بالطبع أعطاهم الشيخ ميعادا يعودون فيه للقرية لمعرفة الرد بعد أخذ المشورة ومراجعة الشرتاي، والشيوخ الآخرين، وسوف لا يحصل إلا ما فيه الخير للجميع.
الشيخ آدم كويا، شيخ خربتي، التي إذا سمع بها أحد المثقفين، سيحك فروة رأسه الأصلع، وإذا كانت برأسه بعض الشعيرات فإنه سيبرمها بأنامل مرتعشة، يستغرق قليلا في التفكير، ثم يفتكر: إن اسمها غربتي، ولكن لأن أهل تلك المنطقة ليس بلغتهم الحرف غين، وينطقونه خاء، فأصبحت خربتي، والحقيقة غير ذلك تماما، فهي في الأصل كانت كلمتين: خور وبتي؛ أي خور بتي، وبتي ليست هي ابنتي كما بدارجة كثير من أهل السودان، ولكنه اسم فقيه، أول من أقام بهذا المكان، وهو جد الشيخ آدم كويا فكي بتي هارون، والد عبد الرحمن وإخوانها؛ هارون، إسحاق، موسى، وأختها الكبرى مريم، كان إنسانا كريما، متدينا، بالإضافة إلى أنه كان إمام الجماعة في الصلاة بالزاوية التي هي أيضا نفس الديوان، كان يقوم بمهمة المأذون والفكي والقاضي. في الحقيقة يعرفه كل سكان تلك الأنحاء، وله مكانة خاصة عند الشرتاي بمدينة كاس، نقل طلب العرب إلى الشرتاي، سأله الشرتاي عن وجهة نظر الشيوخ بالمنطقة، فأخبره بأن الغالبية منهم يشكون في نوايا العرب، ويعتبرون ذلك حيلة للسيطرة على أراضيهم واعتبارها حاكورة تخصهم وسيرثها أبناؤهم من بعدهم، وقد تكون بذلك بذرة لصراع مستقبلي، والبعض يرى أن ذلك سوف لا يحدث، وأن العرب تضرروا كثيرا من الجفاف، وأن ضررهم يؤثر سلبا على كل المنطقة، والناس تشيل بعض، نحن نحتاج لهم كما يحتاجون لنا هم أيضا، وإذا رفضنا طلبهم قد يؤدي ذلك لحرب؛ لأن حيواناتهم عندما تجوع فلا مفر أمام العرب سوى أن يعتدوا على أراضينا الزراعية، وحينها يحصل الموت.
كان الشرتاي يستمع ويفهم ويعي كل وجهات النظر هذه، ويعرف تماما أن كلا الرأيين صائب، فطلب من الفكي خربتي، أن ينتظره حتى يستشير ملك دار مساليت بالجنينة، وملك الداجو بجبل أم كردوس، وملك الزغاوة بشنقلي طوباي، وأنه سيفيده بالنتيجة قبل الخريف بوقت كاف، فأرسل الشرتاي رسله إلى: سلاطين كاره ودنقو وفنقرو وبنه وبايه وفوقي وشالا، وملوك البرقد والتنجر وكبقة والميمة والمسبعات في الشرق من جبل مرة، المراريت والعورة وسميار والقمر وتامة والجبلاويين وأب درق وجوجة وأسمور في الغرب والشمال الغربي، وزغاوة كبا والميدوب في الشمال والشمال الشرقي، والبيقو ورنقا في الجنوب والجنوب الغربي.
والقبائل العربية الرعوية الذين كانوا قد أقاموا من قبل وأصبحوا جزءا لا يتجزأ من الأرض، وأصبحوا أصحاب مصلحة، كان عليه أن يستشيرهم أيضا، مثل الهبانية والرزيقات والمسيرية والفلاتة والتعايشة وبني هلبة والمعالية في جنوب دارفور، والماهرية وبنو حسين في غرب دارفور.
