربت على ركبتها. «أوه، صوفي. ترين الوضع.»
كان اليوم هو عيد ميلاد لورنس الأربعين. ولد ابنها في يوم الاحتفال بذكرى اقتحام سجن الباستيل. أرسلت بطاقة بريدية لوالد لورنس قالت فيها: «سجين ذكر أطلق سراحه في الرابع عشر من يوليو، زنة ثمانية أرطال وتسع أوقيات.» ماذا كانت زوجته تظن؟ لم تكن لتعرف. تحملت عائلة فوجلسانج الأمر برمته في كبرياء، وانتقلت صوفي إلى جامعة أخرى حتى تتأهل لمسارها الأكاديمي. لم تكذب قط وتقول إنها تزوجت. لكن لورنس، في المدرسة، كان قد اختار أبا له، ابن عم أمه (ومن ثم اشتراكهما في الاسم)، الذي غرق في رحلة بقارب كنو. قالت صوفي إنها كانت متفهمة للوضع، لكنها كانت تشعر بخيبة أمل فيه . •••
في وقت لاحق من الظهيرة، وجدت صوفي نفسها في طائرة. كانت قد ركبت الطائرة مرتين من قبل؛ كلتا المرتين في طائرتين كبيرتين. لم تعتقد أنها كانت ستخاف. جلست في المقعد الخلفي بين حفيديها اللذين كانا يشعران بالإثارة، دينيس وبيتر - كان لورنس في المقدمة، مع الطيار - وفي حقيقة الأمر لم تستطع أن تقول إذا كان ما تشعر به خوفا أو لا.
بدت الطائرة الصغيرة، وكأنها لا تتحرك على الإطلاق، على الرغم من أن محركها لم يتوقف أبدا؛ كان يصدر ضجيجا هائلا. طاروا في الهواء، على ارتفاع ألف قدم أو نحو ذلك من الأرض. في الأسفل كانت شجيرات العرعر منتشرة مثل وسادة دبابيس في الحقول، وأشجار الأرز معروضة على نحو ساحر مثل أشجار الكريسماس اللعبة. كان ثمة موجات صغيرة لامعة في المياه الداكنة. كان مظهر الألعاب، والصغر المتناهي في كل شيء له تأثير مميز ومؤلم على صوفي. كانت تشعر كما لو كانت هي، لا الأشياء على الأرض، التي تضاءلت، لا تزال تتضاءل؛ أو أنها والأشياء كانت تتضاءل جميعا. كان هذا الشعور في غاية القوة، حتى إنه تسبب في وخز خفيف في يديها وقدميها الضئيلة، التي تشبه الكابوريا الآن؛ وخزة ضآلة مدهشة، وعي بضآلة مدهشة. تقلصت معدتها؛ كانت رئتاها أشبه بجوالي بذور فارغين، وكان قلبها مثل قلب حشرة.
قال لورنس مخاطبا الطفلين: «سرعان ما سنطير فوق البحيرة ... أترون كيف أن الحقول تغطي جانبا وتغطي الأشجار الجانب الآخر؟ مثلما ترون، في أحد الجوانب توجد تربة فوق حجر جيري، وفي الجانب الآخر الدرع الكندي الذي يعود إلى فترة ما قبل العصر الكامبري. جانب مغطى بالصخور والجانب الآخر بالجريد. هذا ما يطلق عليه البحيرة المتلألئة.» (كان لورنس قد درس الجيولوجيا وكان يحبها، وقد كانت تأمل صوفي في أن يصير جيولوجيا بدلا من رجل أعمال.)
وهكذا، كانوا بالكاد يتحركون. كانوا يطيرون فوق البحيرة. رأت صوفي جهة اليمين مدينة أوبريفيل بالكامل، والشق الأبيض الكبير لمحجر السيليكا. لم تخف وطأة شعورها بارتكاب خطأ، بوجود مشكلة ما غريبة جدا ولا يمكن التعبير عنها . لم يكن الأسلوب الذي تعاملت به مع الأمر، بل ما بعد الكارثة هو ما كانت تحس بوطأته، في هذا الهواء الذهبي؛ تشعر كما لو كان جرى كنسهم وإلغاؤهم، وطيهم في صورة نقاط، وتحولوا إلى ذرات، لكن دون أن يعرفوا.
قال لورنس: «لنر ما إذا كنا سنستطيع أن نرى سطح منزلنا الخشبي.» ثم قال مخاطبا الطيار: «كان جدي ألمانيا؛ شيد المنزل وسط الأشجار، مثل كوخ صيد.»
قال الطيار، الذي كان يعرف على الأقل ذلك عن عائلة فوجلسانج: «هل كان الأمر كذلك؟»
هذا الشعور - كانت صوفي تدرك ذلك - لم يكن جديدا بالنسبة لها. كان يراودها وهي طفلة. شعور حقيقي بالضآلة، شعور ضمن جعبة مشاعر من الخوف والدهشة، أو حالات تنتاب المرء عندما يكون صغيرا جدا. مثل الشعور بالتعلق في وضع مقلوب، بالسير على السقف، بالسير على عتبات باب مرتفعة. سرور رهيب كانت تشعر به آنذاك، لذا لماذا لا تشعر بهذا الآن؟
لأن الأمر لم يكن باختيارها، الآن. كان لديها شعور أكيد بتغيرات في الأفق، لم تكن من اختيارها.
أشار لورنس إلى السطح، سطح المنزل الخشبي. تعجبت في رضى.
