الليل في الصحراء صحراء أخرى، تدب في النفس مثل ثعبان أسطوري، كانا يزحفان على بطنيهما فوق رمل بارد، قرب معسكر للمتمردين يطلقون عليه الاسم الحركي ط 50، كان الهدف مراقبة طريق الإمداد الصحراوي الذي يمر بنقطة شمال مدينة الفاشر بثلاثمائة ميل، وتحديد الوقت اللازم للاعتراض، وهو عمل روتيني يقوم به العسكريون عادة، وهو أيضا لحد ما سهل وأقل مخاطرة في ظل أجهزة الرصد الصينية الحديثة، التي لا تتطلب من الراصد أن يبقى قريبا من موقع الحدث، بل يكفي أن يختار الزاوية المناسبة والوقت المناسب، وأن يقبع في مسافة معقولة لكي يحصل على أفضل النتائج، المشكلة هي أن القائد طلب من شيكيري توتو كوه أن يقوم بمراقبة إبراهيم خضر، وأن يعد تقريرا عنه، بل قيل لشكيري صراحة إنهم يشكون في ولاء إبراهيم.
ولا يدري شيكيري توتو كوه هل كان الضابط جادا أم أنها هفوة كبيرة منه عندما أتبع أوامره بلفظة قاسية ومربكة، حيث قال: راقب العبد.
وافتكر شيكيري توتو كوه أن اللفظة أطلقت عليه هو، حيث إنه استبعد تماما أن المقصود بها إبراهيم خضر إبراهيم، حيث إن إبراهيم لا يمكن أن ينطبق عليه هذا اللفظ وفقا للثقافة اليومية الموروثة؛ فإبراهيم له بشرة صفراء ناصعة وشعر ناعم، ويبدو واضحا من شكله الخارجي أنه من تلك المجموعات التي تطلق لفظ عبد على الآخرين، وليس هو من يطلق عليه هذا اللفظ؛ لذا اعتبر شيكيري أن الملازم يعنيه واستعد لمشاجرة عنيفة، إلا أن الملازم شرح له الأمر، وأكد له أنهم يمتلكون التفاصيل عن كل شخص؛ أي ما وراء المظهر الخارجي، وقالوا له: إن أسرة إبراهيم لوقت قريب لها أسياد، بل إن جدته المباشرة لها أسيادها الذين لولا الإنجليز لكانوا لا يزالون تحت القيد، وإن جد إبراهيم هو ابن السيد، ليس يعني هذا أنه ابن غير شرعي؛ لأن أمه مما ملكت أيمان سيدها، وهذا حلال في الشريعة ولم يختلف عليه فقيهان، ولكنه - كما أكدوا له - شخص حاقد على الآخرين والمجتمع؛ لذا يتبنى الأفكار الهدامة، مثل الشيوعية والجمهورية وغيرها.
كانت الأفكار تدور في رأس شيكيري وهو يزحف على الرمل البارد قرب إبراهيم، وربما شطح بعض الشيء وهو يفكر في علاقة جدة إبراهيم بالسيد، وهل لها زوج آخر، بل هل يحق لها أن تمتلك زوجا آخر، وما هي علاقة الزوج بالسيد، بل كيف صاد الصائدون النخاسة جدوده الأولين، لماذا لم يهربوا، هل قاوموا كثيرا، بل من هم النخاسة، أهم سودانيون كذلك؟ وتخيل نفسه مملوكا لسيد يمارس الجنس مع أمه؟ كان إبراهيم مشغولا بقراءة إشارات الجهاز الصوتية، يعتبر إبراهيم أن هذه المهمة ليست سوى مضيعة للزمن لا أكثر؛ لأنه سوف لا ينقل لقائده أية معلومة مفيدة عما يسمونهم الطورابورا، ويتمنى في عمق ذاته أن يستطيع الطورابورا الحصول على الإمدادات الكافية التي تمكنهم من الانتصار على جيشه وسحقهم جميعا، بمن فيهم هو نفسه.