أرسل الرسل الشباب على ظهور الخيل، بعث رسائل عن طريق الشاحنات واللواري السفرية التي تعبر القرية، ماضية شمالا أو جنوبا، ابتعث رجالا على سنام الجمال لملوك الزغاوة الذين يسكنون شمالا تخوم الصحراء، على ظهور الحمير أرسل إلى الملوك الذين يقيمون على بعد أقل من يومين سيرا على الأقدام.
جاءت النتائج تباعا وفي أوقات متفرقة على حسب بعد وقرب القبائل عن الشرتاي، وتقريبا كلها إيجابية ما عدا رأي لقبيلة عربية واحدة، وكان رأيهم واضحا وجليا في القبيلة التي تطلب الجوار وهي قبيلة بني حسن، يقولون إنها قبيلة عدوانية مشاكسة تميل لسفك الدماء، ولكن الشرتاي لم يأخذ برأيهم نسبة لعلمه أن القبيلتين دخلتا في حروب كثيرة بينهما، وخسرتا خيرة شبابهما في تلك المعارك العبثية التي لا فائدة من ورائها ترجى وليست لها أسباب منطقية، وأرسل إلى شيوخ بني حسن وشيوخ خربتي أن يعدوا للاحتفال بالجيرة بخربتي، وأرسل لهم المصحف الكبير لأداء القسم عليه.
بعد أسبوعين جاء شيوخ بني حسن وذبحوا كثيرا من الإبل، وبعد أن أدوا القسم على حسن الجوار والتعاضد في السراء والضراء وعدم العدوان المتبادل، وأقسموا أيضا على أنه إذا حصل خلاف بينهما، أن يحكم بينهما الشرتاي إذا لم يستطيعوا أن يفصلوا فيه بأنفسهم: والخائن الله يخونه.
ولكي يثبت شيخ بني حسن حسن النية، كانت في صحبته ابنته الصغرى وعشر أخريات من بنيات العمد والشيوخ، وطلب تزويجهم في الحال لأعيان خربتي، وبالمقابل قام أهالي خربتي بتعيين اثنتي عشرة فتاة من بناتهم وتزويجهن لأعيان بني حسن، تم ذلك في احتفالية ضخمة استمرت أسبوعا كاملا، رقص فيها الجميع على إيقاعات طبول بني حسن ونقارة الفور معا، وأخيرا: دعوا الله في صدق أن يبارك لهم هذه الجيرة وينصرهم على الأعداء، فلقد أصبحوا الآن من دم ولحم.
وقد تم سرد هذه السيرة بهذه التفاصيل لكي نفهم كيف كان الأمر في غاية الصعوبة للمسئول الحكومي الذي جاء بعد عشرين عاما لتلك القبيلة العربية، قبيلة بني حسن يحمل أسلحة وذخائر وخبراء تدريب، كما فعل مع عشرات القبائل العربية، طالبا منهم استلامها للدفاع عن أنفسهم ضد النهب المسلح الذي تقوم به قبائل الزرقة؛ فإنهم سألوه أولا: من هم الزرقة؟
شرح لهم من هم الزرقة، ولكن الأمر التبس عليهم؛ لأن كل المواصفات التي بالزرقة متوافرة في كل فرد من أفرادهم؛ لذا قام باتباع أسلوب آخر في إقناعهم، بأن قبائل الفور والزغاوة والمساليت والداجو يعدون خططا سرية للقضاء على العرب بدارفور، وذلك لتقسيم المنطقة إلى ثلاث دويلات، وهي مملكة زغاوة الكبرى، وتضم كل فروع قبيلة الزغاوة، وستجد الدعم من دولة تشاد وهي تستولي على شمال دارفور، ودارفور تضم الفور والتنجور والكنجارة والداجو، وهي مدعومة من إسرائيل وستستحوذ على وسط وجنوب دارفور، ودار مساليت، وهم منذ 1919 يعدون أنفسهم للانفصال في دولة تشمل كل غرب دارفور، وتدعمهم ليبيا؛ بالتالي أين سوف يقيم العرب؟
نامعلوم صفحہ