لا تزال تنكمش، تنطوي على نفسها في صورة تلك النقطة المثيرة للغثيان، لكنها لا تختفي، تماسكت هنا. تماسكت هنا، مستخدمة كل ما تملك من قدرة، وقالت لحفيديها: انظرا هنا، انظرا هناك، أترون الأشكال على الأرض، أترون الظلال والضوء الغاطس في الماء؟
3 «إن جلوس زوجتي بمفردها متعتها الكبرى.»
جلست إيزابيل على الحشائش قرب السيارة، في ظل بعض أشجار الحور العجفاء، وكانت تعتقد أن هذا اليوم، يوم عائلي سار، كان مليئا بالصعوبات، التي كانت قد تخطتها حتى الآن. عندما استيقظت هذا الصباح، كان لورنس يريد أن يضاجعها. كانت تعلم أن الأطفال سيكونون مستيقظين، مشغولين في غرفة دينيس في الردهة في الأسفل، يعدون المفاجأة الأولى في اليوم؛ ملصقا عليه قصيدة، قصيدة عيد ميلاد، ومجموعة ملصقات من الصور لأبيهم. إذا قوطع لورنس أثناء العلاقة أثناء تدفقهم إلى الغرفة بهذه الأشياء - أو قرعهم بعنف على الباب ، مفترضين أنها أغلقته بالترباس - كان سيصبح في مزاج سيئ جدا. وكانت دينيس ستصاب بخيبة أمل، في حقيقة الأمر، ستصاب بحزن بالغ. كانت ستكون بداية سيئة لليوم. لكن هذا لن يكفي حتى يردع لورنس، عندما تفسر له سلوك الأطفال. سيجري النظر إلى ذلك باعتباره مثالا على أنها تعتبر الأطفال أهم منه، وأنها تضع مشاعرهم قبل مشاعره. بدا أفضل شيء يمكن عمله هو أن تستعجله، وفعلت هذا، مشجعة إياه كي يفعل ذلك حتى عندما شتت انتباهه صوت وقع أقدام صوفي الثقيل للحظات، التي كانت تجوس في الطابق السفلي، وتفتح أحد أدراج المطبخ بصوت مرتفع.
همس في أذن إيزابيل: «ماذا دهاها بحق الرب؟» لكنها مررت يدها عليه كما لو كانت تطلب منه تحركا أكبر وأسرع. نجح الأمر. سرعان ما سار كل شيء على ما يرام. كان يرقد على ظهره حاملا يدها أثناء سماعهما الطفلين آتيين عبر الردهة صانعين ضوضاء مثل صوت الأبواق، جلبة مختلطة. دفعا باب غرفة أبويهما ودخلا، حاملين أمامهما الملصق الكبير المكتوب عليه قصيدة عيد الميلاد، بألوان كثيرة منمقة.
قالا معا: «مرحبا!» ثم انحنيا، خافضين الملصق. كانت دينيس ترتدي ملاءة، وكانت تحمل عصا ملفوفة في ورق ألومنيوم ملتصق بها في أحد طرفيها نجمة ورقية فضية، وكانت معظم قلادات، وسلاسل، وأساور، وأقراط إيزابيل معلقة أو ملتصقة بها على نحو ما. أما بيتر فكان مرتديا بيجامته وحسب.
بدءا في إلقاء القصيدة. كان صوت دينيس مرتفعا ودراميا على نحو كبير، وإن كان يشي بالسخرية من الذات. كان صوت بيتر يتقفى أثر صوتها قليلا، بطيئا، ومطيعا، وساخرا على نحو غير مؤكد:
مرحبا بقدوم عيد ميلادك الأربعين
الذي يشير إلى حياتك الموفقة هنا!
وها أنا، ملكة الجن،
أظهر كي أتمنى لك الصحة والثروة والحب والحبور!
قال بيتر مرددا وراءها: «وها هي، ملكة الجن، تظهر.» ثم في نهاية القصيدة قالت دينيس: «حقيقة، أنا الأم الروحية للجن لكن هذه الكلمة تشتمل على مقاطع كثيرة جدا.» ظلت هي وبيتر ينحنيان.
ضحك لورنس وإيزابيل وصفقا، وطلبا أن يريا ملصق عيد الميلاد من مسافة أقرب. كان ملصقا حول القصيدة في كل موضع أشكال ومشاهد وكلمات مقصوصة بالكامل من المجلات. كان كل ذلك يظهر أحداث العام الفائت في حياة لورنس بيتر فوجلسانج العظيم. جرت الإشارة إلى رحلة العمل إلى أستراليا من خلال كانجارو يقفز فوق صخرة آيرس، وعلبة طارد حشرات. «بين الرحلات المثيرة»، والتعليق، «وجد لورنس بيتر العظيم وقتا لممارسة اهتماماته الخاصة» (ظهرت في الملصق نادلة بلاي بوي بذيلها المنفوش، وكانت تقدم زجاجة شامبانيا كبيرة في حجمها)، «ووقتا للاسترخاء مع عائلته الحبيبة» (كانت هناك فتاة حولاء تخرج لسانها، وكان ثمة ربة منزل تلوح مهددة بممسحة، وطفل صغير مغطى بالطين واقف على رأسه). «كان يفكر أيضا في امتهان مهنة أخرى» (كانت تظهر في إحدى الصور خلاطة أسمنت، يقف فوقها رجل شيخ غريب الأطوار إلى حد ما). قال عدد من الحيوانات في فناء المزرعة، مرتديات قبعات حفلات وممسكات ببالونات: «عيد ميلاد سعيد يا لورنس بيتر العظيم»، «من معجباتك المخلصات الكثيرة.»