في الحقيقة ما كان يثق في شيكيري توتو كوه إطلاقا؛ أولا لأن شيكيري لا يتكلم كثيرا ولا يعبر عما في نفسه، بل لا يعرف عنه حتى الآن إلا القليل، ولقد حدثه هو كثيرا عن أسرته وأهله وهمومه اليومية، بل حتى حبيبته، وأبعد من ذلك، إنه حكى له كيف أصبح جمهوريا في اليوم ذاته الذي ذهب فقط للضحك والشماتة على الجمهوريين في سجن كوبر، يوم إعدام ما يسميه أو يرمز إليه إبراهيم بالأستاذ. في 18 يناير 1985 الساعة العاشرة صباحا، برفقة كثير من المستهترين والجبهجية، قال له بصدق تام: عندما اعتلى الأستاذ منصة المشنقة، بمجرد النظر إليه - وقد تجنب الجميع أن تلتقي أعينهم بعينيه - عرفت أنه على حق، وأننا جميعا لسنا سوى القتلة؛ فلم يعدمه القضاة ونميري وحدهما، ولكن أيضا الذين لم نبذل جهد المقل في توقيفهم، قتلناه أكثر. لقد كان جميلا، شجاعا، نبيا، قديسا وإنسانا لا شبيه له، وهو يرفع رأسه في سلطة مطلقة. أحسست في تلك اللحظة أنه كان بإمكانه أن يحول تلك المشنقة إلى عرش عظيم، ويتوج نفسه ملكا أسطوريا ونهائيا لهذا العالم، إذا أراد. لكنه كان يريد أن يبقى هنالك، لوقت أكثر، وقت يمكن جلاديه من أداء واجبهم التاريخي، مثل ذلك الوقت الذكي الذي تكرم به السيد المسيح بين أيدي بعض الغوغاء المتعطشين للدم الأنقى. يحكي له يوميا عن كل ما يخطر بباله، لكن شيكيري كان يبتسم، يعلق باختصار، لكنه لا يقول شيئا خاصا به أبدا.
لكن لدى شيكيري اليوم رغبة كبيرة في التحدث، يريد أن يقول شيئا مهما لإبراهيم، سيحكي له عن القائد ويخبره عن التقرير ورأي القيادة فيه، بل لا يخفي عنه حكاية أنه عبد لقوم ما زالوا يمتلكونه طالما كان حيا، وسوف يتوارثونه أبا عن جد، وأبعد من ذلك سيقول له إنه نتاج معاشرة «ما ملكت أيمانكم»، ولكنه عندما تحدث أخبره عن رغبته في الهرب من الجيش، بأسرع ما يمكن؛ مما أدهش إبراهيم خضر؛ لأنه ما كان يتوقع ذلك من شيكيري بالذات، كان يحس بينه وبين نفسه أن هذا الشيكيري قد تم تجنيده ضمن آليات السلطة. حدثه شيكيري أنه منذ أن قبض عليه كان يفكر في شيء واحد: الانتقام أو الهرب.
كما يجب أن يحس أي شخص ذكي في مثل هذه الظروف، أحس إبراهيم خضر - وتأكدت له شكوك قديمة - أن شيكيري يريد أن يقيس ماءه، ويسبر أغواره؛ فابتسم كما يبتسم شيكيري عندما يحكي له هو آلامه وأفراحه، فتشكك شيكيري توتو كوه في نوايا إبراهيم خضر، وأحس أنه لم يقدر الموقف جيدا؛ من ثم قرر أن يتراجع عن تصريحه، ولكنه وجد نفسه قد تورط أكثر، عندما أضاف: أفضل الانتماء للمتمردين.
كانا يزحفان في الرمال منسحبين؛ فقد حان ميعاد استلام الوردية الثانية، الرمل البارد: بارد، جسداهما الباردان ينسحقان على الرمل، كانت الوساوس باردة، ولكن في داخل الرجلين لغة واحدة مشتركة تنمو رويدا رويدا، لم يستطيعا التعبير عنها جيدا، بل كلما حاولا الاقتراب منها ضلا سبل الإفهام، لكنهما أصبحا الآن أكثر قربا، عندما أخبر شيكيري إبراهيم بأن القائد طلب منه أن يراقبه ويكتب عنه تقارير مفصلة، يعني ذلك فيما يعني ربما يتوج إبراهيم قريبا بلقب: البطل الشهيد، طالما كان يسخر من هذا اللقب بمرارة ويكرهه.
جنون الجسد
العمة خريفية، امرأة سمينة، وليس ببيتها أشجار، يتكون منزلها من حجرتين مبنيتين من الطوب الأحمر، وحولهما برندة متسعة، وقطية جميلة منفصلة تقع على الجهة الجنوبية من المنزل، ربما كانت تستخدم للضيوف في الماضي، وهي الآن تخص ابنتها، تحيط بالمنزل أشجار المانجو العملاقة، يقع البيت على تخوم وادي برلي العظيم. على الرغم من أن هذا الوادي هو المكان الوحيد للحب في نيالا، إلا أن العمة خريفية ليس لديها أي أطفال نتيجة علاقة حب أو عاطفة ما. لديها بنت واحدة كانت مشردة فآوتها، ثم اعتادت عليها ثم تبنتها، ثم أصبحت بنتها وهي البنت الوحيدة في نيالا - وربما في السودان - تحمل اسم عبد الرحمن، على الأقل هذا هو الاسم الذي عرفت به وهم يلتقطونها من لظى المذبحة، حيث إن موظفي الإغاثة وجدوها حية تحت جثتين متحللتين، وعندما سألها أحدهم عن اسمها، قالت: عبد الرحمن.
نامعلوم صفحہ