قال لورنس: «هذا رائع ... أرى أنكم بذلتم جهدا كبيرا في ذلك. أحب على وجه الخصوص ذلك الجزء المتعلق بالاهتمامات الخاصة.»
قالت دينيس: «والعائلة الحبيبة ... ألم تحبهم أيضا؟»
قال لورنس: «والعائلة الحبيبة.»
قالت دينيس: «الآن ... الأم الروحية للجن مستعدة لأن تلبي لك ثلاث أمنيات.»
قال بيتر: «لن تحتاج إلى أكثر من أمنية واحدة ... ليس على المرء إلا تمني أن تتحقق جميع الأمنيات الأخرى.»
قالت دينيس: «غير مسموح بهذه الأمنية ... لديك ثلاث أمنيات، لكنها يجب أن تكون لثلاثة أشياء محددة. لا يمكن تمني أن تكون سعيدا دوما، ولا يمكن أن تتمنى أن تلبى جميع أمنياتك.»
قال لورنس: «هذه أم روحية للجن ديكتاتورية جدا.» ثم تمنى أن يكون اليوم يوما مشمسا.
قال بيتر في اشمئزاز: «اليوم مشمس بالفعل.»
قال لورنس: «حسنا، أتمنى أن يظل مشمسا.» ثم تمنى أن يكمل ست درجات سلالم أخرى، وأن يكون هناك طماطم وسجق مشوي وبيض مقلي على الإفطار.
قالت إيزابيل: «أنت محظوظ أنك تمنيت شيئا مشويا ... لا يزال الجزء العلوي من الموقد يعمل. أعتقد أنه سيكون كثيرا أن نطلب من الأم الروحية للجن أن تجلب لصوفي موقدا جديدا.» •••
لا بد أن الضوضاء التي صنعوها جميعا في المطبخ أثناء تناول الإفطار جعلتهم لم يسمعوا صوت صوفي يرتفع، عند البحيرة. كانوا سيتناولون الإفطار في الشرفة الخارجية. كانت دينيس قد بسطت مفرشا على مائدة الحديقة. جاءوا في شكل موكب، كانت دينيس تحمل صينية القهوة، وكانت إيزابيل تحمل طبق تقديم الطعام الساخن، والبيض، والسجق، والطماطم، وكان بيتر يحمل إفطاره، الذي كان عبارة عن حبوب جافة مخلوطة بالعسل. لم يكن من المفترض أن يحمل لورنس أي شيء، لكنه كان قد تناول حامل الخبز المغطى بالزبد، معتقدا أنه إذا لم يفعل كان سينسى.
بمجرد خروجهم إلى الشرفة الخارجية، ظهرت صوفي أعلى الضفة، عارية. سارت مباشرة تجاههم عبر الحشائش المجزوزة.
قالت: «حلت بي كارثة صغيرة جدا ... عيد ميلاد سعيد، لورنس!»
كانت هذه هي المرة الأولى التي ترى فيها إيزابيل امرأة عجوزا عارية. أدهشتها عدة أشياء. نعومة الجلد مقارنة بحالة التغضن في وجه صوفي، وعنقها، وذراعيها، ويديها. صغر حجم الثديين. (عندما كانت ترى صوفي مرتدية ملابسها، كانت ترى دوما أن الثديين في نفس الحجم الكبير مثل باقي جسدها.) كانا متهدلين إلى أسفل كصرتين صغيرتين، صرتين متأرجحتين، من الصدر العريض، المنمش. كانت ندرة شعر العانة، ولونه، أمرا غير متوقع أيضا؛ لم يتحول لونه إلى الأبيض، بل ظل بنيا لامعا مائلا إلى اللون الذهبي، وكان رقيقا جدا مثلما لدى فتاة صغيرة جدا.
كل هذه البشرة البيضاء، الممتلئة في رخاوة، جعلت إيزابيل تتذكر الماشية الفرنسية، الماشية البيضاء الملطخة بالروث، التي يراها المرء أحيانا حاليا في حقول المزارعين. من نوع شاروليه.
لم تحاول صوفي بالطبع أن تخفي ثدييها بإحدى ذراعيها أو تضع إحدى يديها على عورتها. لم تمر مسرعة أمام عائلتها. وقفت في ضوء الشمس، إحدى قدميها على درجة السلم السفلية للشرفة الخارجية - مما أوضح قليلا هيئة جسمها العاري أمام الجميع - وقالت في هدوء: «هناك، جرى الاستيلاء على ثوب استحمامي. أيضا سجائري وولاعتي. غاصت ولاعتي إلى قاع البحيرة.»
قال لورنس: «يا إلهي، يا أمي!»
كان قد وضع حامل الخبز المحمص بسرعة كبيرة حتى إنه سقط. نحى الأطباق جانبا ليمسك بالمفرش.
قال، ملقيا إياه إليها: «أمسكي هذا!»
لم تلتقطه صوفي. سقط فوق قدميها. «لورنس، هذا مفرش!»
قال لورنس: «لا بأس ... فقط ضعيه عليك!»
انحنت صوفي وتناولت المفرش ونظرت إليه كما لو كانت تتفحص الأشكال الموجودة عليه. ثم لفت نفسها به، ليس بدرجة متقنة ولا بسرعة كبيرة.
قالت: «شكرا يا لورنس.» كانت قد استطاعت أن تضبط المفرش على جسدها حتى صار مفتوحا عند أسوأ مكان ممكن. ناظرة إلى أسفل، قالت: «آمل أن يجعلك هذا أكثر سعادة.» بدأت مرة أخرى في ذكر ما حدث.
لا، حدثت إيزابيل نفسها، لا يمكن أن تكون غير واعية بما تفعل. لا بد أنها تقصد ذلك؛ لا بد أن هذه لعبة. براءة مصطنعة. تظاهر مسرحي قديم. تستعرض نقاءها، سمو أفكارها، بساطتها. العجوز المنحرفة المخادعة.
قالت إيزابيل: «دينيس، هيا أسرعي واجلبي مفرشا آخر ... هل سندع هذا الطعام يبرد؟»
كان القصد من وراء ذلك - كان قصد صوفي دوما - أن تجعل ابنها يبدو أحمق. تجعل منه أحمق أمام زوجته وطفليه. وهو ما بدا عليه، بوقوفه في موضع أعلى من صوفي في الشرفة الخارجية، وكانت دماء الخجل تتصاعد في حرارة في عنقه، صابغة أذنيه بلون أحمر من الخجل، وخفض صوته على نحو مصطنع ليصبح صوت تأنيب ذكوري، وإن كان صوتا مرتعشا. هذا ما كانت صوفي تستطيع فعله، ما ستفعله، في كل مرة تواتيها الفرصة.
قالت إيزابيل، في رد فعلها على القصة: «يا لهم من أشقياء متكبرين! ... كنت أعتقد أنهم جميعا لطفاء، وسعداء، ومستنيرون، وما إلى ذلك.»
قال لورنس: «لم يكن هذا ليحدث لو أنها ارتدت ثوب استحمام عند ذهابها للسباحة.» •••
ثم كانت رحلة الذهاب لإحضار الكعكة، والقلق حيال إحضارها إلى المنزل دون أن تفسد، والحاجة إلى الإلحاح على دينيس حتى تحافظ عليها في وضع متزن. زيارة أخرى، منفردة، إلى متجر هاي-واي ماركت، لشراء الطماطم الناضجة التي كان لورنس يفضلها على أي شيء آخر يشتريه المرء في المتجر. كان على إيزابيل أن تعد طعاما يمكن طهيه على السطح العلوي من الموقد. لا بد أن يكون شيئا يمكن طهيه أو تسخينه بسرعة عندما يعود الجميع إلى المنزل جائعين من المطار. ويجب أن يكون هذا شيئا يحبه لورنس على وجه الخصوص، شيئا لا تجده صوفي مبالغا فيه أكثر مما ينبغي، شيئا يستطيع بيتر أكله. قررت أن تطهو دجاجا بالخمر، على الرغم من أنها لم تكن متأكدة تماما من أن صوفي، أو بيتر سيتناولانه. على الرغم من كل شيء، كان هذا هو يوم لورنس. قضت طوال فترة ما بعد الظهيرة تطهو، وتراقب الوقت حتى يكونوا جميعا مستعدين للذهاب إلى المطار مبكرا بما يكفي بحيث لا تتعرض دينيس لنوبة قلق شديدة.
حتى مع مراقبتها الوقت، تأخروا قليلا. رد لورنس، عندما نودي عليه من أعلى درجات السلم، لكنه لم يظهر. كانت إيزابيل قد ذهبت إليه، وأخبرته أن الأمر عاجل، وأن ثمة مفاجأة لها علاقة بعيد ميلاده، وسيفسد كل شيء إذا لم يسرع، كانت هذه مفاجأة دينيس الخاصة، بالإضافة إلى ذلك، وكان قد بدأت تنتابها إحدى الحالات النفسية. حتى بعد ذلك، بدا أن لورنس لم يسرع عن عمد، واستغرق وقتا أكثر من المعتاد في الاغتسال وتبديل ملابسه. لم يوافق على بذل جهد أكبر للحيلولة دون إصابة دينيس بإحدى الحالات التي تنتابها.
لكنهم كانوا قد جاءوا هنا، وصعدوا جميعا، باستثناء إيزابيل، إلى الطائرة. لم تكن هذه هي الخطة. كانت الخطة أن يذهبوا جميعا إلى المطار، ويشاهدوا لورنس أثناء نزع عصابة عينيه ودهشته، ومشاهدته يركب الطائرة في يوم عيد ميلاده، وتحيته عندما يعود هابطا من الطائرة.
لكن الطيار قال، بعد أن خرج من المنزل الصغير الذي كان بمنزلة مكتبه، ورآهم جميعا موجودين: «ما رأيكم في اصطحاب العائلة كلها في الطائرة؟ سنركب الطائرة ذات المقاعد الخمسة؛ ستكون رحلة أفضل.» ابتسم لدينيس. «لن أطلب منك دفع أموال إضافية. نحن في نهاية اليوم.»
قالت دينيس على الفور : «هذا لطف بالغ منك.»
قال الطيار، متطلعا إليهم: «إذن ... سيركب الجميع باستثناء شخص واحد.»
قالت إيزابيل: «من الممكن أن يكون أنا.»
قال الطيار، محولا بصره إليها: «آمل أنك لا تخافين ... لا يوجد ما يدعوك إلى ذلك.»
كان رجلا في الأربعينيات من عمره - ربما كان في الخمسين - ذا موجات من الشعر الأشقر أو الأبيض، ربما شعر أشقر حائل إلى الأبيض، ممشط في استقامة إلى الوراء من عند الجبهة. لم يكن طويلا، مثل لورنس، لكن كانت له كتفان ثقيلتان، وصدر وخصر ممتلئان، وكان هناك امتلاء بسيط صلب في بطنه، لم يكن متدليا، فوق حزامه. كان يملك جبهة منحنية، مرتفعة، وعينين زرقاوين براقتين بهما حول عادي، ونظرة مهنية هادئة، وحس دعابة. تلك الصفة نفسها في صوته؛ الصوت الفكه، المتمهل، الريفي الساذج قليلا. كانت تعرف ما سيقوله لورنس عن هذا الرجل؛ إنه شخص عالي القيمة. غير منتبه إلى أي شيء آخر؛ شيء حذر تحت السطح، شيء غير مكترث أو حتى مزدر لهم، شديد الثقة في ذاته.
قال الطيار مخاطبا صوفي: «لست خائفة، أليس كذلك، سيدتي؟»
قالت صوفي: «لم أستقل قط طائرة صغيرة ... لكنني لا أظن أنني خائفة، لا.»
قال لورنس: «لم يستقل أي منا طائرة صغيرة. سيكون في ذلك متعة عظيمة ... شكرا.»
قالت إيزابيل: «سأجلس هنا وحدي، إذن»، وضحك لورنس. «إن جلوس زوجتي بمفردها متعتها الكبرى.»
إذا كان الأمر كذلك - وربما يكون كذلك حقيقة؛ لأنها لم تكن خائفة، أو ربما كانت خائفة على نحو غامض، لكنها كانت مستمتعة جدا بفكرة تركها وحدها - لما كان هذا بالتأكيد في صالحها. جلست هنا ورأت يومها في صورة صعوبات جرى تخطيها؛ الدجاج بالخمر معد خلف الموقد، والكعكة التي وصلت المنزل بسلام، والخمر والطماطم اللذان جرى شراؤهما، وعيد الميلاد الذي يسير حتى الآن دون أي أخطاء حقيقية أو صدامات أو إحباطات. لم يتبق سوى العودة إلى المنزل، العشاء. ثم غدا سيذهب لورنس إلى أوتاوا ويظل هناك طوال اليوم، ثم يعود في المساء. كان من المفترض أن يكون موجودا معهم يوم الأربعاء لمشاهدة لحظات أول هبوط على القمر.
ليس في صالحها كثيرا أن تمضي في حياتها تفكر؛ حسنا، جميل، انتهى الأمر الآن، انتهى ذلك. إلام كانت تتطلع؟ وأي مكافأة كانت تأمل في أن تحصل عليها، عندما ينتهي هذا، وهذا، وهذا؟
الحرية؛ أو ليست حتى الحرية. الفراغ، انقضاء الانتباه. بدا طول الوقت أن عليها أن تقدم أكثر قليلا - من ناحية الانتباه والحماس واليقظة - مما كانت تشعر أنها تستطيع. كانت تجاهد، آملة ألا يكتشف أحد طبيعتها. يكتشف أنها باردة وقاسية القلب مثل تلك النوردية القديمة، صوفي.
في بعض الأحيان كانت تعتقد أنه أتي بها إلى المنزل، في المقام الأول، كنوع من التحدي المعقد لصوفي. كان لورنس يحبها منذ البداية، لكن حبه كان له علاقة بالتحدي. كانت ثمة أشياء متناقضة جدا بها؛ مظهرها اللافت غير المحتشم، وأسلوبها الفظ غير المهذب (لم تكن تمتلك أدنى فكرة في ذلك الوقت إلى أي درجة هي لافتة للانتباه وغير محتشمة، ويتسم سلوكها بالفظاظة وعدم التهذيب)، درجاتها المرتفعة واعتمادها الساذج عليها باعتبارها دليلا على الذكاء؛ كل هذه الدلائل على كونها أذكى طالبة من مدرسة ثانوية لأبناء الطبقة العاملة، فخر عائلة غير طموحة.
قال لورنس مخاطبا صوفي في وجود إيزابيل: «ليست هذه الكلية المفضلة لديك، أليس كذلك يا أمي؟» قيد في الكلية الوحيدة بالجامعة التي كانت صوفي تكرهها، وهي كلية إدارة الأعمال.
لم تقل صوفي شيئا، لكنها ابتسمت مباشرة في وجه إيزابيل. لم تكن الابتسامة غير ودودة، ولم تكن باعثة على الازدراء من لورنس - بدت صبورة - لكنها كانت تشي في وضوح قائلة: «هل أنت مستعد، هل مستعد للاستمرار في هذا؟» فهمت إيزابيل، التي كانت تصب تركيزها آنذاك على إعجابها بمظهر لورنس الطيب وذكائه وعقله وخبرته المأمولة في الحياة، ما كان يعنيه هذا. كان هذا يعني أن لورنس الذي كانت قد كرست نفسها لحبه (إذ إنها، على الرغم من مظهرها وأسلوبها، كانت فتاة جادة، لا تجربة لها، تعتقد في الحب الذي يدوم مدى الحياة ولم تستطع أن تتصور أن تدخل في علاقة على أي أساس آخر) يجب دعمه، ودفعه للأمام، من خلال الجهود المبذولة المستمرة والحاذقة من جانبها، من خلال إعادة الثقة والإدارة الجيدة؛ كان يعتمد عليها في أن تجعل منه رجلا. لم يعجبها أن تلفت صوفي انتباهها لهذا، ولم تدع ذلك يؤثر بأي حال من الأحوال على قرارها. هذا هو ما كان طبيعة الحب، أو ما كانت طبيعة الحياة، وكانت تريد أن تشرع في هذا. كانت وحيدة، على الرغم من أنها كانت تظن نفسها منعزلة. كانت الطفلة الوحيدة في زواج أمها الثاني؛ كانت أمها ميتة، وكان إخوتها وأخواتها غير الأشقاء أكبر كثيرا منها، ومتزوجين. كانت سمعة تحوطها في العائلة ظانين أنها مميزة. لا تزال لها هذه السمعة، ومنذ زواجها بلورنس نادرا ما كانت ترى أقاربها.
قرأت كثيرا، وكانت تخضع لنظم غذائية وتمارس تمارين رياضية في جدية شديدة، وصارت طاهية ماهرة. في الحفلات، كانت تداعب الرجال الذين لم يكونوا يطاردونها في إصرار. (لاحظت أن لورنس كان يشعر بالإحباط إذا لم تثر زوبعة بسيطة.) في بعض الأحيان، كانت تتخيل نفسها مسيطرا عليها من قبل هؤلاء الرجال أو آخرين، طرفا في علاقات غاية في الاندفاع، والابتكار، والحيوية. في بعض الأحيان كانت تتذكر طفولتها في توق بدا شاذا، وكان يجب الإبقاء على ذلك سرا. ربما تذكرها مظلة مرتخية أمام متجر على ناصية شارع، رائحة وجبات الغذاء الثقيلة على المعدة التي يجري طهيها في فترة ما بعد الظهيرة، القمامة المتناثرة والأرض العارية حول جذور شجرة ظل كبيرة في المدينة. •••
عندما هبطت الطائرة، نهضت وذهبت للقائهم، وقبلت لورنس كما لو كان قد عاد من سفر. بدا سعيدا. حدثت نفسها بأنها نادرا ما كانت تشغل بالها بسعادة لورنس. كانت تريد أن يكون في مزاج طيب، بحيث تسير الأمور في سلاسة، لكن ذلك لم يكن الأمر نفسه.
قال لورنس: «كانت تجربة رائعة ... كان يمكن رؤية تغير المناظر الطبيعية في وضوح بالغ.» بدأ يحكي لها عن البحيرة المتلألئة.
قالت صوفي: «كان الأمر في غاية المتعة.»
قالت دينيس: «كان المرء يستطيع النظر إلى أعماق المياه. كان المرء يستطيع رؤية الصخور وقد تضاءل حجمها. كان بالإمكان حتى رؤية الرمال.»
قال بيتر: «كان بالإمكان تحديد نوع القوارب.» «أعني ذلك يا أمي. كان بالإمكان رؤية الصخور وهي تتضاءل، أكثر فأكثر، ثم الرمال.»
قالت إيزابيل: «هل رأيتم أي أسماك؟»
ضحك الطيار، على الرغم من أنه ربما سمع ذلك كثيرا من قبل.
قال لورنس: «إنه لأمر سيئ للغاية حقا أنك لم تطيري معنا.»
قال الطيار: «أوه، ستفعل، يوما ما ... يمكن أن تأتي إلى هنا غدا.»
ضحكوا جميعا على إغاظته. التقت عيناه الجريئتان بعيني إيزابيل، وبدتا على الرغم من جرأتهما في منتهى البراءة، والود، واللطف. لم يكن الاحترام غائبا. كان رجلا لم يكن يقصد أي أذى بالتأكيد، لا يقصد أي حماقة. لذا، كان من المستبعد أنه كان يدعوها حقا للذهاب إلى هناك في اليوم التالي.
ودعهم آنذاك، جميعا، وشكروه مرة أخرى. كانت إيزابيل تظن أنها كانت تعلم ماذا شتت انتباهها. كانت قصة صوفي. كانت فكرة خروجها هي، لا صوفي، عارية من الماء تجاه هذين الصبيين المتراقصين. (في عقلها، كانت قد استبعدت بالفعل الفتاة.) جعلها هذا تتشوق وتتخيل بعض الاندفاع، ودعوات فجة. كانت قد شعرت بالإثارة جراء ذلك.
عندما كانوا يسيرون تجاه السيارة، كان عليها أن تبذل جهدا حتى لا تستدير. تصورت أنهما استدارا في الوقت نفسه، ونظر كل منهما إلى الآخر، مثلما في الأفلام الرومانسية، قصة أوبرالية، قصة خيالية لمن هم في المدرسة الثانوية. استدارا في الوقت نفسه، ونظر كل منهما إلى الآخر، وتبادلا وعدا باللقاء لم يكن أقل واقعية على الرغم من أنهما قد لا يلتقيان أبدا مرة أخرى. صدمها الوعد مثل البرق، قصمها مثل البرق، على الرغم من أنها تحركت في خفة، في سلام تام.
أوه، بالتأكيد. كل ذلك.
لكن، الأمر لا يشبه البرق، لا يشبه الأمر عاصفة من الخارج. نحن نتظاهر فقط أن الأمر كذلك.
قالت صوفي: «هل يمانع أحدكم في القيادة؟ ... أنا متعبة.» •••
في ذلك المساء، كانت إيزابيل معتنية بسخاء بلورنس ، بأطفالها، بصوفي، التي لم تكن في حاجة إلى ذلك على الإطلاق. شعروا جميعا بسعادتها. شعروا كما لو أن حائلا غير مرئي، معتادا قد زال، كما لو أن ستارة شفافة قد نحيت جانبا. أو ربما أنهم تصوروا وجودها طوال الوقت. نسي لورنس أن يتذاكى على دينيس، أو أن يعاملها كغريم. لم يهتم حتى بالصراع مع صوفي. لم يجر ذكر التليفزيون.
قال لإيزابيل على العشاء: «رأينا محجر السيليكا من الهواء ... كان يشبه حقلا ثلجيا.»
قالت صوفي، مقتبسة: «رخام أبيض ... أشياء غير حقيقية. وضعوها في جميع ممرات متنزه أوبريفيل، أفسدوا المتنزه. إنها تلمع.»
قالت إيزابيل: «هل تعرفين أننا كانت لدينا «الكومة البيضاء»؟ كانت المدرسة التي كنت أذهب إليها خلف مصنع البسكويت، وكان ملعب المدرسة في ظهر أرض المصنع. من حين لآخر، كانوا يجمعون بقايا مواد تزيين الحلوى المصنوعة من الفانيليا، والجوز، وكرات المارشملو المتصلبة، وكانوا يأتون بها في براميل، ويلقون بها هناك، وكانت تلمع. كانت تلمع مثل جبل أبيض صاف. في المدرسة، كان أحدهم يراه ويصيح قائلا: «الكومة البيضاء!» وبعد المدرسة كنا نتسلق السور أو نجري حوله. كنا نذهب جميعا إلى هناك، نفتش في تلك الكومة الهائلة من الحلوى البيضاء.»
قال بيتر: «هل كانوا يكنسون تلك النفايات من الأرضية؟» كان يبدو متحمسا جدا للفكرة. «هل كنتم تأكلون ذلك؟»
قالت دينيس: «بالطبع كانوا يفعلون ... كان هذا هو ما كان متاحا لهم. كانوا أطفالا فقراء.»
قالت إيزابيل: «لا، لا، لا ... كنا فقراء لكن كانت لدينا حلوى بالتأكيد. كنا نحصل على نكلة من حين إلى آخر لنشتري حلوى من المتجر. لم يكن الأمر هكذا. كان ثمة شيء حيال الكومة البيضاء؛ كانت كبيرة، وكانت في غاية البياض واللمعان. كانت مثل حلم طفل؛ الشيء الأكثر وعدا مما يمكن أن يراه المرء.»
قال لورنس: «كانت أمي والاشتراكيون سيتخلصون من هذا كله في ظلمة الليل ... ويعطونكم برتقالا بدلا منه.»
قالت صوفي: «إذا كنا نتحدث عن حلوى المرزبان، فسأفهم الأمر ... على الرغم من أنك يجب أن تقري أن تلك الأشياء لم تكن صحية تماما .»
قالت إيزابيل: «لا بد أن الأمر كان مريعا ... بالنسبة إلى أسناننا، وكل شيء. لكننا لم نتناول ما يكفي حتى نمرض؛ لأننا كنا كثيرين جدا، وكان علينا أن نفتش في كومة النفايات بشدة حتى نحصل على ما نريد. بدا الأمر أكثر الأشياء روعة.»
قال لورنس: «الكومة البيضاء!» لورنس الذي، في وقت آخر، ربما كان سيقول شيئا من قبيل: «متع الفقراء البسيطة!» قال، بمزيج من السرور والسخرية، في تقدير طبيعي بدا ما كانت تريده إيزابيل تماما: «الكومة البيضاء.»
كان يجب ألا تندهش. كانت تعلم رقة ولطف لورنس، فضلا عن تنمره وخداعه. كانت تعرف تقلبات عقله، تحولات قلبه، التغيرات وأصوات الضوضاء البسيطة في جسده. كانا متقاربين. كانا قد اكتشف كل واحد منهما الكثير عن الآخر حتى إن شيئا كان يجبه شيء آخر. لهذا السبب كان الجنس بينهما يبدو خجولا، شهوانيا محضا، وكأنه جنس محرم بين شقيقين. يستطيع الحب تخطي ذلك؛ وقد تخطاه بالفعل. انظر كيف كانت تحبه في هذه اللحظة. شعرت إيزابيل بنفسها واسعة الحيلة على نحو جديد، وغير محدود. •••
لو كانت زوجته هناك، لو كان هو وزوجته موجودين معا، كانت ربما ستقول: «أعتقد أننا نسينا شيئا أمس هنا. تعتقد حماتي أن علبة نظارتها قد سقطت منها هنا. لم تسقط نظارتها، فقط العلبة. الأمر لا يهم. كنت سأتأكد فقط.»
لو كان وحده وجاء نحوها ترتسم في عينيه نظرة سارة عادية متسائلة، فربما كانت ستحتاج إلى سبب أقل تفاهة. «كنت أريد فقط أن أسأل عن دروس الطيران. كان زوجي يريدني أن أسأل عن ذلك.»
لو كان هناك وحده ولم تكن ترتسم نظرة عادية كهذه - لكن كان لا يزال ضروريا أن يقال شيء - فربما كانت ستقول: «كان في غاية اللطف منك اصطحاب الجميع في الطائرة أمس واستمتعوا بذلك كثيرا. مررت عليك فقط لأشكرك.»
لم تستطع تصديق ذلك؛ لم تكن تستطيع تصديق أن ذلك سيحدث. على الرغم من قراءاتها، وخيالاتها، وأسرار بعض الأصدقاء، لم تكن تستطيع تصديق أن الناس يرسلون ويتلقون مثل هذه الرسائل يوميا، وكانوا يتصرفون بناء عليها، واضعين خططهم المحفوفة بالمخاطر، ومنتقلين إلى منطقة محظورة (التي سيتضح على نحو صادم أنها تشبه، وفي الوقت ذاته لا تشبه، منزل الشخص).
في السنوات التالية، ستتعلم قراءة الإشارات، في بداية ونهاية أي علاقة حب. لن تندهش كثيرا عندما تنكشف خفايا اللحظة الراهنة. لكنها ستندهش كثيرا إذا قالت ذات يوم لابنتها البالغة دينيس، أثناء تناولهما الخمر وحديثهما عن هذه الأشياء: «أعتقد أن الجزء الأفضل يكون في البداية دوما. في البداية. هذا هو الجزء الوحيد الخالص ... ربما حتى قبل البداية. ربما عندما يلوح في الخلد ما هو ممكن. ربما يكون هذا هو أفضل جزء.» «وعلاقة الحب الأولى؟ أعني علاقة الحب الأولى الإضافية؟» (كانت ستقول دينيس ذلك متجاوزة كل الحدود.) «هل هي الأفضل أيضا؟» «بالنسبة إلي، الأكثر عاطفة، وأيضا الأكثر دناءة.» (مشيرة إلى أن عمل الطيار كان في طريقه إلى الانهيار، إلى أن الطيار طلب، وتلقى، بعض المال منها، وأيضا إلى المشاهد المحزنة لبوحها بالأمر لزوجها الذي وضع نهاية للعلاقة ولزواجها، على الرغم من أن ذلك لم يؤد إلى تدمير زواج الطيار. ومشيرة، أيضا، إلى مشاهد لذة الانفصال والاندماج التي كانت تفضي إلى انهيار كلا الطرفين، وفي بعض الحالات، ذرف الدموع. وإلى هذا المشهد الأول تحديدا، الذي كانت تستطيع استحضاره في عقلها في أي وقت، مسترجعة مشاعر مختلطة على نحو مدهش من الذعر والسكينة.
المطار في حوالي الساعة التاسعة صباحا تقريبا، الصمت، ضوء الشمس، الأشجار القصية المتربة. المنزل الأبيض الصغير الذي من الواضح أنه جرى نقله إلى هنا من مكان ما ليصبح مكتبا. لا توجد ستائر أو حواجز على نوافذه. فقط سياج خشبي، تحديدا بوابة. خرج وفتح البوابة لها. كان يرتدي الملابس نفسها التي كان يرتديها في اليوم السابق، بنطال عمل فاتح اللون، وقميص عمل ذا أكمام مشمرة. كانت ترتدي الملابس نفسها التي كانت ترتديها. لم يسمع كلاهما ما قاله الآخر، ولم يستطيعا الرد على نحو منطقي.
كان وجود أي علامة على الاعتياد أكثر مما ينبغي من جانبه، أو أي علامة على الحذر - بل والأسوأ من ذلك، على الانتصار - كان سيجعلها تبتعد عنه. لكنه لم يرتكب خطأ كهذا، ربما لم يغتر بعمل ذلك. لا يعد الرجال الذين يقيمون علاقات ناجحة مع النساء - وقد كان بارعا في ذلك حيث اكتشفت أنه نجح بضع مرات في إقامة علاقات مع نساء من قبل، في ظروف مشابهة جدا - لا يعد الرجال الموهوبون على هذا النحو مستهترين حيال هذا الأمر مثلما يعتقد أنهم كذلك، وليسوا قاسين. كان عازما لكنه بدا رصينا، أو حتى آسفا، عندما لمسها للمرة الأولى؛ لمسة مهدئة، مقدرة - مجاهرة متزايدة ببطء - فوق عنقها وكتفيها العاريتين، وظهرها وذراعيها العاريتين، ثدييها وردفيها المغطاة بملابس خفيفة. تحدث إليها - ثرثرة حميمة، جادة - بينما كانت تتمايل إلى الخلف والأمام في استجابة جعلتها هذه اللمسة أمرا محتملا.
شعرت بأنها أنقذت، رفعت، أحيط بها، وصارت آمنة.) •••
بعد العشاء، لعبوا لعبة تخمين الكلمات. كان بيتر يمثل شخصية كوكبة الجوزاء. مثل المقطع الثاني عن طريق تناول شراب من كأس خيالية، ثم ترنح وسقط. لم يستبعد من اللعبة، على الرغم من أن الاتفاق جرى على أن كوكبة الجوزاء اسم علم وليس كلمة عادية.
قالت دينيس: «الفضاء هو عالم بيتر.» ضحك لورنس وإيزابيل. كانت هذه الملاحظة تذكر من حين إلى آخر في المنزل. •••
سرعان ما تخلت صوفي، التي لم تفهم قط قواعد لعبة تخمين الكلمات - أو، على الأقل، لم تستطع الالتزام بها - عن دورها في اللعبة، وبدأت في القراءة. كان الكتاب الذي تقرأ فيه يحمل عنوان «مجموعة إيدا الشعرية»، الذي كانت تقرؤه كل صيف، لكنها كانت قد أهملته بسبب برامج التليفزيون الكثيرة التي كانت تتابعها. عندما توجهت إلى الفراش، تركته على ذراع مقعدها.
قرأت إيزابيل، التي تناولت الكتاب قبل أن تطفئ النور، هذا البيت:
فات أوان الحديث عن هذا الآن.
قضي الأمر.
نامعلوم صفحہ